رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والسادس والثلاثون
غادر أحمد الغرفة بعد أن ألقى كلماته الثقيلة كحجر في ماء راكد بقي صداها معلقا في هواء الغرفة كدخان لا يتبدد.
لم تجب. كانت مشدوهة. لم يفعل ما توقعتهلم يرفع صوته لم ينهال عليها باللوم حتى لم يطعنها بسؤال واحد.
ترددت عبارته في رأسها أفضل قرار كان بإمكانك اتخاذه
أي قرار يقصد ولماذا شعرت بأن الكلمات كانت ضمادة على جرح وفي الوقت نفسه شفرة تفتح بها بطون الأسرار
ارتطم الباب خلفه بقوة ارتجاجه أيقظ السفينة بأكملها.
في الخارج كانت السماء تتلو عرضا ناريا شهب ملونة تتفجر وتذوب في السواد نظرت سارة إليها فابتسمت بسخرية مرة فحياتها لم تكن سوى ألعاب نارية بريق مفاجئ ثم رماد وليل طويل لا يرحل.
وبينما كان ضحك المسافرين يعلو مع الألوان المتوهجة في السماء اخترق الأجواء صوت أنثوي مشحون بالذعر
سيد كونور!
تجمدت سارة للحظة هل كانت تهلوس لكن قبل أن تكتمل الفكرة لمحت رجالا يركضون أمام بابها أحدهم يحمل كونور بين ذراعيه كغنيمة لم تسأل لم تفكر فقط اندفعت خلفهم كمن يقفز داخل حلم يجري فيه الزمن أسرع من الجسد.
كانت صرخات كونور تشق الممرات
لكن أحدا لم يلتفتالجميع كان يرفع أعينه نحو السماء المشتعلة أما مينا مربيته فكانت ساقها تنزف من رصاصة غادرة عاجزة عن اللحاق وعيناها تحدقان بالطفل
عندها أدركت سارة الحقيقة الملعونة هناك آخرون على ظهر هذه السفينة يريدون الشر بكونور.
في هذه اللحظة حمدت القدر على أنها استبدلت فستانها المسائي قبل قليل فالحرية التي منحها إياها لباسها الجديد كانت جواز مرورها خلف الخاطفين.
ركضت كما لم تركض منذ زمن بعيد كأن قلبها محرك وقود لا ينضب وكأن الأرض نفسها تدفعها للأمام.
لكنهم سبقوها إلى الزورق السريع والماء يبتلع صوت محركه قبل أن يلتهمهم لم يكن هناك وقت للتفكير فقفزت من الحاجز الحديدي كطائر مكسور الجناحين يلقي بنفسه نحو الريح وسقطت على سطح الزورق كان ارتطاما هز عظامها.
تفاجأ الرجال عند رؤيتها إذ لم يتوقعوا أن امرأة ستقتحم عليهم الهروب وعيناها تقدحان شررا وأنفاسها متقطعة كمن خرجت من سباق مع الموت.
سارة لم تعد تملك لياقة الماضي أيام المدرسة الثانوية حين كانت تقطع آلاف الياردات بلا توقف الآن جسدها يخذلها يذكرها بالمرض الكامن فيه لكنها
تمسكت بحواف الزورق بكل ما أوتيت من عزيمة حتى لا يقذفها الموج.
حاولت أن تتكلم أن تفرض حضورها أمامهم بصوت حاد
أنزلوه أرضا.
لكن الجملة خرجت مشروخة مبتورة تحمل معها لهاثا أكثر من الكلمات.
ومع ذلك لم تصدق هي نفسها أنها لحقت بهم بجسدها الذي يعرف الألم أكثر مما يعرف الراحة.
كان الواقع كعادته أكثر قسوة من الخيال وأكثر انحيازا للجمال.
فالرجال حين ظهرت سارة فجأة على سطح الزورق ارتبكت أيديهم فوق زناد البنادق لكن عيونهم لم تخف ذهولا مشوبا بالحذر.
تسمرت سبطانات الأسلحة على جبينها كنقاط برد لامست جلدها.
لكنها لم تكمل جملتها وفجأة انطفأ وعيها كما لهيب شمعة في مهب ريح باردة إذ ارتخى جسدها وكاد يسقط على أرضية القارب لولا أن أقربهم إليها مد ذراعه على غير وعي يمسك بها يسأل زعيمهم
ماذا نفعل بهذه المرأة يا رئيس هل نلقي بها في البحر
هنا انعكس نور القمر على وجهها فمسح عنه كل أثر للتعب وأعاد إليه براءة طاغية كبراءة طفلة تنام وسط العاصفة وسترتها البيضاء المبطنة بالريش تتمايل مع نسيم البحر فجعلتها تبدو أكثر هشاشة كطائر صغير أجبر على الطيران في
منتصف الشتاء.
حدق قائد المجموعة في ملامحها لثوان ثم أزاح نظره قائلا ببرود
لا لا حاجة لذلك لنأخذها معنا.
اندفع الزورق مبتعدا عن السفينة السياحية يخترق الموج كرمح ذو نية سوداء.
أحد الرجال تمتم ساخرا وهو يعدل سلاحه يعيده إلى غمده
هل كانت جادة تركض إلينا فقط لتصبح أسيرة!
بينما على سور السفينة كانت مينا التي عاصرت المشهد كله قد سقط قلبها مع كل موجة تبعد الزورق ودموعها امتزجت بملوحة الريح والغضب كان يتأرجح على حافة انفجار إذ لم ينتبه إليها أحد من الحراس إلا عندما زحفت مبتعدة عن الممر وساقها تنزف خطا أحمر طويلا على أرضية الخشب المبتلة.
صرخت بصوت مبحوح
لقد تم اختطاف السيد كونور!
لكنها لم تنتظر ردا تجاهلت الألم وتقدمت في عرج مضطرب نحو
أحمد يخالجها شعور بأن كل ثانية تسرق من الزمن تعني ابتعاد الطفل أكثر عن الأمان.
أما مارينا حين استوعبت الكلمات لم تبحث عن تفاصيل بل كان رد فعلها صفعة خاطفة أخرى مزقت الهواء تصيح بتعال
كيف يؤخذ ابني هكذا لماذا لم تحافظي عليه كم مرة يجب أن أثق بك حتى تخذليني!
كان صوتها مشوب بوحشية الاتهام وكل كلمة
تسقط كسكين على قلب مينا الذي يصرخ بصمت.