رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والسابع والثلاثون
كانت مينا تروي الحادثة كمن يفرغ ذاكرةً أمام محقق، تفاصيلها تتدفق من فمها مضطربة، محمّلة برائحة البارود.
لكن ما إن وصلت إلى اللحظة التي ذكرت فيها أن سارة قفزت على متن القارب، حتى ارتفع حاجبا مارينا، وتحوّل صوتها إلى خنجر مسموم:
— "كنت أعلم… كنت أعلم أن سارة تُحيك أمرًا خبيثًا… هي من استأجرت هؤلاء الأوغاد! هي من أرادت سرقة طفلنا! أحمد… عليك أن تصدقني—"
لكن صوت آخر قطع اتهاماتها كصفعة على وجه الليل:
— "كونور سيعود!"
لحظة صمت ثقيلة كأن الهواء نفسه توقف ليستوعب الكلمة… شعر أحمد حينها برغبة مفاجئة في صفع مارينا لا كعنف، بل كإفاقة، لكنه لم يعرف يومًا أن يمد يده على امرأة.
ومع ذلك لم يستطع أن يمنع نفسه من التفكير:
أي عقلٍ ملوث يمكنه أن ينطق بهذا الافتراء في تلك اللحظة؟
كبح غليان الدم في عروقه وألقى نظرة باردة على برنت قائلاً:
— "أخرجها من هنا."
كان برنت قد بدأ الغوص في التحقيق، يُفتش الصور كمن يبحث عن شظية ضوء في غرفة حالكة… وعندما ظهر مقطع
لسارة وهي تركض خلف الرجال بجنون وسط صرير الموج وصوت المحركات شعر أحمد بشيء يهتز في صدره… انفعال غامض بين الدهشة والإعجاب.
هو يعرفها أكثر من أي شخص… يعرف أنه لو كانت تنوي إيذاء كونور لفعلت ذلك منذ زمن بعيد لكنها في تلك اللحظة أحبت الطفل لدرجة أنها نسيت الخوف واندفعت نحوه وهي تدرك أن الرجال مسلحون… كأن قلبها كان يشدها إليه رغم التحديات.
اقترب برنت من أحمد بخطوات محسوبة، كأن الأرض تحترق تحت قدميه، وهمس بصوتٍ يحمل ثِقَلَ الشكوك:
— "سيد ميلر… أيمكن أن تكون هويتك قد انكشفت؟ أترى أنهم أخذوا السيد كونور ليبادلوه بتلك القطعة؟"
لم يرد أحمد على الفور، بل شدّ شفتيه حتى كاد الدم يتسلل إلى أطرافهما. كان صمته صقيعًا يلسع وجوه الحاضرين. وحين تكلم، كان صوته نصلًا يغلق الباب في وجه الاحتمال:
— "لا."
أشار بيده إلى شاشة المراقبة، فأُعيد عرض اللقطات: رجال يطلقون النار، وجوههم مخفية، لكن أسلحتهم عارية من التنكر.
ضغط أحمد على صورة مجمّدة، فتكبّرت البندقية في الإطار:
—
"انظر… MK23."
كلمات أحمد كانت تحليلًا باردًا، لكن عينيه كانتا تقدحان شررًا من الانتباه.
— "هذا السلاح، في بداياته، كان خيار القوات الخاصة… بقوة مسدس ديزرت إيجل، لكنه أضخم من أن يختفي في قبضة واحدة. ثقيل، فوضوي، حتى بلا كاتم صوت."
ثم رفع إصبعه كمن يقطع خيطًا وهميًا:
— "القوات الخاصة لن تلوث يديها بمثل هذه الخردة. ثم انظر إلى انسحابهم… مرتبك، فوضوي. لو كانوا محترفين حقيقيين، لاحتجزوا السفينة كلها، لا طفلاً واحدًا."
برنت، بعينين تائهتين في غابة من الاحتمالات، تمتم:
— "إن لم يكونوا هم… فمن يجرؤ على تحدي آل ميلر؟"
أدار أحمد ظهره قليلًا، واضعًا يديه خلفه، كمن يحدق في أفق البحر ليقرأ أفكار الموج.
— "مهما كانوا، فقد بذلوا جهدًا كبيرًا. ولأنهم لم يأتوا ليقتلوا أحدًا، فالمال هو رائحتهم الأولى."
ابتلع برنت ريقه وقال:
— "صحيح… السيدة كارلتون أنفقت مبالغ طائلة على هذا الحدث، خاصة عرض الألعاب النارية. مئات الآلاف… كفيلة بإغراء الشياطين. لكن المشكلة أن تفاصيل
الحدث كانت علنية. والأمن… كان من المفترض أن نتولاه، لكنها أصرت أن يعهد به إلى عمها. ربما لو كان الأمر مجرد سرقة، لكان أهون… لكنهم أخذوا السيد كونور. وحتى السيدة سارة اختُطفت."
تقلصت ملامح أحمد عند سماع اسم سارة. فكرة أنها واجهت الخاطفين بنفسها كانت تصطدم بذاكرته كصوت رصاصة في ليل ساكن.
لو كانوا يريدون المال فقط، لظل كونور حيًّا في أمان نسبي… لكن سارة ألقت بنفسها في فم الخطر.
كانوا مستعدين بعناية. البحر كان اختيارهم المثالي، لا البر؛ فهنا لا عيون تُراقب، ولا أقدام تتبع. بلا شبكات هواتف، بلا أثر رقمي، فقط أفق مفتوح يبتلع النداء.
هاجس أحمد الأكبر كان فكرة الجزيرة المهجورة… مكان يبتلعك ولا يردّك، يجعل البحث عنك أشبه بمحاولة انتشال ظلّ من بئرٍ بلا قاع.
في الساعات التي تلت، تحوّل أحمد إلى ماكينة من الحركات المحسوبة، الاتصالات المتتالية، والخطط التي تُرسم على الخريطة كخيوط عنكبوت. لكن، حتى بعد أن أنهى كل شيء، لم يتسلل إلى صدره نفس واحد كامل.
كانت عيناه،
رغم هدوء ملامحه، ما تزالان تغليان بقلق لا يُطفأ