رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والاربعون 140 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والاربعون 


قهقه الرجل وقال بسخرية مُمتلئة بالريبة:

— "الجميع يظن أحمد رجلًا وفيًّا… فارسًا لا تشوبه شائبة… لم يخطر ببال أحدٍ أن له زوجةً سابقة، امرأة طمسها من تاريخه كما يُمحى اسمٌ محفور على قبر."

شدّت سارة أصابعها حتى ابيضّت مفاصلها وكأنها تمسك على نفسها من أن تنهار، وقالت بصوتٍ ثقيلٍ بالخذلان:

— "كنتُ مجرد دمية  ، يحرّكني كيف شاء…  … ليلة أمس كانت ذكرى وفاة ابني… تسللتُ إلى السفينة لأختطف كونور… لكنك سبقتني."

تغيّر وجه الرجل ومال نحوها قليلًا، وعيناه تلمعان بالفضول:

— "لقد مات ابنك… لكن لِمَ أردتِ أن تسرقي ابنهم؟"

أطبقت سارة جفنَيها، تحاول أن تنتشل الكلمات من بئر عميق، ثم قالت ببطء:

— "أردتُ أن يرافق ابنهُ ابني في الموت لتتعادل الكفتان… هل تدرك كيف مر علي العام الماضي؟ لم أعرف طعم النوم ليلة واحدة… كلما أغمضتُ عيني، أرى ابني مستلقيًا على طاولة العمليات، صغيرًا وضعيفًا، تحيط به الأدوات الباردة والوجوه الخالية من الرحمة… وأنا عاجزة."

تكسّر صوتها فجأة واهتز كتفاها، وبدأت دموعها تهرب بلا استئذان حتى  انحدرت قطرة دافئة سقطت على حدّ الخنجر، ثم تسلّلت على طوله حتى بللت أصابع الرجل.

أزاح الرجل النصل بارتباك وصوته يختلط بالعجب:

— "لماذا تبكين؟… لم أفعل لكِ شيئًا."

لكنها لم تسمعه… كانت قد

تحولت إلى كتلة من الغضب والانتقام، امرأة لم يعد يهمها إن كان الرجل أمامها أحمد أم شبحه فانهالت باللعنات تمزّق صورة أحمد في ذهنها كورقة تحترق ببطء.
في الخارج عند عتبة الكابينة كان توم يقف مسترخياً يلوك نصل عشب بين أسنانه كما لو كان يتذوق طعم مكيدة جديدة… ضاقت عيناه بمكر، يبتسم هامساً لجيري:

— "هل تظن أنّ جاك قد وقع في غرام تلك المرأة؟ 

رمقه جيري بنظرة باردة وصوته يقطر واقعية قاسية:

— "كفّ عن هذا الهراء… لقد مرّ جاك على وجوه نساء أكثر مما مرّ البحر على السفن… لن يسقط بهذه السهولة… أراهن أنّه يراها خطراً… وأنه يقف على بابها كي لا تهرب."

لكن توم أطلق ضحكة قصيرة كأنها صفير سكين تُسحب من غمدها، وقال:

— "لو كان يشك فيها فعلاً لألقاها في البحر ليلتها… ولو خشي هربها لقيّدها بسلسلة صدئة… لكنه ظل ساهراً حتى الفجر ليس لحراستها بل لأنه ابتلع السمّ ووقع في شَرَكها."

رفع جيري حاجبيه وانفرج فمه بانبهار:

— "بصراحة… لم أرَ امرأة تحمل مثل جمالها وكأنها وُلدت من غيوم الغروب."

توم وهو يمسح على ذقنه بإيماءة متعمدة:

— "كفاك شاعرية. هيا بنا لندخل… ربما يضغط عليها جاك ليحصل على الحقيقة… آمل ألا يفلت سكينه في لحظة غضب."

خلعوا الأقنعة ودفعوا باب الكابينة… لكن ما شاهدوه جمّدهم في أماكنهم.

جاك ستون الذي عُرف دومًا بثباته

المهيب ونظراته الصلبة كان واقفًا قرب السرير مضطربًا كطفل أضاع طريقه، يحاول أن يسكب بعض الكلمات على جرحها:
— "البكاء لن يعيد الموتى يا سارة."

لكنها كانت غارقة في بكاء جارف، تمسح أنفها ببراءة مؤلمة بأكمام سترته وهي تنشج بصوت متقطع كطفلة في ليلة عاصفة:

— "أليس أحمد… أحمق؟"

انحنى جاك قليلًا وصوته هذه المرة صادق دافئ على غير عادته:

— "بلى… إنه أحمقُ الأحمقين، وغدٌ لا يستحقك."

ارتعش صوتها أكثر وانسكبت دموعها 

— "لماذا حياتي قاسية إلى هذا الحد؟"

كانت كلماتها تهوي في الفراغ المتهالك للكابينة فيزيدها المشهد شحوبًا ويجعل دموعها كجواهر ملوّثة بالملح على أرضية جافة.

أما جاك وخنجره ما زال في يده فقد بدا كجندي تاه في أرض معركة لا يعرف قوانينها، عاجزًا أمام امرأة نزف قلبها.

حين لمح جاك ظلّ توم وجيري عند عتبة الباب، تغيّر شيء في ملامحه، وخرج صوته هادئًا لكنه يحمل أمرًا لا يقبل النقاش:

— "تقدّما… وحاولا أن تواسياها."

تجمد توم بأرضه وارتفع حاجباه في استهجان، يقول بنبرة لا تخلو من التمرّد:

— "أواسي المرأة التي أبكيتها أنت؟ ما الجدوى؟"

أما جيري فقد أظهر مسحة لطف لم تكن مألوفة في هذا الجو المشبع برائحة الخطر إذ أخرج من جيبه أرنبًا صغيرًا منسوجًا من سيقان العشب ووضعه على حافة السرير أمام سارة قائلاً بصوت خفيض

كمن يخاطب قلبها لا أذنها:
— "خذي… إن توقفتِ عن البكاء سيكون لك."

صفعة سريعة من توم على مؤخرة رأسه أعادته إلى صلابته المعتادة:

— "إنها ليست طفلة أيها الأبله… ألعابك لن تغيّر شيئًا."

رفعت سارة رأسها قليلاً تحدّق في الصبيين الواقفَين أمامها اللذان لا يبدوان أكبر من الثانية عشرة أو الثالثة عشرة والكمامات التي تغطي وجهيهما لم تستطع أن تحجب سخافة ملامحهما الطفولية… بدا مشهدهما ككوميديا سوداء وسط مأساة تبتلع أنفاسها حتى الرجل الذي يحمل المسدس ذاك الذي كان كالصخر في حضوره الأول رقّ صوته وارتخى قلبه حين رأى دموعها تسيل… كان الجميع هنا بطريقة غريبة يملكون شيئًا من الطيبة المخبّأة… ومع ذلك كانوا هم من اختطفوا كونور.

لماذا إذن؟ ما الذي يدفع أناسًا كهؤلاء إلى تمزيق قلب أم؟

توقّفت شهقاتها شيئًا فشيئًا وبقيت الدموع عالقة على وجنتيها تلمع كحبات زجاج على وشك الانكسار ومن ثم رفعت عينيها نحو الرجل الجالس قرب السرير… طويل القامة، مهيب الهيئة، نصف وجهه محجوب بقناع أسود لكن شفتيه العاريتين تكشفان عن ثبات لا تعرف إن كان رحمة أم صلابة جليدية.

قالت سارة بصوت مرتجف يقطّعه الغضب والخذلان:

— "ذلك الطفل… سرق حياة ابني… أكرهه… أكرهه من أعماقي… هلّا سلّمتوه لي؟"

كان طلبها أشبه بطلقة رصاص في صمت الغرفة يتردّد صداه بين جدران الكابينة

المتهالكة فيما البحر خلفها يواصل همسه الأزلي كأنه وحده يعلم أن هذه الحكاية لم تبدأ بعد.
 

تعليقات