رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والثالث والاربعون 143 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والثالث والاربعون 

قال جاك بصوت حاسم يغلق بابا على صفقة لا رجعة فيها 
اتفاق 
في البداية ارتابت سارة من سرعته في الموافقة وكأن الأمر لا يحتاج لتفكير لكن دهشتها لم تكتمل إلا حين أزاحت الباب الخشبي لتصطدم عيناها بمشهد يسرق الأنفاس 
انفجرت السماء أمامها في زرقة صافية كمرآة للمحيط الذي يمد ذراعيه الجبال الخضراء عانقت الأفق البعيد كأن الطبيعة تحرسهم في سجن من جمال وعزلة إذ كانوا على جزيرة يلفها البحر من كل الجهات جزيرة منسية في قلب العالم أو ربما العالم نفسه هو من تخلى عنها 
أدركت سارة حينها أن أي تهديد لم يكن ضروريا هنا لا شبكة ولا صدى لصوتها حتى لو صرخت بأعلى ما في قلبها كان الأسر مكتوبا على الماء والحرية معلقة خلف الأفق وما دامت نواياهم بعيدة عن إيذاء كونور فلن تخاطر هي بأي شيء 
لكن المشهد الحقيقي الذي هز قلبها لم يكن السماء ولا البحر بل ذاك الطفل 
رأته جالسا على الأرض يطارد قطة صغيرة بحماس طفولي ملابسه ملطخة بالتراب لكن ضحكته كانت أصفى من الموج تتردد في الهواء وهو يكرر كلمة واحدة ببراءة 
قطة قطة 
علق جاك بنبرة لم تخل من الإعجاب 
هذا الطفل لا يشبه أبناء الأثرياء على الإطلاق إنه طفل جيد يعجبني 
لكن قلب سارة كان قد سبق كلمات

جاك فركضت إليه وحين لمحها الصبي فتح ذراعيه الصغيرتين وصاح بسعادة غامرة 
ماما! 
تجمد توم في مكانه وملامح الدهشة مرتسمة على وجهه 
هل أنت متأكدة أنه ليس ابنك 
ابتسمت سارة بحزن مرير تخشى أن يفضح صوتها ارتجاف قلبها 
إنه مجرد طفل سينادي أي امرأة بأمه 
لكن الشك كان يزحف في عقلها كنسيم بارد ربما ليس الأمر بهذه البساطة فالطفل حين أطعمته والدة توم الحليب لم يمنحها حتى نظرة بينما هي منذ اللحظة الأولى كان يناديها ماما 
عادت ذاكرتها مثقلة بالوجع إلى يوم كانت تحمل فيه بطفلها قبل أن تخسره إلى الأبد كونور لم يولد إلا بعد رحيله عن الدنيا فهل يمكن أن تكون روح طفلها قد سكنت جسد كونور
هل هذا سر الانجذاب الغامض بينهما
كانت سارة تهمس بصوت مشوب بالبكاء 
أنا سعيدة للغاية لأنك بخير 
وقف جيري على مقربة متلعثما كطفل ضبط متلبسا بفعل الخير وقال بخجل متردد 
لا تقلقي يا آنسة لم نؤذه أبدا كنت أحاول إنقاذ الكعكة التي سرقتها من حفل الأمس من بين يديه لم آكلها لكنني منحته جزءا منها في النهاية 
كانت كلمات جيري كافية لتفتح أمام سارة نافذة على واقع حياتهم في هذه الجزيرة النائية إنه مكان مجرد من كل رفاهيات المدن بلا أسلاك ولا هواتف ولا إنترنت
حتى الهواء هنا لا يحمل إلا أصوات البحر والطيور لا إشارات ولا فرصة لصرخة أن تبلغ أحدا في الطرف الآخر من العالم 
وسيلة الضوء الوحيدة كانت لوحة شمسية قديمة يقتصدون في استخدامها كمن يمسك بمصباح وسط بحر من الظلام فالليل هنا كثيف لا يمزق ستاره إلا وهج شحيح ومع ذلك كانت الجزيرة كريمة بمواردها ينساب فيها ماء عذب من قلب الأرض ويطعم البحر والحقول القلة الباقية من سكانها 
تأملت سارة فيهم وتعجبت كيف لم يمد أحدهم يده لقلادة اليشم المعلقة على صدر كونور رغم بريقها بل على العكس كان في وجوههم صفاء نادر كأنهم أبناء عالم آخر أنقى وأقل جشعا 
وفيما كانت غارقة في هذه الخواطر رأت حمرة تكسو وجنتي الصغير فجأة وارتسمت على وجهه علامات مجهود غريب فانحنت نحوه بقلق 
ما الأمر يا صغيري 
لم يجبها سوى بحرارة دافئة انسابت إلى كفها يتبعها زفير ثقيل يحمل رائحة خانقة فقطبت حاجبيها بينما تراجع توم وهو يضغط على أنفه مشوها قناعه في الحركة 
أوه لقد فعلها الطفل 
ظهرت مارثا والدة توم بخطوات واثقة تحمل ابتسامة أم ألفت مواجهة مثل هذه المواقف 
أعطيني إياه يا آنسة سأهتم بأمره 
لكن سارة دون أن تدرك وقالت بحزم ناعم 
سأتولى ذلك بنفسي 
سكبت مارثا ماء مغليا
في الحوض الخشبي بينما جلست سارة في ركن هادئ تحاول للمرة الأولى في حياتها تنظيف طفل بيديها أصابعها مترددة حركاتها مرتبكة لكنها كانت حركات أم تتعلم بالحب لا بالخبرة وبدلا من الضجر كان كونور مستلقيا على ساقيها يرمقها بابتسامة مدللة كأن الدفء الذي يحيط به أهم من أي براعة 
عندما انتهت سارة مدت مارثا قطعة قماش قصت من قميص قديم جففت بها جسده الصغير ثم وضعت تحته حفاضة محلية الصنع 
كانت مارثا في خمسينياتها تكسو شعرها خيوط فضية وفي أصابعها قسوة السنين ومع ذلك كان في ابتسامتها المتجعدة حياء دافئ وهي تقول 
آمل أن لا تمانعي نحن لا نملك هذه الأشياء الجاهزة في المدينة لذلك نصنع الحفاضات بأنفسنا 
كان توم قد خلع قناعه في هذه الأثناء ليكشف عن ملامح وسيمة تحت ظلال التعب وقال بجدية 
لم تشأ أمي أن يصاب الطفل بتهيج جلدي فقصت له الحفاضات من ملابسها الحرارية الوحيدة كانت هدية عيد ميلادها من جاك 
حدقت سارة في الحفاضة المهترئة التي اصفرت من كثرة الغسيل بينما شعور معقد يثقل قلبها مزيج من الامتنان والحنين والرهبة من هذا القدر الذي جمعها بهذا الطفل في أقصى أطراف العالم بين إناس لا يستحقوا ما سيحل بهم إن التقطتهم أيدي ميلر 


تعليقات