رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والرابع والاربعون 144 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والرابع والاربعون 

حاولت سارة أن ترسم على وجهها ابتسامة لكن ملامحها بينما عيناها تعترفان بثقل ما تشعر به.
قالت بهدوء
لا بأس
كان كونور مختلفا الآن لم يعد ذاك الطفل الذي يلتف حوله وهج الماركات العالمية بل صار يرتدي ملابس أطفال أبناء الجزيرة ملابس أثقل من عمرها تحمل آثار الزمن رقعا فوق رقع كأن كل غرزة حياكة هي حكاية طفل مر من هنا ومع ذلك كانت أكثر دفئا أكثر صلابة وأكثر صدقا من كل ما ارتداه من قبل والصبي لم يبد عليه أي تذمر بل سار خلفها بخفة كجرو صغير يركض حينا خلف قطة تتوارى بين الشجيرات والصخور ويشد عشبا على حافة الطريق حينا آخر بعينين تتلقفان كل جديد وكأنه كنز.
تذكرت سارة اللحظة التي تبعته فيها إلى القارب وهي تعرف أن الرحلة قد تكون ذهابا بلا عودة جاءت مستعدة لتضع حياتها على المحك لكنها وبشكل غريب بدأت تتأقلم مع نبض هذه الجزيرة.
هي ليست مدينة لكنها أنظف من أي مدينة عرفتها الهواء هنا يغسل الروح قبل أن يغسل الرئتين ماذا لو بقيت هنا! لكن عقلها كان يهمس لها بيقين أن الأمر مسألة وقت وسيعثرون عليهم حتى لو لم يكن لهذه الجزيرة اسم على الخريطة.


تذكرت كلام توم لا يسكن الجزيرة سوى عشرات العائلات حياة بدائية وبسيطة قاسية بقدر ما هي نقية اختطاف كونور لم يكن بدافع الحقد بل كان أشبه باستنجاد محاولة لفتح نافذة في جدار حياتهم الصلب للحصول على ما يسد رمقهم ويحسن معيشتهم.
الأطفال هنا لا يعرفون طعم المدرسة فالبحر هو كتابهم الوحيد ومجاديف الصيد هي أقلامهم حين يمرضون لا دواء ولا طبيب فقط انتظار طويل حتى يخمد الألم أو يخمدوا هم كثيرون منهم رحلوا لأن ثمن العلاج كان أكبر من قدرتهم على الحلم.
ضحكت سارة داخليا بمرارة فمارينا كانت قادرة على إنفاق مليون دولار من أجل حفل عيد ميلاد كونور الأول بينما هنا في هذا الركن المنسي من العالم كان الأطفال يلمع بريق في عيونهم عند رؤية كعكة مسروقة من مائدة احتفال إذ قسموا الكعكة إلى قطع صغيرة التهموها ببطء كأنهم يخزنون طعمها في ذاكرتهم ثم بابتسامة ممتنة.
هنا على هذه الأرض بدا كل شيء مختلفا.
ما الخير إذا وما الشر
ما الصواب وما الخطأ
أسئلة تطفو على السطح ولا إجابة لها إلا في ضمير من يطرحها.
مع حلول الليل كانت الجزيرة تستعد لارتداء وشاحها المخملي
الموشى بنجوم بعيدة بينما امتزجت في الأفق رائحة البحر المالح بعبق دافئ يتسلل من كوخ قريب.
شمت سارة رائحة طهي نفاذة لذيذة كأنها وعد بالدفء في هذا الليل البارد التفتت لتجد في عيني توم بريقا طفوليا يصعب على قلبها تحمله وقال بابتسامة لم تفلح براءتها في إخفاء فرحته
يا آنسة أنت محظوظة أمي خبزت الليلة خصيصا للترحيب بك! إنها وليمة بالنسبة لنا جميعا.
لم تستطع سارة أن ترد إذ كان الحماس المشع من عينيه أشبه بقبضة ضغطت على قلبها. كانت تعرف الخبز طعاما عاديا شيئا لا يستحق الانتظار لكنه هنا كان كنزا تذكرت كيف نشأت في بيت مترف كيف كانت عائلتها تلبي رغباتها حتى في أتفه التفاصيل وكيف كانت كلمة فقير بالنسبة لها مجرد وصف يقال عن الآخرين أما الآن وقد الفقر بأصابعها صار للكلمة ثقل آخر حقيقي نابض ومؤلم.
خرجت من العتبة حتى وقعت عيناها على جيري يجلس على الأرض يمسك قطعة فحم محترقة يرسم بها خطوطا على التراب.
انحنت قليلا مأخوذة بما تراه تقول بثناء حقيقي
هل تعلمت الرسم
أجاب توم بعينين تتلألآن فخرا
لا معلمين لدينا جاك هو من علمنا الكتابة أما جيري فقد
علم نفسه الرسم. لم يتلق درسا في حياته. ما رأيك
قالتها سارة بصدق نابع من دهشتها
أكثر من رائع إنه فن.
ابتسم توم وتابع وكأنه يقدم للعالم موهبة مخبوءة
جاك اشترى له دفتر رسم وقلم رصاص لكنه لم يجرؤ على استخدامهما قال إنهما ثمينان أكثر من أن يمسهما فالرسم على الأرض لا يكلف شيئا لو كان في المدينة لكان له اسم كبير الآن.
لم تدر سارة لماذا شعرت بأن قلبها صار أثقل عن ذي قبل كأن هذه البساطة الممزوجة بالفقر تضع في داخلها حجرا يصعب رفعه وحين دخلوا الكوخ كانت الطاولة جاهزة
بطاطس وخضراوات لا تعرف أسماءها وفي الوسط الطبق الرئيسي قطع لحم مقلية تفوح منها رائحة الفلفل الحلو.
عندها فهمت سارة سر الأكياس التي حملوها يوم تبعتهم إلى القارب كانت كلها مكونات مسروقة من مطبخ آخر جمعت بصعوبة وربما بخوف.
جلس توم وجيري أمام الطبق عيناهما تلاحقان اللحم بشغف لكن أيديهما بقيت ساكنة في حين أن مد جاك يمينه واضعا أكبر قطعة في طبق سارة ووزع لمارثا أخرى ثم قسم ما تبقى بين الولدين بالتساوي وسكب كل الفلفل في طبقه دون أن يمس اللحم وقال بصوت خافت يحمل ما يشبه الأمر
الممزوج بالحنان
هيا تناولوا.


تعليقات