رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والخامس والاربعون 145 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والخامس والاربعون

مع انحناءة الضوء على المائدة ظلت سارة تحدق في قطعة اللحم الكبيرة التي وضعت أمامها كمن تنظر إلى ثقل لا تستطيع حمله لا إلى وجبة 
كان توم وجيري بوجهيهما الطفوليين اللذين يحاولان أن يبدوا أكبر من عمرهما يلتهمان الطعام بحماس وهما يتبادلان المديح لمارثا التي أعدت العشاء بقدر ما في قدرتها من حب وموارد شحيحة.
أدرك جاك بعينه التي تلتقط ما تخفيه الوجوه أن سارة لم تلمس طعامها فقال بنبرة واقعية لكن تحمل في أعماقها عتابا خفيا
لدينا طعام محدود في الجزيرة عليك أن تتحملي الأمر.
أما توم الذي بدا كأنه يقاوم شيئا داخله ثم مد يده ببطء وأخذ قطعة اللحم من طبقه ليضعها أمامها وعينيه تلمعان بإصرار وهو يقول
آنسة سارة أنت شاحبة للغاية أرجوك كلي أكثر.
تراكمت قطع اللحم في طبقها كأحجار ثقيلة ترهق قلبها فذلك السخاء البسيط النابع من أفقر الأيدي اخترق قلبها أكثر مما تفعله أفخم الولائم فهمست وعيناها يوشكا أن ينفلت منهما المطر
معذرة لست جائعة الآن أنتم أولى بها.
قالتها ومن ثم نهضت وغادرت إلى الخارج.
كان الشتاء قد شد قبضته على الجزيرة في

هذا التوقيت من العام والبحر تحت ضوء القمر بدا كمحيط من الصمت البارد بعد دقائق جلس شخص إلى جوارها بصمت يترك بينهما مسافة من الصقيع والسكينة التفتت فإذا به جاك هادئ النظرات كجزء من ليل الجزيرة يغمغم بحرج
إذا جعت لاحقا لن تجدي شيئا.
أجابته سارة بفتور يختلط بامتنان خفي
أعلم لكنني لست جائعة.
أخرج جاك من جيبه قطعة صغيرة من كعكة الموس كانت مهروسة قليلا بعد أن حملت آثار رحلة طويلة ومن ثم مد يده بها نحوها وهو يقول
إذا لم يعتد على طعام الجبال فهذا قد يروق لك.
أخذتها بصمت وحين ذابت انتشر طعم الفراولة الحلو والحامض يذكرها بعوالم أبعد من هذه الجزيرة ثم قالت بنبرة نصف مازحة نصف متأملة
هل أنتم دائما لطيفون هكذا 
ابتسم جاك بخفة 
ثم أسند كفيه على الأرض وعيناه تسبحان في القمر
أعلم أنك تريننا من عل بالنسبة لفتيات ثريات مثلك قد نكون مجرد نمل ضئيل لكننا نحاول البقاء بكل ما فينا من قوة.
نظرت إليه سارة طويلا ثم قالت بهدوء فيه وعد
أنا لا أستهين بك يا جاك سنتحدث لاحقا.
أجابها بابتسامة باهتة
حسنا.
نهضت وقالت وهي تتحرك نحو الداخل
سأضعه
في الفراش أولا.
ما إن خطت سارة إلى داخل الكوخ الخشبي حتى اندفع توم من الباب يحمل بيده دلوا يتصاعد منه بخار الماء الساخن كغيمة صغيرة سجنت فيه يقول بشيء من الفخر وهو يلهث
سيدتي سارة أمي تقول إن أهل المدينة مثلك لا يتهاونون أبدا في أمر النظافة لذا أعدت لك ماء ساخنا للاستحمام.
ارتسمت على شفتي سارة ابتسامة دافئة ناعمة تجيبه ببشاشة
شكرا لك يا توم.
انحنى توم قليلا كأنه يشاركها سرا خفيا فتلون صوته بمرح مظلم
لا داعي للشكر صحيح أننا لا نملك هنا طعاما فاخرا 
قالها ومن ثم أخرج من جيبه قطعة شوكولاتة صغيرة مغلفة بورقة فقدت بريقها كجوهرة سقطت في الغبار وقال هامسا
سرقتها منذ فترة طعمها رائع لم تتناولي عشاءك لا بد أن الجوع خذيها لكن تخبري جيري حبا في الله.
فأسرع توم بوضع الشوكولاتة في جيب معطفها كما يخفي السارق دليله وإذا به جيري يحمل بين ذراعيه بطانيات سميكة تنبعث منها رائحة قطن بري دافئ وقال بصوت مفعم بالعناية
الليل هنا قارس لذا طلبت مني أمي أن أضيف بطانية أخرى لسريرك سأرتبها بنفسي.
لاحظ ارتباكها وصمتها فسارع يوضح
هذا القطن نحن
من جمعه بأيدينا من البرية وأمي خاطته بيديها غسلناه جيدا صدقيني هو دافئ ونظيف.
ابتسمت سارة وهي تغمرهم بنظرة امتنان
أعرف ذلك وأنا شاكرة لكم جدا.
وبينما كان الصمت ينساب في أرجاء الغرفة وضعت سارة كونور على الفراش بهدوء أم تتعامل مع طفلها الوحيد كان غريبا أن انفصاله عن والديه لم يتركه مضطربا بل ظل ساكنا مطيعا وكأن هذا المكان قد احتواه بأمان بديل فلم تمض دقائق حتى أرخى جفنيه واستسلم للنوم.
حملت سارة مصباحا صغيرا معها وهي تغادر الكوخ نوره يرتجف على الجدران كنبضات قلب في العتمة.
خارج الكوخ كان جاك ما يزال في مكانه متكئا على الجدار كتمثال حارس لا يبدو عليه البرد رغم أن ملابسه لا تقاوم الريح.
أطفأت المصباح وجلست إلى جواره معطفها بإحكام ثم أطلقت كلماتها ببطء كمن يسكب اعترافا
بعد يوم هنا أعتقد أنني أحببت جزيرتك. إنها صغيرة لكنها تنبض بالبساطة والناس يعيشون فيها دون زيف وأنت لست سيئا كما ظننت.
كان نصف وجهه غارقا خلف القناع لكن ابتسامة ساخرة ارتسمت على ما ظهر منه
ألسنا أشرارا نحن الذين خطفنا طفلا وطلبنا فدية.
ثبتت عينيها عليه ونظراتها
أكثر صلابة من صخر الشاطئ
غيرت رأيي يا جاك.


تعليقات