رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والسابع والاربعون
لم تكن سارة تدري ما الذي يسعى إليه جاك حقًا فوقفت تتابع حركاته بعينٍ حائرة بينما كان يمسك بمصباحٍ تتراقص في قلبه شعلةٌ خافتة تتأرجح مع خطواته الثقيلة لكنها ما لبثت أن شقت طريقها لتبدد شيئًا من عتمة الممر.
قادها جاك نحو المطبخ وكأنهما يعبران حدود زمنٍ آخر… ارتدى جاك مئزرًا قديمًا وانحنى فوق الطاولة يُحضّر المكونات بسرعة لا تخلو من دقة الصانع العتيق إذ ألقى قطع الخبز اليابس في خليطٍ ذهبي من البيض ثم وضعها على مقلاةٍ تتصاعد منها رائحة الزيت الممزوجة بفتات ذكرياتٍ غامرة ومن ثم ألقى ببضع شرائح من لحم المقدد وحبات البازلاء الخضراء التي بدت كأنها نُثرت من بستانٍ سري في عالم الحكايات.
وفجأة انطلقت ألسنة اللهب من باطن المقلاة انعكست على قناع جاك المعدني في وهجٍ جعل سارة تحدق فيه مأخوذة كان المشهد بلا إذن منها يعيدها إلى أحمد… أحمد الذي كان مهما تأخر الليل ينهض ويطهو لها شيئًا حين يدرك أنها جائعة.
وما هي إلا لحظات حتى وضع جاك أمامها طبقًا من الخبز المغموس بالبيض مُعدًا بإتقان، ثم قال بصوتٍ لا يخلو من الغموض:
— كُلي… فمهما بقي لكِ من وقت، أتمنى أن يكون أطول مما تظنين.
حاولت أن تتماسك، أن تحبس الدموع خلف جفونها لكنها خفضت رأسها
وأخذت تتذوق اللقمة الأولى… كان في ذلك الخبز طعم الأمان الذي فقدته، ولحظة من النسيان الحلو لجرح الطازج.
ثم وببطء يكاد يوقف الزمن وضع جاك يده على رأسها، كمن يمنح بركة صامتة، وقال:
— حتى لو لم يتبقَّ لكِ سوى يومٍ واحد… عيشيه وكأنكِ تملكين العمر بأسره.
أومأت، وهمس صوتها بالإجابة:
— … نعم.
مرت الأيام التالية ببطءٍ رائق، مزيجٌ من بساطةٍ وبهجة… فبعد أن قبلت سارة مهمّة جاك بإصلاح الجزيرة، أخذت تجمع أطفال الجزيرة حولها تعلّمهم الحروف كما لو كانت تمنحهم مفاتيح عوالمٍ مجهولة وفي زاوية مجلسها كان كونور يلهو مع قطة صغيرة ينتظر انتهاء الدرس وما إن أنهت سارة تعليمها حتى اندفع نحوها يمد ذراعيه الصغيرتين ويقول ببراءةٍ تكاد تُذيب قلبها:
— ماما… تعالي.
في البداية كانت تُصحّحه بحزم كي لا يناديها "ماما" لكن الأيام علّمتها أن تستسلم لهذا النداء حتى صار دفئه جزءًا من يومها.
انحنت تتفحص وجهه المتسخ، تمسحه برفق وهي تقول بابتسامة عاتبة:
— لقد سقطتَ مجددًا، أليس كذلك يا كونور؟ أنظر إلى وجهك!
ضحك الصغير ثم أمسك وجهها بين كفيه قبل أن تنهال عليها أسئلة الصغار من حولها…. الأسئلة تي لا تنتهي:
— سيدة سارة، كيف تطير الطائرات؟
— آنسة سارة، هل يستطيع البشر
أن يصلوا إلى قاع المحيط حقًا؟ ألن ينفد منهم الهواء؟
— السيدة سارة…
كانت كلماتهم مثل ندى الفجر وأرواحهم كصفحة ماء لم يمسها الغبار… فأطفال الجزيرة رغم قسوة المكان كانوا لطفاء معها بطريقة تُشعرها أن قلبها بدأ يجد موطنه من جديد.
كانت سارة ومنذ أن وطأت قدماها تلك الجزيرة تنسج خيوط خطةٍ في ذهنها كمن يطرّز لوحةً على مهل تدرك أن كل غرزة منها ستغيّر مصير هذا المكان… فهؤلاء الذين يعيشون هنا لم تُسجّل أسماؤهم في أي سجلات رسمية؛ كأنهم ظلال منسية على أطراف العالم.
خطوتها الأولى: أن تضع الجزيرة في كفّها بوثائق ملكية لا يطالها أحد لتقيها جشع المطوّرين الذين قد يقتلعون جذور الحياة منها إن عبثوا بها بلا وعي.
ثانيًا: أن تمنح وجوههم هويةً وأسماءً لا تضيع في الرياح… أوراقٌ تحمل ملامحهم تحميهم من أن يكونوا مجرد أرقام مبعثرة في ذاكرة البحر.
ثالثًا: أن تفتح نوافذ العصر على أكواخهم؛ ماء ينساب في مواسير، وكهرباء تنير لياليهم، وإنترنت يصل بخيطه اللامرئي إلى قلوبهم… مدارسٌ لأطفالهم كي لا يظلوا أسرى أمواج الجهل.
حين وُلد هذا الهدف في قلبها شعرت سارة أنها عثرت على نبض جديد يضخ الحياة في عروقها حتى أن فكرة البقاء على قيد الحياة وسطهم لم تعد ثقيلة على روحها.
كان العام الجديد يوشك على معانقة الجزيرة لذا غادرها جاك لجلب بعض المشتريات تاركًا خلفه توم وجيري يتأرجحان بين صبرٍ مملّ ولهفةٍ طفولية.
وعندما ظهر جاك من بعيد وقاربه يثقل بحمولته، كان المشهد أشبه بعودة فارسٍ من غزوة غنائمها من نور إذ قفز الشابان فرحين وراحا ينقلان الأكياس إلى الكوخ والدهشة تسبق خطواتهما.
المؤن كانت كثيرة لكن ما شدّ الأنظار حقًا كان تلك الفواكه الملونة والوجبات السريعة التي تحمل عبق المدن البعيدة إذ لم ينسَ حتى أدق التفاصيل؛ حفاضات وحليب أطفال، وكأنه كان يسمع همسات الليل حين يبكي الصغير.
نظرت إليه سارة باستفهامٍ ناعم:
ــ "لماذا اشتريت هذه؟"
ابتسم جاك بعينين دافئتين وقال وهو يناولها كيسًا:
ــ "حتى لا تضطري لتغيير حفاضاته في منتصف الليل… وهذه لكِ."
أمسكت الحقيبة ودفء مجهول يتسلل إلى أطراف أصابعها… داخلها وجدت ملابس تليق بأنثى أراد لها أحدهم أن تظل جميلة حتى في أقصى أطراف الأرض ومنتجات للعناية بالبشرة ولوشن برائحة خفيفة تكاد تذوب على اليدين.
رفعت عينيها إليه فابتسم ابتسامة مرتبكة كأنها أول اعتراف يخرج منه:
ــ "لا داعي للشكر… ستدفعين فقط بعض الفوائد مقدمًا."
في تلك اللحظة شعرت سارة أن هذه الجزيرة لم تعد مجرد مكان
معزول… بل عالم صغير ينبض على إيقاع مشاعر بدأت تتشكل كنسيم يتخلل أوراق الشجر.