رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والثالث والستون 163 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والثالث والستون 


كان جاك يدركُ أن ثمة وحوشًا بشرية تسير على الأرض متنكرة في هيئة رجال وأحمد أحدهم إنه يعلم أن أي بادرة اهتمامٍ مفرطٍ من جانبه لسارة ستتحول إلى خنجرٍ في صدرها قبل صدره فالتفاتة قلق قد تكون بمثابة توقيع على حكم إعدامها.

انفرج باب الغرفة على حين غِرّة وخرج أحمد ممسكًا بسارة كما يُسحب طائر جريح من جناحه المكسور بلا رحمة ولا رفق حتى بدت في قبضته أشبه بظلٍ يتلاشى أمام ضوءٍ قاسٍ… عينيها غارقتان في هشاشةٍ تشبه الزجاج المهدّد بالكسر ومع ذلك لم يرفّ قلب أحمد نحوها للحظة.

تحرّك جسد جاك لا إراديًا خطوةً للأمام كأن روحًا خفية دفعت به لكن برنت قطع اندفاعه بصوت بارد كالموت:

ــ "لا تتحرك."

ابتلع جاك صوته وعلق في حنجرته قلقٌ مُرّ ومن ثم التفت إلى سارة بعينين كُسرتا شوقًا لكن الكلمات تهاوت منه قبل أن تولد.

وبين لحظة وأخرى ارتفع لمعانٌ معدنيّ في يد أحمد؛ مسدسٌ يتلألأ بسطوة قاتمة مهيمنًا على المكان كما لو كان صولجان حتى بدا أحمد حينها كربٍّ جائر يحكم الحياة والموت بنقرة إصبع… متغطرسًا كأن أرواح الآخرين مجرد بيادق في رقعة شطرنج سوداء.

همس أحمد بالقرب من مسامعها وجاء صوته يقطر سُمًّا:

ــ "انتبهي جيدًا يا سارة… لقد مات بسببك."

تجلّد الدم في عروقها وشعرت أن الهواء قد خانها وارتجفت كأغصانٍ عارية في مهب ريحٍ.. لم تكن تدري ما الحيلة أو كيف لها أن توقف

هذا الجموح الجنوني؟ فهي تعلم أن كل توسلٍ تقدّمه سيُسكب زيتًا على نيران حقده وسيزيده جموحًا ويقينه بالقتل سيتضاعف وإن صمتت فلن يعدل عن فعلته… فكلا الطريقين يقودان إلى الهاوية.
تكررت الهمسات في عقلها كسياطٍ تنهش روحها:

ــ ماذا عليَّ أن أفعل؟ ماذا عساي أن أفعل؟

في اللحظة التي انفجرت فيها الفوضى كبركانٍ هائج انبثق صوتٌ غاضب اخترق السكون كالبرق:

ــ «اذهب إلى الجحيم أيها المجرم!»

كان الصوت لتوم، ذاك الصغير الذي طالما أخفاه ظل الخوف فإذا به يخرج من قمقم الرعب متقمصًا دور البطل في لحظةٍ طائشة… كان جاك قد علّمه من قبل كيف يحمل السلاح… كيف يثبّت قبضته دون أن ترتجف لكن دائمًا كان يَحُول بينه وبين استخدامه فالسلاح نارٌ إن خرجت من يد طفلٍ أشعلت الكون.

ظن توم ببراءة الطفولة أنّ الرصاصة ستُنهي كل شيء؛ أنّ بموت أحمد ستتحرر سارة وتسترد روحها جناحيها… لكن القدر كان يعدّ مشهدًا آخر أكثر قسوة.

لم يكن صوت الطلقة من مسدس أحمد بل من المسدس المرتجف في يد توم الذي كان يختبئ في ركنٍ مهجورٍ قلبه يخفق كطبلٍ في معركةٍ ضارية… صوب المسدس نحو أحمد لكنه لم يكن متمرّسًا وفي لحظة هلعٍ انحرفت الرصاصة عن مسارها لتشق الهواء كبرقٍ أعمى وتندفع مباشرةً نحو صدر سارة!

تجمّد الزمن… انقطعت الأنفاس… لم يتخيل أحدٌ أن يمتد ذراع القدر بهذه السرعة ليحوّل الطفل إلى صيادٍ وسارة إلى

طريدة!
لكن المعجزة جاءت على هيئة جدارٍ بشريّ من جليدٍ ونار… أحمد… ذاك الجسد الطويل الذي طالما بدا لها حصنًا صلبًا لا تُخترق جدرانه  قبل أن تدرك حتى أنها كانت في مرمى الموت. شمّت رائحة معطفه الصوفيّ الداكن تلك الرائحة الخشبية الباردة التي تحمل بصمته وكأنها تُجسّد شخصيته:

متحفظ، غامض، لا يُكشَف قاعه.

حين اصطدمت الرصاصة بصدره عيناها تشتعلان بالرعب وهي تصرخ:

ــ «أحمد!»

كل أفكارها انكمشت في نقطةٍ واحدة:

هل ما زال حيًا؟ هل اخترقت الرصاصة قلبه؟

تحررت لترى الدماء لقد اخترقت الرصاصة معطفه الأسود لكنها اصطدمت بالسترة الواقية التي تحته فارتدّت الحياة إلى رئتيها بزفرةٍ طويلة.

شهقت بارتياحٍ مبعثر ودموعها تسيل كجدولٍ صغير يفضح ارتجافها.

لكن اللحظة لم تدم فجميع القناصة صوبوا أسلحتهم نحو توم وأصوات الآليات المعدنية تزامنت مع قرارٍ بالموت يوشك أن يُنفّذ.

صاحت سارة، بصوتٍ مرتعش يائس:

ــ «لا تطلقوا النار! إنه مجرد طفل!»

أما أحمد فكان هدوءه مرعبًا… رفع أصابعه الباردة ليمسح دموعها وقال بصوتٍ منخفضٍ عميق كأن صدى بركانٍ يخاطبها:

ــ «الوحش الصغير ذو الأنياب يظل وحشًا في النهاية يا سارة، لو لم يكن هذا الدرع يحرس صدري الليلة لكان الموت قد اختارك أو اختارني.»

ــ «الرحمة على أعدائك… هي ذاتها القسوة على نفسك.»

كلماته كانت سكينًا باردة بلا ذرة عاطفة لكنها

نزفت من داخله غضبًا مكتومًا… كان وجهه هادئًا كصفحة بحيرة لكن الأعماق تموج بعاصفة لا تهدأ.
أحست سارة بتلك النار التي يزداد اشتعالها كلما تظاهر بالسكينة فألقت بحالها بين ذراعيه يائسة، وصوتها مبحوح متضرع:

ــ «أحمد، لم يقصد توم إيذائي… إنه طفل… مجرد طفل! لا تتركه يموت… أرجوك!»

لم يكن كونور يدرك سبب انهمار دموع سارة بتلك الغزارة لكنه حين أبصرها تبكي انسابت دموعه هو الآخر بلا استئذان وقلبه الطفولي لم يحتمل انعكاس ألمها في عينيه.

صرخة الطفل اخترقت الصمت كسهم حارق:

ــ "بابا… ماما!"

ارتجّ صوتُه في الفراغ ليمزّق خيوط التفكير البارد الذي كان أحمد ينسجها بعناية… ترنّح الصغير بخطوات واهنة نحو أحمد كمن يهرول في اتجاه الملاذ الأخير فمدّ أحمد ذراعيه على مضض وحمل الطفل بين يديه فبات المشهد أقسى مما يحتمله عقل؛ على جانبيه سارة تبكي بوجع مكتوم وكونور ينتحب بنشيج طفولي وأحمد نفسه يقف في قلب العاصفة مُثقلًا بصريرٍ داخلي يوشك أن يمزّقه.

ضاقت أنفاسه وأدرك أنّه صار محاصرًا لا بخصومه بل بأشباح التناقض داخله فلم يعد أمامه سوى التنازل لكن تنازلاته لا تأتي بلا ثمن.

تنفّس ببطء ثم قال بجمودٍ:

ــ "حسنًا… سأترك الطفل يذهب."

صمت لحظة ثم انقلبت نبرته كسيف يجزّ الهواء، وعيناه تتقدان ببريقٍ أسود كجمرٍ لا يخبو ليثبت نظره على جاك وكأنّ روحه تُحاكمه:

ــ "لكن هذا…"

ارتجف

الفراغ من حولهم حين أطلق كلماته الأخيرة بصوت حادٍ يقطر بردًا وقسوة:
ــ "يجب أن يموت."

تعليقات