رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والرابع والستون
هزت سارة رأسها بعجز ولم تستطع أن تكف عن التوسل فجاءت كلماتها تتعثر بين شهقات جافة
أحمد أنا
كان أحمد يحمل الطفل بيد واحدة بينما الأخرى امتدت ببرود لتمسح دموعها لا بحنان بل بقسوة تشبه إطفاء النار بحجر وأخذ ينظر إليها بعينين قاتمتين ومن ثم قال بنبرة يقطر منها التهديد كسم بطيء
سارة أتريدين أن تختبريني
تجمدت الكلمات في حلقها كأن الهواء قد انقض عليها ليخنقها فقد عرفت في تلك اللحظة أن هذا الرجل قادر على تحويل تهديده إلى حقيقة وأن الرعب الذي يغزل خيوطه حولها لم يكن وهما
لم تجد أمامها سوى أن تسلم أمرها لدموع تنساب صامتة تتساقط كحبات المطر فوق صخر بارد لكنه قاس لا يعرف الرحمة بابا إذ اقترب منها وصوته صار همسا يزحف في أذنها كالأفعى
كلما بكيت من أجله كلما نزف هو أكثر صدقيني
ارتطم قلبها بثقل هائل كأن صخرة جبلت من جليد وسقطت عليها بلا رحمة آلاف الكلمات كانت تحاول الخروج من صدرها لكنها انحبست هناك تتناحر في الصمت ولم يبق لها إلا هز رأس متكرر أشبه بارتعاش غريق يلوح في محيط لا قرار له
مد أحمد يده يفرك عينيه بتكاسل مفتعل كمن يسخر من وجعها ثم تمتم ببرود
كوني فتاة صالحة وأشيحي بنظرك بعد هذا سنعود إلى حياتنا الطبيعية
كان الصدى قاسيا فصرخ توم المقيد بحدة يحاول كسر قيوده بالصوت إن عجز الجسد
لكن صوتا آخر اخترق المشهد فجأة صوت جيري المبحوح الموشح باليأس
إذا كان لا بد أن تميت
أحدا فاقتلني أنا لا تؤذ جاك إنه لا يريد إلا أن يحسن حياة سكان الجزيرة إنه رجل طيب صدقني! حتى حين أخذنا ابنك لم نلمسه بأذى بل أعطيناه الحليب وهو عندنا رفاهية لا يحلم بها أحد
كانت كلماته كحجارة تلقى في بئر عميق لا تسمع إلا رجع الصدى أحمد لم يرد إلا بجمرتين من كلمتين رماهما في وجهه
اغرب عن وجهي
لكن الفتى الخجول الذي لم يعرف الصدام يوما ثبت في مكانه وصوته المرتجف خرج من قلب شجاع على ضعفه
إن كنت تحب السيدة سارة حقا فلن تؤذي أصدقاءها ما تفعله الآن ليس حبا بل عذابا
حينها فقط أدار أحمد وجهه نحوه وعلى شفتيه تفتحت ابتسامة كالسكين قاسية شرسة تشبه انحناءة ذئب يتهيأ للانقضاض ومن ثم قال ببرود يقشعر له البدن
من أوهمك أنني أحبها كلما غاصت في العذاب أكثر كلما ارتويت أنا سعادة ولو كان موتك كفيلا بتمزيق قلبها فلن أتردد سيكون ذلك أعظم أمنياتي
لم يستوعب جيري كيف يمكن أن تتدفق من بين شفتي إنسان كلمات بهذا الصقيع
بدا الهواء من حول أحمد مشبعا ببرود قاتل ومع ذلك أخرج جيري صوته مرتجفا بالشجاعة كمن يشق صدر خصمه ليخرج قلبه عاريا للعيان قال بثبات غريب
لو أنك تكرهها حقا لما ارتجف جسدك حين اخترقت الرصاصة الفضاء باتجاهها لو أنك لا تبالي بها لوقفت متحجرا وتركتها تسقط في الموت لكنك رغم سوادك الظاهر
تزلزل الصمت من وقع كلماته فقد كان جيري يعري قناع أحمد أمام الجميع يفضح سرا مطمورا في صدره منذ زمن حتى كيلفن الذي
لم يجرؤ يوما على تحدي أحمد اتسعت عيناه بدهشة غريبة وهو يرى طفلا ضعيفا يحرك جبلا
تابع جيري وعيناه تشعان بصلابة لم يعتدها أحد منه
الحب لا يخفى بل يفضح صاحبه من وهج عينيه لو أنك لا تحبها لما دنوت منها لما اقتفيت أثرها بنفسك ولو أنك لا تحبها ما كنت لتعامل جاك كعدو لمجرد أنه يشاركها الهواء حتى طفل مثلي يعرف أن الحب إن لم يكن حكيما فهو لعنة وحتى إن لم تحب إنسانا فلا تمعن في جرحه أجبني حين تؤذيها ألا ينقبض صدرك بالذنب
كانت الكلمات كالسياط تلهب صمت المكان فارتعشت أنفاس الجميع
ترك أحمد ذراعيه تفرجان عن كونور وخطى ببطء نحو جيري فارتفع التوتر كخيط مشدود على وشك أن ينقطع كل حبس أنفاسه يخشون على ذلك الصبي الذي نبتت في داخله شجاعة أكبر من جسده النحيل
اقترب أحمد لكن جيري ظل واقفا كجذع شجرة متين رغم أن قلبه يخفق كطبل في صدره وعلى النقيض كان أحمد شامخا ظله يبتلع جسد الصبي تماما وهيبته السوداء تطبق على المكان انحنى قليلا وصوته خرج كالسخرية المغموسة بالسم
أتعلمني ما ينبغي أن أفعل أتملي علي قوانينك الطفولية
وفي لحظة خاطفة ارتفع المسدس ليستقر أمام جبين جيري إذ لمع بريقه المعدني تحت الضوء كعين وحش يتهيأ لالتهام فريسته ومن ثم قال أحمد بنبرة باردة
أستطيع أن أطلق سراحه لكنك ستدفع الثمن ستموت أنت مكانه
لم يكن أحمد يعير الشاب اهتماما بقدر ما كان يثير في نفسه دهشة ممزوجة بالإعجاب فالرجال الراشدون لم يجرؤوا يوما على مواجهته
بهذه الجسارة فما بالك بمراهق لا يملك سوى قلبه ليتترس به
توقف الزمن عند تلك اللحظة كأن عقارب الساعة جمدت قسرا وفوهة المسدس السوداء التصقت بجبين جيري تتلألأ ببرود معدني قاتل كفم غول جائع لا يشبع إلا بابتلاع الأرواح
ارتجفت أنفاس جيري لكنه لم يبعد عينيه عن أحمد كمن يواجه قدرا محتوما بجرأة تفوق عمره
تسلل الخوف إلى وجوه الجميع كطيف ثقيل
وسارة انكمشت كطائر خائب الجناح تحدق بعيون دامعة نحو المسدس ترتجف شفتاها دون أن تخرج منهما كلمة
أما كيلفن شد قبضته حتى ابيضت مفاصله وعيناه تتنقلان بين أحمد وجيري يبحث في الفراغ عن أي سبيل يوقف الكارثة القادمة حتى الشاب الأسير تجمدت ملامحه البريئة وانعكس الرعب في سواد عينيه كمرآة صافية
أما أحمد فكان ساكنا كصخرة ملساء ينساب فوقها ماء الليل لا يرمش ولا يتنفس كالبشر عيناه المظلمتان تشعان بوميض بارد وابتسامة مائلة على شفتيه تشبه شقا في جدار قديم يبتلع الضوء تقدم خطوة واحدة نحو جيري فاهتزت الأرض تحت أقدام الجميع
همس أحمد بصوت متقطع كصرير سكين على زجاج
هل تظن أنك تكشفني أحقا تملي علي ما أفعل
توسعت عينا جيري لكن جسده لم يتراجع صموده الصغير بدا كشرارة ضعيفة أمام إعصار هائج
اقتربت الفوهة أكثر حتى التصقت بجلده وساد الصمت العارم لم يسمع سوى خفقان القلوب المتسارعة كطبول حرب قبل الانفجار
في تلك اللحظة الفاصلة كان كل نفس يسحب بصعوبة كل عين تترقب النهاية كل
جسد يتهيأ للانفجار القادم
ثم فجأة