رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والخامس والستون
توتر الهواء حتى بدا أثقل من أن يُتنفس كأن الجزيرة بما عليها قد ضاقت فجأة على صدورهم.
كان الصوت الذي أطلقه أحمد مجرد نغمة زئير حادة خرجت من حنجرته لكنه ألقى في القلوب رجفةً كالصاعقة فارتسم العبوس على ملامح الشاب المقابل وكأن ملامحه تُنحت بيد خوفٍ خفيّ.
ضغط أحمد على الزناد فارتج المكان بارتطام الرصاصة بجسد طائر على بعدٍ يرتفع عن رأس چيري ملي متراً واحداً بعد أن غير هدفه متعمداً ثم اعتلت عينيه لمعة رضا باردة كأن الموت بالنسبة له انتصار صغير يراكمه في دفتر انتقامه مردفاً بصوتٍ رخيم لكنه مسموم:
ــ "لا بأس... لقد أثبت أنك رجلٌ يستحق الاحترام… غير أن الحقيقة واحدة… لا أحد يستطيع أن يعوّض حياته."
قالها وهو يتحرّك بخطوات محسوبة نحو جاك والهواء من حوله يُصفّر كأنما يفسح له الطريق.
في تلك اللحظة كان جاك أسرع مما توقع الجميع؛ إذ أخرج مسدسه بخفّةٍ خاطفة وصوّبه مباشرة نحو جبين أحمد حيث لم يعد بينهما سوى مسافة نفس.
ارتفعت الأصوات من كل جانب، فوهات البنادق انفتحت على جاك كأفواه ذئاب تحيط بفريستها من كل الجهات ومع ذلك لم يتراجع بل ظلّ ساكناً ينتظر اللحظة التي يحسم فيها مصيره يقول بصوتٍ مبحوح تتخلله نبرة يقين:
ــ "إن كان بوسعي أن أبادل حياتي المتواضعة بحياتك يا سيد ميلر... فهي صفقة رابحة لا تُرفض."
تحت القناع الذي يخفي ملامح جاك انبثقت ابتسامة نادرة كالشقّ المضيء في جدار مظلم ومن ثم التفت بعينيه نحو سارة وأرسل لها نظرةً لم تحتج إلى كلمات، يريد أن يقول لها: *من هذه اللحظة، ستكونين
حرة.*
تجمدت الدموع في عينيها والذهول عقد لسانها فبالرغم من أنها لم تعرف جاك سوى منذ أسبوعين ومع ذلك هاهو يضع حياته على كفّه لأجلها لكنها لم تستطع أن تحتمل فكرة أن يُفنى رجلٌ مثل هذا كي يمنحها حريتها فصرخت بصوتٍ مبحوح يائس:
ــ "لا! لا تطلقوا النار!"
اندفعت بجنون تركض بينهما تريد أن تحجب بدمها مسار الرصاص بينما ظلّ أحمد ثابتاً في مكانه وفوهة مسدس جاك ما زالت مصوبة نحو رأسه لكن عينيه لم تنطقا بالخوف؛ بل كان فيهما وهج جنوني كوميض برقٍ يسبق العاصفة.
قال جاك ببرودٍ ساخر وهو يُثبّت سبابته على الزناد
ــ "ما رأيك أن نراهن ونرى أيّنا سيبقى واقفاً بعد هذه الليلة؟"
صرخت سارة وصوتها يتفتّت في الفراغ كزجاج يُلقى على صخور صلدة:
**"لا تطلق النار يا جاك! أرجوك… لا تفعل!"**
كان قلبها يخفق كطبول حربٍ لا تهدأ وهي تدرك أنّ رصاصةً واحدة قادرة على نسف كل خيط رفيع ما زال يربط ثلاثتهم بالحياة إذ لم يكن في المشهد سوى عاصفة مأساةٍ قادمة تنتظر أن يضغط أحدهم على الزناد.
وقبل أن يتمكّن جاك من إنهاء الجملة التي حبسها بين أسنانه اندفعت سارة بجنون تُلقي بنفسها في هوّة تقف بين فوهتي المسدسين الممدودتين كفكي وحشٍ جائع وقالت بصوت مبحوحٍ مشبعٍ بالدمع:
**"إن كان لا بد من الدم… فليكن دمي أنا… أطلقا النار عليّ أولاً."**
تجمّد الهواء في الرئة وأحسّ الحاضرون بالزمن يختنق في حلق المكان… عبس أحمد وبدأت ملامحه الغامضة تغلي بضيقٍ مكتوم ثم زفر ببرودٍ كريحٍ شمالية:
**"ابتعدي يا سارة… لا تتدخلي."**
لكنها لم تبتعد بل ألقت
بجسدها عليه تحاول أن تُطفئ في داخله بركانًا أو تحجب عنه السماء بأذرعها الهشّة.
انفجرت دموعها كأمطارٍ حارّةٍ فوق صخرٍ بارد وصوتها المرتجف خرج كابتهالٍ مذبوح:
**"توقف… أرجوك توقف فقط! سأرضخ لكل شروطك… أقسم ألا أهرب ثانية… فقط… دعهم وشأنهم."**
ارتجفت بين ذراعيه كما اهتز داخله كما لم تفعل رصاصاته يومًا وحالما تساقطت دموعها على جلده كجمرٍ ذائب، فأحسّ أحمد – لوهلةٍ خاطفة – بنسيمٍ باردٍ من بحرٍ بعيد يصفع، يعيد إليه وعيًا كاد يبتلعه الظلام.
توقّف المشهد عند تلك اللحظة المعلّقة حيث الرصاصة ما زالت حبيسة في جوف الحديد والقلب على شفا انهيار، والعينان متقابلتان:
عينٌ تُصلّي بالرجاء، وعينٌ تحارب رغبة القتل.
حينما وقعت عينا أحمد على بكاء سارة المتهدّج بدا له المشهد كشقٍّ في جدار قلبه الصلد، ثغرة تسلّل منها وجع غريب، وجع لم يعرفه من قبل. لم يكن في داخله أثرٌ للرضا أو الانتصار بل جرح ممتد، أشبه بجرحٍ قديم ظلّ ينزف دون توقف.
ولأول مرة منذ زمنٍ بعيد، تذكّر ابتسامتها… تلك التي غابت عن محياه كلؤلؤة دفنها البحر في قاعٍ سحيق وها هو يكتشف أن افتقادها ينهش روحه أكثر مما كان يظن… وتساءل في داخله:
هل كان تشبثه بها إصرارًا على الانتقام؟ أم كان مجرد شعورٍ مسعور بالامتلاك؟
مهما يكن ففي تلك اللحظة تحديدًا أدرك أنه لا يريد رؤية دموعها كأن بكاءها يجرّد أسلحته ويُسقط عنه أقنعته.
اقترب صوته المنخفض من مسامعها كهمس يخرج من أعماق كهفٍ مظلم:
ــ "هل أنتِ آسفة حقًا؟"
تشبثت سارة بمعطفه كغريقٍ يتشبث بخشبة نجاة
وشعرها المنفلت يتراقص في مهب الريح كستارٍ مهلهل يحجب عنها الكون… دموعها تتساقط متواصلة كقطرات ملحٍ تُذيب صخرًا عنيدًا. هزّت رأسها مرارًا، وخرج صوتها مبحوحًا متقطعًا:
ــ "أجل… أجل، أنا آسفة حقًا."
مدّ أصابعه النحيلة وانزلق بها عبر خصلاتها المبعثرة ليعيدها وراء أذنها بحركة واهنة تنضح بعاطفة لم يُظهرها من قبل.
انخفضت عيناه نحوها وفي بؤبؤيه تلألأ وهج غريب، لمسة من اللطف كقطرة ماء نادرة في صحراء قاحلة… يتمتم بامتثال مستحدث:
ــ "سأفعل ما تريدينه إذن."
ارتجف قلبها من وقع كلماته وظنّت للحظة أنها تهذي أو أن ما سمعته محض خيال بينما انحنى أحمد وحمل كونور بين ذراعيه ثم التفت إليها ولوّح بإيماءة خفيفة كأنها وعد غامض لم تفك طلاسمه.
أيقظ نسيم البحر أطراف ملابسها فتناثرت بعض الخصلات التي كان قد حبسها خلف أذنيها لتسقط على جبهتها وتخفي جزءًا من ملامحها المرتعشة… أما جسده فقد غمره ضوء الشمس الذهبي فبدا كتمثالٍ بُعث من حجرٍ ليحمل سرًّا لا يُفصح عنه… للحظةٍ قصيرة، خُيّل إليها أنها رأت الحنان في عينيه… حنانًا حقيقيًا لا يشبه صرامته المعتادة. أكان حلمًا؟ أم أن اليقين خدعها؟
لم تتجرأ سارة على التفكّر أكثر وسارعت بوضع يدها المرتعشة بين يديه الممدوتين كمنع تعقد ميثاقًا أبديًا وحين تلامست أطراف أصابعهما قبض عليها بصرامة وجذبها نحوه دفعة واحدة
ومن ثم قال بصوتٍ باردٍ كصليل الحديد:
ــ "نحن ذاهبون إلى المنزل."
تلك الكلمة كانت كالمطرقة التي حطّمت الوهم الرقيق الذي بنته في ثوانٍ… بل انكسرت الصورة الحالمة
في داخلها وتفتت كزجاجٍ هشّ فلم يعد أمامها خيار سوى أن تتبعه… ولو إلى ظلامٍ لا عودة منه.