رواية غوثهم الفصل المائة والثامن والستون
يا مَن لا يُنقِصُ مِن مُلكِه رِزْقُه،
ولا يُزيدُ فيه مسألةُ عبادِه،
يا مَن لا يُعجِزُه إنسٌ ولا جِنٌ
ولا أحدٌ مِن خلقِه ولا شيء، يا ربّ العالمين..
نجّني مِمّا أخاف وأحذر،
أدخِلني برحمتك اللهُمّ في أمنِك وجوارك.
باسمِك اللهُمّ وقُدرتِك أعوذُ مِن شرِّ ما أجدُ وأُحاذِر،
أعوذُ بكلماتِ اللهِ التّامّات مِن شرِّ ما خلق،
أعوذ بالله السميع العليم مِن الشيطانِ الرّجيم
من همزِه ونفثِه ونفخِه.
باسم اللهِ على قلبي حتّى يسكُنَ
باللهِ الملك مالك المُلك ذي الجلالِ والإكرام.
ولا حولَ ولا قُوّةَ إلّا بالله.
_”مناجاة”
____________________________________
سيدي رُبما أبدو لكَ بعمر الشباب..
لكن المؤكد أن قلبي من الحزن قد شاب، فنحن نحمل فينا القلوب التي سبقت أعمارنا وكأننا كبرنا قبل سابق الأوان، حيثُ هنا في تلك المسارات التي تدور بنا ونحن فيها مُنساقين، كانت القلوب تتحرك وتسبق أعمار أصحابها لتبدو أكبر مما هي عليه، فأنا شابٌ لكن قلبي مليءٌ بالعجزِ، أنا حُرٌ لكن داخل قفصٍ..
وما فائدة الأجنحةِ إن كان الطير حبيسًا داخل قفصه وحُلمه فقط أن يلمح السماء؟ ما فائدة الحُرية إن كانت بداخل سجنٍ كبير الحجم يكبل المرء ويطغى فوق الحلم؟
وما فائدة المُسميات إن كانت تخلو من المعاني؟…
سيدي يؤسفني اخبارك أن القلب حقًا قد شاب
والعمر هُنا لا يُقاس بالأيام، وإنما أصبح يُقاس بالذكريات، فكم هي أعمارنا كي تقاس بذكرى الأمس حتى يُبنى عليها القادم؟
فنعم أنا شاب لكن قلبي من قهر الدنيا شاب،
زنعم خصلاتي لازالت حالكة السواد،
وياللعجب قلبي أيضًا يحاوطه الظلام شديد السواد، والعُمر يغطي رأسه الشيب رغم أن رأسي تتشح بالسواد..
سيدي أهلًا بك في بلادي، بلاد الغُرباء،
تلك البلاد التي تحتضن كل غريبٍ، وتقوم بطرد أبنائها،
فنعم أنا ابنٌ لها ولازالت بعمر الشباب،
لكن القلب بين الضلوع أصابه العجز ورأسه حقًا شاب..!!
<“ثمن العودة كانت تكلفته كسرًا في الروح”>
هذا الطريق البعيد الذي قطعناه ولفظنا به آخر الأنفاس حينما عُدنا منه فقدنا هُناك جزءًا من الروحِ، هذا الطريق الذي توجهت بنا كل المسارات إليه حتى خُضناه بالإجبار كانت العودة منه أصعب ما يمكن للمرء أن يختبر، وكأن الروح كانت ثمنًا لخوض هذا الطريق، فحينما عُدنا أدركنا أننا خسرنا وخسارتنا كانت فادحةً لم تعوض بشيءٍ، فهل للروح المكسورة من جبرٍ؟.
_كسروني…كسروني يا “إيـهاب”..
ألقاها بروحٍ مكسورة تُعبر عن قهره كرجلٍ تعرض للذُل والهوان، تألم وسكن العطب في روحه وآهٍ من تلك الروح المُتألمة التي لن يبرأ جرحها النازف، تألم كما الخيل الأصيل الذي أتته الضربة من خلف قدميه فأجبرته أن يخر راكعًا على عاقبيه أمامها جبانٍ لم يملك الجُرأة كي يواجه غريمه من وجهه، وإنما يلجأ للخفاء كي يضرب ويترك أثر ضربته…
أما “إيـهاب” فكان لا يقل ألمًا عن شقيقه، فكيف ذلك والروح ذاتها منقسمة بداخل جسدين وإن تضرر نصفٌ منهما يلحق الضرر ذاته النصف الآخر، قهر الرجال تجلى في مظهر الجميع حينما تلقف “إيـهاب” شقيقه بين ذراعيه وصرخ بملء شدقيه مُعبرًا عن قهره وكمد روحه بصياحه:
_”إســمـاعـيل”..!!
اهتزت جدران البيت إثر الصرخة التي صرخها هو بقهرٍ على شقيقه الذي ارتخى جسده وسقط أسفل قدميه وحينها وازى جسد “إيـهاب” حركة جسد شقيقه وأمسك وجهه بين راحتيه يهزه بقوةٍ وهو يكرر النداء الذي لم يُجاوب بتلبيةٍ، ظل يحاول معه وهو يصرخ وقد ركض له “مُـحي” يستبين نبضه وحركة الأوتار وضخ الدم في جسده بينما “نَـعيم” فاقترب بخوفٍ من تلك الخطوة التي يخطوها نحو ابنه خشيةً من فقده في تلك اللحظة، وما إن اقترب ضعفت أقدامه فلم تعد تحمله وحينها سقط بثقل جسده مندفعًا للأمام بعدما تعرقل في سيره…
مال على الشاب ومسح فوق جبينه بعد أن فقد وعيه وحينها هرعت العبرات من عينيه وهو يسأله بوجعٍ وروحٍ فقدت نصفها مع فقدان الآخر وعيه:
_أنتَ كويس يا ابني؟ إيه اللي صابك؟..
لم يقدر على التكملةِ حينما تهدج صوته وفقد آخر ذرات ثباته ليظهر ضعفه علنًا وقد صدح صوت “دهـب” الصغيرة ببكاءٍ عالٍ لم يتوقف كأنها تشعر بقلب هذا المسكين الذي أصبح جسده كما قطعة الثلج الباردة وكذلك تخشبت أطرافه كاملةً، وحينها ولج “يـوسف” الذي ترك بيته وكان هُنا بمحض الصُدفةِ بجوار “لـيل” يقتبس جزءًا من قوته وفي تلك الآوئنةِ ما إن لمح صديقه هرول لهم وظل يفرك كفيه الباردين حتى وصلهما صوت “تَـيام” يهدر بنبرةٍ عالية:
_حد فيكم يقوم يطلب دكتور بسرعة أو ننقله مستشفى..
كان حديثه آتيًا بسبب هذا الجرح الغائر الذي لمحه بذراع “إسماعيل” ولمح أثر الدماء في قميصه، وما ترتب على ذلك كانت انتفاضة من كل الجالسين يحملونه نحو غرفته، بينما “مُـحي” فهرول راكضًا وخلفه لحقه “تَـيام” ثم امتطيا دراجة “مُـنذر” كي يأتيا بالطبيب لأخيهم..
أما في الداخل وفوق الفراش الخاص به حمله “إيـهاب” بين ذراعيه وضمه لصدره كأنه يتأكد من حقيقة عودته وحينها ظل يُشدد مسكته له وقلبه يرتجف خوفًا وألمًا ولكن الشيء الوحيد الذي جعل نفسه تسكن ولو لثوانٍ أن هناك ما يدل على النبض..
وقف “يـوسف” بجوار الفراش يطالع رفيقه بعينين متقدتين بنيرانٍ موصدة حتمًا لو طالت غريمها ستحرق جسده حيًا وتسلب منه روحه، عاد الانتقام يتلبسه لكن تلك المرة لن يتراجع أو يتوانى عن فعل شيءٍ أكيدٍ أقره هو في نفسه، ولتوهِ تذكر “ضُـحى” التي سقطت مغشيةً عليها في الصباح وترك معها “عُـدي” و”فـضل” يقوما برعايتها لعلها تعود كما يعهدها منذ أن كان صغيرًا وكذلك وجدها عند عودته…
كان الموقف مؤلمًا للروح بعودة الغائب الذي عاد وبعودته كسر أرواحهم جميعًا، فتلك الجملة الوحيدة التي تفوه بها قبل أن يسقط مغشيًا عليه جعلت كل الأرواح تُكسر بجرحٍ عميقٍ لن يبرأ بمرور الزمن عليه، لذا كان “إيـهاب” أول المكسورين والمقهورين ولم يخطر بباله ولو لمرةٍ واحدة أن الضعف يصيبه بتلك الطريقة في مقتلٍ فيسلب منه الروح وما بقى منها، اليوم رأى بعينيه القهر يمتد لمنتصف قلبه ويعتصره حتى تنزف الدماء منه ويبكي هو بصراخٍ مكتومٍ، فذاك الطفل الذي يتربع في قلبه لازال يجلس القرفصاء ضاممًا ساقيه بذراعين مُرتجفين وعيناه تصول وتجول في المكان بخوفٍ..
وعلى غرار قول “إسماعيل الموجي” أن القلب يشعر بدفء قلب صاحبه وفي المُجمل القلب دومًا يشعر بقلب من يُحب، فهي قلبها كان يتألم لألمه، كُلما مرت عليه ليلة وهو يبعد عنها شعرت فيها بالقهر أكثر حتى رفضت الطعام والشراب وآخر ما حدث لها فقدان الوعي وإصابتها بوعكة صحية شديدة جعلتها طريحة الفراش !!.
تسطحت “ضُـحى” فوق الفراش بعدما فقدت وعيها وأتى الطبيب لفحصها وأخبر أسرتها عن حالتها التي ساءت بسبب رفض الطعام والشراب وارتفاع نسبة الأسيتون بالدم بعدما أجرى لها تحليلًا وأخبرهم هاتفيًا بالنتائج..
فما بين ليلةٍ وضحاها فقدت “ضُـحى” نورها
وضُحاها، لذا سقطت في هوةٍ ساحقة تهرب من الواقع ومن الخوف الذي يأكل في قلبها كمدًا وقهرًا على الحبيب الغائب، كانت فوق الفراش والحلول المُغذي موصولٌ بوريدها كي يكون عوضًا عن ذاك الطعام الذي لم يدخل في جوفها، وقد وقف “فـضل” بجوار الفراش يتابع تلك الفراشة التي احترقت أجنحتها بسبب لهيبٍ جذبها نحوه فسارت إليه ترفرف دون الأخذ بعين الاعتبار أن هذا اللهيب سيحرق تلك الأجنحة ويفقدها روحها..
أما “قـمر” فكانت بجوار رفيقة الروح تمسح فوق خصلاتها بنعومةٍ وعيناها تفيض بكل دمعٍ كأنها سُحب شفافة تكون غلافًا يمضي ويمضي ثم يفيض فجأةً، وهي منذ أن رأت “ضُـحى” بهذا الوضع وهي تبكي لأجلها حتى مسحت فوق جبينها وقامت بفرد خصلاتها لها حول رأسها فوق الوسادةِ ثم تابعتها بعينين حزينتين وهي تقول برثاءٍ لحالها:
_وحشتني ضحكتك اللي غابت بقالها أربع أيام عننا، البيت مالهوش لازمة من غير صوتك وخناقك مع الكل، أول مرة آخد بالي إنك ضعيفة أوي كدا وقلبك رُهيف مش زي ما باين عليكِ، يا يخت “إسماعيل” إنك بتحبيه الحب دا كله، بكرة تتجمعوا سوا مع بعض في بيتكم وتفرحوا ببعض، وفستانك الحلو دا هتلبسيه وتفرحي بيه.
كانت تأمل في وصول الحديث لها،
كانت تحدثها علمًا بأن قلبها يستمع ويُنصت لها،
كانت تتمنى لو تشارك أختها في وجعها بدلًا من جلوسها
هكذا، لكن كل الحيل فُقِدَت من أيديها وفقط ما ظل معها
هو المواساة بالكلامِ، وخير الكلام هو ذاك الذي يمسح فوق القلوب، وبالأخص تلك القلوب التي أكلها الحزن وفتتها..
____________________________________
<“دومًا ستكون في المكان الصحيح، فلا تكترث بهزيمةٍ”>
تلك الهزائم التي تُباغتك في منتصف الطريق
هي أول خطوةٍ للنجاحِ، فبغير هزائمٍ لن تبدل الطريق، وبدلًا من إكمال الطريق سدىٰ بغير شيءٍ مُجنىٰ قد تُبدل خطواتك كي تنجو من شر الهزائم الساحقة، ولعلك تُبدل مسارك وتصبح بمكانك الصحيح بدلًا من ذاك الذي ظننت نفسك به في مكانك الخاطيء، لذا أنتَ دومًا في مكانك الصحيح، فلا تكترث بمجرد هزيمة ستجعلك أقوى مما سبق…
صُدفةً حينما زار الوجع قلب ابنته ورفضت أن تلجأ لأحدٍ غير أبيها؛ لجأ “عـادل” لِـ “أيـوب” وهو يعلم أنه سوف يعاونه، كان هناك في قلبه ذاك الصوت الذي يحدثه أن “أيـوب” هو خير المُعين له في حاجته، وبعد بحثٍ متواصلٍ بينهما وإهتمامٍ بالغٍ من “أيـوب” في البحث عن “سـراج” و “إسماعيل” بمعاونةٍ من الشباب في توصيل المعلومات له؛ كان يتحرك ويسير وفي كل مرةِ يقع في فخٍ يصدمه بهزيمةٍ تجعله يعود من جديد ويُعيد مشوار بحثه الطويل حتى أنتهى الأمر به يجاور “عادل” في بيته وهو يقول بقلة حيلة:
_أنا روحت لوكيل الوزارة اللي حضرتك قولتلي عليه بس للأسف مفيش أي بيانات أو كمين أو شُبهات تخليهم يدلوا بالبيانات اللي حضرتك قولت عليها، يعني مواصفات العربية اللي خاطفة “سـراج” مالهاش أي أثر، ومخرجتش من المحافظة أصلًا، دا معناه إن “سـراج” لسه هنا مخرجش أصلًا؟.
ساورت الحيرة قلب “عـادل” وفقد عقله القدرة على التركيز في أية تفاصيل قد تعاونه خاصةً حينما وصله الحديث ذاته من جهةٍ أخرى في الحكومة لجأ إليها لكنه عاد خاوي الوفاض، خائب الرجا والأمل، فزفر بقلة حيلة وضم كفيه يدلك ملتقى حاجبيه ثم قال بصوتٍ مبحوحٍ:
_للأسف نفس اللي قالوه ليك قالوه ليا، مفيش أي دليل ملموس، ودا اتهام في غير محله لأنه راجل ليه حصانه من سفارته هنا ومش عاوزين مشاكل دولية، فالحل إيه؟ يغور شاب ولا اتنين من البلد مش مهم فداها وفدا ترابها، بس نعمل مشاكل ونجيب حقهم وحق كسرهم وقهرتهم؟ نبقى كدا بتوع مشاكل مش قد اللي بيعادينا، يبقى اسكتوا وابلعوا الجزم في بوقكم كمان، تصدق أول مرة آخد بالي من كلام “سـراج” لما قالي إنه مش لاقي تقدير فيها يبقى بأي وجه حق يدافع ويحارب علشانها؟ تصدق طلع معاه حق؟ هو كان عارف إنه فيها هنا غريب.
بدا أثر الحديث جليًا فوق ملامح “أيـوب” وبدا الأثر عليه واضحًا وحينها تذكر كل ما حدث معه، تذكر قلة حيلة والده وأخوته وفقد الأمل في عودته ومعاونة الآخرين لهم كي يعود لهم ابنهم، تذكر معاناة الأب وحزن الشقيقة وقهر الشقيق الأكبر، لكن ما تسبب حقًا في ألم روحه هو أن “سـراج” كات ولازال وحيدًا بغير عائلةٍ..
تحرك من البيت بعدما خرجت “نـور” تطمئن من والدها على زوجها ونظرًا لاحترامه لحرمة البيت رحل وخرج من الحديقة وقبل أن يخرج من البوابة الحديدية صدح صوت هاتفه فأخرجه يجاوب على مكالمة “يـوسف” الذي أخبره بلهفةٍ:
_”إسماعيل” رجع يا “أيـوب” مفيش أخبار عن “سـراج”؟ الحج هنا مستنيك تطمنه عليه، “عـادل” موصلش لحاجة؟.
تبدلت مشاعره وتباينت ولم يعد بقادرٍ على ردٍ يُفيد السائل وقبل أن يجاوب وجد ما سرق نظره وأصابه بالصدمة التي شلت لسانه حينما وجد سيارة تشق الطريق نحو البيت وصوت صريرها العالي شق الآذان واخترق السمع وحينها تم إلقاء “سـراج” منها بقرب البيت وحينها عاد لتركيزه على صوت “يـوسف” يحدثه بنبرةٍ عالية:
_يابني روحت فين؟ يا “أيـوب” إيه الصوت دا؟.
_دا “سـراج” رموه من العربية..
هتفها بانشداهٍ ووطأة الصدمة أوقعته في فخها فلم يدرك الوضع إلا بعد مرور ثوانٍ حينما ركض نحو “سـراج” ورفعه عن الأرض فوجد ملامحه بأكملها مخبوءة خلف الكدمات والجروح في وجهه وكذلك جسده يرتعد ويرتجف ناهيك عن درجة الحرارة المُرتفعة التي أصابت جسده وهو يرفرف بأهدابه بشتاتٍ وحركات غير مستقرة جعلت “أيـوب” يضمه لصدره بقوةٍ وهو يصرخ باسمه فوجد “سـراج” يهزي وهو على أعتاب فقدان الوعي:
_”إسماعيل..”…ملحقتوش، كسروني وكسروه قدامي..
توسعت عينا “أيـوب” وفرغ فاهه ذاهلًا من الحديث المقذوف لسمعهِ وظل يحاول مع “سـراج” حتى يستفيق وهو يُردد اسمه وما إن فشل في ذلك رفع صوته هادرًا بما هو أقرب للصراخ المُتألم ولهفةٍ كي يُنجد ذاك الذي يرتجف بين كفيه:
_يا “عـادل” بـيه، يا مــدام “نــور” يا “عـادل” بــيه.
صراخه الهادر جعل “عـادل” يركض له مهرولًا وكذلك لحقته “نـور” وخلفهما ركضت “چـودي” التي صرخت هي الأخرى وركضت تحتضن خالها وهي تصرخ باسمه بينما “نـور” فدفعت “أيـوب” بغير قصدٍ وضمت “سـراج” بصدرها تتوسله ببكاءٍ أن يفيق ويعود لها فوجدته يفتح عينيه بتشوشٍ غطى على الرؤية لديه لكنه استبين ملامحها من خلف ستار جفونه؛ فتفوه بهمسٍ يرجعها للمرةِ الثانية بين ذراعيها:
_معملتش حاجة غلط المرة دي..والله ما عملت.
أومأت هي له موافقةً ثم مسحت فوق جبينه فوجدت الدماء تغطي كفها إثر جرحٍ أصاب مقدمة خصلاته بينما هو فتنفس بحدةٍ وكاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيها لكنها ضمته لصدرها وظلت تُردد بغير تصديقٍ:
_علشان خاطري يا “سـراج” لأ بلاش تسيبني، علشان خاطري…خليك معايا، أنا و “چـودي” مالناش غيرك، قوم وبصلي طيب، يا “ســـراج”.
صرخت بملء شدقها ما إن لفظ الأنفاس الأخيرة بين كفيها وانقطعت أنفاسه وحينها تدخل “أيـوب” بمعاونة “عـادل” ثم قاما برفعهِ من فوق الأرض ومنها لداخل سيارة “أيـوب” الذي وضعه ووجد “نـور” تجلس وتحتضنه، بينما “عـادل” جلس ومعه الصغيرة في الأمام، بينما “أيـوب” فقاد سيارته مسرعًا بأملٍ في نجاة “سـراج” فألقى ذراعه للخلف وظل يضغط به فوق قلبه وأمر “نـور” بلهجةٍ آمرة من فرط توتره:
_أفضلي اضغطي على قلبه كدا وحاولي تفتحي عينيه، حاولي علشانه هو.
كان يعلم أنها فقدت القدرة على فعل أي شيءٍ لذا حينما أمرها ذكرها بهذا الذي يفقد روحه بين كفيها وهي ما إن تذكرت هذا الأمر ظلت تفرك موضع نبضه وتحاول معه وهي تفرق جفونه المُلتصقة مع بعضها لعله يعود لها ويفتح عينيه، وظل الوضع هكذا حتى أوقف “أيـوب” سيارته عند باب المشفى أخيرًا..
لحقه على هناك “يـوسف” و “تَـيام” والبقية ظلوا هناك برفقة “إسماعيل” الذي لم تختلف حالته كثيرًا عن رفيقه وإنما شارف على فقد أنفاسه هو الآخر ورحيل روحه من جسده..
ولأن العدل أصبح العُملة النادرة فوق الأرض،
وقلما تجده بين حناياها وناسها، كان السارق يُكرم في أرضٍ أتى لينهب خيراتها، ففي مطار القاهرة الدولي كان “ماكسيم” يقف وسط مجموعة من الرجال ويتلقى مراسم الوداع بحفاوةٍ والزهور ودرع شرفٍ وفخرٍ باسمه نظرًا لمجهوده العظيم في الوطن وعمله الدؤوب في الكشف عن الآثار التاريخية والحضارية، ودوره في إعادة الوعي لدى الشباب من جديد..!!
هذا الذي سرق التاريخ وترك أثره فارغًا،
وفوق الأرض التي سُرقت ونُهِبَت حضارتها ودلائل تواجدها، كان ولا زال هو في عين الناس عظيمًا يسعى لكشف الحضارات المخبوءة، وإرشاد العقول المُغيبة، وفي الحقيقة المضمورة بباطن الأمر هو السارق الحقيقي، وهو السبب الوحيد لغيب العقول، وهو الذي يُعيث في الأرض فسادًا،
ولأجل حقارة طباعه يحتفل العالم به ويصنع منه بطلًا،
في حين أن البطل الحقيقي هو الذي دفع دمه ثمنًا لحرية أرضه، لكن وبكل أسفٍ، لا أرضه عادت، ولا دماؤه نالت شرف التكريم والتعظيم، وإنما مات البطل مغمورًا وانتهت الحكايا،
لكن الصُفح لم تُغلق بعد، والحبر لم يجف..
____________________________________
<“حينما تجد أحبابك خُذ مكانًا لنفسك واجعله سكنًا”>
أينما تجد هؤلاء الأحباب التي ترتاح العين من مجرد رؤياهم، ابنِ بيتك وخُذ من مطرحهم سكنًا لك، فلا تبحث في أماكن غريبة عنك عن راحةٍ لن تجدها في مكانٍ لن يُشبهك، دومًا خُذ من أشباهك سكنًا وبيتًا حتى لو كان الغُبار يُغطي تلك الجُدران، خُذ منها بيتًا لكَ وقُم بدورك في إعادة لونها لها…
كانت “ضُـحى” غارقة في حالة اللاوعي التي هربت إليها من تلك الدنيا التي غدرت بها للمرةِ الثانية قبل التقائها بموعد فرحتها، للمرةِ الثانية تختبر القسوة في المشاعر قُبيل لقاء الفرح لذا جل ما فعلته كان الهرب من الصمود الذي تدعيه والبعد من قوةٍ واهنة رسمت بها نفسها في عين الناظرين حتى ظن الجميع أنها بلا جروحٍ وفي حقيقة الأمر ظهرها كان مطعونًا بعشرات الخناجر وهي لازالت تقف صامدة، لكن ما إن تعبت من هذا الدور هربت منه وتركت الكواليس تُدار بدونها؛ لكن هي كانت ولازالت محورها…
كانت “قـمر” غافيةً على المقعد المجاور للفراش وهي تحتضن وسادة مربعة الشكل تسند عليها ذراعيها وهي تقوم بحراسة أختها وسقطت في بئر النوم رغمًا عنها دون رغبةٍ واضحة منها، بينما “عُـدي” فكان مُرابطًا بجوارها يطالعها بأسفٍ وشفقةٍ وحُزنٍ عليها وهي أمامه بتلك الصورة المنهزمة، وقد ولجت له “رهـف” التي ظلت معهم تطمئن على “ضُـحى” وتُتابع صحتها بصفتها ضمن أفراد العائلةِ…
سحبت مقعدًا وجاورته بصمتٍ وهي تُطالع شقيقته الغافية فوق الفراش ثم تنهدت ومدت كفها تمسح جبينها ثم أغصبت شفتيها على بسمةٍ هادئة وهي تقول بأسى:
_أصعب تعب الإنسان بيحس بيه هو اللي بيكون جاي على ناس بنحبها وحاسين بوجع قلوبنا عليهم، وهي معذورة علشان حقها تزعل على حبيبها، وتحس إن غيابه فاجعة ليها ولحياتها، علشان كدا عاوزة أطلب منك طلب وياريت تفهمني وتسمعني، ياريت تكون مع أختك وتدعمها في أي قرار هي هتاخده، وقبل ما تتعصب وتضايق من كلامي أديني فرصتي، وآسفة لو كلامي ممكن يزعلك…
توقفت تلتقط أنفاسها ثم أضافت من جديد فوق حديثها:
_من غير ما تزعل مني أو تفهم كلامي غلط بس قبل ما أعرفك وتكون خطيبي أنا كنت قريبة جدًا من “يـوسف” وبعتبره أخويا الكبير ودا لأن بابا من صغرنا كان بيحبه أوي حتى ماما كانت بتعتبره ابنها الكبير وتقول إن ربنا عوضها بيه، علشان كدا أنا كنت معاه علطول وكان بيعتبرني أخته، وخلاني أتعرف على كل صحابه ومنهم “إسماعيل” اللي كنت بعتبره أخ ليا هو كمان، وبحكم وجودي معاهم أنا و “حمزة” الله يرحمه، “إسماعيل” مكانش كدا خالص، عمره ما كان كدا ولا عمري شوفته حتى بيضحك، بالعكس طول عمره لوحده وساكت وقافل على نفسه وعلطول مع عمو “نَـعيم” كأنه خايف يسيبه…
لاحظت أن نظراته أعربت عن تبدل حاله وكأنه يصب كامل تركيزه عليها هي إبان تحدثها، وقد أنصت لها بكامل وعيه، فوجدها تُضيف من جديد تُكمل ما سبق الحديث:
_هو كان علطول لوحده وضعيف بعيد عن الكل، كأنه ميت عايش بعيد عن الناس كلهم، مشوفتوش عايش كدا غير لما “ضُـحى” دخلت حياته، بقى بيضحك وفرحان ومبسوط وباين عليه الفرحة في عينيه، علشان كدا بقولك خليها معاها، الحب هو الوحيد اللي ممكن يطرد الخوف من قلب “إسماعيل”، خلي أختك معاه وسيبها في حياته، صدقني هو مش هيكون محتاج غيرها لما يرجع تاني.
أدرك الآن مقصد كلماتها فتنهد بقوةٍ ثم قال مرغمًا على الرد والتحدث وتوضيح الأمر:
_فهمت قصدك، أنتِ فكراني إني همنع “ضُـحى” عن “إسماعيل” علشان اللي حصل وكشف اللي مستخبي في حياته، بس أنا هقولك إني عارف كل حاجة من أول ما هو دخل حياتها، ومش بس كدا “ضُـحى” كانت معرفاني كل حاجة عنه وعنها وباختيارها صمتت إنها تكون معاه، علشان كدا أنا معنديش أي قرار أقدر آخده بدل منها، الوحيدة اللي يحقلها الاختيار هي “ضُـحى” دوري بس إني هدعمها لو هي احتاجت لحد يقف في ضهرها، مع إني اللي خايف منه هو بابا، وحقه ماهي بنته.
حينها بلهفةٍ اندفعت تقاطعه بقولها الذي بدا متوترًا:
_مينفعش أنتَ تخاف، لازم تكون قوي كفاية علشان تقدر تدعمها وتقف معاها، وباباك أكيد حقه يزعل ويخاف على بنته بس هي من حقها تتمسك بجوزها، أنتَ بتحب وأكيد مقدر قيمة الحب في حياة الناس، ترضى حد يتدخل ويفرض البُعد علينا؟.
تفلسفت بحديثها عليه وجعلت الحقيقة واضحة كما وضوح شمس الظهيرة نصب العينين وفوق الجبين، وحينها تنهد هو بقوةٍ ثم قال بأسفٍ وقلة حيلة لما يشعر ويُعايش من قسوة المشاعر التي تواجهه وهو يتوجب عليه أن يأخذ دور الجدار كي يتكيء عليه الضعيف الذي يحتاج لمن يسانده، لذا قال بقلة حيلة:
_عارفة لو قبل ما أعرفك ونوصل لكل اللي وصلنا ليه دا كان زماني لسه بعاند ومش راضي عن الموضوع ولا حتى كنت سمحت ليها تقرب أكتر من كدا منه، بس يمكن علشان من شهر تقريبًا أنا اتحطيت في موقف إني أخسرك وأنتِ تضيعي مني بسبب حاجة غصب عننا إحنا الاتنين، فرجعت تاني أقدر موقفها وموقفه، الحُب غريب وهو قادر يرد الروح من تاني للناس، أنا الروح اتردت فيا فأكيد مش هبخل بيها على اللي محتاجها يا “رهـف”.
ابتسمت له وطالعته بفخرٍ بتفكيره وعقله وحكمته في تصريف الأمور بينما هو عاد بعينيه يستقر فوق ملامح تلك الشقيقة التي استسلمت للنوم كي تهرب من الألم الضارب في جسدها، ورغمًا عنه ترقرق الدمع في عينيه ورفرف بأهدابه ثم تفوه بحزنٍ لأجل شقيقته:
_أنا صعبان عليا نومتها كدا أوي، وصعبان عليا إنه رجع تعبان ومكسور زي ما “تَـيام” قالي وفهمني، صعبان عليا إن لسه كنت بحضر نفسي لفرحهم وهفرح بعوض ربنا ليها، وكرمه لـ “إسماعيل” بعد كل اللي شافه في حياته بسبب أبوه، تفتكري هيقدروا يتخطوا هما الاتنين كل اللي حصل فيهم؟ لو عليا والله هحطها في عيني ولو ضامن فرحته كمان هاخدها لحد عنده وأسلمهاله، بس هما يفرحوا بعد اللي حصل فيهم.
حركت كفها من جديد تمسح فوق وجنة “ضُـحى” ثم قالت بصدقٍ كأنها تستمع لصوت قلبها:
_هيقدروا يفرحوا صدقني، طول ما هما مع بعض هيعوضوا عن بعض، بس وهما سوا مش بعيد، على الأقل يكونوا سبب قوي علشان القلوب تتخطى اللي حصل فيها وتعوض بعض.
ولأن حديثها كان أتيًا من القلب،
وصله وصدقه هو حينما وصل لقلبه مباشرةً
واستشعر هو أهمية تواجد شقيقته بجوار زوجها
في محنته، لذا عليه أن يقف بكل إقدامٍ واستبسالٍ
في صف شقيقته، فهو يعلم أن الحُب بمثابة الحرب
والحرب تلك لا تحتاج إلا للمُحارب العظيم..
____________________________________
<“هل ذهب العقل من الحزن أم أن الحزن سكنه؟”>
في بعض الأحايين لا نعلم هل الحزن تسبب في تغييرنا،
أم أنه سكن فينا وبدل كل شيءٍ بداخلنا حتى أمسينا كما الغُرباء في عين أنفسنا، لا ندري من هُم الذين نقف في مواجهتهم بداخلنا وكأننا لم نتقابل معهم قط، رُبما نعلم أسمائهم، ورُبما نعلم كل ماضيهم، ورُبما نعلم كل نقاط ضفعهم وقوتهم، لكن لا شك أنهم أمسوا غرباءً عنا، حتى لو كنا ذات يومٍ أقرب ما كُنا…
قُبيل الفجر بداخل المشفى استعاد “سـراج” وعيه وبدأ يعود لرشده بعد تلقيه للرعايةِ الكاملة من طاقم المشفى الذي عملوا العمل الدؤوب الذي كلل مجهودهم بالنجاح، وبالطبع كان عمل “عـادل” وسلطاته هما السبب الأكيد في تقديم العمل بكل تفانٍ حتى أنتهى الأمر بجلوسه فوق الفراش بشرودٍ كأن جسده فقط من عاد، أما الروح…؟
الروح ظلت هناك عالقة بين الحياة والموت ولم تعد مع صاحبها الذي لم ينس المشاهد حتى بانتهاء المسرحية ونزول الستار وارتفاع صوت التصفيق للأبطال في الختام، الروح هناك علقت عند ذاك المشهد الذي كان البطل فيه مقهورًا وسط القبيلة وبدلًا من مد يد العون له، مدوا أيديهم لسرقة قلبه الحي كأنه بكثيرٍ عليه.
نجا من الحريق لكن الرماد لازال عالقًا في جسده،
لاذ بفرارٍ من الطوفان لكن صوت الموج الهائج لازال يفزعه،
لم يطيء القبر بجسده، لكن قرع النعال أمسى يفزعه، عاد حيًا بجسده، لكن القلب هناك عَلُقَ بين موتٍ وحياةٍ ولم يدرك أيًا منهما، فلا هو مات وانتهى أمره بالراحةِ، ولا هو عاد للحياة كي يبدأ من جديد، هو في المنتصف يقطع المسافة ذهابًا وإيابًا وكُلما اقترب من إحدى النهايتين يجد نفسه عند البداية يبدأ من جديد..
ولجت له “نـور” التي قدمت قدمًا وأخرت الأخرى حتى وقفت أمامه تُناديه بصوتٍ باكٍ أكلته اللوعة ولوعه الشوق له، بينما هو حرك عينيه الداكنتين وكأنهما كما السماء المُبلدة بغمامٍ رمادية نحوها فوجدها تبتسم له من بين بكائها ثم أقتربت تحتضنه وحينها انهارت باكيةً وهي تُعانقه، بينما هو فيبدو أنه فقد كل المشاعر وأسمى المشاعر فلم يعلم ما يتوجب عليه فعله بعد أن عاد مقهورًا بهذا الشكل، لذا بحث بعينيه عن وسيلة هربٍ من هُنا لكن يبدو أنه حتى لم يدرك ما يريده…
في بيت “نَـعيم” كان الحال لازال مُضطربًا والسبب كان كارثيًا بسبب حالة “إسماعيل” الذي ما إن استفاق وهو يصرخ ويركض بحالة هياجٍ عصبي حاد، ظل يركض ويردد أن هناك ثعبان يود ألتهامه، ثم التصق في الجدار بركن غرفته وهو يزعم أن هناك المزيد من الأشباح يريدون اختطافه !!.
كانت حالته مفزعة للقلوب ومُبكيةً للعينين حتى وقف بجواره “إيـهاب” يضمه لعناقه ثم هدأه حينما قال بحنوٍ وهو يطالع موضع إشارته:
_من غير ما تخاف اسمعني بس، مفيش حاجة يا “إسماعيل” هنا، أنتَ معايا أهو وأنا معاك وواخدك في حُضني، بطل خوف يا حبيبي مفيش حاجة تخوفك، أنتَ معايا أهو وبخير كمان، علشان خاطري يا “إسماعيل” اسمعني..
تهدج صوته وهو يتوسله ويرجوه كي ينتبه له بينما الآخر فظل يحرك رأسه نفيًا وهو يرى تلك الهلاوس الخيالية التي ذهبت بعقله وأطاحت به بعيدًا، فكرر بخوفٍ وأنفاسٍ متقطعة وهو يُشير نحو زاويةٍ ما بالغرفةِ وأقصاها:
_لأ فيه، التعابين هناك أهيه جاية عليا، علشان خاطري خرجني من هنا، خرجني أبوس إيدك، يا “إيـهاب” التعابين جاية عليا أهيه، ألحقنـي يا “إيــهاب”…
صرخ بملء صوته تزامنًا مع إشارته بموضع الركن في الغرفة حتى سقط معه قلب شقيقه من فوق الهوة الساحقة التي اسقطتهما في جُرف الهاويةِ ومع ارتفاع صرخات “إسماعيل” وفقد شقيقه كل الحيل أندفع “مُـحي” وخلفه “مُـنذر” بسرعة البرق فقال الأول بلهفةٍ وهو يحاول أن يقترب من جسد “إسماعيل”:
_تعالى يا “مُـنذر” أمسكه معايا بسرعة.
اندفع خلفه “مُـنذر” وأمسكه وكبله بقوةٍ بينما “مُـحي” قام بحقنه بالإبرة الطبية في ذراعه بعد أن أحكم الحصار عليه، فسكن جسد “إسماعيل” عن الارتجاف وخمدت ثورته بالتدريج وهو لازال يهزي بنبرةٍ خافتة تتردد وتتكرر على المسامع، أما “إيـهاب” فحقًا كان يحمل أكبر من قوة تحمله، رؤيته لانهيار شقيقه بهذا الوضع قتل فيه الروح المُثابرة والعزيمة والقوة، وعاد كما كان قليل الحيلة في صغر عمرهِ.
كل شيءٍ حوله كان يدعوه كي ينهار ويسقط كما البيت المقصوف ليصبح رُكامًا، لكنه لم يرد أن يظهر بهيئة الضعيف، بل أراد أن يكون هو آخر الأعمدةِ التي يتكيء عليها هذا البيت، لذا لثم جبين شقيقه وضم رأسه لعناقه ورفع عينيه الحمراوتين كما الجمر المُلتهب فوجد “مُـنذر” يُفسر سبب تلك الإبرة الطبية بقوله:
_دي حقنة مُهدئة خليته ياخدها علشان الحالة اللي هو فيها دي، لو فضل كدا حالته هتزيد صعوبة ولسه مش عارفين دا أثر اللي حصل ولا فيه حاجة تانية، بس أهم حاجة إنه ميوصلش للحالة دي تاني لأن كدا غلط على المخ، متقلقش، أول ما يرتاح شوية وعقله ياخد هدنة من اللي حصل هيكون أفضل شوية، ولو حصل هديله واحدة تانية لحد ما نعرضه على دكتور “جـواد” وهو يشوفه بما إنه استشاري مخ وأعصاب وأكيد هيفيدنا..
أنهى حديثه ثم أشار لابن عمه الذي عاونه وحمل معه جسد “إسماعيل” بينما “إيـهاب” فوقف يتابع نصفه الثاني بضياعٍ وقلبه يصرخ بوجعٍ وكمدٍ وتمنى في تلك اللحظة الموت، تمنى أن يكون ضمن عداد الموتى بدلًا من هذا الضعف الذي ضيق عليه الخناق وأثبت له إخفاقه في أعظم أدوار حياته، وهو حماية نصفه..
وجده يلتحد بالفراش ويستقر فوقه فاقترب منه بخطى وئيدة ثم مال عليه يمسح فوق رأسه ورأى حينها الدمع حبيسًا عند مقدمة الأهداب فمسحها عن وجه شقيقه وتذكر صراخه في الصغر حينما ساوره الخوف فصرخ من داخل القبر يستغيث به:
_يا “إيـهاب” الحقني يا “إيــهاب”..
حينها فقط تذكر كم مرةٍ احتاجه شقيقه حينما كان غائبًا عنه، تذكر كم مرةٍ كان الخوف يخلع قلبه من موضعه ويحتاج لأمانه أن يحتل مكانه من جديد، تذكر كم مرةٍ كان يستطع أن يحميه منهم ويحفظه في كنفهِ بعيدًا عنهم، لكن السُبل استحالت عليه فكان بعيدًا عنه حتى وصل إليه في النهاية مهزومًا شر الهزيمة، عاد الماضي ورافق الحاضر في الصورة وتشابكت الأيدي ببعضها فازداد القهر تمددًا في قلب “إيـهاب” الذي مال على شقيقه يُلثم جبينه ثم نطق بروحٍ مقتولة فقدت كل ثباتها:
_قوم، قوم علشان أنا كمان أقدر أقوم..
ما إن أنهى حديثه وجد العبرات الحبيسة تنطلق من محجرها أخيرًا وتسقط فوق وجنة شقيقه؛ فنزل الدمع من عينا “إسماعيل” إبان نومه هو الآخر والحال يظهر بغير زبدٍ في الكلامِ، فكان الحديث واضحًا فوق صفحات الوجهِ كما الاقتباسات المُحددة داخل كتابٍ مفتوحٍ أمام الناظرين فيسهل على العين التقاطها، ركع “إيـهاب” ومال بنصف جسده فوق الفراش وهُنا أعلن انهزامه وسحق روحه أسفل الأقدام..
أما “مُـنذر” فخرج من الغرفة منكس الرأسِ كحال جميع رجال البيت منذ أن اختفى “إسماعيل” وما إن وقف بجوار “نَـعيم” خارج الغرفة صدح صوت هاتفه برسالةٍ وصلت له جعلته يخرج هاتفه بمللٍ أو ربما بغير اكتراثٍ وما إن طالعها توسعت عيناه حينما كان “ماكسيم” يطيء بأقدامه داخل الطائرة وفي يده باقة الزهور التي كُرِم بها في أراضي الوطن الذي سرقه !!..
تشعب الغضب وتحرك حتى وصل داخل قلبه وتفرع في جميع أنحاء جسده ومن ثم كانت الصدمة أكبر مما يتم تقبله، فهو لازال تائهًا وغاضبًا والنيران تفتك به وتُفتت أحشاء جسده بعد أن هرب الجاني وترك المجني عليه وحده يُعاني..!
أتى “نَـعيم” ووقف بجواره يرى سبب توقفه وما إن لمح شاشة الهاتف وجد نفسه يشعر بالضجرِ والحزن ورُبما الغضب الحارق أيضًا، كل شيءٍ كان في غير نصابه الصحيح لديه، لكن رؤيته لـ “ماكسيم” يفر بعد ما فعل بغير حسابٍ، بل والراحة بذاتها تُبسط له أجنحتها كي يقف عليها ويطير وكأنه يُكرم على ما فعل، ارتمى بثقل جسده فوق الأريكة ثم رفع كفيه يضعهما فوق رأسه ونطق مُعبرًا عن قلة حيلته بقوله:
_الغريب بيتشال فوق الراس واللي منها بيتداسوا بالرجلين، حق الغلابة دول مين هيجيبوا؟ ولا نجيبه منين أصلًا إذا كان اللي بيحموهم هما بنفسهم اللي بيدوسوهم؟ يا رب، تولانا برحمتك وخرجنا منها على خير، خرجنا منها بشوية كرامة يا رب..
تألم وهو يتحدث ومن غيره يحق له أن يتألم؟
فالراعي أكثر ما يفجعه هو غياب رعاياه، ومُدرب الطيور أكثر ما يؤلمه هو كسر جناحي طيوره، والخَيال أكثر ما يكسر كبريائه كسر شموخ خيله، وهو وفي طرفة عينٍ يختبر تلك المشاعر بكل قسوةٍ كأنه يُضرب في مقتله، سرعان ما تذكر أمر “سـراج” فهب منتفضًا ثم خرج من البيت يضرب الأرض بقدميه ثم عصاه رافعًا رأسه بشموخٍ كأنه يرفض الانحناء..
هذه هي شيم الرجال والخيول،
تقع وتخبط قوتها، ولن يثور منها إلا الأصيل..
وهو أصيلٌ وقام بتربية الأصيل مثله..
____________________________________
<“ياليتها كانت الروح ذهبت قبل أن تُكسر”>
في لحظةٍ ما فارقة بين الشيء ونقيضه ونحن فوق الأرض وحينما تتألم فينا الروح أكثر ما سنفعله حينها هو تمني الموت، في لحظتها وبكل أسفٍ سندرك أن نهايتنا من المؤكد كانت أرحم من مكانٍ لن نبدأ فيه من جديد ولن نستطع حتى أن نصل لنهايته، لحظة سندرك فيها أن الحياة كانت تكرهنا ونحن الأغبياء رغبنا في الحُب منها…
ولج له “نَـعيم” المشفى ومر من جوار الشباب بصمتٍ ثم ولج الغرفة له بعدما سمح له الطبيب وما إن ولج وفتح الباب يعبر الغرفة، سار نحوه بخطى وئيدة متباطئة ثم وقف أمامه يشمله بعينيه فوجده يطالع الفراغ بشرودٍ ووجهه كان ملتهبًا بشدة من كثرة الجروح المتفرقة فوق وجهه وجبينه، كل شيءٍ بغير حديث تم تفسيره أن ابنه قُهِرَ، تحرك حتى وقف بجواره ثم تقابل مع عينيه الزرقاوتين برمادتيته وقال بصوتٍ مبحوحٍ:
_حصل فيك إيه يا ابن الغالي؟.
مجرد الصوت والذكر ووضع الصفة بموضعها جعلوا “سـراج” يغمض جفونه ويتنفس بتشنجٍ واضحٍ ثم حرك رأسه للجهةِ الأخرى يهرب من الجواب حينما تذكر ضعفه وقلة حيلته وعجزه في الدفاع عن رفيقه، تذكر كيف كان يتألم صديقه وهو كما الدُمية في أياديهم وهو يجلس فوق المقعد مكبل الأيدي والأطراف، تذكر كيف كان الموت يلوح له بكفه وكلما تشبث به كي يرحل معه وجد الحياة تسحبه داخل دوامتها كي تُفتت آخر ذرات تشبثه بها وكأنها تعاقبه، لذا هرب من مواجهة الجميع وترك نفسه وحيدًا بعيدًا عنهم حتى زوجته قام بطردها من الغرفة..!!
لاحظ “نَـعيم” حالته ووضعه المزري فتنهد بثقلٍ وجل ما استطع أن يفعل هو أن قام بتقبيل جبين “سـراج” الذي وارى الدمع خلف حصار الأهداب وكأنه أغمضها كي لا تفيض، فأمطرت الدمع فوق رأسه وداخل قلبه..
خرج “نَـعيم” تقديرًا لحالته فوجد “يـوسف” يحمل الصغيرة ومعه “تَـيام” يجاور “أيـوب” ويكاتفون “عـادل” الذي ظل بقرب ابنته يحتويها وهي تبكي بين ذراعيه حزنًا وقهرًا على حال زوجها الذي لم يوحِ بشيءٍ إلا فقدانه لروحه وعودته بالجسد فقط، تمامًا كمن نجا من الحريق بروحه لكن جسده تشوه واختفت ملامحه، بينما هو في حالته كان العكس صحيحًا؛ فخرج هو بجسده حيًا وأصاب التشوه روحه وقلبه فلم يعد قادرًا على تقبل نفسه..
اقترب منه “تَـيام” يسأله بلهفةٍ قاصدًا بها أن يطمئن على رفيقه الجديد الذي بدأ مؤخرًا يأخذ مكانة الشقيق في حياته:
_هو “إسماعيل” فاق؟ طمني عامل إيه دلوقتي؟.
أغمض “نَـعيم” عينيه حينما تذكر وضع الآخر وكيف كانت افاقته بكارثةٍ أفجعت القلوب ثم تنهد وقال مُجبرًا على الرد:
_فاق آه، بس لما فاق وجع قلوبنا كلنا بحالته، عمال يصرخ وجاله هلاوس وشايف حاجات محدش شايفها، مش عارف يابني دا من اللي حصله ولا هما عملوا حاجة فيه، قهرنا بحاله لما فاق يا “تَـيام”.
رأى “تَـيام” الأسى فوق ملامح والده فمسح فوق كتفه وقال يؤازره بقوله الذي من المؤكد لن يفيد أمام حالته التي تشبه حال الغريق بين نارٍ وطوفانٍ، لكنه حاول بقوله:
_دا اختبار من ربنا وابتلاء والمسلم عليه أنه يرضى ويقبل بكل شيء مكتوبله، وعلينا نرضى ونقول الحمدلله على البلاء يا بابا، اللي بيصيبنا دا المكتوب والحمدلله على إن ربنا فاكرنا مش ناسينا، ساعات بيصيبنا البلاء علشان نقرب أكتر، ونلمح النور من اتجاه تاني مكناش نعرفه، عارف إن وجعك عليهم كبير، وعارف إن حتى برجوعي ليك هما مكانهم متغيرش عندك، بس صدقني مينفعش “نَـعيم الحُصري” اللي طول عمره في ضهرهم بيقويهم يقع هو وضهره ينحني، هما عاوزينك في ضهرهم، هتسيب خيولك محنية كتير؟.
في الخفاء أرسل له المقصد من حديثه فأدركه “نَـعيم” سريعًا وأومأ له موافقًا ثم جلس يستند على عصاه وعيناه تسرد عن حاله بأفصح النظرات بدلًا من الكلام الذي لم يتحدث هو به ولو بحرفٍ واحدٍ حتى، فقط ظل يتنهد وتنهيداته تحكي عنه كل شيءٍ مخبوءٍ داخل قلبه..
“بحارة العطار” فجرًا..
استفاقت “ضُـحى” بفزعٍ وانتفض جسدها من فوق الفراش وهي تصرخ بألمٍ وحينها اندفعت نحوها “قـمر” تضمها لعناقها وتُهديه من روعها بينما “عـهد” فاندفعت نحو الغرفة وفي يدها أمسكت كوب ماء ووقتها اقتربت تُسقيها الماء وقد ارتشفت “ضُـحى” رغمًا عنها وسألت بعينيه عنه ما إن أدركت واقعها وغياب حبيبها، فقالت لها “عـهد” ببسمةٍ باهتة لم تصل لملامح وجهها:
_رجع، حبيبك رجع يا “ضُـحى”.
العبارة وحدها لخصت الحياة في عدة حروف كانت دليلًا على عودة الحياة من جديد لمصدرها حيث القلب الذي من مجرد ذكر صفته عاد ينبض من جديد لأجله وهرع الدمع من عينيها وهي تحرك رأسها نحو “قـمر” تسألها عن مصداقية الحديث فأومأت لها باكيةً ومسحت لها فوق وجهها وهي تقول بصوتٍ مبحوحٍ:
_رجع، زي ما قلبك كان حاسس ومتأكد كمان إنه هيرجع، رجع علشان أكيد تستاهلي إن فرحتك تكمل وتكوني معاه، بس علشان خاطري كُلي ونامي شوية ريحي جسمك علشان تروحيله.
في تلك اللحظة ولج “عُـدي” فوجدها تحاول الفكاك من الفراش ومن حصارهما وهي تحاول باندفاعٍ أن تخلص نفسها من الحصار وهي تقول بلهفةٍ ترافقها اللوعةِ:
_خلوني أروحله وسعوا كدا، حاسبي يا “قـمر”.
كانت تدفع أختها في كتفها وحاولت خلع الإبرة الطبية الموصولة بالمحلول المُغذي حتى وقف “عُـدي” بجوارها وقام بإمساك كلا كفيها ثم قال بنبرةٍ جامدة يرشد عقلها الغائب عنها:
_لما ترتاحي وتاكلي وتقدر تقفي من تاني هاخدك لحد عنده، بس طول ما أنتِ كدا يا “ضُـحى” مش هتتحركي من هنا، أنا مش مستغني عنك، بعدين المفروض ترتاحي مش تقومي تجهدي نفسك كدا؟ قدامهم أهو تاكلي ووعد بكرة الصبح هتكوني واقفة قصاده.
هي تعلم تمام العلم أنه لا يكذب عليها ولا يستغل حالتها كي يفرض آراءه، لذا صمتت وتوسلته بعينيها فأومأ هو لها كعلامةٍ على تأكيد كلماته وحينها لجأت هي للخضوع أمامه ووافقت على ما يُريد ووافقت على تناول الطعام وأذعنت لهم جميعًا وقلبها يجلس فوق مرجلٍ من النار كي يذهب للقاء الحبيب…
أما “فـضل” فكان قلبه يأكله على ابنته لكن رؤيته للهفتها عليه وخوفها وقلقه جعلوه يتراجع عن أي قرارٍ والأخذ بعين الاعتبار التأكد من حالة “إسماعيل” قبل أن يكون هو الحائل بينه وبين ابنته التي من المؤكد لن تقبل أن تفترق عن شبيه القلب وحبيب الروح..
“بعد شروق الشمس في باكورة الصباح”
أشرقت الشمس من جديد وتغازلت خيوطها تراقص الآشعة فوق الوجوه كي تنشر الدفء في القلوب التي تعرضت للبرودةِ، وكأنها علامة للقلوب المتألمة أن الجراح سوف تأتيها لحظة معينة كي تبرأ فيها وتُداوىٰ، وفي تلك الأثناء توقفت سيارة “يـوسف” الذي حمل بها “ضُـحى” وأخيها وأبيها، وتوجه لبيت “نَـعيم” كي تطمئن على زوجها بعدما تحاملت على نفسها..
ولجت هي تسبق الجميع وتبحث عنه بعينيها ظنًا منها أنه ينتظرها ويفتح ذراعيه ترحيبًا بها وأخذ عناقها مدينةً آمنةً له عوضًا عن تلك القاسية التي تعرض فيها لسرقة الروح والقلب، كانت تنتظر صوته يُناديها فذهب إليه وتخبره أن دواء الأيام لديها هي ولن يجده في مكانٍ آخرٍ لطالما كان بعيدًا عنها، وقفت في بهو البيت وقابلها “إيـهاب” الذي ما إن رآها وتلبسه الصمت المُطبق، وقفت تسأله بعينيها عن زوجها وملامح وجهها الشاحبة المحاكاة لملامح الموتىٰ كانت تخبره عن ما عانته هي في الغياب..
خطت نحوه وسألته بنبرةٍ مُلتاعة أقرب للبكاء:
_هو فين يا “إيـهاب”؟ هو مش مستنيني؟.
صعبت عليه الجواب بجملتها الأخيرة؛ فسكت عن الجواب، سكت لأن جوابها سوف يقتلها، فكيف يخبرها أنه لم يعد ذاك الحبيب الذي كانت تعرفه، وإنما من عاد هو النسخة الأصعب من شخصياته، لذا ازدرد لُعابه ورمقها بتيهٍ وقبل أن تكرر سؤالها أتى والدها وشقيقها معه يقفا خلفها وفي تلك اللحظة صدح صوت صياح “إسماعيل” يصرخ كما كان أمسًا..
حينها توسعت عيناها وركضت بخوفٍ تهرول إليه فوجدته يجلس فوق الأرض يضع كلا كفيه فوق أذنيه ويهز جسده بعنفٍ ويردد بهلعٍ تسبب في خلع قلبها من محله:
_الحقني يا “إيــهاب”…الحية بتقرب، هتاكلني، ألحقنـي.
كان يصرخ ويهتز ويبكي وهي تطالعه بدهشةٍ اسكتتها وأخرست لسانها ورغمًا عنها قادها قلبها له فاقتربت بخطواتٍ شبه ميتة حتى جلست أمامه تُنبس اسمه بهمسٍ خفيضٍ وتتوسله أن يُجيب، فوجدته يبتعد عنها ويدفع كفها ثم صرخ باسم شقيقه وهو يردد ببكاءٍ مزق قلوب الجميع وجعل خناجر الصدمات تطعن في قلوبهم:
_ألحقني يا “إيـهاب” بيشاورلي أهو، عاوز ياخدني، ألحقنـي.
هُنا وتمزقت الروح لأشلاءٍ..
فلم تعد بقادرةٍ على تحمل الضربات أكثر، ولم تستطع أن تقاوم هذا الكم من الضربات الغادرة، في تلك اللحظة التي يستسلم فيها الجندي العظيم ويترك سيوف الحرب تخترق جسده فيخبر العالم من بعده بقية العوالم أن تلك الحرب كان بها رجلًا شجاعًا استبسل حتى لحظته الأخيرة، لكن وحدها الطعنات الغادرة هي التي تخضعه للركوع والسيوف في ظهره مزقته لأشلاءٍ..
