رواية غوثهم الفصل المائة والتاسع والستون 169 بقلم شمس محمد


رواية غوثهم الفصل المائة والتاسع والستون 

«قُل لنفسِك عند كلّ بلاء»:
إنَّ ربِّي هو الَّذي اختارَ نوعَ بلائي،
واختارَ درجتَه، واختارَ زمانَه،
واختارَ مكانَه، واختارَ أسبابَه،
واختارَ حاليَ الَّتي ابتُليتُ بها،
واختارَ ما بلغَ البلاءُ منِّي؛
وإنَّ ربِّي سميعٌ بصير، وإنَّه عليمٌ خبير،
وإنَّه عزيزٌ حكيم، وإنَّه بَرٌّ رحيم،
أَولى بي منكِ ومن الخلقِ جميعا؛
يا نفسُ طِيبي بامتحانِ الله»
_ “حمزَة أبو زهرَة”.
____________________________________
لكني لم اتخيلها ولو بلمح البصرِ؛
أن أطرق بابك فأجدك تهرب مني، لم أضعها في مُخيلتي ولو بمحض الصُدفةِ أن آتي لديارك فأجدك تطردني منها وتُغربني وأنتَ أقرب الأقربين لي، لم أترك لعقلي فرصة واحدة كي يطل لهذا الموقف حينما أقصدك أنتَ وحدك؛ وأنتَ حتى لم تتذكر كيف كانت ملامحي، أهذا هو العدل يا خليل القلب؟..
هل هذا هو العدل في مدينتك أن أتوه عن كل السُبلِ ويوم أن استرشد لطريقك أجدك تحكم عليَّ بالتيه؟ فإن كنت ترى أن هذا هو العدل؛ دعني أخبرك أن هذه هي القسوة وما أشد منها، أتعلم أن من أفعال قسوتك أنك ضللتني في كل الجهات وتلك الجهة التي كنت اعرفها خير المعرفة وأقصدك منها؛ أصبحت اليوم أخشى أن أطيء أعتابها بأقدامي، كي لا تغلق في وجهي أبوابها،
ألم يكن حرامًا أن نقطع كل تلك السُبلِ سويًا متشابكي الأيدي وأنتَ تدعني في المنتصف وسط طوفان اليم ثم توليني ظهرك ناويًا الهرب من دربي؟ أكان عدلًا في قاموسك أن تتخلى عني وتفلت يداك عني في حربي؟ أكان سهلًا عليك أن تتركني وحدي في المنتصف وأنا خائب الرجا فلا أعرف كيف أعود ولا أدرك حتى كيف أكمل الدرب ثم تُعاتبني على انفكاك أيادينا؟
أخبرني كيف لي أن أخبر الطُرقات أن ذاك الذي عرفني وارشدني إليكم هو نفسه من قصدته فوجدته يوليني ظهره دون حتى أن يُشير لي أين هي وجهة الطريق؟.
بعض الكلمات العابرة التي ما إن تكونت بجوار بعضها تشكل كارثة حتمية بغير مفرٍ منها، فيتعجب المرء من قدرة الكلام على طعن القلوب بتلك الطريقة الغريبة التي يهتز على إثرها القلب ويرتجف بين الضلوع وتُحبس في المُقل نتيجةً لها الدموع، بعض الكلمات شكلت خنجرًا انتصف في مركز القلب فدمر كل ما فيه وترك جروحًا تحتاج عمرًا بأكمله كي تبرأ..
_ألحقني يا “إيـهاب” بيشاورلي أهو، عاوز ياخدني، ألحقنـي.
هُنا وتمزقت الروح لأشلاءٍ..
فلم تعد بقادرةٍ على تحمل الضربات أكثر، ولم تستطع أن تقاوم هذا الكم من الضربات الغادرة، في تلك اللحظة التي يستسلم فيها الجندي العظيم ويترك سيوف الحرب تخترق جسده فيخبر العالم من بعده بقية العوالم أن تلك الحرب كان بها رجلًا شجاعًا استبسل حتى لحظته الأخيرة، لكن وحدها الطعنات الغادرة هي التي تخضعه للركوع والسيوف في ظهره مزقته لأشلاءٍ..
هرع الدمعُ من عينيْ “ضُـحى” ووجدت نفسها تُساق إليه وتجلس عند قدميه وهي ترفرف بأهدابها كي تتحكم في مدرار دمعاتها وهمست اسمه بصوتٍ مُرتجفٍ كأنها تخشى أن تُناديه فلا يُجيب، بينما هو فانكمش على نفسه بعيدًا عنها وخشى مُنادتها وظل يُكرر بخوفٍ:
_الحقني يا “إيــهاب” التعبان هياكلني، الحقني.
لمست ذراعه بكفها فوجدته يدفعها من جديد ويهزي ويُكرر حديثه حينها حركت عينيها نحو “إيـهاب” الذي طالعها بآسفٍ ثم تحرك يجاورها وجلس بمحاذاة شقيقه يضمه لعناقه وهو يخبره بحنوٍ ماسحًا به فوق قلبه الملتاع:
_أنا جيتلك أهو، معاك يا حبيبي متخافش.
حاول أن يطمئنه ويصدق في مشاعره كي تصل لأخيه الذي غاب عنه عقله في غياهب الظلام لكنه استكان لبرهةٍ ودفن رأسه بعناق شقيقه يشخص ببصره في زاويةٍ ما وحينها لمح والده يقف وهو يتربص له وينتوي أخذه فخشى أن يخطفه من بين ذراع شقيقه فتشبث به أكثر وظل يُردد بخوفٍ وصراخٍ هادرٍ شق القلب لنصفين نزفت من بينهما الدماء:
_عاوز ياخدني يا “إيـهاب” الحقني بسرعة، أشرف واقف أهو، متسبنيش علشان خاطري، متخليهوش ياخدني، مش هيرحمني.
ما إن أنهى الحديث وجد نفسه يبكي وكأنه عاد ذاك الصغير الذي كان يرتجف من فرط الخوف ولم يجد في تلك اللحظات ملجئًا إلا حضن شقيقه الذي كان يُمثل حصنًا منيعًا له في لحظات ضعفه، لذا كان في لحظته تلك في أشد الاحتياج إليه كأنما يبحث عن ذاك الأمان الذي كان يجده في صغره وما إن وجده استكان في بيته؛ والبيت هُنا لا يعني المنزل بنفسه وإنما هو سكنه في عناق حبيبه..
أما “ضُـحى” فتلك كانت تُعايش أصعب ما يمكن للمرء أن يُعايشه، فبالطبع رؤية حبيب القلب ومُناصفه وناصفه بهذه الحالة التي تستدعي كل البكاء من العين كانت أكثر ألمًا لقلبها وروحها، كانت تتمنى أن يكون ما تراه كابوسًا ومجرد الإفاقة منه سوف تُعيد لها الروح التي سُلِبَت منها وسُرقت خلفها الأنفاس فلم يعد هناك ما يدل أنها على قيد الحياة.
حاولت أن تُزيد من اقترابها وحاولت أن تلمس كفه فوجدته يدفعها بعيدًا عنه ثم تمسك بذراع شقيقه أكثر يلتحد به وحينها هي بكت أكثر بكثير مما حدث ثم همست بخوفٍ من مجرد الفكرة التي وصلت لعقلها وحاولت هي أن تهرب منها؛ لكن لا مفرٍ من هذا المصير:
_هو مش عارفني؟ دا أنا “ضُـحى” حبيبته.
وياليتها ما تحدثت فبمجرد ما تفوهت بتلك الجملة جعلت كل الأعين تبكي بدلًا من العبرات قهرًا، جملتها كانت هادمة لكل ذرات الثبات لدى الجميع وعلى رأسهم كان “إيـهاب” الذي تمنى موته قبل تلك اللحظة التي يقهر فيها بهذا الشكل على نصف الروح الثاني، وللحق هو لم يجد أصعب من هذا الموقف يُوضع فيه، فرؤية نصف الروح تتألم والنصف الآخر يعجز عن المداواةِ كان هذا الأمر أصعب عليه من فراق الروح بأكملها..
أتى “عُـدي” وجاور شقيقته ثم ضمه له فوجدها تنهار في البكاء وهي تحرك رأسها نفيًا كأنها تُكذب تلك الحقيقة التي بانت أمام عينيها كما وضوح الشمس في الظهيرة، تشبثت بشقيقها كما يتشبث هو لكن الفارق بينهما أنه فقد وعيه؛ أو بدأ مفعول الإبرة الطبية التي حقنه بها “مُـحي” بتعليمات من “مُـنذر” وبناءً على ذلك ذهب في نومٍ عميقٍ قبل أن يظل على تلك الحالة التي لو استمرت بتلك الطريقة سيفقد عقله…هذا وإن لم يكن فقده بالفعل.
خرج “مُـنذر” من الغرفة حينما صدح صوت هاتفه برقم زوجته وما إن جاوب عليها وجدها تقول بلهفةٍ كي تُطمئنه بما انتوت فعله:
_أنا و “جـواد” هنيجي النهاردة علشان نتطمن عليه، مش عاوزاك تقلق بس والله هيكون بخير ويطلع اللي فيه دا كله مجرد إجهاد نفسي وعصبي من اللي حصل مش أكتر، المهم ركز أنتَ مع العلاج والجُرعات وخليك متابع علشان لو فيه أي جديد نكون على علم بيه، وصدقني الحمدلله على كل حال واحمد ربنا إنه رجع ليكم من تاني، ناس زي دي معندهاش رحمة والحمدلله على كرم ربنا ليك إنه يرجع، صحيح هي هتكون فترة صعبة بس أنا متأكدة إنك هتعديها بيه كويس، علشان بخلاف إنك دكتور شاطر بس بجد أنتَ أخ وصاحب مثالي مفيش منك، صح ولا ناوي تخذلني؟.
كانت تحثه خفاءً حتى يُكمل دوره على الوجه الأكمل وهو لأنه يعلم أن الحديث في بعض الأحيان قد يُساعد في سير المراكب الراكدة، ولأن مركبه ركدت وفقدت القدرة على الحِراك أمام الرياح، كان حديثها هو مجاديف تلك المركب التي أبحرت وعبرت الجهة الأخرى ولازالت تبحث عن مرسى السلام، لذا استمع لحديثها وشكرها بامتنانٍ حقيقي ثم أغلق المكالمة معها ووقف يتابع “إسماعيل” الذي تم وضعه فوق الفراش من قبل الشباب ثم جلس بجواره “إيـهاب” الذي أطلق أنفاسه المحبوسة ومعها حرر العبرات الحبيسة خلف حصار أهدابه؛ ولم يلمح تلك العبرات إلا “مُـنذر” الذي كان يبكي هو الآخر لكن داخل قلبه..
____________________________________
<“أخبرني يا صديقي كيف نصفت الآخرين عليَّ”>
هذا صديقي..
أو ربما كان، فأنا سبق وأخبرته عن كل هزائمي وعن ألم قلبي وموضع الإصابة التي باغتتني فجأةً وانقلبت على أثرها حياتي، فأصبحت أنا هذا الارتيابي الذي يقف وسط الجموع يخشى الطعنة من أي اتجاهٍ سوف تأتيه، أصبحت أنا ذاك الذي كلما يطالع المرآة ينظر لنفسه بكل عين قُبحٍ، أنا ذاك الذي أصبح يخشى الناس بأكملهم وأرى نفسي دومًا لا استحق أن أكون صديقًا لأحدهم، هذا صديقي ورُبما كان،
لكن اليوم كل الهزائم فاقتهم في الوجع الهزيمة الوحيدة حينما آتتني منه هو، فاخبرني يا صديقي وأنتَ تتركني وحدي في وجه الطوفان ألم تخشى عليا ولو لوهلةٍ من الأمواج؟.
قُبيل الظُهر بلحظاتٍ قليلة كان “سـراج” في غرفة المشفى يجلس بصمتٍ كعادته منذ أن عاد لكن تلك المرة الصدأ الذي غلف قلبه بدأ يتلاشى بعض الشيء ما إن جاورته “چـودي” وظلت تتشبث به بخوفٍ من أن تفقده من جديد وقد ضمها هو لصدره بعد عدة محاولات يائسة في تجاهلها حتى أنتهى أمره به يضمها لعناقه ثم جلس بجوارها يأمن أخيرًا بعد تلك الحرب التي وقع فيها ولم يخرج منها إلا بخروج الأنفاس منه..
لمحها نائمة بطرف عينه فتنهد بثقلٍ وقبل أن يُمرر كفه فوق ملامحها تذكر ما حدث معه بأكمله، تذكر كل شيءٍ وكيف كان يسمع صوت صديقه وهو يؤلم قلبه بتلك النبرة الغليظة حينما كان يغيب عنه عقله، عاد الماضي يضرب حاضره في مقتلٍ، لذا ضم الصغيرة بين ذراعه وجسده بقوةٍ وجسده يرتجف كأنه هو من يحتمي بها وليس العكس، وما إن ضمها تذكر شريط حياته بأكلمه وكل اللحظات التي سقط فيها بداخل فوهة البركان حتى أنتهى الأمر به طريح الفراش بهذا الشكل.!!
ارتجفت أوصاله وسارت قشعريرة كريهة في جسده ما إن تذكر كيف كانوا يختلسون من قطرات دمه وقتما يحتاجون لذلك كأنه ذبيحٌ وعمره لا يسوي ثمنًا، تذكر كيف كان يُقهر كل يومٍ حينما يتم إجباره على تناول الطعام كي يرى رفيقه بهذا الحال فكان يأكل إجبارًا وكف أحدهم يُقيد عنقه وبكفٍ آخرٍ يدس الطعام بفمه، وحينها كانت عيناه تسرد آلاف الكلمات وتزبد وتُفصح عن قهرٍ كان يعيشه ولم يجد منه مهربًا، كان يتمنى أن يكون هذا هو الكابوس بذاته لكن ما حدث معه جعله يتيقن أن الحياة لن ترأف به ولن تقبل بتوبة آثمٍ مثله، لذا أغمض جفونه لكن هيهات، أيظن المرء أنه قد يهرب من الطوفان واليم يحاوطه؟.
في الخارج كانت “نـور” تجلس في انتظار قدوم والدها، كانت تجلس بخيبة أملٍ حملتها فوق كتفيها وهي تتذكر كيف عاد لها زوجها وكيف تطالعها عيناه، لم تجد نظرة الحب الخالصة لها ولم تجد نظرات الوله فيها والغرق في بحور عينيها، لم تجد الضحكات التي كان يختصها بها وحدها دونًا عن العالم بأكمله، وإنما وجدت كل ما يُغاير ويُنافي ذلك، غرقت في التفكير وقبل أن تخرج من تلك الذكرى وجدت “عـزيز” يجلس بجوارها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_الدكتور قال ممكن يخرج النهاردة بليل لو الآشعة طلعت كويسة، وقال إن السكوت دا مجرد ضغط نفسي وعصبي شديد لأنه مش قادر يواجه أي ضغوط تانية فبيهرب بالسكوت تمامًا، عامةً متقلقيش أنا معاكم و “يـوسف” وأيـوب” كمان هييجوا بعدما يطمنوا على “إسماعيل”.
أومأت له موافقةً بشرودٍ وكأنها فقدت القدرة على الكلامِ هي الأخرى، بينما “عـزيز” فتنهد بقوةٍ وحاول كثيرًا أن يرتب حديثه حتى فهمت هي ذلك وطالعته بنظراتٍ مستفسرة فوجدته يضيف بتلجلجٍ كأنه يخشى الحديث:
_ينفع أطلب منك طلب؟ ياريت متجيبيش سيرة لـ “سـراج” باللي حصل من “إيـهاب” وينفع كمان لو تسامحيه وتنسي اللي عمله؟ مش علشان حاجة، علشان هو معذور بجد واللي فيه مش هين ولا قليل ولا وجعه يقل عن وجعك، بالعكس دا اللي فيه صعب إنه يتعاش أصلًا، علشان كدا بقولك قدريه وأنسيه وبلاش تتكلمي عن اللي حصل.
أومأت هي موافقةً بأسىٰ ونظراتها تسرد الألم المقصود من الحديث، كانت تعلم أن الأمر يقع عليهما بحد السواء فسكتت عن الحديث ثم عادت صورة زوجها تتجسد أمام عينيها فسألته عن “إسماعيل” ما إن تذكرت أمره هو الآخر:
_هو “إسماعيل” عامل إيه صح، كويس؟.
بعينين آسفتين أعطاها الجواب النافي ثم أضاف مُكملًا حديث نظراته التي تحدثت بدلًا عنه:
_للأسف لأ، راجع مش عارف حد ولا فاكر حد غير “إيـهاب” وبيشوف هلاوس زي اللي كان بيشوفها لما يتسخر وهو صغير، روحت أتطمن علبه لقيته مش حاسس باللي حواليه وماسك في حضن “إيـهاب” زي العيل الصغير، ربنا وحده اللي عالم بحالهم وشافوا إيه في غيابهم يخليهم يرجعوا بالحال دا.
تألم قلبها أكثر من السابق وشعرت بالشفقة نحو “إيـهاب” وما يُعايشه خاصةً إذا كانت على درايةٍ كافية بمشاعره نحو شقيقه وقيمة كلًا منهما في حياة الآخر، لذا سكتت ثم رفعت رأسها للأعلى تتضرع بصمتٍ وعيناها تحكي عن حالها دون أن تتفوه هي بذلك، وقد أتى والدها وجلس بجوارها ثم قال بنبرةٍ هادئة لم ينفك عنها الأسف:
_أنا وقفت التحقيقات وكل حاجة لأنه في حال ميسمحش بكل دا، وخليت كل الإجراءات لو هتتم تكون من البيت بس بعدما يخرج من هنا، أهو مجرد إجراءات روتينية علشان يبقى اسمهم بس عملوا اللي عليهم مش أكتر ولا أقل، أهم حاجة أنتِ تكوني معاه ولازم تكوني قوية بزيادة علشان تقدري تسانديه في المحنة دي، جوزك محتاجك دلوقتي أكتر من أي وقت، و “چـودي” لازم تحس إنها في أمان، كل اللي فات دا أثر عليها نفسيًا.
التفتت له بنصف جسدها تسأله باندفاعٍ وقد طفح كيلها وزاد ما تتحمله هي فوق كتفيها حتى باتت تشعر باليأسِ يحاوط أيامها:
_وهي الإجراءات دي هتصلح اللي حصل؟ هترجع حق الغلابة دول بعدما اتداسوا من الغريب في بلادهم وأرضهم؟ الإجراءات دي هترجع لـ “سـراج” نفسه اللي تاهت منه وهو قاعد مش واعي ولا مدرك حاجة وعينه بتقول وتحكي عن حاله؟ هترجع لـ “إسماعيل” الغلبان دا حقه وعقله اللي راح منه بسببهم؟ رد عليا الإجراءات دي هتجازي الجاني وتعاقبه وترد للشباب دول كرامتهم؟ أقولك أنا؟ مجرد تحقيق مالوش لازمة يتكتب في ورقة وتتحط في مكتب ونقوم نشوف حاجة تانية غيرها أفيدلنا، يمكن يكون اللي حصل دا عادي وبيحصل كل يوم بس اللي مش عادي بقى إن الحق مبقاش يرجع من تاني لأصحابه..
أنفعلت وانقطعت أنفاسها وهي تتحدث وما إن توقفت عن الكلامِ بدأت من جديد الحديث بقولها الذي تهدج فيه صوتها وبكت رغمًا عنها بألمٍ:
_عارف اللي يوجع إيه يا بابا؟ إن كل حاجة بايظة وتخليك تتقهر من الغُلب علشان مش عارف تحقق حاجة فيها رغم إنها بسيطة، الشباب بقوا بيدوروا في ساقية علشان بس أساسيات الحياة، مش حتى كماليات ورفاهيات، كل حاجة بقت زفت وبتزيد من وحش لأوحش، الحال مبيتصلحش والناس مبتترحمش، ياريتني ما رجعت من برة وفضلت في أحضان الغُربة على الأقل كنت هناك متقدرة أنا وغيري من الشباب، بس اللي بيحصل هنا دا يتعب القلب.
طالعها هو بأسفٍ ثم حرك عينيه للأمام نحو صورةٍ يراها في كل مكانٍ، صورة تحمل بسمة غريبة إن دلت على شيءٍ فهي تدل على حياةٍ غير كريمةٍ، صورة كانت ولازالت غريبة لوطنٍ غير مفهومٍ لكنه كان ولازال محبوبًا، هذه الصورة تُمثل الوطن، وآهٍ من تلك الصور التي تؤلم القلب وتُبكي الوطن..
وعلى غِرار قول “جلال الدين الرومي”..
“حرر نفسك يا فتى من كل قيدٍ
فالحُرية يوم أن ينالها المرء
يصبح كأنه في عيدٍ”..
____________________________________
<“ياليتها الحقيقة كانت مخبوءة ولا تطلعنا إليها”>
بعض الأمور لا يُحق لنا كشفها..
زلا يتوجب علينا أن نتطلع حتى إليها، وإنما الأفضل أن تبقى تحت وطأة الستر ولا تتعرى، فيؤسفني إخبارك أن الحياة لا كانت ولا ستكون رائفةً بك وإنما في كل وقتٍ وحينٍ ستقسو وتضغط وتصفع وتضرب، وحينها تذكر أن تلك الأمور المخبوءة أنتَ من سعيت كي تكشفها؛ فكانت تلك هي الصفعة بحد ذاتها..
في عُقر الدار وفي غرفة “إسماعيل” بالتحديد وهو يتوسط الفراش بخوفٍ ويضم ركبتيه لصدره ويهتز جسده بعنفٍ كأنه يحتمي في نفسه من شيءٍ مجهولٍ غير مرئيٍ للعين، كانت الأعين كافة تُطالعه بشفقةٍ وانكسارٍ وحزنٍ وحينها كان “جـواد” يجري كشفه عليه ويحاول أن يتحدث معه ولم يعاونه في ذلك إلا “إيـهاب” الذي ضم شقيقه ومسح فوق رأسه وخصلاته ثم خاطبه بلينٍ وحنوٍ:
_طب بص مش أنتَ معايا؟ أنا مش هخليك تسيبني ولا حد يقرب منك حتى ولو كان مين، بس ركز مع الدكتور وجاوب هو عاوز إيه، علشان تبطل تشوفهم يا “إسماعيل” ويخافوا ييجوا جنبك، شايف إيه بس عرفني؟.
كتم “إسماعيل” أذنيه من الصوت الغريب الغليظ الذي يتردد في سمعه وكذلك فعل وأغمض جفونه يهرب من الواقع ثم تحدث بصوتٍ لاهثٍ وأنفاسٍ مُتقطعة:
_شايفهم أهم، جايين عليا هناك وعمالين يشاوروا وعاوزين ياخدوني، صوتهم عالي أوي وشايفه أهو واقف معاهم، “أشرف” عمال يشاورلي، الحقني منه يا “إيـهاب” علشان خاطري ألحقني.
حينها نظرة “إيـهاب” سردت لـ “جـواد” عن حاله فأومأ له الآخر بجفونه ثم خرج من الغرفة وخلفه سارت “فُـلة” التي وقفت بجواره في مواجهة زوجها الذي كان ينتظر الحديث على أحر من الجمرِ، كانت تنتظر الحديث من فاه شقيقها الذي انتظر خروج الجميع له بعد أن استكان “إسماعيل” وذهب في غفوةٍ لعل عقله يهدأ من تلك الحرب..
جلس “جـواد” بجوار “نَـعيم” الذي كان يتأهب لمعرفة أدق التفاصيل عن حالة ابنه وقد كانوا الشباب يماثلون حالته وحينها تحدث الطبيب بشرحٍ كافٍ ووافٍ حينما بدأ حديثه بديباجةٍ عملية:
_من غير ما أخضكم بس من أولها، اللي “إسماعيل” بيعاني منه دي نوع من أنواع الهلاوس بس في حالته ارتبطت بكل الحواس، بمعنى إنها بقت هلاوس سمعية وبصرية كمان، يعني هو فعلًا شايف وسامع اللي إحنا مش سامعينه ولا شايفينه، ودا ضغط وجهد فوق جهد العقل بتعب أكبر بكتير، يعني العقل بقى متبرمج على الصور دي وبالتالي عمال يكرر فيها ويعرضها على العقل والعقل يكرر الصورة على الحواس، بالظبط زي الجهاز لما بيهنج ويقف عند فولدر معين ويفضل يعرض ويكرر فيها كأنه وقف عند اللحظة دي، ودي ليها سببين..
توقف عن الحديث حينما وجد القلق باديًا فوق النظرات والملامح وقد قام بضبط منظاره الطبي فوق وجهه ثم أضاف مُكملًا لسالف حديثه العملي:
_بمعنى إن السبب الأول هو التسخير اللي بيحصله ويوقف عقله، لأن التسخير من ضمن العوامل فيه هو وقوف العقل تمامًا وتبديله بالعقل الباطن اللي بيكون متهيأ للوضع المطلوب إنه يكون عليه، والسبب التاني نفسي وعصبي، بمعنى إن الضغط والخوف اللي “إسماعيل” واجههم كانوا أكبر من العقل إنه يستوعب كل دا، علشان كدا عقله هنج أو علميًا نقدر نقول إن العقل الواعي رجع عن دوره قدام العقل الباطن، فساب الدور دا لأنه واقعيًا بقى بيمثل ضغط أكبر عليه، علشان كدا الهلاوس دي لو كملت بالوضع دا هتوصل لمرحلة خطر، وفيه حاجة كمان مضطر أصارح بيها..
في تلك اللحظة استحوذ على تركيز الجميع فطالعوه مستفسرين بنظراتهم وملامحهم التي تأهبت تلقائيًا في انتظار المزيد فأضاف هو:
_”إسماعيل” جسمه فيه أثار حُقن ودا معناه إن كان بياخد حاجة من اتنين يا مهدئات للعقل علشان تقلل تنشيطه ويقدروا يتحكموا فيه، يا حقن تسبب هلاوس ودي مرجحة أكتر لأنه على حسب كلام دكتور “مُـنذر” إنه لحد ما وصل هنا وهو كان مدرك وواعي، وبمجرد ما فاق العقل دوره اختفى تمامًا، واللي متصدر للعين تترجمه حاليًا هي إشارات من العقل الباطن اللي مخزنها من فترة كبيرة ودي كانت عبارة من مخاوف بتهدم حياته، فاللي هو حاليًا بيشوفه هو معاه حق لأنه متبرمج على كدا وعقله واقف وفاقد دوره..
حديثه كان كما الخنجر يطعن في قلب “إيـهاب” الذي حاول أن يبقى ثابتًا لكنه سقط فوق المقعد حينما ارتخى جسده وثقلت أعصابه من الحديث المنطوق؛ ثم رفع كلا كفيه يمسك بهما رأسه وكأن الهزيمة أكبر من عمره كي يتحملها، جلس خائب الرجا والأمل وقد بكت “ضُـحى” التي كانت تجلس بجوار أخويها، فيما شعر “فـضل” بالتشتت وعدم الفهم، فسأل الطبيب بمراعاةٍ للبقية:
_طب يا دكتور متآخذنيش، بس “إسماعيل” طول عمره قدامي طبيعي ومفيهوش أي حاجة، فمن الأول هو كان عنده إيه وإيه اللي حصله وصله للنقطة دي؟ وليه عقله مش قابل الواقع؟.
كان السؤال في محله من رجلٍ في وضعه يشعر بقرب الطوفان من ابنته الوحيدة التي أخفت عينيها عن مرمى عينيه كي لا يلتقط نظراتها وقد فهم والدها ذلك _حتى ولو تجاوز بإرادته_ وعاد للطبيب في انتظار الجواب الذي أتاه بقول:
_بص يا أستاذ “فـضل” ربنا سبحانه وتعالى خلق الإنس والجن، ومن رحمته على العباد إنه جعل بينا وبين الجن حجاب وساتر بحيث إن العوالم دي تكون منفصلة ودي لأسباب ربنا وحده العالم بيها، بس في حالة “إسماعيل” بما إنه كان طفل صغير وقتها كان بيتم تسخيره للجن علشان يكون وسيط والجن اللي عليه يتواصل مع العالم الآخر ويقدر يوصل للحاجات اللي هما محتاجينها واللي أغلبها ليه علاقة بالرصد على المقابر، فهو الحجاب اللي بينه وبينهم متشال، وبالتالي هو واجه وشاف حاجات صعب على العقل إنه يتحملها، وصعب كمان أنه يقدر يواجه صعوبتها، مع عامل الخوف اللي ليه أثر كبير كل دا خلى العقل ياخد فاصل من دوره ويقف عن العمل شوية، ولأن العقل الباطن هنا مخزن كتير من زمان فهو اللي بقى متحكم.
في تلك اللحظة اندفعت “ضُـحى” تستفسر منه بقهرٍ ظهر فوق ملامحها وفي عينيها كأن الحياة لازالت تُفجعها فيما تحب:
_طب ليه مش فاكرني؟ دا كان علطول بيقولي إنه ممكن ينسى أي حاجة بس مش هينسى الأمان اللي بيشوفه في عيني، حتى عيني ناسيها؟ مش فاكر حد خالص غير “إيـهاب”؟.
أومأ لها “جـواد” ثم جاوبها بنبرةٍ طغت عليها العملية:
_للأسف كلامك صح وأنا آسف إني هقوله ليكِ، بس إحنا مش قدام “إسماعيل” جوزك ولا حتى حبيبك، إحنا قدام الطفل اللي عنده تسع سنين وكان بيتسخر وهو صغير علشان يشوف حياة وواقع أكبر منه هو ومن عمره، فهو عقله برضه متبرمج باسم “إيـهاب” لأنه من صغره وعقله رابط كلمة الأمان بأخوه، على حسب معرفتي بـ “إسماعيل” من زمان وكلامنا عن حالته فهو كان قالي قبل كدا إنه من غير ما يحس بقى بيترجم كلمة الأمان في وجود “إيـهاب” لأنه من صغره من أول مرة نزل فيها مقبرة وهو واعي وكان مدرك كل حاجة لما التعبان قرصه ساعتها، هو صرخ على أخوه وطلبه، وساعتها “إيـهاب” لحقه وضحى بنفسه علشانه كمان، فالموقف متخزن في العقل الباطن ومرتبط بسيرة “إيـهاب”.
تألم قلبها من مجرد الحديث والفكرة بذاتها وهي تُؤَكد لها عن طريق الطبيب، لتوها أدركت القسوة في نوعٍ جديدٍ من المشاعر ألا وهي نسيانها من جهة شخصها المفضل، حاولت أن تتمالك نفسها لكنها انهارت وأول ما تذكرت أن تفعله هو أن تأخذ وسيطًا لها عنده، لذا تحركت نحو “إيـهاب” وجلست أمامه وهي تقول بصوتٍ باكٍ تسبب في قهره أكثر من السابق:
_علشان خاطري يا “إيـهاب” هو بيحبك وبيسمع كلامك، فكره بيا وخليه يعرفني، عرفه أنا مين وفكره بيا، قوله دي “ضُـحى” حبيبتك ومراتك، علشان خاطري حاول وقوله خليه يعرفني ويفتكرني، حرام ينساني وأنا كلي عايش علشانه هو، علشان خاطري…
تهدج صوتها أكثر وبكت بقوةٍ أكبر حتى تألم أمامها “إيـهاب” وعجز عن الرد بينما “سمارة” فاقتربت منها تحتضنها وهي تمسح فوق ذراعها وقالت بصوتٍ باكٍ تضامنًا معها:
_هيفتكرك والله، صدقيني هيفتكرك ويجعلك تاني، هو يقدر يعيش من غيرك ولا يقدر حتى ينساكِ يعني يا “ضُـحى” ولا ينسى إنك روحه اللي رجعتله بعد غياب؟ هيفتكرك يا عبيطة، دا رجع يعيش تاني علشانك أنتِ.
كانت تمسح فوق قلبها بحديثها بينما “أيـوب” فكان يقف مع “يـوسف” على مقربةٍ منهما ورأى بعينيه الموقف المؤلم للروح، لكنه التقط ملامح شقيقته الذابلة ووجهها المُتغضن ثم لمحها وهي تنسحب من بين الجميع وحينها تحرك خلفها فوجدها تدخل المرحاض ثم أغلقت الباب خلفها وظلت تتقيأ واستمع هو لها وقلبه ينتفض لأجلها بذعرٍ، حاول أن يناديها أو يفهم سبب حالتها لكن صوتها اختفى بالداخل وقد أتى “تَـيام” ووقف يحمل المنشفة بيده ثم ناداها برفقٍ:
_”آيـات” افتحي الباب أنا “تَـيام” متقلقيش.
انتظرها حتى فتحت الباب وطالعتهما بوجهٍ شاحبٍ وهي تحاول أن تلتقط أنفاسها وقد شعر شقيقها بالقلق عليها فاقترب يسألها باهتمامٍ:
_أنتِ مالك فيكِ إيه لكل دا؟ وشك مخطوف وباين عليكِ التعب، تحبي نروح نكشف طيب؟ عارف أن الظرف هنا صعب بس نروح نتطمن عليكِ أو نروح عيادة بس نكشف تكون قريبة من هنا.
حركت عينيها نحو “تَـيام” تسأله عن حلٍ في تلك المعضلة بعدما أخفت خبر حملها لحين تحسن الأحوال المحيطة، لكنه شعر بتأنيب الضمير نحوها لذا تنهد بثقلٍ ثم قال موجهًا حديثه لشقيقها:
_بص هو إحنا علشان الظروف اللي فيها دي مش عارفين نقول ومستنيين الوضع يتحسن شوية، بس أظن يعني مع تعبها دا مش هقدر أخبي عليك، “آيـات” حامل في الشهر التاني وعملنا تحاليل واتأكدنا، بس مع ظروف “إسماعيل” وقهرة أبويا أنا للأسف مش قادر أتكلم، بس معلش خدها معاك وأنتَ مروح وخلي بالك منها وهي عندك، هنا محدش مركز معاها وهي لازم ترتاح.
حينها أخبرته هي بضجرٍ من الفكرة التي يُلح بها عليها:
_قولتلك مش هينفع أمشى من البيت في الظرف دا، باباك و “سمارة” وكلهم هنا لازم أكون معاهم، عارف لما أمشي في الظرف دا شكلي هيكون إيه؟ بلاش، الناس اللي محتاجة حد يكون معاها دي وضعهم إيه؟ مش هينفع يا “تَـيام” صدقني على الأقل دلوقتي، أنا كويسة والترجيع طبيعي في أول الحمل.
ابتسم “أيـوب” بسعادةٍ واقترب منها يضمها لعناقه ثم مسح فوق ظهرها وربت فوق رأسها بحنوٍ ورغمًا عن أنف حزنه وجد ملامحه تتأثر وعيناه خانته وأعلنت عبرات التأثر، فقال بصوتٍ متباين المشاعر:
_اللهم بارك ويتمم فرحتنا بخير ويسعدك ويجعله ذرية صالحة ليكِ ولوالده، ربنا يكرمك ويبارك ويرزقك من كرمه ورحمته بذرية تكون خير المُعين ليكم في الدنيا والآخرة.
لمعت عيناها وطالعته بحبٍ ثم استقرت في عناقهِ، هي كغيرها كانت تود مشاركة الجميع في فرحتها وسعادتها لكنها رضت بقدرها وحمدت ربها على كل شيءٍ سواء كان الخير أو الشر، رضت وحمدت ربها لأنها تعلم أن كل الأمور تجري وتسير بإرادة الخالق وحده ونحن الخلائق لا نملك من الأمر شيئًا سوى أن نحمد الخالق ونرضى مهما كان الأمر..
في الخارج وقف “جـواد” بجوار “مُـنذر” و “نَـعيم” و “إيـهاب” ومعهم “يـوسف” الذي بحث عن “أيـوب” وفشل في إيجاده فعاد لهم من جديد ليستمع لإقتراح “جـواد” الذي بث الخوف لقلبه قبل الآخرين:
_أنا آسف يا جماعة بس “إسماعيل” لازم يتنقل المستشفى ضروري، لازم يتعمله تحاليل وآشعات طبية وجلسات نفسية علشان نقدر نحدد مصدر المشكلة بالتحديد، كتر المهدئات دي والمنومات بتضر مش بتحل، ولسه عاوزين نتأكد هو فعلًا واخد أي نوع علاج مأثر عليه ولا دا تأثير اللي حصل وفي كلتا الحالتين هو لازم يروح المستشفى، عارف إنها خطوة صعبة ومؤلمة ليكم بس نعتبره مريض عضويًا وجسمه محتاج رعاية، يعني لو كان مجروح وبينزف قدامكم هل هتمنعوه من العلاج؟ أكيد لأ، نفس الفكرة برضه العلاج النفسي في المستشفى..
توسعت عينا “إيـهاب” وتثبت بؤبؤاه في محجريهما ما إن وصله الحديث وأكثر ما استطاع فعله في تلك اللحظة هو الهرب من بين الجميع ثم ولج عند مدخل الخيول وأدرك الجميع حينها أن أي زبدٍ في الحديث قد يضر ولا يفيد أو ربما بالتأكيد سيضر، لذا سكتوا جميعًا وتركوه وحده لعله يستطع أن يُطفيء نيران غضبه المتقد..
____________________________________
<“ولأن الحق يصعب الحصول عليه، يصعب عليك البحث”>
الحق كما الإبرة في كومة قشٍ..
لذا قد يصعب عليك إيجاده وتحقيقه في بلدةٍ تجمع القش من كل بلدان العالم كي تدفن الحق فيه، لاسيما أن الحق حقٌ، لكن الحق حتمًا سيضيع لو كان وسط طُغاة البشر الباحثين عن القش كي يتم دفن الحق في وسطه، لذا تذكر جيدًا قبل أن تبحث عن الحق؛ أنك مُطالب بإزالة القش…
في حارة العطار..
كان الوضع شبه مستقرٍ إلى حدٍ ما على الرغم من أن فاجعة “إسماعيل” و “سـراج” أثرت عليهم أيضًا وكأنهم جسدٌ واحدٌ إذا تألم عضوٌ منه، اشتكت بقية الأعضاء من ألم هذا العضو، وقد كان البحث جاريًا من قبل الشباب عن “سـامي” الذي من المؤكد أن اختفاء صورته وسيرته يعني كارثة حتمية، لذا كان “عبدالقادر” يعاون الشباب في بحثهم وينتظر قدوم أحدهم بخبرٍ يقينٍ لكن عودتهم خائبين الأمل كانت تقتله محله خوفًا من توغل شره لأكثر من ذلك..
كان جالسًا في انتظار ابنه يأتيه بمراده حتى ولج له “أيـهم” وخلفه ولج “نـادر” الذي ما إن لمح خاله ونظراته نحوه جلس بقربه ثم تفوه بلهفةٍ يبريء نفسه من أي تهمةٍ قد تطول اسمه:
_صدقني والله ما أعرف مكانه، أنا معاكم هنا وبحاول زيي زيكم وحاولت أوصل لخالي “عاصم” قالي إنه ميعرفش حاجة عنه أصلًا، وكلمت صاحب الأرض بتاعته قالي إنه راح فعلًا يوم واحد وبعدها اختفى وعرضها للبيع، فأنا والله بجد معرفش هو فين، يمكن يكون سافر برة مصر؟.
نظر كلاهما لبعضهما كأنهما يقوما بدراسة الحديث وقد تحدث “أيـهم” تلك المرة بثباتٍ يوضح له حقيقة الأمر التي قد تكون غائبة عنه:
_بص يا “نـادر” من غير ما تزعل نفسك، أبوك أكيد ليه يد في اللي حصل ودا شيء مفروغ منه، لأن غيابه فترة كبيرة زي دي ومن غير سبب محدد معناه إنه عمل كارثة سودا، بس أنا هعذرك، تاني حاجة بقى إنه أكيد هيحاول يوصلك، وقتها بلاش تتغابى، كلمه وهاته بالحنية أحسن، وأظن يعني أنتَ مش محتاج دليل أن أبوك زبالة، دا سيرته أوسخ من سيرة اليهود.
تنهد “نـادر” بقوةٍ يعبر عن ضيقه ثم مسح فوق وجهه بعنفٍ وقال بنبرةٍ مبحوحة تعبر عن الضيق الذي يسكن بين صدره:
_صدقني أنا عارف كل دا وهحاول علشانكم وعلشان اعتبرتوني واحد منكم، ومش بس كدا كفاية إن “يـوسف” و “أيـوب” معتبرني أخ ليهم ومساعديني هنا، فأنا بقولك أهو وقت ما أوصل لحل هجيبه ليك لحد عندك يا “أيـهم” وهرجعلك الحق بنفسي.
أومأ له “عبدالقادر” وطالعه بنظرة فخرٍ كأنه يؤكد له على ثقته به وقد خرج “نـادر” من المكان يتوجه نحو المقهى كي يجلس ويفكر في الأمر من جهةٍ أخرى غير تلك التي يطالع منها الحياة، جلس وسكت فوق المقعد وأعاد رأسه للخلف وأغمض عينيه وهو يفكر كيف لأبيه أن يكون وصمة عارٍ تلتصق باسمه بهذا الشكل حتى يُنكس رأسه كلما اقترن اسمه باسم والده؟ كيف للأباء أن يقودهم الطمع لهذا المسلك كي تتجلى عن قلوبهم الرحمة والرأفة فلا يشعر بشابٍ من عمر ابنه وهو يدهس حقه تحت الأقدام؟.
اُضرمت نيران الغضب في صدره وأصبح كما الحُر الذي انتفض في ثورةٍ يحتج بها على القوانين الفاسدة، لذا كانت نظراته قاسية وهو يشعر بالندم على كل لحظةٍ طاوع فيها والده وأصابه العمى وهو يُساق خلفه كما البهائم، بحث عن حريته في نفسه كي يصرخ ويعبر عن ذاته، وإذ بها أول أسباب تحريره من القيود تمر بعد عودتها من العمل، “حنين” التي أصبحت تقف في مخيلته وتلوح له كي ينتقل بها نحو قلبه ويسكنها فيه ويجعله السكن الدائم لها؛ هكذا فسر نظرات عينيها له طوال الأسابيع الفائتة حينما كانت تمر تطمئن على شقيقها وتطالعه بنظرةٍ لم يصدق حقيقتها حتى طالعته هي بصدقٍ ذات مرةٍ وأطالت النظر له وهو يعمل مع الشباب وحينها أدرك أن رُبما قلبها بدأ يلتفت نحو قلبه..
ترك “نـادر” مقعده ثم تحرك واقترب منها وحينها لمحته هي وقبل أن تسرع في خطاها تحرك أسرع نحوها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_ينفع أتكلم معاكِ شوية؟.
بالطبع هي لن تصبح تلك الغبية وترفض فرصة لن تعوض مثل هذه حتى وإن كانت الوسيلة خاطئة، لكن القلب دومًا له سلطانٌ يضع الإنسان في مأزقٍ ثم يتحرك هو كيفما يشاء طواعيةً لرغبة الهوى، بينما هي وافقت وعادت معه لخارج الحارة كي تستمع له مهما كان حديثه ومهما كانت كلماته، وما إن جلسا على الطريق في الخارج حرك عينيه نحو الطريق كأنه يهرب من نظراتها فسألته هي بتعجبٍ:
_معقول جايبني علشان تسكت كدا؟.
حرك عينيه نحوها يشملها بنظراته كأنه يتأكد من صدق تواجدها بجواره ثم زفر بقوةٍ وقال بصدقٍ كأنه ينتهج الشفافية معها:
_لأ خالص، أنت جايبك علشان بقيت أحس إني عاوز أتكلم معاكِ دايمًا، بصي علشان مبقاش كداب يعني أنا جوايا ثورة ونار غضب مخلياني عاوز أحرق كل حاجة ليها علاقة بيا وبحياتي القديمة حتى أنا نفسي، يمكن علشان أنا مش الملاك اللي أنتِ فكراه بصورته دي، بس أنا شخص تاني أنتِ متعرفيهوش، أو بمعنى أصح متعرفيش عني كتير، بصي أنا من الآخر ناوي أعمل إعادة هيكلة لحياتي، هعيشها كأنها أول مرة أعيش، بس دا مش هينفع وأنا لوحدي، عاوزك معايا علشان أقدر أبدأ من تاني، موافقة؟.
لم تفهم مقصد حديثه، أو هكذا بدا لها الأمر لأنها خشيت على نفسها من أملٍ قد يكون كاذبًا بينما هو سألها بعينيه فلم يأتيه منها الرد، فأضاف بتفسيرٍ أكبر لمقصده:
_عاوز أتجوزك يا “حـنين” ونبدأ مع بعض، أنا أساعدك تبني نفسك وتحققي أحلامك، وأنتِ تساعديني أمسك في “نـادر” اللي موجود دلوقتي قبل ما يتوه مني، قولتي إيه؟.
حقًا هو سلب بحديثه قدرتها على الكلام، سرق ما يمكن لها أن تجاوب به، ألجمها بحديثه وأوقف عقلها عن اتخاذ أي رد فعلٍ، ولأنها تخشى الحياة بقدر ما يخشى المرء من سيرة الموت؛ كان جوابها غير محسوبٍ حينما سألته بقلقٍ:
_وأنتَ عاوز تتجوزني علشان الثورة اللي جواك ولا علشان أنا اللي قدامك وخلاص؟ في كلتا الحالتين يعني مش اختيار علشان أنا، يمكن علشان الظروف مخلياني شخص مُهيأ لكدا؟.
اندفع هو بغيظٍ يسألها كأنه يرد لها طريقتها:
_ميهأة لكدا اللي هو إيه مش فاهم؟.
_إني واحدة مُطلقة، صحيح بنت صغيرة يدوب ٢٤ سنة بس مطلقة وليا تجربة وأي وضع هيخليني أقبل بيه علشان أنا خرج بيت زي ما كله قال، فأنتَ بقى عاوزني علشان أنا اللي قدامك ولا علشان ظروفي هتساعدك تنسى “شـهد” وتتخطى اللي حصل بيا؟.
هكذا جاوبته حينما اندفعت في وجهه بينما هو فأدرك أن ندبات الماضي لديها لازالت تنزف وجروحها لازالت حية ومع أقل صدمة تُباغتها تعود تلك الجروح ويشتد لهيبها، لذا تنهد هو ثم رفع كفه يشاور به نحو موضع نبضه وهو يقول بصدقٍ:
_علشان دا اللي من أول ما شافك واتكلم معاكِ هو بقى بيتمنى إنك تكوني ليه هو ومعاه طول العمر اللي جاي، واللي فات كمان لو هقدر أرجع اللي عدى من حياتي، حياتي قبلك كانت كلها غلط في غلط ومبنية على الغلط يا “حنين” حتى جوازي بدأ غلط وكان لازم نهايته تكون غلط، بس أنا طمعان أبدأ العمر الصح بيكِ ومعاكِ، قولتي إيه؟.
لمعت العبرات في عينيها تأثرًا بحديثه وقد لمحت الصدق باديًا في نظراته وكلماته فلم تجرؤ على تكذيبه؛ لذا أغمضت عينيها تمنع فيض العبرات ثم قالت بنبرةٍ واهنة:
_لو إحساسك بجد ودا حصل، أنتَ هتبقى أول حد أثق فيه وأسلمه قلبي بعد اللي حصل فيا وشوفته من قبلك، بس الأول كلم بابا واسأله علشان القرار قراره هو، وعرف عمو “عبدالقادر” علشان أكيد لازم يكون عارف، عن إذنك يا سيادة القبطان.
تعمدت أن تذكره بمهنته كي يفكر في الأمر لعله يتراجع عن هذا القرار ويصحو من شدوه ولحظة غياب عقله، بينما هو فلم يجاوب وإنما جلس يبتسم بسخريةٍ ويأسٍ منها ثم وضع كفيه في جيبي بنطاله وظل يتابعها بعينيه وهي تعبر الطريق حتى وجدها تلتفت له ترمقه بعينيها وحينها دامت النظرات بينهما لثوانٍ قطعتها هي حينما ابتسمت رغمًا عنها وأولته ظهرها..
____________________________________
<“أيُلام الضعيف على سرقة أيام
عمره وهو لا يعلم كم هو عمره؟”>
لا يُلام المسروق على تبجح السارق..
ولا يُلام الغريب على استباحة الوطن، فمن يلوم سارقًا إن كان السارق هو الذي يلوم؟ أخبرني يا سيدي كيف تلوم ابن الوطن على صمته لسرقة وطنه، إن كان هو بنفسه في وطنه يُعاني من سرقة أيام عمره؟.
كان المكان غريبًا لكنه اعتاد أن يحضر إليه، كان الليل بدأ يظهر وفي هذا المكان بالتحديد ترتهب القلوب الحية من هذا المكان وتخشى اقتراب الموعد على الرغم من حتمية الأمر، لكن ما بال القلب الميت بمكانٍ هكذا وموعدٍ هكذا وليلٍ هكذا؟ بالتأكيد لن يتأثر ولن يهتم بالأمر، وهو صاحب القلب الميت والجسد الحي، هو “باسم” عدو البسمة والفرحة…
ولج “بـاسم” مقابر عائلة “حمزَة” ثم اقترب من اللحد الموضوع به جسد رفيقه الميت، ثم وقف يدعو له دعاء المتوفي وحينها هرع الدمع من عينيه أسفًا وندمًا وقهرًا وارتخى جسده، فجلس يضم رُكبتيه أمام القبر ثم سحب نفسًا عميقًا وقال بصوتٍ مبحوحٍ:
_نفسي مرة أجيلك وأنا معايا خبر واحد كويس، بس المرة دي أنتَ وحشتني أوي، فوق ما تتخيل كمان، عارف؟ على قد ناري من اللي حصل فيك بس والله العظيم أنا برجع أحمد ربنا إنك مش معانا هنا في الأرض دي، أنتَ في مكان أحسن بكتير، متأكد إنك في مكان أحسن، علشان أنتَ كان نفسك في الأحسن للكل، بس للأسف الدنيا دي مش عاوزة رجالة حُرة زيك، عاوزة عبيد لقمة وقرشين، فاكر لما قولتلي بكرة ييجي يوم على الناس من كتر جريهم ورا اللقمة هينسوا حاجة اسمها كرامة ويبقى كل غرضهم يسدوا جوعهم وصوت بطنهم وساعتها هينسوا صوت عقلهم؟..
سكت هنيهة يلتقط أنفاسه ثم أضاف من جديد بقهرٍ:
_اليوم دا جه خلاص، كان نفسي أقولك لسه بعيد أوي لحد ما نشوف الحال دا، بس الحال دا جه وبقينا عايشين فيه كلنا خلاص، كان نفسي أقولك المرة دي الحال اتغير بس بكل أسف الحال لسه زي ماهو، بالعكس دا زاد صعوبة، للأسف التعليم ماخدش حقه و “يوسف” مبقاش عالم ولا باحث زي ما توقعت، والتاريخ والحضارة اتباعوا ومحدش اهتم بـ “إسماعيل” زي ما اتمنيت ولا حتى رجعوا اللي راح، والحق صوته مش عالي ولا حاجة واللي زي “إيـهاب” بيتقال عليهم بلطجية لمجرد وقوفهم في صف المظلوم، واللي زي “سـراج” ملقاش حد يحميه ويقف في ضهره ويرجعله حقه من الغريب، واللي زي “أيـوب” ملقاش حد ينصر الدين ويوعي الناس ويفكرهم بآخرتهم فبقى في عيون الكل إرهابي، واللي زيك اختفوا وصوتهم راح، واللي زيي عايشين بالكسرة والذل، حتى العيال الصغيرة بقت مغيبة ومرمية في الشارع زي كياس الزبالة، كان نفسي أقولك إنها اتغيرت..
سكت يسحب الهواء داخل رئتيه حتى يستطع أن يُكمل حديثه ثم أضاف بوجعٍ وكمدٍ توغل لداخل صدره:
_هي فعلًا اتغيرت..بس للأصعب، بقت بتفتح دراعها لكل غريب تحضنه وتضلل عليه واللي منها ترميه براها وضيقة عليه الحضن لحد ما اتخنق جواها، تعرف إن كلهم بقوا بيحلموا يمشوا منها خلاص ومحدش حتى بقى بيفكر يقعد علشانها؟ صدقني بقت صعبة ومن رحمة ربنا بيك إنك مش معانا هنا، علشان لو أنتَ موجود وسطنا كان زمان جرالك حاجة من اللي بيحصل، عارف اللي يوجع إيه؟ إن هييجي يوم ويلومونا على كل حاجة، هنتلام على سكوتنا، ولو عملنا حاجة هنتلام على كلامنا، تفتكر صح إحنا أول مرة لما اتكلمنا ساعة ما قولتلي العقول فتحت والناس فاقت؛ إحنا فعلًا كنا فوقنا؟ ولا دي كانت حلاوة روح مش أكتر؟.
سأله بحيرةٍ وترك قوس الجواب مفتوحًا لعله يصله ذات يومٍ..
سأل وهو يعلم أن الجواب لن يأتيه لكنه قرر أن يبوح بما فيه وبداخل صدره، سأل وهو يعلم أن الجواب ربما يكون قاسيًا لكن تلك القسوة لن ترأف به وترحم حُرًا مثله يأبى الذُل والهوان..
____________________________________
<“إن الخيول مهما وقعت يثور من كان منها أصيلًا”>
في فلسفة طبيعة الخيول..
أن الخيول مهما وقعت يثور منها من كان أصيلًا، فربما تباغت الخيل ضربة قاسية في مقتلٍ يتراقص بالروح لكن الأصيل من بينهم هو الذي يثور ويقف من جديد، فنعم قد يسقط الخيل ويخسر معركةٍ؛ لكن المؤكد أن الحرب بأكملها ستبقى له..
في ساحة الركض تحررت الخيول من مرقدها وقيدها في سباقٍ غير منذرٍ به، كان “إيـهاب” يركض وسط الخيول بعينين فقدتا الرؤية وأصابهما العمى، كان يركض وحوافر الخيل تضرب في الرمال فتشكل لوحة محاربٍ وسط الخيول يأبى الخضوع لقوانين الحرب وإنما يفرض هو القوانين بذاته لذاته، كانت الرمال تتشكل بكل لونٍ وطورٍ وتلتصق فوق جبينه وعينيه وهو يستمر في الركضِ بغير توقفٍ وأنفاسه صوتها يعلو ويعلو..
كان سمعه يختلط بمزيجٍ من الأصوات بين أمه وصوت والده البغيض، وبين شقيقه وصرخاته وتوسل “ضُـحى” له وبكاء “نَـعيم” وحديث “جـواد” وصوت صراخ ابنته، كل شيءٍ حوله جعله يفقد السيطرة على نفسه حتى استمر ركضه لِقُبيل الفجر، أي أنه يسير منذ ساعات كثيرة دون توقف أو حتى استراحة صغيرة، لطالما كان شقيقه خاضعًا لسُلطة الدواء فهو يهرب من ضعفه بهذا الشكل حتى صدح صوت آذان الفجر يشق سكون الليل عليه وينشقع النور في قلبه بعد أن غرق في الظلام..
حينها خارت قواه وسقط فوق رُكبتيه بعدما هدهُ التعب وأخمد نيران ثورته فجلس يتنفس بحدةٍ وعنفٍ ونكس رأسه للأسفل وصوت الفجر يصدح عاليًا من المساجد القريبة والبعيدة فتطمئن النفس بسماع صوت الآذان وخاصةً هو حينما أنصت وانتبه للنداء وهو يقول:
_حي على الصلاة ،حي على الصلاة..
حي على الفلاح، حي على الفلاح..
حينها طالع المكان حوله وطالع نفسه ثم انتفض من مكانه كما الخيل حينما يثور من مرقده وقد شكل الغبار حوله هالة منثورة هباءً منثورًا وهو يقوم ويقف على عاقبيه من جديد ثم ولج المسجد يتوضأ ويتجهز للصلاة، وما إن رُفِعَ الأذان ووقف هو يقوم بقضاء ركعتي السُنة وبمجرد أن لمست جبهته الأرض وجد نفسه يبكي رغمًا عنه، بكى خاشعًا لربه كأنه يسجد لمرته الأولى في حياته، بكى آملًا في الحصول على راحته وهو يعلم أن رحمة الخالق وسعت كل شيءٍ بما فيهم قلبه الصغير..
“في صبيحة نفس اليوم”..
في باكورة الصباح بعد موعد شروق الشمس كان “مُـنذر” يقود السيارة وبجواره جلس “نَـعيم” وفي الخلف كلًا من “إيـهاب” وفوق كتفه استقر رأس “إسماعيل” الغائب عن الوعي مؤقتًا، كانت الملامح تحكي وتسرد عن حالهم وحال قلوبهم، أما “إيـهاب” فهو ضغط فوق قلبه كي يفعل هذا الأمر، لكن لطالما كان الأمر يخص شقيقه ونصف روحه فمن المؤكد لن يتأخر عن فعل هذا الشيء.
وبعد مرور ساعة من إنهاء الإجراءات التي انهتها “فُـلة” بنفسها بينما شقيقها وزوجها فكلًا منهما أشرف على جزءٍ يقوم به في الرعاية بـ “إسماعيل” الذي بدأ يستفيق ويصحو من غفوته، وما إن أدرك أنه بعيدٌ عن عناق شقيقه ولم يلمح “إيـهاب” بعينيه ظل يصرخ ويركض بداخل الغرفة المُغلقة عليه وحده، كان يدفع بجسده نحو الباب وهو يحتمي من شيءٍ مجهولٍ وكأنه حقًا فقد كامل عقله وظل يصرخ باسم شقيقه ويضرب الباب بكفيه ورغمًا عنه بكى ونزل دمعه مدرارًا وهو يقول بعتابٍ قاتلٍ لشقيقه لكونه تركه وحده وسطهم:
_سيبتني ليهم ليه يا “إيـهاب”…الحقني منهم هياخدوني..
تهدج صوته وتقطعت الأحرف ولم يعد جسده قادرًا على الصمود أكثر فجلس القرفصاء بجوار الباب يبكي كما الطفل الصغير وهو يردد باكيًا بنفس كلمات العتاب القاسية منه على شقيقه:
_متسيبنيش ليهم يا “إيـهاب”..الحقني منهم وغلاوة “دهب”.
كان يجلس في الداخل وهو يطرق الباب بكلا كفيه وصوت بكائه يخالط صوت الطرقات فوق الباب وقد بكى وبكى وهو يجلس بوضعٍ تخيله شقيقه الذي جلس القرفصاء يستند على الباب ذاته في الخارج وظل يبكي هو الآخر رغمًا عنه كأن طاقة صموده نفذت وأتت بآخر ما فيها تواجهه، جلس مهزومًا عند الباب يبكي لأول مرةٍ منذ ما يُقارب الثمانية وعشرين عامًا، وقد وصله صوت بكاء شقيقه يُناديه صارخًا بخوفٍ:
_مـتسبـنيـش لـيهم يا “إيــهاب”…سيبتني ليه؟.
حينها ازداد وجع “إيـهاب” وضم رأسه بكلا كفيه وهو يُردد باكيًا بأسفٍ وندمٍ وقهرٍ وكمدٍ وعجزٍ داخل قلبه:
_غصب عني والله العظيم غصب عني.
والحال يُطابق الحال، نفس القلب المُتألم ونفس جلسة الهزيمة ونفسها الروح المكلومة ونفس البكاء المُتزايد، فصل بينهما جدارٌ وبابٌ لكنهما كانا ولازال نفس الشخص حتى في الألم والمعاناة بذاتهم، نعم تم الفصل بين الأجساد لكن القلوب كانت تتعانق، والأعين لا تلمح سوى صورة النصف الآخر منها، والروح تستعد لترك نفسها فداءً للأخرى، والفاصل بينهما فقط مجرد بابٍ يطل على الحياة.

تعليقات