رواية غوثهم الفصل المائة والسبعون
يا بارئ الكون
في عز وتمكينٍ
وكل شيء جرى بالكاف والنون
يا من، يا من أحسّ به
أحسّ به في كل كائنةٍ
وقد تعاليت عن ظن وتخمين
جلّ المنادي ينادي، ينادي
“يا عبادي أنا ماح الذنوب والأوزار”
جلّ المنادي ينادي، ينادي
“يا عبادي أنا ماح الذنوب والأوزار”
إلهي، إلهي بنورك ابتدينا
وبفضلك استعنا
وبك أصبحنا وأمسينا
بين يديك نستغفرك
يا الله، يا غفار
يا تواب، يا رحيم..
_”نصر الدين طوبار”.
____________________________________
غَريبٌ في بلادي أسير وحدي..
لكني وبالرغم من الغُربة أعلم أنني لازلت ساكنًا في قلبك..
أو ربما أنتِ من تسكنين في مُقلتيي؛ فلا ألمح من بين الأنام سواكِ، فاليوم في تلك المدينة أجد الجميع هُنا بملامحك،
هُنا حيث ملامحك المنثورة فوق الوجوه وكأن أربعينك يتزايدون فأراكِ أنا في كل الوجوه، فأخبريني أكان فرضًا علينا أن نفترق بغير موعدٍ؟ فلما اختفيتي من أمام عيني وأنتِ لازِلتي ضي عيني؟ لما رحلتي عني وأنتِ كنتِ ولازلتِ جزءًا مني؟ أخبريني لما اليوم أنا في المدينةِ أمام العالم أقف وحدي، وأنتِ في المدينة الأخرى تُقَوِمِينَ جيشًا ضدي؟..
أخبريني لما توقفت قصتنا عند المنتصف؟
فلا بقينا عند سلام البدايات،
ولا حتى وصلنا لمِسك ختام النهايات؟
اليوم قصتنا ظلت عالقةً بغير وداعٍ، فآخر ما أذكره وتحفظه عيناي من لقائنا الآخير كان تشابكًا في الأيدي وعناقًا بين المُقل، ومشاورةً من القلوب، وسلامًا بالعينين حتى غمرني السلام، فلم أحسب يومًا أن الوداع يأتي بغير كلامٍ، فلو كنت أعرف أن هذا هو المشهد الأخير الذي سيجمعنا مُرتاحين سويًا؛ من المؤكد كنت أغلقت الرواية عند تلك الصفحة بدلًا من انتظارٍ قاتلٍ لنهايةٍ مرغوبة من القلوب؛ لكن العالم حال بين تحقيقها، اليوم أنا غريبٌ في بلادي وحتى عن نفسي ولم أنسْ يومًا عينيكِ يوم أن وجدتُ فيها نفسي، حتى وإن نسيت كل العالم، أيعقل أن أنساكِ في غُربتي عن حالي وأنتِ نفسي؟.
<“اليوم أمام نفسي وقفت غريبًا حتى عن نفسي”>
تلك التي غابت عني كانت نفسي..
غابت عني وغَرُبت كما تغرب بخواتيم النهار شمسي،
فيا أنا أخبريني بربك هل اليوم هو حاضري، أم ما أنا
عليه الآن هو آخر ما تبقى لي من أمسي، اليوم أنا ضائعٌ
بين ما كنت أعرفه وبين تلك التي كانت نفسي..
الجدار ببابه كان يفصل بينهما لكن الوجع كان مُتقاسمًا بينهما بتساوٍ والقلوب تتشاطر الحزن على حد السواء، كلاهما كان يأنِ بوجعٍ صامتٍ والأمين تتحدث بقهرٍ عن سهمٍ اخترق جُدران الفؤاد وتمركز في المُنتصف، كان “إيـهاب” جالسًا وهو يُردد بخفوتٍ كأنما يعتذر لنفسه عن قهره لها بهذا القرار:
_كان غصب عني والله، كان غصب عني.
رددها ثم ضرب رأسه بالباب واستقر بها مُلقاة فوق الباب للخلف وقد قَدُمَ إليه “يـوسف” وجلس بجواره ثم خطفه لعناقه وربت فوق كتفه وحينها ألقى “إيـهاب” بثقله عليه ثم ترك نفسه تبكي وتزبد في البكاء لعله يُفصح عن الكمد المُلتصق بجدران قلبه وإزالته أصعب مما يُخيل له، بينما “يـوسف” فهو بذل قصارى جهده كي يأتِ إلى هُنا ويقف في حلبة صراعٍ مع الذكرى التي لا تنفك عن قتاله بضراوةٍ كل يومٍ، اليوم صارع الذكرى المؤرقة وأتى إلى هنا كي يكون جدارًا يتكيء عليه رفيقه قبل سقوطه..
جلس يضم “إيـهاب” بكلا ذراعيه وهو يبحث في عُمق نفسه عن تلك الشيم التي كان “نَـعيم” يزرعها فيهم منذ أن كانوا بعمر الصِغر واستغل هو ذلك وقام بغرس نبتته الصالحة في قلوبٍ خضراء، لذا رفع “يـوسف” رأسه ثم مد كفه يضعه فوق قلب “إيـهاب” الذي طالعه بحيرةٍ وعيناه تسرد وتزبد عن حاله، فقال “يـوسف” بصدقٍ:
_إنّ الخـُيولَ وإن تَراهـا أُرهِقتْ
سيَثورُ منها منْ يكـونُ أصـيلًا.
ردد تلك العبارة المُقتبسة من القُدماء ثم أضاف بقوةٍ أكبر كأنه يردد الحديث لنفسه بدلًا ممن يجاوره وكأنما الوجع هو ذاته:
_يمكن الدنيا جت علينا شوية بس متنساش إننا في الأصل خيول مهما كان وضعنا إيه بس أساسنا الأصل ومهما تعبنا مسيرنا نقوم نقف تاني، فاكر أبونا اللي ربانا لما جمعنا كلنا معاه وكأن “سـراج” تعبان بسبب موت أبوه ساعتها الحج قاله أنتَ أصيل، وكلكم هنا متربيين مع الخيول الأصيلة، يعني طباعكم من طباعهم، وأنتَ بالذات مينفعش تقع، دا أنتَ اللي مدربنا كلنا وبتشد أيدينا علشان نقف زيك، يبقى عيب عليك تقع وتوقعنا معاك، أقف من تاني وشد حيلك زي ما علمتني، ولو نسيت جملتك هقولهالك أنا..
سكت بعدما استحوذ على تركيز الآخر وجل اهتمامه، فأضاف برفعة رأسٍ وشموخٍ كانا أسمى سمات الخيول الأصيلة التي التصقت طباعها في قلوبهم:
_يا تِسْعَى إِنك تِحلْ المُشكلة اللي معطلاك،
يا تِبطْل كل يوم تِشتكي مِنها…انـــشَــفْ.
حديثه كان منارةً أضاءت قلبًا مُظلمًا فكانت شُعاعًا انشقع بعده الفجر الجديد حيث قام “إيـهاب” ووقف على عاقبيه بعد معاندةٍ مع الذات حتى يصل لما وصل إليه وقد وقف يُطالع باب غرفة شقيقه الذي ظل يهزي من الداخل ثم سحب نفسًا عميقًا وأخرجه على مهلٍ وقد جاء إليه كلًا من “مُـنذر” و “جـواد” فوقف هو بينهم مشتت الخطى والفكر حتى قال “جـواد” بثباتٍ ودعمٍ له:
_مش عاوزك تقلق، أنا و “مُـنذر” موجودين وهنكون مسئولين عن حالته مع بعض وهياخد حاليًا حقنه تهديه وينام شوية علشان بليل هيعمل تحاليل وفحوصات نتطمن بيها على وضع المُخ والحواس، صدقني أنتَ خدت القرار الصح يا “إيـهاب” واللي عملته دا كان أنسب حل لأخوك، أنتَ بتحبه وأكيد هدفك هيكون إنك تشوفه كويس وبخير، وهنا هو هيكون بخير، ووعد أخوك أمانة في رقبتي.
أومأ له بقلة حيلة وإنكسارٍ بدا جليًا رغم محاولاته المُميتة في إخفاء حال قلبه لكن عيناه كانت تُفصح عنه وعن قلبه الميت بين أضلعه، أما “مُـنذر” فهو تحرك من مكانه وولج غرفة “إسماعيل” ثم جلس أمامه على رُكبتيه ورفرف بأهدابه ثم تنهد بثقلٍ وقال برفقٍ يمسح فوق قلبه ورأسه بكلا كفيه حينما طالعه “إسماعيل” بخوفٍ وانكمش على نفسه، لكن رفق “مُـنذر” معه جعله يطالعه وهو يرتعد، فقال الآخر بوجعٍ لرؤيته لرفيق العمر بهذا الوضع المأسوي:
_عارف إنك خايف منهم، بس فاكر لما في الحارة كانوا العيال بيجروا وراك وكنت بتفضل تنط من بيت لبيت علشان تهرب منهم؟ مش كنت أنا باجي وأنشن عليهم بالنبلة؟ دلوقتي أسمع كلامي وأنا هنشن عليهم برضه، بس اسمع كلامي، اتفقنا؟.
كان يخدعه بصريًا وهو يتحدث معه كي يستطع أن يكشف ذراعه ويحقنه بالإبرة الطبية، وقد سقط “إسماعيل” في فخه اللين وأولاه كامل تركيزه وقد جلس حقًا بصمتٍ يُطالع وجه “مُـنذر” حتى خمدت ثورته تمامًا واختفى صوته وأُسدِلَ ستار جفونه فأطبقت فوق بعضها، بينما “مُـنذر” ضغط على الزر المتصل بالخارج فولج له الطاقم الطبي وحينها عاونوه في رفع جسد “إسماعيل” فوق الفراش؛ وجلس هو أمامه يرمقه آسفًا ونادمًا ثم مال يُلثم جبينه ويمسح فوق صدره..
أما بالخارج فهرب “إيـهاب” من المكان وخرج من الرواق بخطواتٍ واسعة وهرول كأنه ينجو بنفسه من ضعفٍ إن وقع فيه لن تقوم من جديد قيامته، لذا خرج من الباب الزجاجي الكبير لكنه تصادم مع “نَـعيم” أمام الباب؛ فكان الآخر لم يختلف عنه كثيرًا في الحال، لكنه كان يعلم قلب ابنه بماذا يُعاني ففرق ذراعيه عن بعضهما كي يرتمي إليه “إيـهاب” الذي ما إن رأى هذا العناق يرحب به، التحد به وألقى نفسه بداخله ومع ربتة هينة من كف “نَـعيم” فوق ظهره صرخ بوجعٍ كما الخيل حينما يُطلق الصهلة الأخيرة قبل أن يخر راكعًا في ميدان الحرب..
لكن الخيل الأصيل سيبقى أصيلًا
ومهما أُرهِقَ سيقوم ويدير الحرب من جديد،
هذا هو الخيل المعروف بالقوةِ مهما حار عليه
الزمان يظل هو العنيد، الخيول دومًا تثور وتقوم،
ولا يفعلها من بينهم إلا ذاك الأصيل..
____________________________________
<“لا تُغلق النور في دربي المُظلم، يكفي أني ضرير”>
في بعض الأحيان لا ينفع الضوء الساقط في الدرب
إن كان من يسير فيه ضريرًا، وأكثر تلك الدروب المُظلمة تلك التي تسحبك نحو ذكرى أليمة رغمًا عنك وعن أنفك؛ ثم تدفعك عند أولى الخطوات كي تستقر بعمق الذكريات وتبقى هناك أسيرًا وحدك دون أن ينفك الأسر، لكن تذكر أن ربما يعود لك بصرك في منتصف الطريق فلا تُغلق الضوء على نفسك، حتى تستطع أن تنجو من دربك المُظلم..
كان ولازال صامتًا بغير كلامٍ، فقط نظراته هي التي توصل ما يود إيصاله من خلال عينيه الناطقتين بسهامٍ لم تكن حادة بقدر ما كانت مُتألمة، فكان السهم ينطلق من عينيه يخترق قلوب أحبته بوجعٍ على عجزه هو، ولم يكن هذا سوى “سـراج” الذي تسطح الفراش يُطالع سقف غرفته بهزيمةٍ ساحقة متمنيًا أن يسقط هذا السقف أن يسقط عليه ويُنهي حياته التي يتعذب بها فقط، من يراه من بعيدٍ يحسبه نائمًا نومةً هنيئة وفي الحقيقة كان مهزومًا يبحث عن مخرجٍ من متاهات عقله، هذا الذي كان يُرشد كل التائهين؛ اليوم تاه في عقله ومتاهاته تُضيق عليه الخِناق..
فُتِح الباب بحركةٍ هادئة تبعتها طلة “نـور” عليه من على بعدٍ ولم يشعر هو بها وهي تتحرك وتقترب منه، فأغمض عينيه حينما تذكر صوت الباب الذي كان يُفتح فتلاحقه القهرة بعدها، أما هي فحسبته نائمًا لذا تسلحفت في خُطاها وهي تتجه نحو النافذة تُغلق الستائر ثم عادت تُغلق الأضواء كي يهنأ _حتى لو صوريًا فقط_ في نومته؛ لكنها لم تظن أن ينتفض من نومته بتلك الطريقة ثم يلهث بأنفاسٍ متقطعة أوقفت سيرها فتحرك هو نحوها يهدر بصراخٍ حاد:
_أوعي تقفلي النور تاني، فـاهمة؟.
أومأت له بخوفٍ من صراخه الهادر وصياحه بينما سحب علبة السجائر ثم ترك الغرفة وخرج منها كأنه يهرب من دوامةً باغتته عند الشاطيء قبل حتى أن يصل لعُمق البحر، لذا خرج وجلس في الحديقة وسط الضوء والزرع والزهور بعدما لاذ بالفرار من الجميع لكنه لم يجد مفرًا من نفسه وما تفعله به..
في الخارج توقفت سيارة “إيـهاب” ومعه “نَـعيم” الذي أصر على رؤية ابنه الثاني وكأن الفؤاد أمسى مقسومًا بوجعٍ على طرفين كلاهما يحتاج للمعاونة كي يقف من جديد ويعتدل في سيره المائل، وقد كانت “چـودي” تجلس عند ردهة البيت تشاهد الهاتف في يدها وما إن لمحت “إيـهاب” انتفضت من مكانها وتذكرت تهديده لقتل خالها وفي تلك اللحظة ازدردت لُعابها بخوفٍ وركضت نحو الحديقة حينما لمحت “سـراج” جالسًا هناك يرتكن بجسده فوق المقعد..
ركضت بأنفاسٍ مُتقطعة ثم دست نفسها في عناقه وهي ترتجف بخوفٍ جعله يتعجب من حالها فأبعدها عن جسده يُطالعها بعجبٍ وغرابةٍ من أمرها وأمر ارتجافها حتى وجدها تبكي أيضًا أمام عينيه، فأحتضن وجهها بكلا كفيها يسألها بلهفةٍ قلقة:
_مالك يا حبيبتي، خايفة كدا ليه؟.
بكت أكثر وأشارت خلفها وهي تقول بصوتٍ مختنقٍ ومرتجفٍ:
_”إيـهاب” جه برة، وأنا خايفة منه علشان خاطري قوم من هنا خالص، مش عاوزاه يموتك.
توسعت عيناه وتجمدت أطرافه وقد أتت “نـور” في تلك اللحظة تقف بمحاذاة زوجها الذي حرك رأسه نحوها بعنفٍ وفي تلك اللحظة ولج “سـراج” بجوار “نَـعيم” فسكتت “نـور” عن الحديث بينما “چـودي” فزاد الخوف في قلبها أكثر فتمسكت بخالها الذي انتصب في وقفته وقال بحدةٍ بدت مُبالغة:
_هو إيه اللي حصل يخليها تخاف كدا؟ البت بتترعش وتعيط وخايفة منك ليه يا “إيـهاب”؟ هي دي الأمانة اللي كنت سايبهالك؟.
تألم “إيـهاب” وتوسطت الغصة حلقه وحرك عينيه نحو تلك الصغيرة التي كانت تخشاه كثيرًا وكأنه خذلها أمام نفسها وقد تكرر عتاب شقيقه له في سمعه بصراخٍ كأنه يقف بجواره:
_سيبتني ليه يا “إيـهاب”؟.
ترقرق الدمع في عينيه حينها ووجد نفسه يقترب منها ثم مسح فوق ظهرها وهي على ذراع خالها الذي لازال حائرًا في أمرهما فدفعت كفه بعيدًا عنها وهي تتمسك بعنق خالها الذي ضمها لصدره أكثر ثم هدر بعنفٍ حاد كأنه لم بعد يتحمل أكثر من ذلك:
_رد عليا حصل إيه يخليها تخاف كدا؟.
لم يجد “إيـهاب” مفرًا غير المُصارحة كي يُفيض بما في صدرهِ لذا قال بنبرةٍ جامدة أقرب للفراغ من الروح كأنها مُبرمجة على طبعٍ آلٍ:
_شافتني هنا وأنا بدور عليك وهددت إن لو طلعت أنتَ اللي عامل كدا في “إسماعيل” هقتلك ومن ساعتها وهي أكيد خايفة مني علشان كدا، بس دا كان غصب عني والله، كل السكك كانت مقفولة قدامي وأنا بدور عليه ومش لاقيه، كنت حاسس إن الروح هربت مني، فكرت إن ممكن يكون حصل زي اللي حصل قبل كدا لما كنت مسجون، لكن والله العظيم في نفس اليوم عرفت إنك متعملش كدا وروحت للحج قولتله إني مش قادر أصدق إنك تعمل كدا..
توقف عن الحديث ما إن لمح نظرات “سـراج” وهي ترشقه بنيرانٍ حادة وقد ارتخت قبضتاه فوق جسد الصغيرة فتركها فوق المقعد ثم سأله باستنكارٍ بالغٍ كأنه تلقى طعنة جديدة فاق أثرها كل الطعنات السابقة:
_هددت إنك تقتلني؟ يعني هو كان صح وحسبها صح، قال إنك هنا هتفكر إزاي تخلص مني وكل كلامه إنه اللي بيعمله فيا هناك أرحم من عمايلك أنتَ فيا لو شوفتني، طلع الغريب عارفك وأنا صاحبك معرفش عنك حاجة، كنت هناك بموت من القهرة على أخوك وبحاول أقف على رجلي علشان ألحقه وهما مركعني زي الكلب تحت رجليهم وآخرها تشك فيا وعاوز تقتلني، تصدق إنك قتلتني بجد بكلامك؟..
كان يعاتبه بكلماتٍ موجعة وكذلك أيدت النظرات حديثه المؤلم وقد كان في أوج الألم والغضب، بينما “إيـهاب” فتعاظم شعوره بالذنب مما فعل وظن لكن كيف يخبره أن ما بيده أي حيلٍ يملكها كي يتخلص مما هو فيه؟ كيف يخبره أن العمى أصابه ما إن خُطِفَ شقيقه من جواره، وحينما حاول أن يتحدث زاد “سـراج” من قوة عتابه بقوله:
_هونت عليك يا “إيـهاب” بعد كل دا؟ هان عليك اللي بينا والعشرة علشان متفتكرش ليا غير الوحش وتنسالي الحلو؟ هاز عليك تنصر الغريب عليا وتخليه مُتأكد إنه صح لما فكر كدا؟ هان عليك قلبي وأنا ماليش غيرك؟ عارف اللي وجعني منك إيه؟ إني كنت ناوي لما أخرج من اللي أنا فيه دا لو كان فاضل فيا النفس لسه إني أقولك أنتَ تجيبلي حقي منهم، بس مفكرتش إني هقف قدامك أفكر أجيب حقي منك إزاي، بس عارف اللي يوجع بجد؟ إني ماليش أخ يجيبلي حقي منك، كنت أنتَ أخويا دا..
وهُنا طُعِن “إيـهاب” بنفس السكين في منتصف قلبه وتألمت روحه وهو أمام صديقه الذي تنفس بحدةٍ ثم أولاه ظهره كأنه يُنهي النقاش بينهما، وما أن ناداه “إيـهاب” بصوتٍ بالكاد يُسمع، قطع عليه “سـراج” السُبل بقوله:
_خلصت خلاص، واعتبرها دي الناهية بينا، علشان لما الغريب يسألني عنك أقوله طلعت أنتَ صح، الوقت اللي الغُرب فيه كانوا بيدوروا عليا وقالبين الدنيا علشاني، صاحبي كان بيفكر إزاي يخلص مني وفاكرني قليل الأصل، قلة أصل بقلة أصل بقى، خلاص يا “إيـهاب” مالكش دعوة بيا تاني.
كان مُحقًا ولن يستطع أيًا منهم أن يلومه، وخاصةً حينما التفت يُطالع “إيهاب” بنظرة وداعٍ أخيرة وقرر أن يدخل البيت هربًا من هذه الأجواء التي حقًا مرت عليه بكل ثقلٍ، وقبل أن يختفي داخل البيت وجد “إيـهاب” يوقفه بصوتٍ مقتولٍ:
_النهاردة الصبح “إسماعيل” دخل مستشفى أمراض عقلية، وأنا بنفسي اللي دخلته هناك بعدما عقله طار منه، فاكر لما كان الحج بيقول إن هو العاقل اللي فينا؟ النهاردة أنا خدت العاقل دا أحطه في مستشفى مجانين علشان مبقاش فيه عقل خلاص، بس صدقني وكلمة تتاخد عهد عليا وعلى روحي، حقك هيرجع قبل ما أرجع حق “إسماعيل” كمان.
توسعت عينا “سـراج” وصُدِمَ حقًا مما حدث وقد عادت جروحه تؤلمه، كافة الجروح سواء الداخلية التي تتوسط قلبه أو تلك الخارجية التي تستقر فوق ملامح وجهه وجسده وكفيه، شعر كأن المواقف تُكَرر من جديد عليه وهو المهزوم من كل الجهات، لكنه لن يتغافل عن ظلمه لذا ولج البيت بعدما زاد حزنه أضعافًا على رفيقه، لكنه كان يعلم أن بعد ما مرا به سويًا أن رفيقه سيفقد عقله ويقف عند حافة الجنون، فهل يُعقل أن يقع عقلٌ بشريٌ تحت هذا الكم الهائل من الضغوط ولا يفقد السيطرة على نفسه؟..
رحل الصديق وأولاه الآخر ظهره والحال لم يوصف بأي كلامٍ، وكأن جل ما يتم به وصف الشعور المُقيت من خيانة الصديق كان قاسيًا في الوصف لكنه كان مُنصفًا لشعور أحدهما حيث يتم الاختصار في الوصف ببلاغة القول:
“كان صديقي وكنت أحتمي به،
ويوم أن طُعِنت في ظهري ونزف دمي،
ركضت له احتضنه كما اعتدت أن ألجأ إليه،
فوجدته يلومني على اتساخ ملابسه
بدمي ولم يلمح هو
روحي وهي تُنازع كي لا تُفارق جسدي”.
____________________________________
<“أتلك العيون التي كانت موطنك نسيتها في غربتك؟”>
تلك الأعين التي كانت موطنًا لكَ أتنساها؟..
تلك المُقل التي كانت تحتويك في عناقٍ كي تخفيك عن قسوةِ العالم قبل أن تصل لك أكان عدلًا منك أن تقسو أنتَ عليها وتنسى أمانك بها؟ أخبرني كيف أن أعبر عن هزيمتي منك، إن كنت أنتَ مَن يحميني من شر تلك الهزائم؟ أيعقل أن اليوم تصنع أنتَ الهزيمة بذاتها؟..
كانت في البيت حبيسة غرفتها تهرب من كل لومٍ وتقريعٍ وتكرارٍ لنفس الموضوع ذاته الذي يختص بزوجها، هربت والتحدت بغرفتها قبل أن تلمسها الأعين وهي في الداخل، جلست تمسك هاتفها وهي تُطالع صورتها معه في عقد القران وهما يشبكا كفيهما سويًا ويطالعا بعضهما البعض بنظراتٍ دلت على الانتصار على العالم، هرع الدمع مع عينيها حينما تذكرت كيف دفعها من طريقه وكيف نزع كفه عن كفها فجلست هي متقهقرة تُطالع انهزامه بهزيمةٍ ساحقة..
حركت عينيها نحو فستان زفافها المُعلق فوق المشجب الخشبي ثم اقتربت منه بخطواتٍ وئيدة ومدت كفها المُرتجف تلمسه ببطءٍ كأنها تلمس سرابًا، فهرع الدمع من عينيها وبكت وهي تقف أمامه ثم سقطت على رُكبتيها ببكاءٍ وهي تتذكر صوت صرخاته واستغاثته بشقيقه وكأن الصوت يخترق قلبها فيُدميه جراحًا، بكت وانتحبت حتى تقطعت أنفاسها فولجت لها “قـمر” التي استمعت لصوت بكائها وضمتها لعناقها ثم حاولت أن تُهديء نوبتها وفي تلك اللحظة رددت “ضُـحى” بصراخٍ وقهرٍ وهي تتمسك بذراعي أختها المحاوطين لجذعها:
_قهروني عليه مرتين يا “قـمر” طفوا فرحتنا قبل ما تبدأ، خدوه مني ومبقاش حتى فاكرني، كان زماني بحضر لفرحي معاه وإحنا مبسوطين، ليه نوصل لكدا وأشوفه قدام عيني بالحالة دي؟ ليه يرجع زي العيل الصغير من تاني، ليه ينسى اللي كان بيننا؟ دا أنا كنت عايشة علشانه هو، دلوقتي هو حتى ناسي مين أنا؟..
بكت معها “قـمر” التي شددت مسكتها لها وظلت تُربت فوق رأسها حتى انتحبت “ضُـحى” وبدأ البكاء يهدأ ولم يصدر منها إلا صوت الشهقات المُتقطعة، بينما في الخارج ضربت “أسماء” صدرها حينما وقف أمامها “يـوسف” يُخبرها بذهاب “إسماعيل” لمشفى الأمراض العقلية، وحينها بكت بشفقةٍ عليه وحزنٍ على ابنتها وهي تقول بقهرٍ:
_يا عيني عليك يابني؟ عيني عليكِ يا بنتي وعلى فرحتك، الصبر من عندك يا رب، الصبر والقوة على اللي إحنا فيه دا، أنا مش بعترض والله يا رب، بس صبر قلب الغلبانة دي، صبرها على فرحتها اللي اتسرقت منها ورد للغلبان دا حقه من تاني.
استمعت “ضُـحى” لحديثها من غرفتها فانتفضت وفكت نفسها عن عناق “قـمر” لها ثم اندفعت للخارج فوجدت “يـوسف” يقف بملامح مُكفهرة وحينها سألته بخوفٍ عن سبب حديث وبكاء أمها، ولأنه أضعف من هذا الفعل كي يجاوبها هرب من لقاء عينيها كأنه لم يملك حتى جوابًا، اقتربت منه وأمسكت مرفقيه وهي تتوسله أن يجاوبها ويرحم فؤادها المُعذب:
_علشان خاطري قولي حصل إيه، أنا مش حمل قلق تاني زيادة على قلقي يا “يـوسف” أبوس إيدك عرفني إيه اللي حصل، “إسماعيل” حصله حاجة طيب؟…
سألته بخفوتٍ وقلقٍ جعلا قلبه يتأثر لأجلها، فتنهد “يـوسف” ثم قال بنبرةٍ متعبة أعربت عن وجعٍ فاق كل الآلام في حياته كأنه لم يستطع أن يفعل أي شيءٍ سوى القول القاتل لها:
_”إسماعيل” النهاردة اتنقل للمستشفى بتاعة “جـواد” علشان يتعالج هناك، للأسف كل اللي ظاهر قدامنا إن “إسماعيل” حصله خلل في العقل ولازم يتعالج قبل ما يوصل لمرحلة الجنون الكلي.
فرغ فاهها وضاق بها المكان رغم وسعه، طُعِنت للمرة التي لا تعلم عددها وهي تقف أمامه والأرض تميد بها وتُحركها حتى كادت أن تسقط لكن “يـوسف” التقطها وحال بين سقوطها فعادت تستند عليه وهي تسأله بذهولٍ كأن عقلها وقع تحت وطأة الصدمة المُميتة:
_يعني هما طول عمره مخليينه مظلوم، ولما كبر وبدأ يعيش حياته خلوه مجنون؟ خدوا منه حياته وعمره ودلوقتي خدوا منه عقله؟ أجيب حقه منين؟ من أبوه ابن ستين *** اللي مات وغار في داهية، ولا من ناس أكبر مني ومنه بيدوسوا على اللي هما عاوزينه؟ أنصفه إزاي في دنيا كلها ظالمة؟.
حينها رق قلبه لأجلها فضمها في عناقه ومسح فوق رأسها ثم قال بنبرةٍ مماثلة لقهر قلبها وكمده الذي أدمى القلوب المُشاهدة:
_اشتكي لربنا، صدقيني مالناش غيره مهما حصل، ادعي ربنا يردله حقه ويرده ليكِ من تاني أحسن من الأول يا “ضُـحى” دي محنة وهتعدي برحمة ربنا بس إحنا مفيش في أيدينا حاجة غير إننا نسلم أمرنا لرب العالمين وهو وحده يدبر الأمر.
كان يحدثها بنفس حديث “أيـوب” حينما كان يُصبرهم على البلاء ويخبرهم أن الأمر كله للخالق وحده وليس لنا من الأمر شيئًا، كان يعلم أنها في أشد الحاجة لحديثٍ يرأف بها ويمسح فوق قلبها؛ ففعل على الرغم من حاجته لهذا الشيء حتى ولجت “عـهد” أمه وحينها تعلقت عيناه بكلتيهما كأنه يؤكد لعقله أن هناك سببٌ للحياة، فلا داعٍ للخوف من الذكرى..
____________________________________
<“لو كنا نعلم أن الهزائم في المنتصف ما كنا خطونا”>
هذا الطريق خُضناه نحن طواعيةً منا لو كنا نعلم أن الهزائم كانت في منتصفه من المؤكد كنا تراجعنا منذ البداية قبل أن نطيء بأقدامنا ونبقى هناك عالقين في المنتصف بين أمرين لا مفرٍ منهما، فإما الهزيمة في المنتصف،
وإما الخسارة في النهاية لطريقٍ دمر خُطانا..
بيت “العطار” في الحديقة الداخلية..
كان “أيـوب” يجالس أفراد أسرته وابن شقيقه يستقر فوق فخذه كما اعتاد دومًا أن يكون على مقربةٍ ووصالٍ من عمه الذي كان يضمه بكلا ذراعيه وقد أخبرهم عن حمل شقيتقه في نُطفة جنينها وأخبرهم عن انطفاء فرحتها وعدم نشر الخبر فأتاه التقريع من شقيقه الكبير بقولٍ مندفعٍ:
_ولما هي حامل وتعبانة سيبتها هناك ليه يا “أيـوب” في الظروف دي؟ مين هيخلي باله منها وأنتَ عارف أختك مبتحبش تشيل حد همها كأنها مش موجودة أصلًا، دي لا هتاكل ولا هتخلي بالها من نفسها ولا حتى هتقدر تنطق لو محتاجة حاجة، طالما جوزها قالك خدها كنت خدتها ونراعيها هنا، أهو الست “وداد” تخلي بالها منها هي و “نِـهال” هما الاتنين مع بعض.
ساور الضيق “أيـوب” لكنه لم يُبدِ ذلك؛ فقال بصوتٍ هادىءٍ:
_علشان معاها جوزها هناك مش لوحدها، وعلشان كلامها هي صح مينفعش في ظرف زي دا تسيب البيت وحماها وتمشي، محدش هناك أصلًا يعرف غير جوزها وبس يا “أيـهم” عاوزني أخدها وآجي؟ طب شكلها هيكون قدامهم إيه؟.
حينها اندفع “أيـهم” وقال بنبرةٍ جامدة كأنه حقًا لم يكترث:
_وأنا هعمل إيه بقى بشكلها قدامهم وهي تعبانة؟ مين هناك هيخلي باله منها ومن أكلها؟ الست “تحية” اللي رقدت من حزنها ولا مرات “إيـهاب” اللي على دراعها عيلة صغيرة ولا مين هناك هيراعي واحدة حامل في أول شهور حملها؟ دا حتى “تَـيام” مش ملاحق هناك وخليناه يبطل شغل لحد ما الدنيا تهدا شوية.
لاحظ “عبدالقادر” جدية حديثه لكنه كما اعتاد أن يكون متعاونًا لذا سحب نفسًا عميقًا محاولًا ألا ينجرف خلف الفرحة الخاصة بابنته ثم قال بهدوءٍ وحكمة عقلٍ:
_معاهم حق يا “أيـهم” على الأقل في الظرف دا، عاوز أختك تمشي من هناك ولا تجيب سيرة الحمل إزاي وهما كلهم تعبانين على الغلبان دا هو وأخوه واللي حصل فيهم؟ هي هناك معاهم والأحسن متجيبش سيرة خالص بالحمل دا علشان مش هيقدروا يفرحوا في الحالة دي وهيكون حِمل زيادة فوق حملهم، علشان كدا خليها معاهم وطالما هي في الشهر الأول لسه أمرها سهل.
أيده في الحديث “أيـوب” وكذلك تفوهت “نِـهال” تؤيد حماها في الحديث بقولها الذي بدا رزينًا ومؤكدًا لقرار الجميع عدا زوجها الذي تأكله النيران إذا مس الأمر أخوته:
_معاهم حق يا “أيـهم” بصراحة وأنا شايفة إن قرارهم كلهم صح علشان دي الأصول وأكيد مش هتقبل إن أختك يتقال في حقها كلمة وحشة، طالما مش هتجيب سيرة الحمل تقديرًا للظرف يبقى ملهاش لازمة تثير مشاكل وجدل وخلاص، ربنا يراضيها ويقومها بالسلامة، بس خلوها على راحتها أفضل.
وجد نفسه وسط الجميع غير مُرحبٍ بحديثه فزفر بقوةٍ ثم انتصب في وقفته وقد مرت من جواره “وداد” مدبرة بيتهم فأوقفها بقوله الصارم الذي بدا غير قابلٍ لأي نقاشٍ:
_ست “وداد” معلش أبقي كلمي بنت أختك تيجي مكانك هنا وأنتِ هتبقي تروحي لـ “آيـات” تفضلي معاها يومين في الأسبوع تساعديها والعربية تحت أمرك هتوديكِ وتجيبك مكان ما تحبي، لو مش عاوزة عرفيني، بس بنتك حامل وأنا مش مآمن عليها لوحدها.
ابتهجت ملامح المرأة فورما سمعت هذا الحديث وقد ترقرق الدمع في عينيها بمجرد أن علمت بخبر حمل ابنتها التي لم تنجبها ومن شدة فرحتها قالت بصوتٍ مختنقٍ من فرط الحماس:
_ودي تيجي برضه؟ دا أنا أروح لحد عندها مشي واحطها في عيني كمان، من غير ما تقول حاضر هروحلها وأكون معاها من دلوقتي كمان لو تحب، دي الغالية بنت الغالية وفرحتها عندي بالدنيا كلها، بس مش واجب برضه هي تيجي هنا نراعيها؟.
ابتسم هو لها بقلة حيلة ثم تفوه بيأسٍ وإحباطٍ:
_هنعمل إيه بقى الظروف، الحمدلله على كل حال، وقت بس لما أظبط الدنيا والوضع هناك يهدا هبعتك تقعدي معاها يومين، الحمدلله على كل حال بس كان نفسي الفرحة تكون فرحتين بمراتي وأختي مع بعض، ربنا ينتقم من اللي كان السبب.
طالعوه جميعًا بحزنٍ تضامنًا مع حزنه وكأن هذا الوضع أصبح ثقيلًا عليهم، فما أصعبها من تلك المشاعر التي تجبر المرء على إخفاء فرحته لأسبابٍ لم يكن له أي تدخلٍ بها، كان الحال غير مرضيٍ لهم لكنهم رضوا وحمدوا ربهم على كل الآلاء والنِعم..
تحرك “أيـوب” من جلسته كي يذهب لعمله لكن صوت والده أوقفه حينما باغته بسؤاله الذي لم يتوقعه “أيـوب” منه:
_هي “قـمر” هتفضل هناك كتير؟ مش هتيجي.
التفت له يجاوبه بتيهٍ وغرابةٍ بسبب السؤال:
_مش عارف والله يا بابا بس مش عاوز أقولها ترجع وتسيب أختها في الظرف دا، خليهم على راحتهم وهي ترجع براحتها علشان “ضُـحى” متزعلش كفاية اللي هي فيه، ربنا يقويها ويمدها بالصبر والتحمل.
أومأ له “عبدالقادر” بحزنٍ ثم تنهد بثقلٍ وقال:
_عين العقل يابني، ربنا يكرمك ويرزقك بالخلف الصالح طالما أنتَ مقدر الوضع وشايل خاطر الناس وعامل حساب حزنهم وفرحهم، ربنا يقدرك أنتَ كمان ويبعد عن طريقك الشر.
ابتسم له “أيـوب” ثم ودعهم وخرج من البيت، بينما “عبدالقادر” فحاول أن يطوي حزنه ووجعه وخوفه على ابنه وزوجة ابنه والسبب الأكبر في ذلك هو غياب رأس الأفعى “سـامي” الذي منذ أن أختفى وتلك الكوارث لا تنفك عن رأسهم، فياليته يظهر وتُعرف أين هي أراضيه كي يسقط فوق رأسه الشباك كي يقع أسيرًا في الفخ..
____________________________________
<“هي عنوان جديد للحياة، فقط سِر نحوه”>
بعض العناوين قد تكون هي السبب في العيش..
وقد تجد تلك العناوين سببًا للحياة من جديد، لذا كل ما يتوجب عليك فقط فعله أن تسير نحو الطريق الذي لمحت بعنوانه عبارات الحياة، عليك أن تسلك تلك الطُرقات التي تجد بها ذاتك وحياتك، عليك أن تتجه نحو لافتة قلبك أينما كانت اتجاهاتها..
كان “نـادر” جالسًا في وكالة “عبدالقادر” يتابع العمل بدلًا من “تَـيام” الذي انشغل في ظروف بيته وعائلته، فقرر أن يقوم هو بكلا الدورين كي لا يُقصر في العمل، وكأنه يقوم بدوره عوضًا عن أفعال أبيه المُشينة التي تُلصق به بعض التُهم التي لن يستطع هو نفيها عن نفسه إلا بعملٍ دؤوبٍ يفرغ عن صورته أي تهمٍ تجعله محط الأنظار في منطقةٍ غير آمنةٍ…
تحرك من موضعه ووقف على أعتاب الوكالة يفكر في ملامح “حنين” وخوفها منه ما إن عرض عليها الزواج منها وكيف تبدلت ملامحها وحاولت أن تصرفه عن طريقها لكنه كان الأقوى في تمسكه بها قبل أن تختفي من طريقه وتتركه بعد أن وجدها أخيرًا، وقف يتذكر ملامحها الرقيقة التي تملك ميزة لا يعلم أين مكمنها تحديدًا لكن يبدو أن عينيها هي التي تفعل تلك الأفاعيل به لذا هو يجد ضعفه عندها هي بدلًا من القوة..
تذكر النمش المنثور كما حبات اللؤلؤ في وجهها وعينيها الصافيتين دومًا بضحكةٍ تخترق جدار قلبه فتجعله راكعًا عند أعتابها يطرق الباب بكامل قوته، وقف يبتسم بهدوءٍ ووضع كلا كفيه في جيبي بنطاله ثم رفع رأسه للأعلى يبحث عن المتسع وقد مر والدها من جواره قبل أن يذهب لعمله ولمحه “نَـادر” الذي ترك موضعه ثم اقترب منه؛ فابتسم الآخر له وقال ببشاشة وجهٍ حين قال:
_ سيادة القبطان؟ مسائك عسل أخبار صحتك إيه دلوقتي؟.
ابتسم له وقال بصدقٍ وامتنانٍ في عينيه:
_بعد كرم ربنا عليا الفضل يرجعلك في اللي عملته ورعايتك ليا في مرضي وفضلت تساعدني كمان في العلاج الطبيعي فالحمدلله بعد فضل ربنا وكرمه ليا بفرصة تانية، واجب عليا أشكرك.
ابتسم له الرجل ثم ربت فوق ذراعه وهو يقول بحبٍ له:
_دا شغلي يابني مش هتشكرني عليه، وأنتَ والله طيب وتستاهل كل خير والحمدلله إنك وقفت من تاني بعد كل اللي حصل وربنا يعوضك خير في صحتك وشبابك ويجعله في ميزان حسناتك.
في تلك اللحظة قرر أن ينصت لحديث “أيـهم” ويأخذه المثل الأعلى له في كل شيءٍ فقال بثباتٍ بعدما برمج الحديث في عقله قبل أن يتفوه به:
_بما إنك جيبت سيرة العوض بقى، فأنا ربنا كرمني ونور بصيرتي ولقيت العوض عندكم، وعاوز آجي أطلب أيد “حنين” منك وتكون هي العوض ليا عن اللي فات كله من غيرها، موافق أجيب الخال وولاده ونيجي ولا الدعوة من ورا قلبك؟.
تعجب الرجل من حديثه وبدا أثر الكلمات جليًا فوق ملامحه وفي نظرات عينيه حينما أضاءت بوميضٍ خاصٍ ما إن ذُكِرَت ابنته وحينها سأله يتأكد من الحديث:
_بنتي أنا؟ “حنين” !!.
_أيوة يا عم “عاشور” هو في غيرها؟ أنا عاوزها هي تكون زوجة ليا وتشاركني العمر الجاي وتعوضني وربنا يقدرني وأعوضها أنا كمان عن اللي فات واللي سبق وحصلها قبل ما أوصل حياتها، المهم أنتَ موافق؟.
هكذا جاوبه وانتظر منه الرد الذي ما بين الثانية والأخرى وضعه بين المطرقةِ والسندان وهو في انتظار الرد الأكيد، بينما الأخر فابتسم بسعادةٍ لم يقدر على إخفاء أثرها من عليه، وجد نفسه يضحك بملامح مبتهجة ما إن تم عليه عرض هكذا لابنته التي عانت كثيرًا في حياتها رغم صغر عمرها وقد جاوبه بحديثه المُرحب قائلًا:
_والله يابني أنتَ تشرف أي حد كفاية إنك تبع الحج “عبدالقادر” وكفاية برضه إنك أصيل ومش ناكر الجميل، بس متآخذنيش في الكلام هاخد رأيها هي الأول وهرد عليك وربنا يقدم اللي فيه الخير، يسعد صباحك يابني ويكرمك ويناولك ما في بالك يا رب.
ابتسم له “نـادر” واستبشر خيرًا من رد الفعل وتيقن من أولى خطواته نحو الطريق الصحيح الذي سيوصله بها ويجمع بينهما، فإن كانت هي سبق وناولته أولى الخطوات الآن والدها يكمل ما بدأته هي، لذا ودعه وولج لعمله من جديد ثم أخرج هاتفه يطلب رقم أمه التي ما إن جاوبته وجدته يسألها براحةٍ غريبة قلما تجدها في صوته:
_بقولك إيه يا تونة ما توجبي معايا وتعمليلي صينية جُلاش، واحدة حلو وواحدة حادق علشان نفسي فيه بصراحة.
تعجبت هي من مطلبه لكنها ضحكت بسعادةٍ لكونه تخطى تلك المسافات التي كانت تفصل بينهما ثم أخبرته عن قيامها بالأمر لأجله ولأجل إسعاده، بينما هو زفر بقوةٍ ما إن لمح صورة والده التي كان يضعها بخلفية هاتفه وهو يقف بجواره ضاحكًا بسعادةٍ، فبدا الأمر وكأن السحر أُزيل عن عينيه وعاد يرى الوضع كما هو بصورته الحقيقية، لذا قام بحذف الصورة وبدلها بأخرى كانت لخاله “مصطفى” وهو يجلس حاملًا فوق فخذيه “قـمر” وخلفه يقف كلًا من “يـوسف” و “نـادر” كلًا منهما على طرفٍ..
ابتسم بحنينٍ لصورةٍ جعلت البكاء يظهر من عينيه فتنهد كي يردع تلك العبرات ثم لثم تلك الصورة كأنه يُلثم خاله الذي ما إن وجد أثره بداخل قلبه عاد يحيا من جديد وقلبه ينبض للحياة بعد أن كاد يموت ميتة أكيدة يفقد فيها أثر الحياة والإنسانية..
____________________________________
<“تلك الخطوة الأخيرة هي ذاتها البداية الجديدة”>
تلك الخطوة التي سُميت بالخطوة الأخيرة كانت هي بذاتها البداية الجديدة، البداية نحو طريقٍ لم نكن نعرفه لكن كان يتوجب علينا أن نخرج من الطريق السابق بشق الأنفس قبل أن نلفظ آخرها في طريقٍ خاطيءٍ يُحسب علينا من أيام عُمرنا، ولأن السقطة القوية هي التي تملك الأثر الأكبر في الوقوف، عليك أن تتحمل تلك السقطة..
كان يجلس في تلك السيارة التي قام باستئجارها كي يقوم بعمله المطلوب منه، فانتظر ظهورها من جديد كي يُنهي مراقبتها وقد أصابه الملل وساوره حتى أخرج سيجاره ينفث الهواء منه بضجرٍ جعله يتضرر من جلسته تلك التي لم تُسفر عن أي شيءٍ حتى لحظته تلك..
صدح صوت هاتفه برقم صديقه فسبه بسبةٍ نابية من بين شفتيه ثم خطف الهاتف وهو يقول بنبرةٍ جامدة كأنه ينقل ضرره لمن يحدثه:
_إيه يا زفت أنتَ؟ أديني قاعد مستني المحروسة الشمامة في بار بقالها فوق الساعتين، ومش فاهم المطلوب مني أعمل إيه طيب، أقوم أجيبلها سطرين تشدهم ولا أهبب إيه يا “مُـنذر”؟.
تنهد الآخر بثقلٍ ثم مسح فوق وجهه وقال بقلة حيلة:
_خليك متابعها يا “باسم” وخليك وراها لحد ما نشوف هيحصل إيه، البت دي تقريبًا بتتعامل مع ديلرات كتيرة ودماغها مش واحدة، وبصراحة فيه كتير موصييني عليها منهم عمي نفسه، معلش خليها عليك وشوفلي آخرها إيه، بعدين مش يمكن تعملك مقال وأنتَ قاعد وتديه لحد ينزله زي ما بتعمل، دي قضية مش سهلة برضه، مصر شبابها كلهم دماغهم بقت عالية.
كان يتحدث بلمحة سخريةٍ جعلت نيران الآخر تخمد قليلًا وأذعن له يعلن الخضوع ويخبره عن موافقته بهذا الحل وأن يحاول أن يُخضع كل الأحوال لصالحه هو، وقد عاد يتربص بعينيه ويراقب المكان وبابه حتى وجدها تخرج من المكان وتقف عند مقدمة السيارة وتستند بجسدها عليها، فتأهبت حواسه وهو يراها تُدلك ذراعيها بقوةٍ؛ فابتسم بسخريةٍ وهو يقول:
_طبعًا عاوزة تعلي، يخربيت أمثالك يا بعيدة.
هو طوال عمره ذاك العصامي الحُر الغير مقيد،
هو الطير الغاضب وسط سربٍ خاضعين، لذا يكره هؤلاء الذين يسيرون خلف القطيع ويتبعون نهج الضعف، يكره أمثالها المُغيبين بكل طواعيةٍ منهم، يكرهها هي بعين الاختصار وكل من هم على شاكلتها من تلك الطبقة المخملية الاستقراطية…
خرج من حالة مقته لها على ظل أحدهم يقترب منها فضيق عينيه بقوةٍ كي يلمح ما يحدث بينهما فوجدها تدس في كفه الأموال وهو يبحث في حقيبة كتفه الصغيرة عن مبتغاها حتى ناوله لها فاختطفت هي الكيس منه وتحركت دون أن تأخذ بقية المال، حينها عاد الشاب للداخل بينما هي ولجت سيارتها دون أن تحكم إغلاق بابها وقد أخرجت الكيس تضعه عند زجاج السيارة ثم اقتربت تسحب ما فيه بفتحة منخارها لكن قبل أن تفعلها فُتِح باب السيارة…
انتفضت “نورهان” بموضعها وأجفل جسدها إثر تلك المفاجأة وقبل أن تتحدث بخوفٍ وجدت هذا الشاب الذي جلس بجوارها يمحو محتويات الكيس الصغير بمحرمٍ ورقي حتى توسعت عيناها بينما هتف “بـاسم” باستفزازٍ ثم تفوه بنفس ذات الطريقة:
_لامؤخذة يا عسلية، عندي أنا دي.
أنهى الحديث وقبل أن يظهر رد فعلها وصلت سيارة الشرطة للمكان بغير حسابٍ منه أو منها، وحينها توسعت عيناه هو تلك المرة ثم صرخ فيها بصوتٍ هادرٍ وهو يقترب من مُحرك السيارة بعيد تشغيلها:
_يخربيت أمك أنتِ لسه هتبصيلي، أمشي من هنا.
أنهى حديثه وهو يقود السيارة بدلًا عنها وعيناه تتبع الطريق، بينما هي بجواره لم تفهم أي شيءٍ ولآخر لحظةٍ كانت تحسب نفسها في حلمٍ أو ربما هذا ضمن واحدٍ من برامج المقالب التلفزيونية لكن يبدو أن تلك هي الخطوة الأولى نحو طريقٍ مجهولٍ…ومن يعلم أثر المجهول في حياةٍ كانت هي بذاتها مجهولة الهوية والملمح؟.
____________________________________
<“إن كان الحق معروفًا فلا داعٍ للمفر منه”>
لا مفر من الحق إن كان قلبك يصدقه..
لا مقر من شعورٍ تراقص فوق أوتار فؤادك وأنتَ تستمع للحنه وتصدق ذاك الإحساس المنبثق منه، لا مفرٍ من كلماتٍ رددها لك الفؤاد فحفظها العقل ولم يبخل أيًا منهما عليك بها، وإنما حفظتها أنتَ وانتهت الحكاية بحقيقةٍ مُصدقة من القلب..
في المساء حينما تختبيء الطيور داخل بيوتها، ستجد هؤلاء الأحرار يتجولون كيفما يحبون ويحققون ما يريدون، وهي منهم تحركت نحو المكان الذي ترغبه وتحبه وتفضله، ولأنها عاندت وأبت أن تستمع لحديثٍ كان يفرض عليها الجلوس في محلها..
تحركت “جـنة” نحو البيت وقبل أن تخطو نحو الداخل وجدت أحدهم يقتحم موضعها ثم هدر بنبرةٍ جامدة يعنفها على فعلها:
_أنتِ غبية ليه ومبتسمعيش الكلام؟ مش قولتلك مفيش نزول ولا مرواح المكان الزفت دا تاني؟ شكلك دماغك ناشفة وغاوية عند وخلاص يا “جـنة” وأنا مش هغلب فيكِ، بس أعملي حسابك تخرجي تاني لوحدك وتنزلي وجو الدلع دا صدقيني مش هسكتلك، أنا عمال أحوشلك كتير وأنتِ غلطاتك كتيرة وكبيرة ومش هعديهالك وهتتحاسبي عليها لحد ما تتظبطي..
عند هذا الحد وكفى، طفح كيلها وهي تستمع لحديثه الوقح ولطريقته الغير مهذبة معها كأنها فتاة ساقطة بغير أهلٍ، لذا اتقدت نظرات الشر في عينيها وهي تعنفه بقولها:
_احترم نفسك أحسنلك وكلمني كويس، قولتلك قبل كدا مباخدش رأي حد غير أهلي، أنتَ مجرد واحد غريب عني ودبلتك دي مغيرتش حاجة في حياتي غير أني بس مستنية وخلاص سواء الخلاص أو النصيب، بس ياريت تبعد عني وتلتزم بالحدود، مش برضه حضرتك شخص ملتزم وعارف ربنا؟ عارف أنتَ الحاجة اللي تكسف بجد؟ أنك محسوب شخص ملتزم وأنتَ أبعد ما يكون عن كل دا، حرام “أيـوب” يتحمل ذنب واحد زيك ماشي يقول إنه تلميذه وهو بيسيء له وبيسيء لكل شخص ملتزم..
في تلك اللحظة جحظت عيناه للخارج وكاد أن يقترب منها كي يصفعها فوق وجهها حينما لمح الجُرأة في عينيها وقبل أن تنكمش على نفسها وتعود للخلف أتى من يُحصنها حيث وقف “مُـحي” يصد عنه هدف حركته وطالعه بنظراتٍ حادة أرشقها له جعلت الآخر يحاول أن يبعده عنها، فسأله “مُـحي” بهدوءٍ غريبٍ:
_أنتَ عاوز تعمل إيه يا أخ أنتَ؟.
_وسع أنتَ دي خطيبتي وبأدبها، أنتَ مالك أنتَ؟.
هكذا رد عليه “مهند” باندفاعٍ جعل “مُـحي” يرفع رأسه بشموخٍ ثم التفت يطالع عينيها فوجدها تبكي رغمًا عنها من سخافة وضعها وخبال موقفها وفي تلك اللحظة التفت يجاوب بتحدٍ سافرٍ كأنه حقًا يتعمد أن يتخطى كل الخطوط الحمراء:
_لو أنتَ خطيبها، فأنا اللي هكون جوزها إن شاء الله، ودا أولًا يعني، ثانيًا بقى مراتي محدش يرفع عينه فيها ولا يفكر يمد أيده وأنتَ عملت الاتنين فندخل في ثانيًا بقى..
أول الأمر كلمة، أما ثانيه فهو عند المُتكلم..
وياليت كل الكلام مثل البدايات، حيث هناك بعضها
يشبه حروب النهايات..
