![]() |
رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل السادس عشر بقلم فاطيما يوسف
في تلك الليلة المظلمة جلس "سيف" في غرفته الضيقة التي باتت تضيق عليه بما رحبت، لا يراه أحد ولا يسمع أنينه أحد، سوى جدران صماء امتلأت بصدى حقده المتراكم، كانت عيناه تقدحان شرراً، تلمعان ببريقٍ مريضٍ، بريق رجلٍ لم يعد يطيق أن يرى غيره سعيداً، ولم يعد يقوى على احتمال فكرة أن يبقى هو الظل بينما يسطع غيره بالنور، راح يقلب في هاتفه كالممسوس، يراجع عشرات المرات ذلك المقطع الذي سجّله خلسة لـ"آدم"، كأن النظر إلى الشاشة يغذي نيرانه الداخلية، ويمنحه لذة شيطانية تدفعه إلى المزيد من الكيد،
لم يكن "سيف" رجلاً عادياً في عداوته، بل كان يحمل في صدره عقارب تنهش قلبه نهشاً، منذ زمن وهو يراقب "آدم" بحسد دفين، يغتاظ من حب الناس له، ومن نجاحه في عمله، ومن ذلك الصفاء الذي يبدو على ملامحه كلما ذُكرت زوجته "مكة" أو ابنه الصغير "أنس"، كان "سيف" يتقلب بين مشاعر الغيرة والحقد، ثم يبرر لنفسه أن الانتقام حق مشروع، وأنه سيعيد التوازن بإسقاط ذلك الذي يراه متعالياً عليه وإن لم يتعالى،
أرسل له رسائل تهديد متكررة، بصوت مسجل على البرنامح لايشبه صوته كي لا يعرفه، مرتعش من الحقد، ومرة بكلمات مقطعة يغلفها الزيف، يطالبه أن يخضع، أن يخاف، أن يتوسل إليه بأن لا ينشر ذاك المقطع غير أن "آدم" كان يتلقى رسائل ذاك المجهول ثابتاً، مطمئناً، واثقاً أن سرّه في مأمن، فقد كان قد أخبر "مكة" بما جرى منذ اللحظة الأولى، فلم يترك لخصمه ثغرة ينفذ منها، هذا الاطمئنان ألهب قلب "سيف"، إذ لم يتخيل أن يكون التهديد بلا أثر، وأن يقف أمامه رجل ثابت لا ينهار أمام ابتزازه،
جلس "سيف" تلك الليلة وهو يضرب بقبضته على الطاولة، كمن يحاول تفجير غضبه في الخشب، أخذ يردد بينه وبين نفسه كلمات ملتهبة:
ـ إزاي الواد ده يتجاهلني كده؟ إزاي عنده الجرأة ميخافش من الرسايل والفيديوهات دي ؟و أهدده وما يخضعش ليا؟ ألمّح له بسقوط القناة وأهدده بعلاقته بمراته وهو يبتسملي باستهزاء؟ لا والله، عمره ما هيتهنّى بعد النهاردة، أنا هخليه يدوّق مرارة الفضيحة قدام الدنيا كلها، وهوريه إن "سيف" مش لعبة.
رفع هاتفه، وبدأ ببطء يكتب أوامر النشر لذاك الفيديو بعدة صفحات وهمية لاتشير إلى معرفته إطلاقاً ، أصابعه ترتجف، ليست من خوف بل من شوق غريب للحظة الانتقام، كان قلبه يخفق بقوة، وعقله يلح عليه أن لحظة الخلاص قد اقتربت، وأن ثأره سيتحقق،أرسل الفيديو إلى مجموعة من الحسابات الوهمية التي أعدها خصيصاً لهذا اليوم، ثم دفعها دفعة واحدة إلى فضاء مواقع التواصل، حيث لا عودة ولا ندم، وما إن ضغط زر الإرسال حتى شعر بنشوة عارمة، نشوة أشبه بما يشعر به مجرم يطلق رصاصته الأولى.
أما "آدم"، فكان في تلك اللحظة يجلس في هدوء بعد يوم طويل من العمل، يحتسي كوباً من الشاي ويتأمل صور ابنه "أنس" في هاتفه، لم يكن يعلم أن السم يزحف إليه من حيث لا يدري، وأن النـ.ـار التي أشعلها ذاك السفيه ستطرق بابه بعد لحظات، رنّ هاتفه فجأة بعشرات الإشعارات المتلاحقة، رسائل من أصدقاء، مكالمات لم يكد يستوعبها،
فتح أول رسالة فإذا بعينيه تصطدمان بالمقطع المشؤوم وقد انتشر في كل مكان، ووجد اسمه يتردد على الألسنة كما لو كان لقمة سائغة في أفواه الناس، ارتجف قلبه للحظة، لكنه سرعان ما نهض واقفاً، كمن يحاول أن يستجمع قواه، شعر بحرارة الغضب تجري في عروقه، غضب ليس على نفسه بقدر ما هو على ذلك المجهول الذي تجرأ ونشر، وعلى ذلك الوجه الخفي الذي ظن أنه قادر أن يعبث بحياته وأسرته،
راح "آدم" يتمشى في الغرفة بعصبية، يمسك رأسه بيديه، يضغط على جبينه كمن يحاول منع انفجار داخلي، قال في نفسه:
ـ مين اللي يجرؤ يفضحني بالطريقة دي؟ أنهي نفس خبيثة دي اللي تفتري عليا وتنشر حاجة عارفة إنها كلها كدب وافترى؟ هو ما فيش في قلبه حبة رحمة؟ هو إيه السعادة اللي هيلاقيها لما يشوف وشي على الشاشات واسمي في السيرة المسمومة دي ؟
جوايا بيقول لي ان هو الزفت اللي اسمه "سيف" عايز يدمرني ويدمر عيلتي ويدمر قناتي ويدمر سمعتي اللي انا فضلت ابنيها السنين اللي فاتت دي ؟
لم يكن "آدم" خائفاً من "مكة"، فقد كان مطمئناً أنها تعلم الحقيقة كلها، لكنه كان ناقماً من أن يزج باسمه في وحل الشائعات، كان قلبه يشتعل بنيران الغضب، كأنه يود أن يقتلع ذلك "المجهول" من تحت الأرض ليحاسبه. كان يتساءل مراراً ؛أي عدو خفي يترصدني؟ من ذا الذي يحمل لي كل هذا الحقد حتى يتمنى أن يشعل النار في بيتي وسمعتي؟
شعر أن العالم كله قد تحول إلى عيون تتلصص عليه، وأن أصابع الناس كلها تشير نحوه، كان داخله صوتان يتصارعان؛ صوت يحثه على الصبر والاحتساب، وصوت آخر يصرخ بالانتقام والبحث عن ذلك الفاعل الخفي،
عاد يجلس على الكرسي منهكاً، عيناه تحدقان في الفراغ، بينما قبضته ما زالت مشدودة كأنها تريد خنق الهواء، تمتم قائلاً بينه وبين نفسه:
ـ والله ما هيتهنّى اللي عمل كده، هجيبه حتى لو فين، وهقف قدامه وقفة راجل قدام الباطل، مش هاسيب حقده يخرب عليا حياتي ولا ياخد مني ثقتي في ربنا ولا في نفسي ولا في الناس اللي وثقت فيا .
أما "سيف"، فكان في تلك اللحظة يضحك ضحكة صفراء وهو يتابع تعليقات الناس تتناقل الفيديو، وكأنها سهام يطلقها على صدر "آدم"، لكن في أعماقه، ورغم لذة اللحظة، كان هناك خوف دفين، خوف من أن ينكشف أمره، ومن أن يتحول حقده إلى لعنة تطارده،
كان المشهد بين الرجلين صورة صارخة لصراع الخير والشر؛ أحدهما يبيت على نية الغدر، والآخر يصحو على صدمة الظلم، وبينهما تتأرجح الحقيقة التي يعلمها الله وحده، وتبقى الأيام شاهدة على من ينتصر في النهاية، الحق أم الباطل،
كان المكتب غارقًا في الظلام، لا يضيئه إلا وهج شاشة الحاسوب، فيما جلس "آدم" على الكرسي بعصبيّة، وعيناه محمرّتان من شدّة ما تقلب بين التعليقات والمقاطع التي انهالت عليه.وكان يقلب الصفحة وهو يحدّث نفسه، ويشدّ شعره بكلتا يديه لينطق بصوت متكسر:
- ياااه يا ناس، إيه ده؟! بقى أنا بقيت اللي واخد الدين ستارة؟!
أنا اللي بقيت بضحك على خلق الله و ربنا كشفني بالشكل ده قدام العالم كله؟!
ثم أمسك الهاتف ورماه على المكتب بقوّة، فوقع وتهشّم غطاؤه الواقي ثم فتح الباب بهدوء ،ودخلت "مكّة" وعلى وجهها قلقٌ ظاهر، غير أنّها كانت تحاول أن تبدو هادئة
- آدم ... اطمن يا حبيبي، أني سمعت اللي حوصل وشفته، ولقيت الدنيا مولعة بره.
قام "آدم" من مكانه وهو متشنج وغاضب بشدة لما يحدث معه ولا يفهم لما كل ذلك العداء من ذاك المجهول المتسلط:
- مولعة؟ دي مولعة جهنم يا "مكة" ! شوفي الكارثة اللي أنا فيها! الناس كلها بتقول إني منافق، وإني بستعمل الدين كغطا علشان أعمل اللي عايزه ، واني بسافر ومقضيها مع البنات واللي عامل الفيديو عامله كاني فعلا عملت القرف ده مع البنت دي، انا مش فاهم هم عايزين مني ايه، مش فاهم ؟
مكة اقتربت منه سريعاً وحاولت أن تمسك يده وهي تربت عليهم كي تهدئه :
- اهدا بس يا "آدم" ، اهدا واسمعني.
شد يده من يدها وهو يتنفس بأنفاس متلاحقة :
- اهدا إيه؟! ده خلاص، اللي اتبنى طول سنين اتهد في ثانية! الناس مش هترحم، كل تعليق سهم مسموم في قلبي ، بيقولو اهو ربنا فضحه، واللي بيقولوا دا شكله بيتاجر بالدين، وحوارات كبيرة قووي من ناس قاعده قدام شاشة ما تعرفش حاجة عمالين يتكلموا وخلاص، واكيد طبعا مشاركات الفيديو هتنتشر على السوشيال ميديا زي النار في الهشيم.
حاولت تهدئته وهي تشعر بالنيران تتآكلها لأجل زوجها والعداء الذي يلاحقه من كل صوب وحدب:
- احنا لازم نهدى دلوك ونفكِر هنعمل ايه، وهنتصرف ازاي؟ في اللي حصل لازم نفكِر كويس بهدوء، ونعرٓف ان ربنا سبحانه وتعالى مقدر لنا كل حاجة، ولازم نرضى بكل الابتلاءات اللي ربنا هيحطها في طريقك علشان انت استغنيت عن طريق ما يرضيش ربنا وأكيد الشياطين اللي حوالينا هم اللي قاصدين يوقعوك .
وقع "آدم" على الكرسي وجبينه يتصبب عرقاً وهو يشعر بالقهر الشديد :
- حسبي الله ونعم الوكيل في اللي عمل كده، والله ما هسيبه، اللي عمل المقلب ده فيا هعرفه وهجيبه وهندمه على عداؤه الباطل ليا وإنه عايز يدمـ.ــرني .
جلست بجانبه وهي تربت على ظهره وتشجعه بمثابرة على أن يهدأ ويطمئن :
- وأني معاك، بس لازمن نفكِر بعقل العصبية مش هتنفعنا دلوك ، لازمن نحل المشكلة الاول وبعدين نشوف من المؤذي دي اللي وراها .
"آدم" بقلة حيلة:
- عقل؟ في عقل بعد اللي حصل؟ الناس كلها شايفاني خبيث، واني لازم انكشف وتعاقب عن اللي انا عملته والقناه بتاعتي تتقفل واخسر كل حاجة .
هدئته "مكة" بصبر :
- يا حبيبي، اللي يعرِفك مش هيصدق الكلام دي ،وأنت عارف إن ربنا مش هيضر عباده اللي مخلصين له، صدقني الحق هيبان.
ضـ.ـرب "آدم" بقبضته على المكتب وصرخ بحدة:
- لكن لحد إمتى؟ الفيديو ده كل ثانية بيتشار، كل ثانية بيتقطع ويتمنتج بطريقة أبشع، أنا مش قادر أتنفس.
مكة:
- طيب اهدى هنلاقي حل، إحنا مش لوحدنا، عندنا ناس في القناة بيفهموا في السوشيال ميديا نكلمهم، يشوفوا إيه اللي ممكن يتعمل؟
"آدم" رفع راسه فجأة ثم قام من مكانه :
- عندك حق لازم نتحرك بسرعة بدل ما نقعد نندب .
"مكة" بتشجيع:
- بالظبط، دلوك أكلم "فادي"، هو أشطر واحد عندينا في موضوع السوشيال ميديا،هيعرِف إزاي نوقف النـ.ـار دي.
"آدم" بإصرار:
- طب اتصلي بيه دلوقتي، ماينفعش نضيع ثانية على ما اكلم كام واحد كمان يجو معانا.
بعد دقائق معدودة، "فادي" دخل المكتب، ومعه فادي اللابتوب الخاص به وهو ينظر إلى "آدم" المستشاط:
- يا ساتر ،أنا شوفت الفيديو، الدنيا مقلوبة.
آدم بنفاذ صبر :
- إيه الحل يا "فادي" قول بسرعة قبل ما دماغي تنفـ.ـجر.
جلس "فادي" وفتح اللاب توب وبدات يتحدث بما يراه :
- بصوا، اللي عمل كده محترف، واضح إنه قص الفيديو بطريقة باينة إنه مقصودة علشان يشوه سمعتك، لكن ما تخافش، إحنا نقدر نسيطر على ده.
"آدم" بعصبية:
- نسيطر إزاي؟ الفيديو نازل على آلاف الصفحات!
"فادي" بتمهل:
- عندنا خطة، أول حاجة هنتواصل مع الصفحات الكبيرة اللي شاركته ونطلب منهم يمسحوه يا اما هيتعرضوا لمسائلة قانونية، تاني حاجة، هننزل فرق ولجان على السوشيال ميديا يردوا في الكومنتات ويكذبوا الفيديو ويشرحوا إنه مفبرك، وتالت حاجة، نعمل فيديو توضيح رسمي يوضح الحقيقة.
"مكة" بحماس:
- كلامك منطقي، بس إنت متأكد إن ده هيوقف الطوفان ده؟
أجابها "فادي" بطمئنة على حسب رؤيته:
- آه، صدقيني هيفرق جامد، أنا مسكت أزمات زي دي قبل كده الفكرة إننا نتحرك بسرعة.
سأله "آدم" بتوتر وقلق :
- طب ونقدر نعرف مين اللي ورا الموضوع ده؟
حرك"فادي" رأسه للأمام وطمئنه :
- آه من خلال التتبع الرقمي نقدر نعرف الصفحة الأولى اللي نزلت الفيديو، ومن هناك نحدد مصدره، مش هياخد مني وقت طويل.
شعر "آدم" ببصيص من الأمل وهو يسأله:
- يعني ممكن نعرف مين الكلب اللي عمل فيا كده؟
ابتسم "فادي" وأصابعه تدق على لوحة اللابتوب بحرفية مجيباً إياه :
- إن شاء الله وصدقني، اللي بيفبرك فيديو لازم يسيب وراه أثر ، انا عايزك بس تجهز نفسك للفيديو اللي انت هتعمله علشان توضح كذب الناس اللي عايزه تشوهك دي ونتفق على الصيغة كويس جدا .
ابتسمت -ط "مكّة" لـ"آدم" ثم وضعت يدها على كتفه برفق.
- شايف؟ ربنا مهيسبناش واصل ، ممكن نهدي اعصابنا علشان نبدأ خطوتنا الأولى بتركيز .
"آدم" اتنهد بتعب :
- آه.. بس أنا انهارت يا " مكة" وحاسس اني ما بقتش اقبل الحرب القذرة دي والناس لما بيصدقوا يمسكوا حد ويعلقوا له المشنقة من غير ما يعرفوا اذا كان ظالم ولا مظلوم .
اقتربت منه "مكة" وشددت بأزره كي ترزقه السكينة:
- طبيعي يا حبيبي إن الابتلاء لازم يوبقى عظيم علشان ربنا يشوف جزاء الصبر .
وبالفعل بدأ "فادي" يعمل على الصفحات مع الفريق الذي تحت يديه، وشرع "آدم" و "مكّة" في دراسة الحلقة الذدتي ستعرض لـه وهو يردّ ويدافع عن نفسه أمام الناس، وراحا يتأمّلان الكلمات بعنايةٍ شديدة لتُقال في الحلقة، وقد اتّفقوا على الصيغة التي سيخرج بها "آدم" وجهّزوا أنفسهم للتصوير، إذ سيظهر في البرنامج، فيما ستتصدّر مواقع التواصل نصف مساحة البرنامج وتعمل عليه،
جلسوا أكثر من أربع ساعاتٍ كاملة وهم يُعدّون للبرنامج وللإعلانات التي تسبقه، ليُمهّدوا للجمهور أنّ "آدم" سيخرج للرّد على الشائعات التي أُثيرت، وبالفعل بدأ "آدم" البرنامج وهو يحاول تهدئة أعصابه كي يتمكّن من الردّ على ما نُسِب إليه ظلمًا وبهتانًا :
ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أنا "آدم المصري" ويمكن الكام ساعة اللي فاتوا كانوا أصعب أيام في حياتي، مش بس عشان اللي اتقال عليا، لأ.. عشان أنا لقيت نفسي واقف قدام اتهامات تقيلة جدًا وأنا مش عارف أصد ولا أدافع، أنا طول عمري مؤمن بحاجة واحدة، إن ربنا شايف وسامع، وإن الكلمة اللي بتطلع من لسان الإنسان بتتسجل، وأنا النهاردة جاي أتكلم مش عشان أرد غيبة ولا عشان أهاجم حد، أنا جاي عشان أقول الحقيقة اللي يمكن ناس كتير مش عاوزة تسمعها، أنا مش ملاك، ومش بقول إني معنديش عيوب، أنا بني آدم بيغلط، بس في فرق كبير بين الغلط اللي ممكن يحصل في لحظة وبين الافترا والتشويه اللي بيتعلق في رقبة البني آدم طول عمره،
الناس اللي بتقول إني خنت، او اني بستغل الدين علشان اكسب وقناتي تربح،او اني بلعب بديلي واطلع اعمل دور الشيخ اللي ما حدش يغلطوا ابدا واشاعات كتير طلعت بسبب الفيديو اللي انتشر ليا، فـأنا بسألهم ؛ ليه بتحبوا تصدقوا الحوارات اللي بتشوه اي انسان حاول يقرب من ربنا؟
ليه اول ما الحاجه اللي زي دي تنزل ما بتفكروش كويس هي ازاي حصلت وهل الانسان ده ممكن يعمل كده ولا لا؟
انا كنت في عز شهرتي وانا نجم وفنان عالمي وسافرت بلاد العالم كلها ما اتنشرليش فيديو زي ده اجي بعد ما بعدت عن كل حاجه وسبت الطريق ده تهاجموني بالشكل الفظيع اللي لا يقبله منطق ولا عقل ؟!
ليه فجأة لقيت نفسي متعلق على المشانق وأنا حتى ما أخدتش فرصة أشرح؟
أنا عارف إن السوشيال ميديا بقت سيف مسلط ،كلمة تتكتب هنا، صورة تتفبرك هناك، فيديو يتقص،وتلاقي نفسك في لحظة متهم، والكل بيصدق من غير ما يدور أو يتأكد، بس أنا هفضل أقول من حقي ادافع عن نفسي؛ إن اللي بيني وبين ربنا هو اللي هيبرأني، مش الترند ولا اللايكات،
أنا عشت سنيني الأخيرة بحاول أرضي ربنا وأرضي ضميري اشتغلت بإيدي، تعبت، سهرت، بنيت اسم مش بسهولة، والنهاردة في ثانية واحدة كل حاجة اتشالت؟!
طب ليه؟ ليه ما بندورش الأول؟ ليه ما بنفكرش إن ممكن يكون اللي قدامنا ده مظلوم؟
أنا ليّ بيت وعيال، ليّا أهل بيسمعوا الكلام ده وبيوجعهم أكتر مني، أنا مش لوحدي، أنا مش مجرد اسم على الشاشة، أنا إنسان من لحم ودم، ليّا قلب بيتوجع ودموع مخزونة جوايا على وقهر على كل كلمه قريتها وكل تعليق شتمني واللي سبني طب ليه من غير ما نفهم؟
أنا النهاردة واقف قدامكم، مش عشان أطلع بطل،ولا عشان أطلع مظلوم قدام الكاميرا، أنا جاي عشان أصرخ بكلمة حق؛ كفاية! كفاية قتل في سمعة الناس! كفاية افترى! الكلمة ممكن ترفع بني آدم للسماء، وممكن تدفنه وهو عايش وتخسف بيه لسابع أرض ،
وأنا مؤمن إن اللي معاه ربنا عمره ما يتهزم، واللي صابر على الحق، ربنا بينصره مهما طال الزمن،في الآخر، بطلب منكم تدعولي لحد ما ارجع حقي واثبت ان انا لا يمكن اعمل فعل شنيع من اللي موجود في الفيديو ده، مش تدعولي عشان أرجع شغلي ولا عشان أطلع تريند، لأ؛ ادعولي عشان أثبت ،عشان ما أتكسّرش، عشان أقدر أعدّي المحنة دي من غير ما أظلم حد زي ما اتظلمت ، ادعوا لي علشان انا ليا زوجة اخاف عليها لما تشوف حاجه زي دي تجرح كرامتها كست وانا دايما بثبت لها ان هي اهم واغلى حاجه عندي في الدنيا وعندي ابن مش عايزه يشوف فيديو مخل بالاخلاق لباباه في يوم من الايام زي ده ارجوكم لحد ما اثبت براءتي بلاش تتكلموا عني وحش وتقولوا عني اللي مش فيا وتطلعوني شيطان رجيم وربنا الاعلم ان انا في حالي وان انا عمري ما اعمل حاجه تغضبه وبالذات لما يكون ذنب فظيع زي اللي اتنشر في الفيديو ،والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنهى "آدم" تصوير الفيديو، وارتفعت الكاميرات عنه، وانتهى البرنامج. كانت دقائق معدودة ظهر فيها لكنها كانت كفيلة بإشعال الرأي العام، بين من انقلب عليه، ومن آثر أن يلتمس له العذر، ريثما يصل إلى الفتاة التي دبّرت الأمر، ومن يقف وراءها، ومن صوّر المقطع وقد ارتكبوا الجريمة جميعًا،
وبالطبع، ما إن انتهى حتى أسرعت "مكّة" نحوه، وضعت يدها في يده بابتسامة، وغادرا معًا إلى مكتبهما ،وما إن دخلا المكتب حتى أغلقت"مكّة" الباب خلفها، وأوّل ما فعلته أن ارتمت في حضنه، لتُطمئنه أنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام، وهو كان في أمسّ الحاجة إلى ذلك الحضن،
فـالحضن والاحتواء وقت الشدّة أمانٌ يبدّد الخوف، وسندٌ يردّ الروح.
*******
كان "عمران" جالسًا مع "محمد" صديق عمره، والوحيد الذي يستطيع أن يتعرّى أمامه بمشاكله من غير خوفٍ من أن يُفشي سرَّه لأحد، كان منبع أسراره، ومرآته التي تُرشده إلى الصواب والخطأ، حقًّا كان "محمد" بالنسبة لـ "عمران" الصديق الصدوق، والخليل التقيّ، فراح "عمران" يبثّه وجعه الذي كان "محمد" على درايةٍ به من كثرة ما سمع شكواه الدائمة :
ـ خلاص معارفش أحل المشكلة، ومقادرش أتاقلم على الوضع دي، ولا قادر اعيش حياتي مع مرتي اللي حاسسها بَعيدة عني بعد السما عن الارض، تعبت من كل حاجة ومن كل الحلول، استعملت وياها الشدة واللين والهجر والخصام، وهي كل اللي في دماغها اني هخونها ،او هحب واحدة غيرها ،او هفكِر في ست غيرها، مش عارف الاحساس دي جالها من وين عاد ؟!
ضـ.ـرب "محمد" كفا بكف وهو ينطق بدعابة كي يخفف عن صديقه ذاك الوجع الذي قراه في عينيه :
ـ والله اني تعبت منيك يا ابني، من زمان وانت قارفني بمشاكلك اللي ما بتخلُصش، ايه يا عم "عمران" انت ولا نافع عازب، ولا نافع متجوَز ولا نافع مخلف ، انت برميل مشاكل ، الله المشاكل دي تضـ.ـرب لك تعظيم سلام وهي اللي تشفق عليك كمان ، أني لو منيك أرمي حالي في البحر واخلص من العيشه اللي تزهق دي .
ضحك "عمران" على دعابة صديقه المعتاد عليها معه ليلكزه في كتفه قائلاً بنفس دعابته :
ـ جرى ايه يا عم "محمد" ايه يا عم كتلة الطاقة الإيجابية اللي هترميها في وشي دي ده انت عيل ثَقيل، بقى اني جاي اشكي لك همي وانت هتسخر منه وتتريق علي؟ تصدق اني غلطان اني جيت لك من الاساس .
كان "محمد" مرآةَ "عمران"، يرى الأمر من زاويةٍ أخرى تمامًا، بعيدةٍ عن زاوية "سكون" وبعيدةٍ عن زاوية "عمران"، إذ إنّه بعيدٌ عن قلب المشكلة، وهذه المرّة أسدى له نصيحةً مختلفة، إذ لم يعُد قادرًا على رؤية صديقه في تلك الحيرة وذلك العناء الذي طال به سنين وهو يعانيه، فجلس "محمد" يستند إلى ظهر الكرسي كعادته حين يستعد أن يتحدث بجدية، وقد اعتاد "عمران" أن يقرأ تلك العلامة في صديقه، يعرف أنه بعد دقائق من المزاح سيبدأ بالجدية التي لا يُجيدها أحد مثله، فكان عقل "محمد" حاضرًا، لا يتكلم إلا بعد أن يزن كلماته بميزانٍ من الحكمة والمعرفة، فهو صديق يقرأ كثيرًا ويحتك بالناس في تجاربهم، لذلك كان دائمًا ملجأ "عمران" ساعة الحيرة :
ـ شوف يا "عمران"، اني هقولك حاجة يمكن تزعلك مني شوية، بس اسمعني للآخر، انت مش ضحية لوحدك في اللي بيحصل، انت مشترك معاها في الغلط من أول يوم سمحت فيه انها تبات بَعيد عنيك مع العيال، انت اكده كرّست الفكرة عنديها وخليتها عادة، وكان لازم من البداية توقف الموقف دي وتقولها لأ وبصرامة.
ارتجف قلب "عمران" وهو يسمع تلك الكلمات، فقد كان يعرف أنها الحقيقة لكنه كان يهرب من مواجهتها، إذ لم يشأ أن يظهر كزوج قاسٍ يضغط على زوجته، بل كان يراعي أنها أم لثلاثة أطفال يحتاجونها، فآثر أن يُساير الوضع على أن يدخل في صراع معها، لكنه الآن يحصد نتيجة ذلك التراخي واللين معها :
ـ يا "محمد" والله اني عمري ما استسلمت للموضوع دي، كنت من أول يوم رافض ومش عاجبني انها تسيبني وأني أبقى نايم لوحدي وهي مع العيال، بس خفت أضغط عليها أكتر وأكسرها، هي تعبت كَتير معاهم، وهي أمهم وكنت شايف اني لازم أراعيها وأقف في ضهرها، جربت كل الطرق، الشدة واللين، الخصام والعتاب، بس هي خلاص دماغها اتبرمِجت على الوضع دي، وتعلقها بالولاد بقى فوق الطبيعي، مرضي بمعنى الكلمة، وأني بجد مش عارف أعمل إيه؟
أطرق "محمد" برأسه قليلًا، ثم اعتدل في جلسته، ونظر في عيني "عمران" بنظرةٍ جادة تحمل مزيجًا من الشفقة والعزم، كأنه يقول له: لا تيأس بعد، لقد أيقن أن صديقه لو تُرك هكذا فسينهار بيته وزواجه، وربما يُحرم أبناؤه من الاستقرار الذي يحتاجون إليه :
ـ بص يا ابني، الموضوع فعلاً بقى فيه شِبه مرض، اسمه التعلق المرضي، وده بيتعالج، مش بالخصام ولا بالزعيق، بيتعالج بالوعي والتمرين، لازمن تديها مساحات تفهم فيها ان وجودها كزوجة مش أقل من وجودها كأم، ولازمن هي ترجع تعيش دورها معاك، مش تبقى أم بس، أني شايف الحلول كالآتي؛ أول حاجة، شجعها ترجع شغلها لو كانت وقفته، دي هيديها إحساس بذاتها بَعيد عن العيال، ويشغل تفكيرها بحاجة غيرهم.
ارتسمت علامات الحيرة على وجه "عمران"، وكأنه سمع اقتراحًا صعبًا التنفيذ، فهو يعرف كم تحب "سكون" أبناءها، وكيف ترفض أن تتركهم ولو لساعات قليلة، لكن كان لا بد أن يسمع للنهاية:
ـ يا "محمد" انت عارف انها مش ممكن تسيبهم ولا حتى ساعة، هي حتى مش بتخرج من البيت غير نادر، كل همها العيال وبس، يعني صعب أوي أقنعها باللي انت بتقول عليه وغير اني فاتحتها في الموضوع دي قبل اكده وكانت النتيجة السكوت منيها وعدم الرغبة لرجوعها لشغلها وشايفه ان العيال محتاجينها وعمرها ما هتتخلى عنيهم .
ابتسم "محمد" ابتسامة صغيرة، وكأنه يعرف الرد مسبقًا، لكنه استمر في طرح أفكاره بهدوء وثقة، وكأنه يضع خريطة طريق واضحة أمام صديقه:
ـ اسمع يا "عمران"، مفيش حاجة صعبة لو بدأت تدريج، يعني إيه؟ يعني جرب معاها خطوة صغيرة، قول لها مثلًا انك هتبات انت مع العيال الليلة دي وهي تروح تنام في أوضتها تستريح، وقولها بلاش تشيل همهم انت اللي هتقوم بكل حاجة، حضانة وأكل ونوم، صدقني التجربة دي هتفتح لها عينها، وهتفهم ان الدنيا مش هتقف لو بعدت عنهم ليلة ، جرب تقول لها انك هتاخد الأولاد تعلمهم السباحة، والرماية، وهي تاخد البنت وتخرج بيها وتجيب لها الحاجات اللي هي عايزاها، علشان تخرج برة قوقعه التلات اولاد يكونوا على قلبها، علشان تتعود ان هي ممكن تقعد ساعات طويلة من غيرهم عادي، وما هتطمنش عليهم غير وياك ، علشان تأهل حالها ان هي في بعدها عنيهم قادرة تعيش وتتأقلم مع كل اللي حواليها ،علشان خوفها عليهم يقل جرب تشغل حالك باولادك معاها اكتر من اكده ،اني عارف انك مش مقصر والله بس الحاجات دي هتخليها تحس ان هي مطمنة على ولادها وهتقدر تتنفس شويه وهم بعيد عنيها.
تحركت مشاعر "عمران" بين القبول والرفض، فهو من جهة يرى أن الأمر منطقي وقد يُجدي، ومن جهةٍ أخرى يخشى أن تغضب "سكون" وتعتبر ذلك إهانة أو تقليلًا من أمومتها، كان مترددًا، والحيرة تلتهمه أكثر فأكثر وبالتحديد هو يعرف مدى تعلقها الشديد بأولادها:
ـ طب افترض يا "محمد" اني جربت الكلام دي، ورفضت وقالت لي مستحيل تسيب العيال حتى ليلة، ساعتها أعمل إيه؟ أضغط عليها بالعافية؟ أني مش عايز أظلمها ولا أخليها تحس اني بنزع منها دورها كأم.
هز "محمد" رأسه بتفكيرٍ عميق، ثم ردّ عليه بلهجة حازمة لكنها رحيمة، كأنه طبيب يُشخّص حالة مريضه :
ـ لاه يا "عمران"، مش بالعافية، بالوعي، بالكلمة الحلوة، وبالعقل، بأنك تحطها قدام الأمر الواقع مرة تانية ،لازم تفهّمها إن وجودها معاهم بالطريقة دي مش في صالحهم، بالعكس، هي كده بتخليهم يعتمدوا عليها اعتماد كلي وده هيأذيهم في المستقبل، لازم الأولاد يتعلموا الاستقلالية، وهي كمان لازم تفتكر انها مش أم بس، دي زوجة كمان، وفي حل تاني مهم، انك تعرض عليها تروحوا لدكتور نفسي أسري، متخصص في العلاقات الزوجية، يسمعها ويسمعك، يمكن كلمة من متخصص تغير قناعتها أكتر من ألف مرة منك.
شهق "عمران" قليلًا وهو يسمع كلمة "دكتور نفسي"، فقد كان يستصعب فكرة أن يذهب هو وزوجته إلى مختص، لكنه بدأ يدرك أن الأمر قد يستحق التضحية، خاصة إن لم تجدِ الطرق الأخرى:
ـ دكتور نفسي؟! هو احنا وصلنا للدرجة دي يا "محمد"؟ يعني هو الوضع بقى محتاج دكتور؟
ابتسم "محمد" بجدية، وصوته يفيض بالثقة وكأنه يُعلمه درسًا لن ينساه:
ـ أيوه يا "عمران"، العلاج النفسي مش عيب، دي زي ما هتروح لدكتور باطني عشان تعالج معدتك، أو لدكتور عظام عشان تعالج ضهرك، دي مش إهانة، بالعكس، دي شجاعة منيك ومن "سكون" انكم تعترفوا بالمشكلة وتدوروا لها على حل.
تنهد "عمران" تنهيدة طويلة كأنها زفرة روحٍ متعبة تحمل على أكتافها جبالًا من الهموم، شعر أنه أمام طريق شائك، لكنه في الوقت ذاته رأى بارقة أمل صغيرة في كلمات صديقه:
ـ يا "محمد" اني بجد تعبت، أنا كل يوم أحس اني بخسرها أكتر، وبخسر نفسي معاها، وبخسر بيتي كلاته، والعيال كمان متأثرين من البعد اللي بيني وبين أمهم، مش عارف هاعمل إيه، بس كلامك يمكن يدي أمل.
مدّ "محمد" يده وربت على كتف "عمران" بقوة الأخوة، وهو يبتسم تلك الابتسامة التي طالما منحت صديقه الطمأنينة، ثم قال بحزم ممزوج بالحنان:
ـ اسمعني كويس يا "عمران"، انت لسه قدامك فرصة تصلّح، بس لازم تاخد خطوة عملية دلوقت قبل ما الدنيا تفلت من يدك، جرّب تنفذ اللي قلت لك عليه، خطوة بخطوة، ولو ما نفعش، ساعتها متترددش تروحوا لدكتور نفسي، لأن اللي بينك وبين مرتك يستاهل كل حاجة عشان يتصلّح.
وبعد جلسة طويله ارتاح "عمران" من كلامه مع صديقه وقرر ان يبدا بالحلول التي عرضها عليه ،توقّف بسيارته أمام محل الحلوى الكبير، وراح يجول بعينيه بين ألوان الزينة التي تملأ المكان بمناسبة المولد النبوي الشريف، ابتسم رغم كلّ شيء، واستعاد لحظة قديمة حين دخل مع "سكون" ذات المحل وهي تضحك مثل طفلة وتصرّ أن تختار بنفسها عروس المولد، في تلك اللحظة، شعر أنّ قلبه يلين، فاختار لها عروسًا مزدانة بألوان زاهية، وعلبة حلوى فاخرة، ولم ينسَ أن يضيف بضع قطع من الشوكولا التي طالما دلّلها بها في بدايات زواجهما، كان يحدّث نفسه وهو يضع الأشياء في سيارته أنّ هذه اللفتات الصغيرة قد لا تحلّ أزمة كبيرة، لكنّها بداية لجسرٍ جديد يحاول أن يمدّه إليها،
جلس بعدها خلف المقود، وأسند رأسه إلى المقعد متنهّدًا بعمق، اجتاحته الحيرة من جديد، فبين يديه الهدايا التي تُعبّر عن حنانه، لكنّ قلبه كان يترنّح بخوفٍ من لحظة العودة، ماذا لو عاد ووجدها غائبة؟ ماذا لو مضت كعادتها لتبيت مع الأولاد وتركت فراشه خاليًا؟ كان ذلك الاختبار الذي وضعها فيه أصعب على نفسه من أن يطيقه، ففكرة أن يعود فلا يجدها تنتظره كانت تُمزّق صدره، ومع ذلك فقد قرر أن يجرّب،
في تلك اللحظة، كانت "سكون" بدورها جالسة في غرفتها، حزينة كسيرة، حاولت أن تلهي نفسها بقراءة أو بأي عمل، لكنّ عينيها لم تكفّا عن التحديق في الفراغ، كانت تفكّر بمرارة في ما جرى بينهما، تتذكّر كيف ابتعد عنها "عمران" تلك الليلة، وكيف صدّ اقترابها لأول مرة، فأصابها ذلك في مقتل، لم تكن تتخيّل أنّ لحظة سترى فيها زوجها يبتعد عن حضنها بهذا الجمود،
راودتها رغبة قوية في أن تنهض وتذهب إلى الأولاد لتبيت معهم كما اعتادت أن تفعل كل ليلة، لكنّ صوتًا داخليًا عنيفًا أوقفها، كانت تعرف أنّ ابتعادها الآن سيعني أنّها تركت مركبهم يغرق، وأنّها تخلّت عنه في أشد لحظاته احتياجًا لها، قالت في نفسها والدموع تتساقط؛ ليس هذا وقت الهروب يا "سكون" ، إن فعلتِها هذه المرّة فقد لا يغفرها لكِ أبدًا،
وظلّت على حالها، تتأرجح بين رغبتين متناقضتين؛ أن تذهب لأولادها كما اعتادت فتستريح من هذا الوجع، أو أن تبقى بجواره حتى وإن كانت مكسورة، انتهى بها المطاف أن تستسلم لدموعها وتترك رأسها مسنودًا إلى حافة السرير، غفت قليلًا بين شهقة وأخرى، حتى بدا وجهها غارقًا بالدمع وكأنّه شهد حربًا طويلة،
عاد "عمران" بعد برهة، وقد غلّف قلبه مزيج من القلق والشوق، دخل البيت متوجسًا، يتتبّع خطواته كمن يخشى أن يكتشف غيابها، دفع باب الغرفة برفق، وإذا بها جالسة مستندة إلى السرير، تغالب نومًا مشوشًا، وملامحها مثقلة بالحزن، تقدّم ببطء، ورأى آثار الدموع الغزيرة مرسومة على وجنتيها، تنهد بضيق عميق، كأنّ خنجرًا انغرس في صدره، لم يحتمل أن يرى المرأة التي أحبها بهذه الصورة،
وما إن شعرت بوجوده حتى أفاقت، لكنّها لم ترد أن تُظهر له ضعفها، مسحت دموعها سريعًا ونهضت لتخرج من الغرفة متجهة إلى الباب، كانت خطواتها بطيئة لكنّها عازمة أن تُريه أنّها غاضبة، أنّها لن تمنحه سهولة الرجوع إليها،
غير أنّ "عمران" كان أسرع مدّ يده وقبض على ذراعها برفقٍ حازم، ثم جذبها نحوه لتستقرّ بين صدره العريض والباب، كانت محاصرة بين ذراعيه، وصدره الذي ما زال يحاول التماسك، وعيناه اللتان فضحتا لهفته، في تلك اللحظة، اختلطت مشاعر الاشتياق باللوعة والحيرة، فقد كان قلبه يصرخ أن يضمّها ويذيب كل المسافة التي نشأت بينهما، فيما كبرياؤه يفرض عليه أن يظهر متماسكًا، ثابتًا أمامها،
تسارعت أنفاسه وهو يشعر بقربها، بملمس ذراعها تحت يده، وبرائحتها التي ملأت صدره من جديد، لم يكن قادرًا على التحكم في انفعالات جسده، فكل خلية فيه كانت تصرخ بالاشتياق، ومع ذلك ظلّ متشبثًا بجموده، كأنّه يحاول حماية نفسه من ذوبان كامل، هي الأخرى وقفت مذهولة للحظة، ثم رفعت رأسها لترى في عينيه ذلك الصراع المرير، فشعرت أنّ كل ما بينهما لم يمت بعد، بل يختبئ تحت رماد الكبرياء،
كانت الغرفة تغلي بصمتٍ مليء باللهفة، كأنّ الزمن توقف عند هذه اللحظة وحدها، "عمران" ممزق بين أن يتركها تذهب فتزداد الفجوة بينهما، أو أن يستسلم لحضنه الذي يطلبها، و"سكون" ممزقة بين جرح كبريائها وشوقها الذي يفتك بها، لقد تحولت اللحظة إلى معركة صامتة، معركة فيها كلٌّ منهما أسير حبٍّ لم يستطع أن يقتلعه ولا أن يعيشه كما يجب، وقرر "عمران" أن يخفف من توتر اللحظة فتبدلت ملامحه الحائرة الجامدة إلى عابثة ليسألها بمكر :
ـ على فين يا "أم سَليم" دي حتى البيت بيتك ولا نسيتي ؟
كانت "سكون" واقفةً أمامه، عاجزةً عن التقاط أنفاسها، كأنّها تقف أمامه لأوّل مرّة، إذ لم يسبق أن واجهت موقفًا يرفضها فيه "عمران". لم تستطع أن تُلملم مشاعرها الممزّقة بين الخذلان والاحتياج، بين لهفتها إليه وحزنها منه، غدت لا تدري بماذا تجيبه، خصوصًا وهي ترى في عينيه نظرةً غريبة لم ترَ مثلها قطّ من قبل، فابتلعت ريقها بصعوبة، وأجابته بلسانٍ مرتجفٍ متوتّر :
ـ رايحة لولادي ، بعد يدك اللي حاجزة الباب عني وفوتني أروح لهم .
رفع "عمران" حاجبه بمكر، وقرّر أن يُواصل مشاغبته لها، إذ مضى زمنٌ طويل لم يرَ فيه على وجه "سكون" ملامح الزعل والغيرة الشديدة عليه ومنه، أشياء كثيرة افتقدها "عمران" في علاقته مع "سكون" بسبب ما فرضه واقعهم مع الأبناء؛ غير القرب الجسدي، فهو آخر ما كان يشغل باله، كلّ ما كان يريده "عمران" من "سكون" هو أن تُحادثه كثيرًا كما في السابق، أن تغفو في حضنه وهو يحكي لها عن يومه، أن تُشاركه أفراحه وأوجاعه، كان يكفيه أنّه حين داهمه داء السكّر لم تعلم إلا بعد سنتين كاملتين، لبُعدها عنه، وكان ذلك قد أثّر فيه بعمق، ومن ثَمّ قرّر أن يسمع نصيحة "محمد" صديقه، وأن يبدأ مع "سكون" مرحلة جديدة، كأنّه يتعرّف إليها من جديد،
كان في لوعته ينساق وراء تيار الحب، كعطشانٍ يمدّ كفّيه نحو نبعٍ بعيد لا تطاله يداه، أراد أن يقطفها كما تُقطف زهرةٌ برية تختبئ بين الصخور، وأراد أن يُعانقها كما يعانق الليل نجمةً شاردة، يُضيء بها عتمته ويستردّ معها ما سُلب من روحه :
ـ طب ولما انتِ رايدة تروحي للعيال جيت لقيتك ليه؟ يعني ما رحتيش من قبل ما اجي ليه الا اذا كنت واحشك زيادة عن اللزوم يا "ام سَليم" ومقدرتيش تفوتيني اعترفي ؟
اغتاظت "سكون" من تلميحه وكلامه، وأخذت تعـ.ــضّ على شفتيها بغيظٍ من مكره معها، ثم ردّت عليه وهي تحاول دفعه عن صدرها لعلّه يبتعد عنها ويترك لها سبيل الخروج، غير أنّها، في حقيقة الأمر، كانت تمثّل تمثيلًا مصطنعًا لتحفظ ماء وجهها، فهي لم تُرِد قطّ أن تبتعد عن حضنه، ولا رغبت أن تفارق مقامه، ولم يَسكن قلبها منذ اللحظة التي رفض فيها "عمران" قربها، فظلّت روحها منذ تلك الدقيقة في ضيقٍ لا يُطاق :
ـ مش أني خلاص عرفت إن راحت علي وما بقتش اعجب الباشا "عمران" ، ولا بقى اول ما يشوفني يوبقى ملهوف، وبقى عادي يقدر يبَعد عن حضني واني جواه، ويبعِدني عنيه وقدر يهجر ، وعلشان اكده هريحك مني خالص وهروح لولادي علشان اسيبك تقضي سهرتك على مزاجك كيف كل ليلة .
تمسّك "عمران" بيدي "سكون" حين ضربت صدره، ثم فتح كفّيها برفق، وأخذ يتلمّسهما بنعومة، يلعب بأعصابها ويحاول أن يسلبها قدرتها على التماسك أمامه، لقد قرّر أن يغيّر قوانين القرب في عشق "السكون" و"العمران"، أن يجدّدها ويجعل "سكون" أشدّ لهفةً عليه ممّا هو عليها، وأن يملأ بالها بانشغال دائمٍ به، وفجأةً طبع على كفّيها قبلةً زلزلت كيانها، وألهبت رغبتها في الارتماء بحضنه، غير أنّ كرامتها حالت دون أن تفعل، خشية أن يرفضها ثانية، أمّا هو فظلّ واقفًا، مستمتعًا بحوارهما هذا، وبتلك الطريقة المشاغبة التي لم يذقها منذ زمن بعيد، حتى عزم أن يزيد في اللعب بأعصابها أكثر فأكثر :
ـ طب على حسب معرفتك لجوزك يا "أم سَليم" تعرفي مزاجي هينظبط كيف ؟
أو ايه أكتر حاجة هتروق بالي وتخرجني من المزاج المعكر ؟
لم تعد "سكون" قادرةً على احتمال لعبه بأعصابها، ولا على تحمّل لعبته القائمة على القرب والبعد في اللحظة ذاتها، حتى إنّها ما عادت تملك القدرة على التنفّس أمامه. فهي في الأصل تتمنّى أن ترتمي في حضنه، وأن تعتذر له عن كلّ شيء، عن كلّ إهمالٍ بدر منها، وعن كلّ وعودٍ قطعَتها ولم تُنفّذها، حاولت أن تُهَدّئ من رَوعها وتكبح اضطرابها، لكنّها ما لبثت أن ردّت عليه بغيظٍ حين تذكّرت حديثه مع "نور":
ـ مبقتش عارفاك وتوهت عنيك وانت بقيت قادر ترفض حضني وتبَعدني عنيك وتلاقي راحتك في كلامك مع غيري بالليل والنهار ، شكل ما تكون شفت راحتك مع غيري وقلت هي فايتاني لحالي وهتنام في حضن عيالها وهعمل اللي على كيفي ما هي مشيفاش حاجة واصل .
لم يعد "عمران" قادرًا على تحمّل نظرات الخذلان والغيرة والوجع المنبعثة منها نحوه، فقرّر أن يبدأ معها كأنّه يتعرّف إليها من جديد، لا سيّما أنّها تغيّرت تمامًا بعد إنجابها. جذبها من يديها حتى جلسا معًا على الأريكة الموجودة في غرفتهم، وأمسك بيديها كلتيهما، ثمّ حسم أمره بأن يتحدّث معها بصراحة، مكتفيًا بما فعله من لعبٍ بأعصابها إلى هذا الحدّ :
ـ من ميته هتعرفي إنّ "عمران" هيعشق غير "سكون" ؟ ومن ميته "عمران" هيشوف ستّ في الدنيا كلّاتها نور عينـه وحبيبـة قلبـه ونبض روحـه غير "سكون" ؟ أي زعل جوايا منـك هيزول مجرّد ما أشوفك قدّامي، مجرّد ما نكون أني وانتِ لوحدنا، بس أنى مرايدش أرضى منيكي بالفتافيت يا "سكون" ، ولا رايدك تدفني شبابك وحياتك ونجاحك وشغلك وتخسري أنوثتـك كستّ معلّقت روحها وحياتـها على حاجـة واحدة بس، بعد اكده لما ولادك يخرجوا يروحوا مدارسـهم وحياتـهم ويشوفوا أصدقـائهم هنكون أني وانتِ بعدنا عن بعض وأخدنا على اكده ،وأني معايزش اكده يا "سكون" فأني عندي اقتراح هيريحنا إحنا الاتنين شويّـة، مش هبعدك عن ولادك خالص ومش هبعدك عنّي خالص، إيه رأيك تباتي يوم مع ولادك ويوم في حضنـي لحد ما تتعوّدي إنك تقدري تنامي بعيد عنـيهم وترجعي لحياتك الطبيعيّـة تاني ؟
سكون لم تعد تقوى على الاحتمال، فارتمت في حضنه وبكت بحرقة؛ إذ لم تكن تتخيّل أن "عمران" قد يستطيع إبعادها عن حضنه وتركها ورحل، ظلّت تبكي بشدّة في حضنه وهو يربت على ظهرها ويمسح على شعرها الذي كان يمسك خصلاته بين يديه ويشمّه وكأنّ ربيعَه المفقود قد عاد بعد طول غياب، فعاد يتنفّس عبقه الجميل، ثم أخرجها من حضنه وقبّل رأسها وهو يعتذر لها بعينيه قبل لسانه، بينما هي سألته بوجع :
ـ إزاي قدرت تبَعدني عن حضنك ، اتحملتها وعميلتها كيف يا "عمران" ؟
"عمران" مسح دموعها بكفَّي يديه وهو يعتذر لها، مفسِّراً لها شعوره العميق وكيف كان حاله أيضاً حين أبعدها عنه، كأنّه يعرّي قلبه أمامها ويكشف وجعَه الخفيّ الذي ظلّ ينهشه وهو يتظاهر بالقوّة:
ـ اني ما ما اقلش عنيكي في الاحساس بالوجع وانـي ببعَدك عن حضني، دي حاجـة كبيرة قوي يا "سكون" وانتِ متوكدةان حضنك دي بالنسبـة لي كل الدنيا، بس قلبي زعلان منك انك بعدتي وهتبعدي كل يوم عن اليوم اللي قبلـيه، كان لازمن اتعلم انـي اقسـى واهجر، لازم كنت اخليكِ تحسـي بشعوري وانتِ في كل مرة بترفضـي قربـي وبتبعدي عنـي ،بس النهاردة قررت ان اني اسحبك تانـي لحضني ،وعرفت ان اللي انتِ فيه غصب عنك ومش بارادتك، وانـي لازم علشان بحبك وبعشقك اشدك ليا بكل الطرق واخليكِ تخفـي من تعلقك باسلوبي وطريقتـي، واول حاجـة فكرت فيها هي انـي هتحمل يوم تباتـي مع العيال ويوم تباتيه معاي،لحد ما تتعوَدي، وكمان هنشغل وياكـي بالعيال اكتر من اللازم بس عايزك تساعدينـي،
ثم ابتلع غصته بحيرة وهو يرجع خصلة شاردة من شعرها وراء أذنها وهو يسألها:
ـ هتساعدينـي يا "سكون" ولا هترفضي دي كمان ونفضل زي ما احنا واقفين عند نقطـة الصفر؟
تنفست بـصعوبة وكأنه سحب جميع الاكسجين بالغرفة من حولهم وتمتمت بتأكيد مع ابتسامة راحة ارتسمت على وجهها الباكي وهي تحرك رأسها للأمام :
ـ هساعدك يا "عمران" مش هخذلك لك المرة دي فيا،علشان اني جربت بعدك عن حضني، كان مر قوي، بجد ما تتصورش إحساسي عامل كيف من وقتها لمجرد ساعات بس؟
فما بالك انت متحمَل وضعنا دي من بقالك سنين ،هساعدك وهحاول اخفف تعلقي المرضي باني ما بعدش عنيهم لا ليل ولا نهار بس اتحمَلني لحد ما اتعود.
وأخيراً وُضِع "عمران" و"سكون" على عتبة الطريق الأوّل لعودة القُرب من جديد، ففتح "عمران" ذراعيه مرحِّباً بـ"سكون" لتغوص في دفء قلبه؛ ولو كان يسعه أن يُخفيها بين أضلاعه لفعل، كأنّه يريد أن يجعلها نَغْماً في شريانٍ أو نَسْمةً في دمه، وبدأ يُغدِق عليها القُبُلات على كلِّ موضعٍ من وجهها بسعادةٍ وراحةٍ غامرتيهما كمطرٍ بعد قَحْط، فخُيّلَ إلى "سكون" أنّه سيجذبها إلى عالَمهما المألوف، لكنّها فوجئت به يخرجها من حضنه، فسألته بعينيها المرتعشتين كطائرٍ يخشى الفقد، وارتجفت من خوفِ أن يُعيد بُعدها عنه مرّةً أُخرى، فطمأنها بابتسامةٍ حانيةٍ كفجرٍ جديد، وبقبلةٍ من عينيها كأنّها عهدُ وفاءٍ يتجدّد،
ثم قام يُحضِر لها الشوكولاتة وعروسة المولد التي جلبها لها، وما إن وقع بصرُها عليها حتى انبهرت، كطفلةٍ تلمس أوّل مرّةٍ لعبةَ العيد، ولم تُصدّق أنّ "عمران" لم ينسَ مثل كلّ عام أن يهديها تلك العروسة التي تُحبُّها، وكأنّها رمزُ طفولتها الضائعة، بل وزادها بالشوكولاتة التي تهوى مذاقها، فاندفعت إلى حضنه، تشكره بقبلاتٍ تفيض من قلبٍ عاشق، وبحديثٍ حالمٍ كأنّه قوسُ قزحٍ بعد عاصفة، أنّه الرجل العظيم، الحبيب والعاشق، الذي لا نظير له بين الرجال،
وبعد أن طال بينهما الحديث، كانت "سكون" تنتظر أن يجذبها إلى عالَمهما السرّي كما اعتادا، لكنّها تفاجأت بـ"عمران" يأخذها في حضنه وهما على فراشهما، ويقول لها بصوتٍ يقطر حناناً كندى الصباح بعد ليلٍ طويل ،كأنّي أضمُّكِ الآن لأزرع فيكِ الطمأنينة، ولأجعل الليل شاهداً أنّ بعد الغياب والعتاب، لا يبقى إلّا هذا القرب، وهذه العودة، وهذه النغمة التي لا يقدر الفقد أن يُخرسها :
ـ اني ما عايزش قربك الجسدي بس يا "سكون" اني عايز مرتي تبقى في حضني مش علشان غريزة بتتحكم فينا احنا الاتنين، اني عايزك إنتي ، عايزك كلك، وكفاية اني أتنعم بأنفاسك، كفاية انك تكوني في حضني واشبع منيه لحد ما احسسك ان حضني أمانك وحصنك الحصين، اللي ما تقدريش تبعدي عنيه تاني، وزي ما اني قررت اغيرك قررت اغير في نفسي كمان، تصبحي على خير، تصبحي على جنة من الرحمن يا "سكوني" .