رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل السابع عشر 17 بقلم فاطيما يوسف


رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل السابع عشر  بقلم فاطيما يوسف

 


غَريبَةٌ هذِهِ الحَياةُ في حالِ العاشِقِ والمَعشوقِ تَجمَعُ بَينَهُما الأرواحُ وإنِ افتَرَقَتِ الطُّرُقُ والدُّروبُ، في القُربِ يَذوبانِ شَوقًا كالماءِ في الرَّحيقِ، وفي الهَجرِ يَتَناجيانِ سِرًّا كالنَّجمِ في عُمقِ السُّحُبِ البِعادِ، يَسافِرانِ في الأزْمِنَةِ والظُّنونِ ولا يَنقَطِعُ بَينَهُما الوَصْلُ وإنْ جَفَّ الكلامُ، كأنَّ الأرواحَ عُهودٌ قَديمَةٌ في لَوحِ القَدَرِ تُنادي بَعضَها مَهما غَشِيَها النِّسيانُ؛ أو تَوارى عَنْها المَقامُ، في التَّعَلُّقِ الرُّوحِيِّ يُصبِحانِ نورًا مِن نورٍ يَقرَعُ قَلباهُما أبْوابَ الغَيبِ ويَستَنهِضانِ السَّكينَةَ، وكُلَّما مَرَّتِ السُّنونُ زادَتْ جُذورُ الهَوى عُمقًا وصارَ الحَنينُ بَينَهُما صَلاةً سِرِّيَّةً ورَفيفَ جَناحٍ مِن يَقينَةٍ، ومَهما ابتَعَدَ الجَسَدُ وتَناوَبَتْ لَيالي الغُربَةِ يَظلُّ الهَوى بَينَهُما عَصِيًّا على الانكِسارِ، هُما عاشِقانِ حتّى النُّخاعِ مُكرَّسانِ في صَمتِ العُمقِ كأنَّهُما نَبضُ كَونٍ واحِدٍ تَتَردَّدُ أنغامُهُ في كُلِّ مَدارٍ .


في حديقة البيت التي يغمرها ضوء الصباح الذهبي، كان العشب الأخضر يتلألأ بقطرات الندى التي لم تجف بعد، والنسيم البارد يتراقص بين أغصان الياسمين المزروع على أطراف السور، بينما "فارس" يجلس على ركبتيه أمام ابنته الصغيرة ذات العام وبعض الأشهر، وجهه يشع بنور أبوي دافئ، عيونه الواسعة فيها حنان غير مشروط، شعره مسرّح بعناية لكن خصلات صغيرة منه تتطاير فوق جبينه مع حركة الهواء، كان يرتدي قميصًا قطنيًا أبيض بأكمام نصفية وبنطالًا رياضيًا أزرق، حافي القدمين على العشب، يبدو وكأنه يستعيد طفولته في هذه اللحظة مع طفلته،


ابنته، الصغيرة ذات الخدين المتوردين كالتفاح، ترتدي فستانًا ورديًا مزركشًا بزهور صغيرة، شعرها القصير الناعم يتناثر على جبينها في خصلات صغيرة، وعيناها السوداوان الواسعتان تلمعان بفرح الطفولة الخالص، كانت تضحك ضحكة عالية، ضحكة طفلة لأول مرة تكتشف أن قدميها الصغيرتين يمكنهما حملها خطوة بعد خطوة بينما يدي أبيها الكبيرتين تحيطانها من الجانبين،


مد "فارس" يديه بحذر شديد نحوها، صوته كان مزيجًا بين الأب والمدرب، بين الحنان والحماس:


ـ يلا يا قمر بابي، خطوة كمان، يلا يا ملاكي .


ضحكت الصغيرة ضحكة متقطعة، تخرج منها أنفاس قصيرة سريعة، مالت بجسدها الصغير إلى الأمام ثم استقامت، رفعت قدمها اليمنى ثم اليسرى، تتشبث بأطراف أصابع أبيها وهو يضحك بصوت عالٍ، ضحكة فيها نشوة الانتصار على الخوف:


ـ برافو، برافو يا صبي، شطورة ،بابا فخور بيكي قووي ، عايزك تجري وتلعبي وتملي البيت على ماما وبابا شقاوة.


كانت "فريدة" تراقب المشهد من شرفة الطابق العلوي، يداها تمسكان بسياج البلكونة المعدني، عيناها لا تفارق الصغيرة وهي تتمايل بين يدي فارس، قلبها يدق بعنف، ليس خوفًا من سقوط الصغيرة فقط، بل خوفًا من أن يدا "فارس" التي تحنو الآن قد تتحول في لحظة انفعال غير محسوبة إلى خطر عليها، بسبب ما تعرفه عن مرضه، زادت ضربات قلبها وتسارعت أنفاسها، التفتت إلى الداخل ثم عادت تنظر إليهما، أصابعها ارتجفت وهي تخرج هاتفها بسرعة وتتصل بالدكتورة التي ذهبت إليها من قبل،

ردّت الدكتورة بعد رنات قصيرة، صوتها هادئ وواضح في أذن "فريدة":


ـ ألو، أيوه يا دكتورة "فريدة"، خير عاد صوتك مش طبيعي ؟


ضغطت "فريدة" على أسنانها وهي تحاول أن تخفض صوتها كي لا يسمعها "فارس" من الحديقة:


ـ يا دكتورة في حاجة مهمة رايدة أسألك عنيها، "فارس" دلوك قدامي تحت في الجنينة مع بتنا ،بيلعب وياها ،وهيعلمها كيف تمشي؟ البنت فرحانة قوي بس أني… أني مرعوبة، خايفة عليها منيه، هو ممكن يأذيها من غير ما يقصد؟


ساد صمت قصير على الخط، ثم جاء صوت الدكتورة علميًا وحاسمًا لكنه يحمل طمأنة مدروسة:


ـ شوفي يا "فريدة"، أغلب مرضى الانفصام مش عنيفين تجاه ولادهم، بالعكس ساعات بيبقوا حنونين جدًا لأن الطفل بيوبقى رمز للبراءة اللي هما نفسهم محتاجينها، الخطر الحقيقي بياجي لو هو في نوبة هياج أو عنده أوامر سمعية وهمية تأمره بحاجة، ساعتها لازمن تبَعديه فورًا عن الطفلة، لكن من وصفك هو دلوك في حالة هدوء وارتباط بالطفلة، دي آمن.


أخذت "فريدة" نفسًا مرتجفًا وسألت بخوف مازال يسيطر عليها:


ـ طب أعمل إيه دلوك، أسيبهم وحدهم ولا أنزل لهم اشوفهم هيعملوا ايه ولا خليني في بلكونتي أراقبهم من بعيد ؟


جاء رد الدكتورة عمليًا كما اعتادت أن تقدم النصيحة المدروسة:


ـ ما ينفعش يحس إنك بتراقبيه، أو إنك خايفة منيه، أو إنه إنسان مش طبيعي، فمن الأفضل تنزلي تشاركيهم اللعب، وجودك معاهم هيفيد في حاجتين؛ أولاً هيحسس "فارس" بالأمان وهيشغله بيكي وببنته بدل ما دماغه تسرح، وثانيًا هيطمنك إنتي كمان، خليه يحس إنكم تلاتة مع بعض، ده مهم جدًا في علاجه النفسي، كده إحنا بنحول المشهد من احتمال قلق لمشهد علاجي وداعم وهو محتاجك إنتي وبنته تشغلي وقته علطول علشان ميلاقيش فرار لانفصامه .


استمعت"فريدة" إلى نصح الطبيبة باهتمام ووعته بشدة ثم شكرتها بامتنان وأغلقت الخط بسرعة، ووضعت الهاتف على الطاولة الصغيرة بالشرفة، مسحت دموعًا لم تكن تدري أنها سالت، أخذت نفسًا عميقًا وكأنها تغوص في قرار مصيري، ثم نزلت بخطوات سريعة إلى الحديقة،

حين رآها "فارس" أشرق وجهه بابتسامة صافية، لمعت عينيه بشدة كطفل يرى أمه بعد غياب، رفع ذراعه لها ولوّح:


ـ تعالي يا "فيري" شوفي القمر الصغنون بيمشي إزاي، شوفتي ملوكة حبيبة بابي بقت جميلة خالص .


اقتربت "فريدة" ببطء، في قلبها خليط عجيب من الخوف والحنان، ثم ركعت بجانب الصغيرة ومدت يديها تساعدها على التوازن، فصرخت الصغيرة بضحكة جديدة أكثر علواً وانطلقت خطواتها الصغيرة بين ذراعي أبيها وأمها معًا،

ضحك "فارس" ضحكة عالية حقيقية، رفع ابنته بين ذراعيه ودارت بهما الدنيا كلها لحظة سعادة نقية:


ـ تعرفي يا "فيري" ان ضحكتها دي أحلى حاجة في الدنيا بحالها هي اللي بتنور دنيتي وبتخلي قلبي يرجف بسعادة ، لا دي أحلى من الدنيا كلها دي اللي بترجعني للحياة.


رفعت "فريدة" نظرها إلى وجهه، كان فيه صفاء نادر، وكأن كل العواصف التي عاشتها مع "فارس" تراجعت هذه اللحظة، اقتربت أكثر، مدت يدها وربتت على كتفه، همست له بنبرة حاولت أن تجمع فيها الطمأنة والدعم:


ـ طبعا آمال ايه، أهم وقت في حياة الإنسان اللي بيقضيه مع ولاده، هم اللي بيدوا للحياة طعم تاني، بيرجعوا الإنسان لطفولته تاني، بيخلونا نضحك، ونلعب، ونجري، ونرسم ،ونلون ،حاجات مفتقدينها من واحنا صغيرين ورجعنا نشاركهم فيها، فبتدينا طاقة إيجابية نكمل بيها مشقات حياتنا.


ابتسم "فارس" وأدار رأسه إليها، عينيه لمعت فيهما دمعة امتنان وهو يربت على خصلات شعرها :


ـ تعرفي أنا من غيركم ما أسواش حاجة، إنتوا دنيتي الحلوة اللي من غيرها ماتمناش إني أعيش ، من غيرك انتِ و"ملك" . 


بقي الثلاثة على هذا الحال دقائق طويلة، الصغيرة تضحك وتصفق بيديها الصغيرتين، و"فارس" يعلّمها خطوات جديدة ويضحك معها، و"فريدة" تساندهما وتضحك رغم كل الخوف، حتى شعرت أن الدكتورة كانت محقة، هذه اللحظات ليست فقط آمنة، بل قد تكون دواءً،

وفي داخلهما، كانت "فريدة" تعرف أن الطريق مازال طويلاً، لكن رؤية " فارس" وهو يحتضن ابنته بهذا الصفاء جعلها تتمسك بالأمل أكثر، وتوقن أن كل خطوة صغيرة على العشب، سواء لابنتهما أو لـ"فارس" هي خطوة نحو الشفاء،

مرت لحظات اللعب والمرح بينما في صمت الظهيرة الممدود على بيتهم، بعد ساعات الجري والضحك في الحديقة، سكنت الدنيا ، البنت الصغيرة تنام في غرفتها وقد أخذها التعب، و"فريدة" جمعت بقايا الغداء السريع بيدين متحمسة سريعا، كان قلبها ممتلئ بمزيج من الحب والخوف، "فارس" يجلس على الكنبة المقابلة، يمرر يده على شعره بتيهة خفيفة ويحدّق في اللاشيء، كانت تلك اللحظة المثالية لتفتح الموضوع الذي أوصتها به الطبيبة،

اقتربت فريدة بخطوات محسوبة، جلست بالقرب منه بحيث يشعر بالدفء والألفة، ثم أخذت نفسًا عميقًا وهي تجهز الكلمات في ذهنها قبل أن تنطقها بصوت هادي:

ـ حبيبي، بقول لك ايه ،في حاجة مهمة عايزة اتحدت وياك فيها،هي حاجة عادية علشان ما تقلقش بس عايزاك توسع صدرك معاي.


رفع "فارس" رأسه ببطء، في عينيه ذلك القلق الخفي، نظرة حذرة كأنه يستشعر فخًا غير موجود، بصوت متردد:

ـ ايه يا "فريدة" في ايه قلقتيني؟


سكتت ثانية، ثم ابتسمت ابتسامة دافئة وأمسكت يده بهدوء:

ـ ما فيش حاجة يا روحي، بس اني بفكِر يعني احنا بقينا مشغولين جدًا في البيت والشغل والبنت والحياة بقت مليانة ضغوطات، فقلت ليه منعملش جلسة استشارة أسرية كده، حاجة لطيفة زي الكابلز اللي برا بيعملوها؟ يعني احنا الاتنين نروح لدغكتورة نتحدت وياها، نفهم بعض أكتر، يمكن نرتاح، يمكن تخلينا نكتشف حاجات حلوة في نفسنا ، تخلينا نستغل الوقت صح ونحول الضغوطات النفسية الصعبة لوقت مرح .


شد "فارس" يده قليلًا ثم تركها، نظرته ازدادت حدة للحظة، ثم ارتخى كتفاه وكأنه يحارب نفسه ليسألها بعيناي حائرة وكأنه لم يعي شيئا عن انفصامه في تلك اللحظة:


– استشارة ايه بس يا "فريدة" ؟ واحنا كويسين الحمد لله الحاجات دي المرضى النفسيين هم اللي بيبقوا محتاجينها، اما احنا طول ما بنحب بعض وقلبنا على قلب بعض مش محتاجين اي دكتور نفسي ولا حاجة.


أمالت رأسها ناحية كتفه ولم تترك يده، وكأنها تعرف أن لمستها تريحه:


ـ ما هو أني عارفة اننا زين الحمد لله، أني بس نفسي نعيش حياة هادية، أني بحبك وبحب بتنا، وبخاف عليك وعلى حياتنا ،الدكتورة دي بتشتغل حاجات كده تنمية ذاتية تقوي العلاقات الأسرية قوي وبتعمل حاجات للأسر زي برنامج توعية اكده يمشو عليه يعني مش عيادة أمراض نفسية ولا حاجة، وبعدين احنا دكاترة متعلمين يعني الحاجات داي بالنسبة لنا عادي .


أخذ "فارس" نفسًا عميقًا، بدأ يحرك قدمه بعصبية، ينظر للنافذة كأنه يبحث عن مخرج وداخله تخبط وعلامات الارتياب بدت على ملامحه التعيسة:

ـ مش عارف يا "فريدة" الموضوع ده أنا ما بحبوش وشايف اننا لحد ما كويسين جدا .


ـ "فريدة" بابتسامة فيها صدق:

= بص يا حبيبي اعتبرها خروجة عادية مع بعضنا يعني نروح نتكلَم ونخرج اللي في قلوبنا ،ونجرب حاجة جديدة ،أني مش عايزة أضغط عليك، بس نفسي نشوف حد يفهمنا.


ظل صامتًا للحظات، تحركت في وجهه ملامح متضاربة؛خوف، تردد، رغبة في الهروب، ثم رغبة خفية في الاستسلام لينطق بصوت خفيض:

ـ طب وانتي ليه مصرة على كده؟ انتي شايفة ليه اننا محتاج دكتورة نفسية؟ طب أنا تاعبك في حاجة ، او مزعلك ولا مش حاسة بالراحة معايا ؟


رفعت "فريدة" رأسها بسرعة ونظرت في عينيه نظرة حب قوية:


– لاه يا حبيبي، أني مش شايفة اكده خالص، بالعكس إنت أحن زوج في الدنيا وأحن أب ولو لفيت الدنيا كلاتها ما هلاقيش زيك واصل، بس أني شايفة ان احنا محتاجين نهتم بنفسنا سوا، زي ما بنهتم بالبنت، محتاجة حد يوجهنا، زي كابتن تدريب اكده بس للروح مش للجسم.


صمت "فارس" يده ترتجف قليلًا وهو يمسح على ركبته، في داخله صوت خفي يهمس بالرفض، وصوت آخر يقول له أن يستسلم لها لأنها الأمان الوحيد :

ـ انتي عارفة اني ما بحبش حد يدخل في حياتي ولا احب ان احنا نطلع اي حد على خصوصياتنا .


شجعته "فريدة" بنصح وهي تخلل أصابعها بين خصلات شعره كي تشعره بقربها منه وباحتوائها له :

= عارفة زين يا حبيبي، بس اللي بيني وبينك هو اللي محتاج دي مش حاجة تخوف، بالعكس أني هكون وياك هناك، ماسكة يدك زي كيف ما أني ماسكة يدك دلوك.


ثم رفعت يدها إلى وجنته برفق، حتى شعر بحرارة وجهها وصدق كلماتها، نظر إليها للحظة طويلة، ثم أغمض عينيه ليهتف بحيرة:


ـ أنا مش مرتاح للفكرة بس طالما انت هترتاحي كده عادي ما عنديش مشكلة نروح اهم حاجة عندك انك تكوني مرتاحة وراضية وسعيدة معايا.


ابتسمت "فريدة" ابتسامة صغيرة، وكأنها التقطت طرف الخيط:


ـ خلاص يا روحي، اعتبرها تجربة واحدة بس، ولو ما عجبتكش مش هنكرِرها تاني، ولو اني واثقة ومتوكدة انك هتحب الجلسات داي قوي وهتسبقني كمان ليها بعد اكده .


أومأ "فارس" برأسه دون كلام كان في عينيه خوف الطفل الذي وجد حضنًا آمنًا ،

هنا اقتربت "فريدة" أكثر، وضعت رأسها على كتفه، صوتها صار همسًا دافئًا:


– انت مش لوحدك يا "فارس" أني معاك في كل خطوة ، رجلي سابقة رجلك ، وحبي وروحي وكل ما املك من مشاعر هتحاوطك في كل مكان وكل وقت ، إطمَن يا قلب "فريدة" .


مد يده ببطء يحيط بها كأنه يخاف أن تضيع، شعرت "فريدة" بالارتعاش الذي يسري في أصابعه فشدته إليها أكثر، كانت تعرف أن اللحظة التالية مهمة، لحظة تبني الثقة بينهما،

أخذت بيديها الاثنتين وجهه بين كفيها، نظرت في عينيه بعمق، ثم همست:


– اطمَن انت أمان حياتي، وأنا أمانك .


كان قلب "فارس" يخفق بعـ.ــنف لأول مرة منذ زمن طويل شعر أن هناك من يفهمه، من لا يحاكمه،

ثم اقتربت ببطء، قبّلت رقبته قبلة صغيرة، قبلة لا تقول شغفًا بقدر ما تقول ؛أنت آمن، أنت محبوب؛ أغمض "فارس" عينيه وترك أنفاسه تخرج دفعة واحدة، ثم رفع يديه يضمها إلى صدره ليهمس باحتياج شديد لقربها :

ـ "فريدة." أنا محتاجك قوي فوق ما تتخيلي ، قربي مني واحضنيني جامد .


أسرعت "فريدة" الى احتضانه بشدة :

= وأني معاك يا "فارس" مش هسيبك.


جلسا للحظات في صمت، لا يسمعان إلا أنفاسهما المتلاحقة، كان المشهد كله أقرب إلى مصالحة عميقة مع الذات ومع الآخر،

في تلك اللحظة، أدرك "فارس" أن الذهاب مع "فريدة" لن يكون فخًا، بل ربما يكون الطريق للخلاص من الحيرة التي تصيب قلبه وعقله، أما "فريدة" فشعرت أن كل ما خططت له بدأ يؤتي ثماره،الحب والحنان هما مفتاح "فارس" لا المواجهة أو العنـ.ــف،

بقي الاثنان هكذا، حضن دافئ وقبلة طمأنينة، وكلمات بسيطة تتردد في الغرفة تشعرهم بالأمان والسلام. 


                  *******


استفاقت "رحمة" في الساعة التاسعة صباحاً فوجدت "ماهر" مازال نائماً إلى جوارها، غارقًا في سبات عميق ،مدت يدها بخفةٍ إلى شعره، تنسج بأصابعها خيوط الطمأنينة فوق رأسه، تقلب الخصلات السوداء كما لو كانت تحكي لها حكاية الرجوع بعد طول غياب، في تلك اللحظة شعرت أنّها تحتضن حاضرها ومستقبلها في قبضة يدها، بعد أن كانت تلك اليدين فارغتين منذ أسابيع، تستجديان الدفء على أبواب الوحدة والانكسار، ظلت تداعب خصلاته القصيرة بأناملها بعبث شقي ولكنه لم يفيق فقررت أن تجعله يستيقظ فنادته بهمس ونعومة :


ـ "ماهر" يا حبيبي، قوم بقى، بقى لي شوي عماله اصحيك رايدة اتحدت وياك في موضوع مهم قوم بقى انت كسول قوي .


فتح "ماهر" عينيه ببطء، ينظر إليها من بين جفنين مثقلين بالنعاس، رفع رأسه قليلًا، ثم سألها بصوتٍ مبحوحٍ يحمل دفء الصباح:


ـ عايزة ايه ياقلق إنتي الصبح فوتيني لحالي عايز انام .


كانت أنفاسه المتقطعة تُحدث ارتعاشةً في صدرها، وكأنّها أوتار عودٍ تُنقر لأول مرة بعد صمتٍ طويل، رأت في عينيه شيئًا لم تره منذ زمن؛ مزيجًا من حبٍ ودهشةٍ وسؤال، وللحظةٍ واحدةٍ أحسّت أنّهما طفلان تائهان في مدينةٍ غريبة، وجدا أخيرًا باب البيت مفتوحًا فعادا يركضان ليكمل هو حينما رأى عبثها :


ـ الساعة كام دلوك يا "رحمة" ؟ هو احنا النهاردة مش أجازة؟ طب ما بتصحيني بدري اكده ليه أنا لسه مشبعانش نوم عاد، ولا انتي محداكيش غير الازعاج عاد . 


نظرت إليه بأعين ونصف وهي تنزع الغطاء الخفيف من على جسده وترميه أرضاً بعشوائية مما أزعجهم، ليعُــ.ــض على شفتيه وهو يقبض يديه اليمنى ويصطنع انه سيضـ.ــربها ولكن تماسك حاله واستمع الى إجابتها وهو يشعر بالزجر :


ـ الساعة تسعة يا حبيبي، وأني مش عارفة أنام تاني، اتعوَدت أصحى في الوقت دي، وإنت نايم ،قوم بقى فوق رايدة اتحدت وياك شوي في موضوع مِهم، عايزين نتناقش فيه وضروري كمان .


اعتدل في نومته ثم تنفس بعمق ثم أمسك بيدها ورفعها إلى شفتيه، يقبّل أصابعها وكأنه يعيد إليها الاعتبار بعد كل جرحٍ أوجده البُعد وهو يقرأ الحيرة في عينيها، أحسّت بحرارةٍ تعلو وجنتيها، ورأت فيه الرجل الذي عرفته أول مرة؛ الحالم، الحنون، الذي يختبئ خلف طبقةٍ من الصلابة لئلا ينكسر، جلست إلى جواره، تنظر إلى تفاصيل وجهه في الضوء المتسلل من الستارة، فبدت كل تفاصيله لوحةً قديمةً استعادت ألوانها :


ـ اتفضلي يا ستي؛ واني كلي آذان صاغية ،بس يا ريت اللي انتِ هتحكيه ما يكونش فيه خناقات، ولا إزعاج احنا لسه متصالحين امبارح، فحاولي تخلي بالك اننا ما نتخانقش، وتراعي إن آني لسه صاحي من النوم روحي ضيقة وقد اكده .

تلعثمت "رحمة" في الجواب ولكنها هدأت داخلها الثائر وأجابته بيقين :


ـ أني بقى صحيتك علشان أقولك إني قررت، قررت إن حياتنا تتظبط، قررت إننا مانسيبش حاجة تهد بيتنا تاني، حتى الشغل أني هخففه وهرتب مواعيده، هخلص قضاياي في أوقات محدده وهخلي وقتي كلاته لـ"فيروز" ، وبالنسبة للعروسة الحلاوة اللي شبه الأراجوز اللي جبتها لبتنا تمشيها ممستريحاش وياها . 


انحنى "ماهر" فجأةً يجلس مقابلها على السرير، يضع وجهها بين كفيه كأنّه يخاف أن تذوب من أمامه مثل سراب، كان قلبه يخفق بعنـ.ــفٍ، يدقّ بابًا في صدره لم يطرقه منذ زمن، وهو يسمع منها تلك الكلمات التي طالما انتظرها، ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ طفولية، وارتفع صدره بأنفاسٍ متلاحقةٍ كأنّه يسبح في ماءٍ باردٍ بعد عطشٍ طويل:

ـ إنتِ بتتكلَمي جد يا "رحمة" ؟ يعني إنتِ بجد هتعملي اكده علشان البيت؟ وعلشاني وعلشان "فيروز" ؟! أني مش مصدقك بجد، إنتِ اكده هتحققي حلمي اللي كنت مستنيه من زمان، كنت محتاجك جنبي مش بس في البيت لأ محتاج قلبك وروحك يا "رحمة" .


ابتلعت ريقها بغضب من تفكيرها في أنها فضلت العمل والنجاح على زوجها وابنتها وسعادتها لدرجة أن "ماهر" زوجها افتقد الثقة في وعودها ، فأكدت عليه :

ـطبعا يا 'ماهر" بجد، أني مش هسيب حياتي تضيع مني، أني خلاص تعبت من الجري والشغل والبعد، أني محتاجة أكون معاك وأخلي بالي من بتي ومنك، مش هسمح لحياتنا إنها تتدمر تاني مهما حوصل، أني خلاص استوعبت الدرس زين قوي .


كانت حالتهم أشبه ببداية فصلٍ جديدٍ في كتابٍ عتيق، لم تكن الكلمات بينهما مجرد حروفٍ، بل كانت جسورًا ممتدةً فوق بحرٍ من الندم والحنين، رأى فيها تلك المرأة التي أحبها منذ أول لقاءٍ، وعرف أنّه أمام قلبٍ يختار العودة بإرادته، ارتجف صوته وهو يضحك، وأحسّت هي بمدى سعادته من قرارها ، ليسحبها داخل أحضانها وكاد أن يسحقها بين صدره العريض ،


ـ تعرفي اني هحبك حب كَبير قوي يا "رحمة" واللي اني بطلب منك دي مش علشان خاطر مش عايزك تنجحي ولا تكبري، ولا عايز ان مستقبلك يتدمـ.ـر، بالعكس اني نفسي قبل ما تدي للشغل حقه، تدي لبتك اللي هي استثمارك الحقيقي في الحياة حقها، صدقيني نجاحك كأم وكزوجة ما يقلش عن نجاحك كـ"رحمة" المحاميه الديفا اللي هتهز المحاكم، بس الشغل سحاب، مهنة المحاماة داي بالذات فيها تحدي كَبير وبتسحب الإنسان من حياته بطريقة ما تتخيلهاش علشان يثبت نفسه إنه الأول على الساحة ،بس انتِ أم وزوجة، فـلازم تحطي في اعتبارك إننا أهم من أي حاجة في الدنيا، أهم من أي قضية ،ووقتها لما تلاقي حضن بتك الحنين هيطبطب على قلبك هتحسي ان دي النجاح الحقيقي صدقيني .


 كانت "رحمة" تُنصت إليه بكلِّ تركيز، وقلبُها يرتجف ارتجاف الطائر بين شَرَيكيْن؛ شَرَيكِ حُلْمها ونجاحها وعملها، وشَرَيكِ زوجها وابنتها وحياتها التي أوشكت أن تتهاوى، كانت تقف بين نارين؛ نـ.ــار النجاح الباهر الذي بلغته، ونـ.ــار الخوف من أن تضيع أسرتـها وبنيان عمرها، ولكنّها تحاول أن تتخطّى ذلك كلَّه وقد ذاقت مرارةَ ابتعاد "ماهر" عنها ثلاثَة أسابيعَ مضت؛ مجرّدُ إحساسها بأنّها ستفقده كان عندها ذروةَ الفشل والاختناق؛ لم تكن تعرف كيف تعيش بلا حضنه، بلا احتوائه لها، بلا يده التي تشدُّها إلى عالمهما المختلف المغاير لكلِّ عالمٍ آخر، عالمٍ حالِمٍ لا يشبه سواه في طريقته ولا في حبّه ولا في عاصفة اقترابهما، ولهذا وجدت نفسها تهوي إلى حضنه، ودموعُها تنهمر تلقائيًّا؛ فقد جرّبت فراقه وعرفت أنّها لا تقوى على إعادته ولا تقبّل بعاده مرّة أخرى، فوجدت نفسها تتشبّث بحضنه بشدّة وهي تؤكّد له ذلك بكلِّ نبضةٍ في قلبها :


ـ وأني كمان يا "ماهر" والله العظيم بحبك، يمكن أكتر من الأول بعد الأزمة اللي حوصلت بيناتنا ،بس خلاص عاد خلينا نبدأ حياة جَديدة بقى، نركز في بيتنا وفي بتنا، ونسيب اللي فات، أني تعبت من الزعل والخصام والخناق.


ضغط على رأسها لتستند إلى صدره في تلك اللحظة اختفى كل شيء ،المكتب، القضايا، العالم الخارجي، ولم يبق إلا نبضٌ واحدٌ مشتركٌ بينهما، يسري فيهما كالنهر، يعيد تشكيل ملامح حياتهما من جديد ، ليهمس لها بنبرته الرجولية ويديها تضغط على رقبتها باحتياج جعل جسدها تفكك من همساته ولمساته :

ـ وحشتيني ياصغنن ، وحشني صوتك المشاغب ، وحشني قربك اللي مشبعتش منيه ليلة بحالها ، هتجننيني معاكِ يا "رحمة" ، ببقى قدامك وبين يدك طفل صغير وفي نفس الوقت راجل عايز يغذي رجولته في حضنك.


 اعتدلت"رحمة" في جلستها وجثت على ركبتيها أمامه، وهي تُرجِعُ شعرها إلى الوراء، ثم احتضنت وجهه بكلتا يديها، وأسندت جبهتها إلى جبهته، تداعب أنفه بأنفها، وقبّلته بحرارةٍ على جانب شفتيه ووجنتيه، وهي تُشعره أنّه كلّ شيءٍ في هذه الدنيا بالنسبة إليها، وأنّ كلَّ إحساسٍ جميلٍ لا تشعر به إلّا معه وهي تهمس له بنعومة بما أثاره :


ـ أني لما بكون وياك وفي حضنك بحس إن العالم كله ساكت حوالينا، وهحس إني بتولد من جَديد جوة حضنك، وهحس إني مشتاقة لك حتى وأني جواه، وهحس كمان إنك أجمل قدر ربنا بعته لقلبي وبحس إن كل لحظة معاك هي حياة كاملة أنا مش عايزة تفوتني ولا أسيبها تضيع مني أبدًا .


ـ لم يحتمل "ماهر" كلامها ولا همسها ولا قربها ولا دلالها ولا ضعفها في حضرته، فشدّها إلى صدره شدًّا يُشعرها أنّه محتاج إليها بكلّ معاني القرب بين رجل وامرأة، وكان الاثنان معًا كأنّهما في ساحة حربٍ شديدةٍ شرسةٍ من فرط ما ابتعدا عن بعضهما وكانا يظنّان أنّهما لن يلتقيا مرّةً أخرى ولن يسكن كلّ منهما في حضن الآخر ثانيةً. وظلّا في عناقٍ محتدمٍ إلى أن بدأ كلٌّ منهما يلهث من عاصفة الاقتراب التي لا تشبه أيّ عاصفة قربٍ بين اثنين حتّى لو بلغا ذروة عشقهم، فعشق "ماهر" و"رحمة" عشقٌ فريدٌ في نوعه، عاصفٌ بكيانهما معًا. وبعد مدّةٍ قرّرت "رحمة" أن تطلب منه الطلب الذي لا رجعة فيه، فقالت له وهي نائمةٌ على صدره لكن بنبرةٍ هادئةٍ كي لا يشعر أنّها تأمره أو تتعامل معه بصرامةٍ كما اعتادت، فقد حسمت أمرها أن تغيّر طريقتها قليلًا معه:


- "ماهر أني عايزة أقول لك حاجة وكنت بأجلها عشان ما توبقاش تقيلة على قلبك وتقول إني هنكد عليك ؛ بس بجد أني مش ممستريحاش للمربية اللي جبتها لـ"فيروز" ، نفسي تمشيها من البيت بأي طريقة، تعبت من إحساسي دي ، مش طايقاها يا "ماهر" ولا طايقة شوفتها . 


كان "ماهر" ينظر إليها بهدوء وهي تتوسط صدره العريض وهو يعبث بخصلات شعرها الغجري ثم قال بصوت منخفض طويل:

ـ حبيبتي، أني فاهم إحساسك زين ، بس لازمن تسمعيني كويس وتفهميني ، "كارما" داي متعلمة تعليم كويس جدًا ومعاها شهادة رياض أطفال معتمدة، وبتعرِف تتعامل مع الأطفال بطريقة علمية، أني من ساعة ما جات وهي بقت جزء من روتين "فيروز" اليومي، الرسم عندها بقى أحلى، حتى لما تاجي تحكي لي بتقولي كلام جديد ومرتب أني نفسي ما كنتش أعرفه عن التربية داي، وكمان وجودها مرة واحدة واختفائها مرة واحدة في ضرر لنفسية "فيروز" بعد ما اتعلقت بيها واظن انتِ طبعا تخافي عليها وعلى نفسيتها ما ترضيش انها تتأذي ،وخصوصا انك لسه هتظبطي أمورك في شغلك فاتحملي يا بابا شوي هي مش هتعـ.ــضك عاد.


كانت "رحمة" في تلك اللحظة تضع يديها في حجرها وتفرك أصابعها بشدة، وقد شعرت بوجع غيرة داخلي يشتعل أكثر كلما امتدح "ماهر" تلك الـ"كارما" ، وحاولت أن تبدو هادئة لكنها لم تستطع إخفاء ارتجافة شفتيها،

فقالت بعد صمت وهي تحاول السيطرة على صوتها:

– يا "ماهر" أني أمها، وأني اللي المفروض أعلمها كل حاجة في الدنيا، معايزاش حد ياجي ياخد مكاني في قلب بتي حتى لو كان بيساعد.


مد "ماهر" يده إلى يدها وضغط عليها بحنان، وقال بصوت حنون فيه إقناع وهو يحاول أن يجعل نبرته هادئة مستكينة :

– حبيبتي أني عمري ما قلت إن حد هياجي ياخد مكانك، انتِ أمها ومحدش هينفع يوبقى مكانك أبدًا، لكن وجود حد يساعدك ما يقللش منك، بالعكس ده هيريحك شوية ويديكي وقت ترتاحي وتشتغلي على القضايا اللي عِندك، و"كارما" دايمًا هتقول ل"فيروز" اسمعي كلام ماما، هي مش ضدك ولا عايزة تحل محلك.


كانت "رحمة" في تلك اللحظة تشعر أن قلبها يتفتت بين الغيرة والغضب والرغبة في البكاء، فهي تكره أن ترى "ماهر" يشكر في امرأة أخرى أمامها، ولو كانت مجرد مربية، أطرقت رأسها إلى الأرض للحظة طويلة ثم رفعت رأسها فجأة وضـ.ـربته بخفة على صدره ولم تتحمل كلامه عن ذاك الكائن الدخيل عليهم من وجهة نظرها، فـقالت والدمع يلمع في عينيها رغم صوتها الحاد:

– ما تشكرش فيها اكده قدامي يا "ماهر" أني مطيقهاش ، ولازم تمشي من اهنه ،خلاص أني قررت ومش هتراجع ،ما متحملهاش يا عالم، ما متحملهاش يا ناس، داي كيف العمى على قلبي .


 رفع "ماهر" حاجبيه في محاولة لامتصاص انفعالها، جلس مستقيمًا على السرير ومد ذراعيه ناحيتها يحاول تهدئتها، وقال بصوت هادئ جدًا وهو يحاول ضبط انفعالاته:

– حاضر يا "رحمة" اهدي بس، ما فيش داعي لاختناقك دي، أني وعدتك، لما نستقر وتخلصي القضايا اللي في يدك ويكون وقتنا كافي للبنت، ساعتها نمشيها من غير ما تطلبي حتى، أني بس بطلب منك شوية صبر لحد ما كل حاجة تستقر.


  ما زالت نـ.ــار الغيرة مشتعلة، فأدارت وجهها عنه وقالت ببرود مصطنع:

– ماشي يا "ماهر" ، خلاص اللي انت رايدة اعمله.


نهض " ماهر" من على السرير، وهو يبتسم ابتسامة صغيرة فيها مزيج من التعب والحنان، ودلف إلى الحمام وتحمم ثم ارتدى ثيابه استعدادًا للخروج لصلاة الجمعة، وقال بصوت لطيف وهو يربت على كتفها:

– يلا يا "رحمة" ، أني هنزل أفطر لقمة سريعة اكده وبعدين أروح أصلي الجمعة.


في تلك اللحظة، كانت "رحمة" تنظر إليه وهو يغادر الغرفة ببطء، تتأمل ظهره وتشعر بقلق داخلي لا تعرف له سببًا واضحًا، لكنها تعلم أن شيئًا ما في علاقتها بهذه المربية يجب أن ينتهي،

بعد دقائق، وقفت "رحمة" في البلكونة تطل على الحديقة الصغيرة أمام البيت، الهواء يحمل رائحة خريفية باردة، وعيناها تتنقلان بين الحديقة وما حولها وفجأة رأت "كوكي" بالأسفل تمارس رياضة صباحية، بملابس رياضية مكشوفة قليلًا، حركتها خفيفة، وشعرها مربوط إلى الخلف، تضحك بصوت مرتفع وهي تتحرك ،


وفي تلك اللحظة، كان "ماهر" يخرج من باب البيت لابسًا جلابية بيضاء متجهًا إلى المسجد لصلاة الجمعة، شعرت أن قلبها سينفـ.ــجر من الغيرة، لا تريد أي حوار يدور بينهما الآن ولا تريده أن يرى تلك الشمطاء بتلك الهيئة المثيرة لأي رجل بجسدها الممشوق ووجهها المشرق ،

أمسكت بيدها على حافة البلكونة، ثم قررت فجأة أن تنزل بسرعة إلى الطابق الأرضي قبل أن يلتقي "ماهر" و"كوكي" معًا في أي كلام، خطواتها على السلم كانت سريعة متوترة، وقلبها يخفق بشدة،

حين وصلت إلى الباب، وجدته بالفعل واقفًا أمامها، يتحدثان بهدوء عن "فيروز" كان صوته منخفضًا وفيه نوع من الاهتمام المعتاد بالطفلة ،وسمعته يتحدث وهو ينظر إلى هاتفه:

– "فيروز" كيف حالها معاكي؟ يا ترى مغلباكي ولا ايه؟ أني شوفت رسوماتها بقت حلوة أوي، حتى المدرسة قالت لي إنها اتقدمت جدًا في الرسم.


"كوكي" ابتسمت له ابتسامة واسعة وقالت بهدوء وهي ترى تلك العاصفة المتمثلة في "رحمة" آتية من بعيد وعلامات وجهها الغاضبة لاتبشر بالخير أبدا :

– شو هالحلا لـ"فيروز" والله بنت بتاخد العقل الله يحرسها ليك ويخليها ويحميها من العين؛ بنوتة كيف القمر .


تقدمت "رحمة" بخطوة سريعة، صوتها مقطوع لكنه حاد، وقالت لـ"ماهر" وهي تحاول أن تتمسك بأعصابها أمامه على قدر الإمكان وهي تنظر إلى"كوكي" نظرات ناريه أبصرها "ماهر" جيدا:

– يلا يا "ماهر" روح صلّي، صلاه الجمعه هتحب اللي يروحها بدري، وسيب أمر السؤال عن البنت عليّ أني هتولاها.


نظر لها "ماهر" بنظرة فهم كل شيء فيها، عرف غيرتها ولم يرد أن يزيدها ألمًا، ابتسم ابتسامة صغيرة جدًا فيها مراعاة لشعور الغيرة وقال لها وهو يتحرك:

– حاضر يا حبيبي، أني ماشي أهو، خلي بالك من نفسك ومن "فيروز" .


ثم خطا بعيدًا وهو يبتسم ويهز رأسه، وقلبه فيه خليط من الحنان والشفقة على تلك الـ"كارما" ، ويعرف أنها تحـ.ــترق غيرة لكنها تحاول أن تبدو قوية ،


بعد أن ابتعد "ماهر" تمامًا، تقدمت "رحمة" بخطوة نحو "كوكي"، عينيها مشتعلة كالجمر، تنظر إليها بنظرة حادة لا تخطئها أي امرأة، وقلبها ينبض بسرعة، وهي تتهيأ للكلام الصعب الذي ستلقنه إياها ، 


بعد أن غادر "ماهر"، قرأت "كوكي" وفهمت نظرات "رحمة" المتقدة نارًا، فهبطت إلى الأرض لتؤدّي حركات الضغط وتستكمل تمارينها وهي تحاول تجاهل "رحمة" لأنّها رأت في عينيها وفي حركاتها شرارة خناق، فأرادت أن تتفاداه، غير أنّ "رحمة" لم تستطع الصمت ولا مقاومة نفسها عن أن تجذبها من شعرها، فهبطت "رحمة" إلى مستواها تتكلّم بفحيحٍ وغضبٍ عارم، لكنّ ذلك لم يُزِح من "كوكي" ولو شعرة واحدة ولم تخف منها ونظرت إليها بثبات جيد تتدربت عليه في مواجهة من يتحداها :


ـ إنتِ عايزَة إيه يا بت إنتِ، شوفي بَقَى من الآخِر لو في دماغِك رسم من البدايَة إن أني كنت مُطلَّقَة من "ماهر" وإنك هتقرَّبي من بتي وتحبِّيها وتخلِّيها تتعلَّق بيكي وحوار إنك معاكي كُلية تربيَة رياضيَّة وإنك مدربة على اكده اللي رسمتِيه على "ماهر" وكلتِي بعقلَه حلاوَة مهبمشيش معاي، أني الحوارات داي ما أشتريهاش بربع جنيه، اديني رجعت لجوزي لأنه بيحبِّني وما يقدَّرش يستغنَى عنِّي، فهاتِي من الآخِر وقولِي إنتِ عايزَة إيه بالظَّبط وجايَة اهنه ليه؟ غير حوار المُربِّيَة دي علشان إنتِ ما تعرفِيش إنتِ بتتعاملِي مع مين، وأني من جواي مش مستريحَة لك حسَّاكِ اكده كَهينَة، وأنا بَقَى أحب اللَّعب مع اللي زيك حاجَة كده بتمزِّجني لأنك مهما توصَّلتِي عنِّي من معلومات مش هتقدَرِي توصَلي لدماغ الديفا "رحمة" سلطان المهدي فسكَّة ودغري كده تاخدِي بعضِك وترجَعي على بلدِك من مطرح ما جيتِي، يا اما يمين بعظيم لهشيعك لبلدكم على نقالة يا بت .


كانت العيون تتلاقى بينهما كشرر الحديد حين يُطرق في أتون النار، كلّ نظرة منهما تصفع الأخرى بوميضٍ متحدٍّ لا يلين،

بدت لهما الساحة من حولهما كأنها ساحة حربٍ صامتة، تتأهب فيها الأرواح أكثر من الأجساد

شفتاهما ترتجفان بانتظار لحظة الانقضاض، وكأن الهواء بينهما سيفٌ مشحوذ على وتر الترقّب، تجلّت في وجهيهما عزيمةُ الصيادين، كلٌّ منهما تُخفي بين أضلعها عاصفةً تنتظر إشارة الانفـ.ـجار،

وفي ذلك الصمت المكهرب، كانت الهيبة تسري كالبرق، تُحيل المسافة بينهما إلى ميدان نزالٍ لم يُحسم بعد لتنطق تلك الأخرى بقوة وعيناي كالصقر ..

الفصل الثامن عشر من هنا


تعليقات