![]() |
رواية مع وقف التنفيذ الفصل السادس عشر بقلم دعاء عبدالرحمن
طرق عمر و باب حجرة المكتب الخاص بإلهام ودلف إليها مبتسماً ابتسامة روتينية بعد أن ألقى التحية، أشارت له إلهام بالجلوس وهي تتأمله منفحصة وارتسمت على شفتيها الابتسامة
المعتادة التي تغزوها كلما رأته ثم قالت بنعومة:
أيه يا بشمهندس ... يعنى محدش بيشوفك
لم يستطع أن يغالب المزاح بداخله فوجد نفسه قائلا:
وفيها ايه لما يشوفني يعنى
قطب جبينها وقالت بعدم فهم:
رفع حاجبيه وهو يقول:
محدش
ابتسمت وهي تضيق عينيها قليلا ناظرة اليه وقالت:
ايه ده و كمان دمك خفيف...
وخضعت بنبرة صوتها وهي تردف:
مش محترف ذكى وسيم وجذاب .. كمان دمك خفيف لالاء كده مش ها ستحمل
ابتلع عمرو ريقه وهو حائقاً على نفسه وعلى دعايته هل أصبحت الدعاية تسري في دمه لهذه الدرجة فلا يستطيع وضع احاديثه في نصابها الصحيح ومع الشخص الصحيح، رأها تنهض من
مجلسها وتقف خلفه وقالت :
عمرو .. أنا عاوزه اتكلم معاك شوية بره الشغل .... أنت بيبقى وراك حاجة بالليل؟
قالت كلمتها الأخيرة هذه وهى تلامس خصلات شعره من الخلف مما جعله ينتفض واقفاً وبحث عن مخرج مناسب لا يتسبب في أنهاء حياته العملية من الشركة ولكنها لم تنتظره طويلا واعتبرت صمته تفكير في الأمر فاقتربت أكثر لتحته على الموافقة وتعده بما ليس له بل وليس من حقه يدنوها منه إلى هذه الدرجة حتى شعر بانفاسها من خلف أذنيه واشتم رائحة عطرها النفاذ تزكم الله رغما عنه لتوقظ بعض مشاعره الدفينة وشعر بدفء جسدها بملامسة ظهره وسمعها تقول بهمس كالفحيح
ايه رأيك نتعشى سوا الليلة
وفجأة فتح الباب ودلف صلاح في عجلة من أمره، ولكنه توقف أمام ذلك المشهد . عمرو واقفاً في توتر و الهام تقف خلفه مقتربة منه بشدة, وقف جامداً ينظر إليهما ولكنها كانت فرصة سانحة وجدها عمرو للهروب بدون عواقب كما كان يفكر قبل دخول صلاح عليهما تنحنح وهو يتحرك في اتجاه صلاح ووقف بجواره قائلا:
طب استأذن انا علشان عندي شغل كثير
بمجرد أن خرج عمرو حتى قامت عاصفة إلهام الرعدية وظلت ترعد وتؤتب صلاح على دخوله بغير اذن وبغير ميعاد وضع صلاح الملف الذي كان يحتاج إلى توقيعها أمامها على المكتب
وانصرف على الفور وتركها وسط حممها المتصاعدة وعاد لعملك .
فوجئ بوجود عمرو في مكتبه ينتظره, ألقى عليه نظرة عتاب كبيرة وهو يجلس خلف مكتبه ويتابع عمله بصمت، وقف عمرو مدافعاً عن نفسه وقال:
متبصليش كده .. أنا والله ما عملت حاجة
رفع صلاح عينيه إليه قائلا:
معملتش اه .. لكن سكت .. واللى يسكت على الغلط يبقى مشارك فيه ومينفعش بعد كده انه يلوم اللى هيطمع فيه بعد كده نتيجة سكونه وزى ما بيقولوا السكوت علامة الرضا
قال عمرو بالفعال وهو يجلس :
أنا مكنتش ساكت.. أنا كنت بدور على طريقة مناسبة أهرب بيها من الموقف
الحكاية مش محتاجه تفكير يا عمرو... أنت بتخاف على شغلك ومستقبلك أكثر ما بتخاف على أي حاجة ثانية .... وأنا حذرتك كثير ونبهتك كثير بس انت شكلك مش هنتعلم ببلاش .. اللي بيسيب الباب موارب يا بني ما يزعلش لما يدخله منه شر بعد كده
خرج عمرو من مكتب صلاح يضيق بنفسه ذرعاً ولا يعلم لماذا يتهاون إلى هذا الحد، هل كما قال صلاح فعلا هو يخاف على مستقبله وعمله أكثر من خوفه من أي شيء آخر نقض الفكرة عن رأسه مستنكراً لها ولكنه لم يستطع أن ينفض تلك المشاعر التي عاشها والتي استقيظت بداخله منذ لحظات في مكتب الهام، فمازال يشتم عطرها النفاذ ومازال يشعر بلمستها، لم يستطع أن يغالب هذا الشعور الذي يجتاحه فخرج فورا من الشركة عائداً لمنزلك تصارعه مشاعر شتی . وبدلا من أن يدخل منزله وجد نفسه يتوجه إلى بيت خطيبته قاصداً أياها سيلهي بعض من مشاعره بطلب تحديد موعد لعقد القرآن ولتذهب الخطبة إلى الجحيم.
وبعد موافقتها تم تحديد موعد عقد قرآن عزة وعمرو بعد أيام ليصبح فارس هو آخر من يتم عقد قرانه بينهما، وفي هذه الفترة كان عمرو يتهرب من أي لقاء يجمعه بإلهام وكان صلاحيساعده على ذلك ويتصدر هو لأي عمل يتطلب وجود عمرو معها في مكان واحد. وجاء اليوم المنتظر وكان بسيطاً كالذي سبقه تماما يجتمع فيه الأهل والأحبة والجيران في منزل العروس ليتم عقد القرآن بينهم وبحضور الشاهدين، فارس وبلال، ويالها من مفارقة كانت في يوم من الأيام تتمناه زوجاً وها هو اليوم يشهد على عقد قرانها ويزيل عقدها بتوقيعه المميز .
اجتمعت بعض النساء في الداخل ينشدون لعزة الأناشيد بقيادة عبير التي كانت قد تحسنت كثيرا بفضل تمارين بلال المكثفة | كما كان يقول ويبدو أن ضميره هذا قد انعكس على حالتها النفسية كثيراً، فلقد كانت تبدو كما لو كانت هي العروس، وكأنها في العشرين من ربيعها وهي تغرد بأناشيدها المحببة وتضرب بالدف في سعادة وقوة وتتنقل بين النساء كالفراشة التي تتنقل بين الزهور في بستان المودة والرحمة التي نهلت منه منذ أن أصبحت زوجة لـ بلال وحبيبة القليه الفياض، واثناء انشغالها سمعت أمها تهمس في اذنها أن زوجها يريدها في الخارج، ربما قد يكون الأمر عاديا لولا أن والدتها أنبئتها أنه يبدو عليه الإنزعاج وربما الغضب، أرتدت ملابسها كاملة وخرجت تبحث عنه فاشارت لها والدتها أنه ينتظرها في المطبخ .. دخلت بسرعة إلى مطبخها فوجدته فعلا قد بدأ عليه الضيق الشديد فرفعت نقابها ونظرت إليه بقلق وقالت
متسالة
مالك يا حبيبي
نظر إليها بضيق وقطب جبينه وقال منفعلا:
مش عارفة في أيه .. أنت فاكرة نفسك يتنشدي في الصحرا لوحدك .. صوتك واصل بره عندنا يا هانم
أصفر وجهها وشحب واتسعت عيناها وهي تضع يديها على وجهها ثم قالت بأحراج:
والله ما كنت واحده بالي .....
ثم نظرت له معتذرة وقالت :
- أنا أسفه يا حبيبي.. بالله عليك منزعلش مني
هذا قليلاً وهو عاقداً ذراعيه خلف ظهره وقال معاتباً:
أبقى خدى بالك بعد كده ...
تم مد يده ومسح وجنتها يظهر أنامله وقال بحب:
ما انت عارفه انا يغير عليكي ازاي يا حبيبتي.. صوتك محبش راجل غيري يسمعه
عقدت دراعيها أمام صدرها وقالت مداعبة له:
ده انت رهابي بقية
أمسك وجهها بين كفيه و احتواها بعينيه .. ثم قال:
لوده الأرهاب فأنا أرهابي أصيل .....
ثم قبل جبهتها وقال مردفا:
ولابس حزام ناسف كمان
ابتسمت في سكون وهي تمسك بيديه التي تحيط بوجهها فقال :
أخبار رجلك ايه
نظرت له بدهشة وقالت:
- كويسة الحمد لله بتسأل ليه
مط شفتيه وقال:
انا بقول نعمل الفرح والدخلة بقى علشان تكمل التمارين في بيتنا براحتنا الواحد يا شيخة
مش حاسس انه بيشتغل يضمير في العلاج
ازاحت يديه ووضعت يديها حول خصرها قائلة:
كل ده و ضميرك لسه مستريحشر
أبتسم وهو يرمقها بنظراته المتفحصة:
كل ده ايه .. ده انا هاس انى قصر يرضيكي یعنی ضمیری بعدینی
قالت وهي تعيد النقاب على وجهها مرة أخرى :
- مقصر ..لا خاليك مقصر الله يخليك.
أفلتت من يده وعادت إلى النساء مرة أخرى أكثر أشراقاً وجاذبية, فهكذا هي الزهرة, كلما لاقت حيا واهتماماً وعناية، كلما زادت إشراقاً وتألقاً وتفتحاً وعبيراً ، تفيض على من حولها بشناها.
انتهى حفل عقد القرآن واستاذن بلال والد عبير أن يخرجا سوياً وخرج معها من منزلها أصابعهما
متشابكة كما كان يحلم دائماً وهي تقول :
- بلال أنا مكسوفة أمشى في شارعنا واحنا ماسكين أيد بعض كده
قال مشاكساً
ليه يا حبيبتي هو انت صاحبتي ده انت مراتي
دفعت عزة عمرو بعيدا عنها بهدوء وقالت بارتباك :
آيه يا عمرو ده... مينفعش كده على فكرة
نظر إليها بضيق وقال متيرماً:
ايه يا عزة أنا جوزك دلوقتي
تلعثمت وهي تقول بخجل
یا عمرو دى اول مرة تقعد فيها مع بعض بعد كتب الكتاب ... أرجوك تراعى الحكاية دى
اسند مرفقيه على مائدة الطعام أمامه وقال معتذرا :
حاضر هراعی، بس انت كمان راعى انى بحبك واتى شاب زي كل الشباب وطول عمري بشوف بنات وشباب وعلاقتهم مفتوحة كأنها مراته ... ورغم كده عمرى ما عملت زيهم عارفه ليه ...
وقبل أن تجيب قال :
علشان يحبك وعمري ما حبيت أني ارتبط بواحدة غيرك.. لا في حلال ولا في حرام مينفعش يقى تيجي بعد كل ده وتقولیلی مينفعش یا عمرو
كادت عزة أن تبكي وهي تشعر بضغطه عليها بكلماته واستعجاله للأمور بهذا الألحاح المتواصل ومحاولاته المستمرة، ولكنها لن ترضخ له في أي حال من الأحوال فالعقد له حدودا يجب أن لا
يتخطاها أبدأ
سار بلال بجوار عبير بمحاذاة كورنيش النيل متعانقة أيديهما متشابكة أصابعهما, نظر لها ليرى بعض علامات الضيق والأضطراب ظاهرة بوضوح في عينيها فقال:
مالك يا حبيبتي ايه اللي مضايقك
مش شايف المناظر يا بلال... هي البنات دى مش مكسوفة وهي واقفة بالشكل ده... طب مش
خايفين من أهاليهم.
هز رأسه باسي وكأن حديثها آثار شجونه وقال:
يعني انت من مرة واحدة وقلتي كده واضايقتي من المناظر.. أومال انا أعمل ايه اللي على مدار حیاتی شفت اضعاف اضعاف المناظر دی... ده غير الأشكال اللي كنت بقابلها في شغلي أيام
ما كنت بشتغل في مركز كبير بعد تخرجي .. وكان بيورد علينا رجالة وسنات والحاجات اللي كانت بتتعرض عليا ساعتها ورغم كده الواحد كان بيستحمل وبيصبر وبيغض بصره عن الحرام
قالت عبير بحنان
بعد بتقدر تستحمل کده ازی
قال بشجن :
علشان ربنا يا عبير .. كنت بصبر ويصوم كثير وبخرج طاقتي في شغلي والدعوة والرياضة والحمد لله ربنا عصمني
ثم نظر لها وقال يحب:
مش كده وبس ... ده كمان كافاني ورزقني بزوجة صالحة زيك
ابتسمت رغم الشجن الذي لمسته من كلماته وحاولت تخفيف ما استعاده من ذكريات قد تضيق
بها نفسه وقالت يمرح :
بس ايه يا عم الكاجوال الخطير ده ... الناس يقولوا أيه.. شيخ ولابس كاجوال
نظر إلى ملابسه وقال بزهو مصطنع
لا وكله كوم والتيشرت الفظيع ده كوم لوحده
ضحك كلاهما وهما يسيران عكس اتجاه الطريق ليعودا أدراجهما إلى منازلهما وتركوا خلفهما
شباب متسكعة وبنات متخبطة في شهوات الدنيا وملذات الحياة متسلقين زورقا للحب. يتخبط بهم في بحار عالية الأمواج بعيدة القاع ذات اليمين وذات الشمال, فهل يأمل لهم
النجاة وقد بعد المرسى .
استطاعت دنيا أن تتكيف على عالمها الجديد, فلا تدخل ولا تخرج الا بصحية والدتها التي أشرفت بنفسها على شراء ملابسها الجديدة، فاختارت لها كل ما هو محتشم، تغيرت طريقة ملابس دنيا بالكامل مما جعل فارس يشعر أنهما على بداية الطريق الصحيح وأنها من الممكن أن تتغير فعلا وأنه أحسن الاختيار، ولكنه لم يكن يعرف أنها كانت تجاريهم فقط لتمر الأزمة على خير حتى أنهى فارس اختبارات الماجيستير وتم تحديد يوم حفل عقد القرآن .
حضر عقد القرآن عمرو وبلال وعبير وعزة ورغم المحاولات الكثيرة التي قام بها فارس
الأصطحاب فهرة معهم ولكنها بكت ورفضت بشدة, بل وتصنعت المرض لكي لا تذهب معهم.
بعد العقد مباشرة أصرت عزة على المغادرة في وعبير عزه وعبير فلقد كانت دنيا تتعامل معهما ببرود وبابتسامة خاوية من أي ترحيب مما جعلهن يشعرن بالوحدة في بيتها وطلبا المغادرة بعد تهنئتها بالزواج بصحبة والدة فارس، غادر الجميع وتركت والدة دنيا الفارس المجال أن يجلس مع دنيا قليلا على انفراد بعد أن أصبحت زوجته كانت متوترة وعيناها تفصح عن شيء ما مجهول ولكنها صامتة, عندما حاول بنها شوقه لم تتجاوب معه وتعاملت معه ببرود ثم اعتذرت وكأن الأمر خارج عن سيطرتها حاول أن يعرف ما بها ولكنها لم تجب بشيء واضح، غادر هو الآخر بعد أن طبع قبلة رقيقة على وجنتها مودعاً أياها.
ومرت الشهور تلو الشهور وسنة يعقبها سنة تتسابق لتلاحق وكأنها فأر يقرض في عمر الزمن في سرعة وخفة لم يلتفت لها فارس وهو منهمك في تحضير الدكتوراة التي نفذت معه طاقته ولقد كان هو أكثر من مرحب وهو يشعر بتباعد دنيا عنه يوما بعد يوم.
ورزقت عبير من بلال بأربع توائم دفعة واحدة وكأن الله سبحانه وتعالى قد صرف لها الأقدار ومنحها دفعة واحدة جوائزه وعطاياه كما لو كانت تزوجت منذ سنوات كثيرة وليس أقل من
ثلاث سنوات .
وحاول عمرو إقناع والد عزة بأن يتم الزواج في شقة والده ولكن والدها رفض نظراً لأن لديه أخ أصغر منه وهو محمود، والذي التحق بالجامعة هو ويحيى صديقه ، فكيف ستعيش عزة مع محمود في منزل واحدا باءت المحاولة بالفشل وبدأ عمرو في البحث عن شقة إيجار في مكان
قريب منهم.
و خاضت مهرة في مرحلة جديدة وهي مرحلة الثانوية العامة ورحلة بحتها عن ذاتها التي لم تنقطع طوال الفترة السابقة, ولكنها ظلت البنت العنيدة التي لا تستسلم بسهولة ولا تصمت على شيء تراه خطأ من وجهة نظرها، وكانت تحاكي أفعال فارس في كل شيء، بل وتتحدث مثله وتستمع إليه وتدون النقاط المهمة في حديثه تحفظها عن ظهر قلب، حتى أن الجميع كان يلقيها بالفارس الصغيرا, كانت أنوثتها قد لاحت في الأفاق بقوة وطالت قامتها فجأة وأصبحت تضاهي أقرانها بجمال بري مشاكس ملفت للأنظار, ولكن فارس لم يراها يوما إلا طفلته الصغيرة العنيدة التي يفخر بها دوماً.