رواية غوثهم الفصل المائة والواحد والسبعون 171 بقلم شمس محمد


رواية غوثهم الفصل المائة والواحد والسبعون 

قُل للعيونِ إذا تساقطَ دمعُهَا
اللهُ أكبرُ من همّي وأحزَانِي
قُل للفؤادِ إذا تعاظَم كربهُ
ربّ الفؤادِ بلطفهِ يرعَانِي
قُل للأسَى في القلبِ يكبُر إنّما
فرجُ الإلهِ إذا أتى يغشَانِي
في طرفة عين و غمضتها
يأتيك الفرج فاسأل الله و لا تيأس
_”ابتهال مقتبس”
____________________________________
في عصرٍ قديمٍ من عصورٍ فائتة؛
سُردت قصة قاسية عن سربٍ من الطيور الحُرة كانت تطير وتُحلق فوق السماء وتتصادم ضاحكةً بأجنحتها في السحاب، تلك الطيور كانت رمزًا للسلام في بلدةٍ عريقة، ولأن الطير كان رمزًا للحريةِ؛ تكالبت عليه عصابات الصقور الجارحة وأرادوا له أن يبقى أسيرًا وعاجزًا بداخل قفصٍ مبتور الأجنحةٍ ومقطوع المدد والعونِ، حينها سقط الطير من فوق السماء السابعة وهوى لأسفل قاعٍ، تخلى عنه جناحاه، وغطى الغمام آشعة الشمس وأظلمت عيناه، وعجز الطير عن مُسانده نفسه وظل مُلقيًا بالأرض مُناديًا بالقلب رباه، كان طيرًا من وسط البقية، وحينما سقط كان بعيدًا عن سربهِ وذويه، تلك الصدمة التي باغتته جعلته يتردى قتيلًا بعد أن كُسر جناحيه وفقد روحه، هذا الطير الحُر كان أكبر أحلامه أن يظل يُرفرف ويرفرف بغير توقفٍ، كان حلمه صغيرًا في دنيا كبيرة، تلك الدنيا وُجِدَ بها مجموعة من البشر عاثوا فيها فسادًا، وكأن تلك الطيور لن تجد مأواها في الأمان وسط تلك العصابات التي تقضي على كل حُرٍ وتظلم كل بريءٍ..
لكن، لكن رُبما تشرق الشمس من جديد
وتزيل بظهورها كل الغمام التي منعت
آشعة الشمس من الوصول لمواطن الأمل،
غدًا ستزول الغمام،
غدًا سيحلق الطير، ورُبما الغد ليس ببعيدٍ.
<“هي مرة واحدة تسلب فيها حقك؛ فيصبح لكَ”>
في أشهر الأقاوييل المأثورة من قديم الزمنِ أن استرداد الحق حرفة لا يُجيدها إلا الماهر فيها، فقبل أن تنساق خلف تلك الأفعال الغبية التي تُسقط حقك من طريقك، فتخيل أن الحياة هي دربٌ من الجنون، لكن توخ الحذر ألا يكون جنونك هذا هو نفسه وسيلة استرداد الحق..
هو لم يكن بمتهورٍ، وإنما هو انتظر مجيء الفرصة لدربه ومن ثم انقض عليها فارضًا سطوة شباكه كي يلتقطها كما يسقط الصياد ألاعيبه في درب الفريسة، وهو صيده أتاه على طبقٍ مُزين بحباة الألماس المُرصع الخاطف للعين، ما أن لمحه يتقدم من البيت وهي تقترب من البوابة، خطى نحوهما ليلمح بعينيه هذا البغيض وهو يتحدث معها بتلك الطريقة الفجة وما ترتب على ذلك كانت انتفاضة منه؛ ثأر وغضب واتكيء على حروف كلماته وهو يعود بملكيتها لحقه هو، لذا تفوه بما تفوه به عن قصد حينما قال:
__لو أنتَ خطيبها، فأنا اللي هكون جوزها إن شاء الله، ودا أولًا يعني، ثانيًا بقى مراتي محدش يرفع عينه فيها ولا يفكر يمد أيده وأنتَ عملت الاتنين فندخل في ثانيًا بقى..
أمهل نفسه فرصة واحدة فقط ثم أنقض على “مُـهند” وسحبه من تلابيبه ثم ألصقه في الجدار الخلفي له وهو يقول من بين أسنانه المُتلاحمة كتعبيرٍ عن غضبه المُتقد بصدره ولم تنطفيء نيرانه حتى تلك اللحظة؛ بل أخذت تتزايد حتى أصبحت كما حُفرةٍ نُشِبت النيران في جوفها، لذا أتى حديثه موبخًا ومُعنفًا بقوله:
_هو أنتَ يا حيلة أمك فاكر إن دي رجولة؟ الدقن دي هتخليك فاكر نفسك بني أدم وأنتَ قلبك أسود وزبالة، عاوز تمد إيدك عليها وفاكر إن شكلك هيشفعلك يعني؟ تصدق ورب الكعبة لأمد أيدي أنا عليك وأعرفك الرجولة عاملة إزاي.
أنهى حديثه بضربة قوية للآخر جعلته يصطدم بقوةٍ في الحائط خلفه وهو يجحظ بعينيه في وجه “مُـحي” الذي ازدادت نيرانه لهيبًا ثم ضيق عليه الخناق وشدد ضمته لعنق “مُـهند” الذي حاول أن يُخلص نفسه من بين قبضتي “مُـحي” وما إن استجمع شتات نفسه باغته بضربةٍ في بطنهِ جعلته يرتد للخلف بقوةٍ، بينما “مُـهند” فبدل وضعه ثم أنقض فوق “مُـحي” وهدر فيه بعنفٍ:
_فاكرني مش عارف اللي فيها؟ ابن عمها قالي كل حاجة وقالي إنك العيل الصايع اللي هي كانت ماشية معاه، أنا عارفك وعارف أنتَ مين كمان، بس قسمًا بربي مش هسيبك لا أنتَ ولا هي، الهانم المحترمة اللي عملالي فيها محترمة وهي ماشية مع عيل صايع بتاع بنات، والله أعلم هي زيهم ولا إيه بالظبط.
توسعت عينا “جـنة” وتثبت بؤبؤاها في محجريهما من مجرد وصول الحديث لها وقد ضاق الحال بـ “مُـحي” ذرعًا كأنه وُضِعَ بين المطرقةِ والسندان وقد تيبس جسده ما إن أدرك مقصد الكلمات وحينها انتفض قلبه لأجلها ما إن بكت هي وانتفض إثر ذلك جسده وهو يقوم بضرب “مُـهند” في بطنه بقدمه حتى أطاحه أرضًا ثم جلس فوقه يُكيل له الضربات المُبرحة وهو يقول بصوتٍ هادرٍ أعرب عن جم غضبه:
_ماهو علشان عيل *** زيك بالظبط، هو بيخوض في شرف بنت عمه ويجيب في سيرتها وأنتَ عيل زبالة عامل فيها راجل وعايش دور الملتزم وأنتَ أصلًا زبالة الناس كلها..
مع كل كلمةٍ يتفوه بها تتضاعف قوة الضربات في جسد ووجه “مُـهند” الذي أخذ يتنفس بعنفٍ بينما “مُـحي” أتى بضربته الأخيرة فوق أنفه ثم تركه ووقف يُطالعه بأنفاسٍ لاهثة من علياءه ثم قال بجمودٍ أخرجت صوته متقطعًا من فرط حركة صدره العنيفة:
_قسمًا بربي لو أنتَ ولا الكلب التاني حد فيكم جاب سيرتها على لسانه تاني ولا فكر يقرب منها أنا هجيب روحه في أيدي، علشان دي هتبقى مراتي غصب عنك وعن ابن عمها وعن أبوها نفسه لو فكر يعترض.
أنهى حديثه ثم اقترب منها وهي تقف باكيةً تُطالع الموقف بعينين ماتت فيهما الحياة وفقدتا كل أملٍ وما إن وُجِد المكان فارغًا سكن فيهما الألمُ، ظل يتبعها بعينيه وهو ينطق الأسف بنظراته لها، لكن أي حديثٍ يقال لمواساةِ المرء في خيبة أمله ممن كان مِن المُفترض أن يسعون فقط لجبر خاطره، نزل بعينيه لإصبعها فالتقط خاتم خِطبتها وحينها بغير تعقلٍ وبغير حسابٍ مد يده ثم سحب كفها والتقط منه الخاتم ثم ألقاه بطول ذراعهِ ثم أولاها ظهره ووجه حديثه للآخر قائلًا بحدةٍ قصدها متعمدًا:
_دِبلتك أهيه متلزمناش، ولو عندك دم هتعرف إن أنتَ كمان متلزمناش، غور بقى في ٦٠ داهية تاخدك وريحنا منك، علشان اللي زيك ميستاهلش حتى إنه يعرفها مش إن ديبلته تكون في إيدها، بس لو فكرت تجيب سيرتها تاني، هفضحك أنا وصدقني هتبقى فضيحة تعرك أنتَ وأهلك.
أنهى حديثه ثم قام بسحبها من مرفقها دون الأخذ بعين الاعتبار لأية فروضٍ تمنعه مما يفعل، يعلم أنه يُخطيء وهي تعلم أنه يتعدى حدودًا لا يحق له أن يتخطاها لكن اللحظة التي فُرِضت عليهما هي من أوقعتهما تحت سطوة الصمت والانسياق خلف انحراف تلك اللحظة، وما إن وصل بها لداخل البناية، وقف يطالع هيبتها الباكية بقلبٍ انفطر عليها لكنه تمالك نفسه وكأنه تذكر تلك الحدود المفروضة بينهما، فعاد للخلف ثم نطق تلك المرة بنبرةٍ أهدأ:
_أطلعي فوق وأنسيه خالص، مش هيقرب منك تاني ولو فكر يبقى هو اللي اختار بنفسه يشوف الوش دا مني، إنما أنا مش هسكت تاني خلاص، أنا اللي فيا كتير ومش هقدر أسكت أكتر من كدا، أنا محتاجك دلوقتي قبل بكرة، الأيام تقيلة ومش بتعدي، صعب الإنسان يقف ويعد الهزايم من كل الجهات دي وهو تايه.
أومأت له بتيهٍ ثم رفعت كفيها تمسح وجهها وتحركت نحو الأعلى ثم التفتت له من أعلى الدرج تطالعه بامتنانٍ وعُرفانٍ وشكرٍ وحينها ابتسمت له ثم أولته ظهرها بعد حديثٍ قيل بالأعين للأعين فترجمته القلوب كيفما تود..
____________________________________
<“كانت صُدفة غير محسوبة، وضعت قانونًا جديدًا”>
تلك المرة التي نُخطيء فيها الأخطاء الغير محسوبة رُبما تكون هي بذاتها بداية تبديل الطريق نحو مسارٍ صحيحٍ، ففي البداية كل شيءٍ يغدو مُبهمًا من النظر عن بُعدِ لكن لا شك أن خطوة الاقتراب منه تُجرد لنا الحقائق من أي زيفٍ أو مُزايدات قد تُضلل السُبل والوجهة في أعيننا، فهذا الخطأ العابر،
في الغد رُبما يصنع منك بطلًا يخطو في الطريق الصحيح..
نجح في الخروج من هذا الشارع الذي كان فيه برفقتها في سيارتها وقد كلفه الأمر الكثير من أعصابٍ مُتعبة ومُتهالكة والأنفاس حينها كانت مسلوبة، كان يقود السيارة بدلًا عنها وهي تنكمش بداخل المقعد على نفسها وعيناها تتبعه حتى أوقفها في شارعٍ مُظلمٍ يلهث بقوةٍ ثم التفت خلفه يتبع بعينيه إن كان هناك من يقترب منه لكنه ما إن تأكد من خلو الطريق عاد يُنظم أنفاسه وهي تُطالعه بصمتٍ غريبٍ دون أن تجد ما تتفوه به..
بينما “بـاسم” فالتفت لها يُرشقها بنظرات حادة مُستهجنة ثم هدر في وجهها بعنفٍ لا يعلم إن كان مقصودًا منه أو غير ذلك، لكن ما يعلمه أنه حقًا يكره أمثالها وظهر ذلك في قوله:
_كله من تحت راسك يا خرابة أنتِ، وياريتها حتى راس نضيفة، دي راس خربانة زي صاحبتها، بت أنتِ مُسجلة؟.
سؤاله الغريب جعلها تُرفرف بأهدابها وهي ترمقه بعجبٍ وغرابةٍ وهو يحدجها بكرهٍ صريحٍ بغير سببٍ مُبررٍ لهذا الكره، لكنها سرعان ما خرجت من تلك الحالة واندفعت بالقول وهي تواجهه:
_أنتَ مين يا بني آدم أنتَ؟ بتتدخل في حياتي ليه أصلًا ومين بلاني بيك؟ أنتَ عارف هببت إيه من شوية؟ أنتَ ضيعـ….
توقفت عن الحديث قبل أن تُكمله ما إن أدركت فادحة ما كانت ستتفوه به، فأصابها الخرس وسكتت عن الحديث وبترته، بينما هو ابتسم بسخريةٍ ما إن فهم مقصد الحديث الذي كانت ستتفوه به، وقرر أن يُكمل نيابةً عنها بقوله المُتهكم:
_ضيعت عليكِ الدماغ بتاعة الليلة دي صح؟ دا اللي كان قصدك عليه يا عسلية؟ دا كل اللي همك وشاغلك بس؟ الدماغ اللي كانت هتضيعك أكتر ما أنتِ ضايعة؟ أنتِ مصدقة نفسك يا آنسة؟.
خجلت هي من حديثه كما المعتاد لكنها سحبت نفسًا عميقًا ثم قالت بصوتٍ مختنقٍ حينما بدأ البُكاء يتكون في عينيها ويحتل حلقها ويُداهم كيانها:
_وأنتَ وغيركم مالكم؟ أيًا كان أنتَ مين ومين باعتك مالكش دعوة بيا ولا بحياتي، الدماغ دي اللي مش عجباك دي اللي بترحمني من زحمة دماغي كل يوم، لولا الدماغ دي كان زماني متجننة أو ميتة من القهرة، أنتَ بتتكلم عن إيه وأنتَ متعرفش أي حاجة عن حياتي؟ أنتَ وغيرك ليكم الظاهر وبس، إنما اللي جوة الناس مستخبي محدش يعرفه.
تهدج صوتها وهي تتحدث، بينما هو ضيق جفونه يرمقها بشكٍ فوجدها تنخرط في نوبة بكاءٍ ثم أخفت وجهها بكلا كفيها تنتحب ببكاءٍ مكتومٍ، ثم رفعت وجهها بتروٍ وقالت بتعبٍ بدا جليًا فوق ملامح وجهها بعد أن ظهرت:
_أنا تعبت، بجد والله تعبت من الحياة والعيشة ولو فيه طريقة للموت تانية غير دي ياريت أعرفها، هاتلي سبب واحد أعيش علشانه، مفيش، والله مفيش، حتى أنتَ معرفش أنتَ مين بس تصدق أني هتكلم معاك علشان وحشني اسمع صوتي وأنا بتكلم؟ أيًا كان أنتَ مين بقى مش فارقة، فلو سمحت أنزل وسيبني في حالي.
حرك رأسه للأمام يطالع ملامحها الباكية ولوهلةٍ أشفق عليها وهي بتلك الحالة على الرغم من أن وضعها بأكلمه هو لم يتقبله، لذا عاد للجمود من جديد ثم قال بنبرةٍ جامدة قصدها معها:
_بس كلامك دا مش هيغير حقيقة إنك شخص غلط في حق نفسه لما بلاها بالهباب دا ورمى نفسه في سكته، أنتِ واللي زيك السبب في كل حاجة بتحصلنا ولسه هتحصل، الزفت اللي بتاخدوه دا غيب عقولكم وخلاكم مش واعيين للي عايشينه ولا مقدرين قيمة اللي فات، اللي زيك وأنتِ سهلوا الخراب علينا وخلوا اللي محتاج ١٠٠ سنة علشان يحصل بقى يتحقق في ٥ سنين بس وأقل كمان، طالما عقلك متكيف ومتغطي يبقى إزاي هيشغله؟ أنا لو بكره الكبار قيراط، بكره اللي زيك ٢٤ قيراط.
حديثه كان صادقًا أتى من دهاليز القلب والعقل وقد التقطت هي صدق وألم حديثه كأنه حقًا يتألم بصمتٍ، فطالعته حينها بانكسارٍ على الرغم من عدم معرفتها بهويته حتى الآن، بينما هو قبل أن يتحدث من جديد صدح صوت هاتفه؛ فالتقطه وجاوب بثباتٍ ليتبدل الحال في طرفة عينٍ وهو يجاوب بلهفةٍ:
_طب واحدة واحدة، مالك طيب؟.
طالعته هي بحيرةٍ وراقبته باهتمامٍ فوجدته يقول بقلقٍ تفاقم في قلبه وبدا ذلك جليًا فوق ملامحه المُضطربة حينما حاول أن يعتدل كي يسبق الهواء ويخرج من السيارة:
_بصي البخاخة عندي في الأوضة جنب السرير حاولي توصلي ليها وأنا هكلم حد من الجيران ويجيلك، بس بالراحة علشان متقعيش، وخلي بالك من نفسك وأبعدي عن أي روايح بس، أنا بعيد عنك شوية بس هحاول أطلب عربية واجيلك..
لاحظته “نورهان” وهو يتبدل في طرفة عينٍ لكنها حاولت أن تبدو طبيعية أمامه، لكنه ما أن أغلق الهاتف وكاد أن يتركها في الشارع وحدها ليلًا، أوقفته بلهفةٍ وهي لا تفهم من الأمر شيئًا:
_أنتَ مين ورايح فين وإيه اللي رماك في طريقي؟.
حرك رأسه نحوها بحدةٍ ثم صمت لبرهةٍ وعاد يقول من جديد بنبرةٍ تائهة لا تعلم هي المقصد منها لكنه بدا كذلك أمام عينيها التائهتين:
_النصيب، عمومًا أنا متأكد أني هقابلك تاني، ولو حابة تعرفي أنا مين، فأنا واقع في طريقك علشان تتعالجي من الهباب دا وتفوقي لنفسك لو أنتِ حابة دا، بس عن إذنك علشان أغلى واحدة في حياتي لو ملحقتهاش دلوقتي ممكن يحصلها حاجة وملحقهاش.
كاد أن يترك السيارة لكنها أوقفته سريعًا بقولها المندفع حينما فهمت أن الحديث يخص حبيبته:
_طب عنوانك فين؟ أنا هوصلك لحد هناك، بما إنك بتقول النصيب هو اللي رماك في طريقي خليني أوصلك لحد ما أعرف أنتَ مين.
في الظاهر هو مجرد عرض وسوف ينتهي،
إنما في بواطن الأمر هي كانت تتمنى أن تجد من تتحدث معه، تود خوض الحرب بمضمارها من منظورٍ جديدٍ لم تلمحه من قبل، أما هو فلم يملك المزيد من الوقت لذا زفر بقوةٍ ثم مسح وجهه بكلا كفيه وقال بصوتٍ مبحوحٍ:
_يبقى أنزلي أنا اللي هسوق، مش هغامر بحياتي وأنتِ خرمانة محتاجة تعلي كدا، أنزلي خليني أسوق أنا، يا كدا يا أنزل أشوف العربية اللي كنت متنيل قاعد فيها.
طريقته أعجبتها وسلطته جعلتها تبتسم رغمًا عنها، فنزلت وتركت له المقعد ثم فتحت الباب كي تجلس في الخلف فالتفت لها يتفوه بتهكمٍ في باطنه وُجِدَت السخرية:
_أنا مش السواق اللي أبوكِ الحرامي جايبه ليكِ، تعالي جنبي أتلقحي هنا علشان أنا مش السواق بتاعك.
ضربت الباب بعنفٍ ثم جلست بجواره تحدجه بسخطٍ وهي حقًا تود فصل رأسه عن جسده؛ لكنها صمتت وقررت أن تسكت حتى وإن اختطفها ستصمت وتتنازل عن حقها، لعل عائلتها يساورها القلق عليها فينتفضون باحثين عنها، ورغم يقين قلبها باستحالة الحدوث إلا إنها كانت تأمل في ذلك،
وياليت الأمل كان له مكانه في حياةٍ
احتلها الألم وحول الربيع فيها لخرابٍ…
____________________________________
<“أُرهِقَ الخيل في معركته ونال منه كل جبانٍ”>
تلك المعركة لم تكن بعاديةٍ أو حتى مثل غيرها..
تلك المرة كانت الحرب في أوج قسوتها حتى نسينا كيف كانت تُدار المعارك بنزاهةٍ، ففي تلك المعركة سقط السيف، وهُزِمَ القائد، وركع الخيل، ورُفعت راية الاستسلام..
لكن لولا أصول الخيل القوي، ورفعة رأسه بشموخٍ لما كان عاد البطل وقاد معركته من جديد،
وتلك المرة وبكل قوةٍ، ربحنا الحرب ومعها أنفسنا..
أرهقه التعب وأثقلته حقًا الهموم، أصبح في ليلةٍ وقُبيل ضحاها عدوًا للحياة فلم يجد لنفسه في تلك الحياة من يُدافع عنه ويحميه، تعب من كونه هو الجدار في حين أنه يبحث عن جدارٍ يتكيء عليه ويُلقي بثقل كتفه ورأسه فوقها؛ فتسانده قبل أن يميل بحملهِ ويسقط أرضًا، لذا جلس “إيـهاب” في غرفة “جـواد” في انتظار النتائج الأخيرة للفحوصات الطبية التي سوف تكون بينةً أكيدة لحالة شقيقه، لذا كان يقارب مرور الثواني وهي تتسكع في السير كي تُكمل دقيقة كاملة، والدقيقة تمر بأعوامٍ كي تُشكل خمس دقائق هيتبدل الرقم، كل شيءٍ كان سخيفًا وهو لم يتحمل كل ذلك، لذا حاول أن يكون هادئًا قدر المُستطاع؛ لطالما كان المختص بذلك هو شقيقه والآن هو حتى لم يجد نفسه في نفسه..
فجأةً فُتِحَ الباب وطل منه كلًا من “جـواد” و “مُـنذر” فتأهب “إيـهاب” للقاء معهما _رغم تخوفه المُبطن_ كي يعلم آخر النتائج عن حال شقيقه، وبعد جلسةٍ رسمية ومصافحات فاترة، وجلسة روتينية حول مكتبٍ خشبي، سألت نظرات “إيـهاب” بشجاعةٍ لم يملكها لسانه، فأتاه الجواب من الطبيب المختص بقوله الرسمي:
_بص مش هطول عليك، التحاليل والآشعات ظهرت دلوقتي، قبل أي حاجة بس عاوزك تطمن على أخوك هنا، علشان بعد التحاليل اللي ظهرت اتأكدنا إن أخوك كان لازم ييجي هنا، الآشعات وضحت ضغط أعصاب في جزء من الدماغ مكون كُتل دم، دي زي جلطات دموية بس متقلقش ملهاش أثر طبي كبير، بالعلاج هتتعالج خاصةً وهي في الأول وتم اكتشافها بسرعة، التحاليل بقى دي وضحت شيء تاني، “إسماعيل” للأسف واخد جرعة زيادة من مواد بتسبب هلوسة للحواس، بمعنى إن العقل واقف ومكرر الصور من العقل الباطن وبيعرضها على حاسة السمع وحاسة البصر، وعلشان كدا بيشوف صور مكررة من الذكريات اللي مخزنها في زوايا عقله…
توقف عن الحديث حينما لمح تيه ملامح “إيـهاب” لكنه أراد أن يفسر البقية فأضاف مُكملًا ما سبق من حديثه بقوله:
_فيه نسبة مواد في الجسم بتسبب هلوسة وبتدمر الأعصاب، وللأسف العقل وسط كل اللي حصل دا مقدرش يقاوم، مع دخول المواد الأفيونية اللي هي من “المورفين” و”الميبيريدين” التحاليل طلع فيها نسبة كبيرة من المواد دي هجمت على العقل وسببت الهلوسة اللي عقل “إسماعيل” بقى بيشوفها ويعرضها على الحواس ويعكس صورتها للعقل كإشارات منه ويترجمها على صورة هلاوس بصرية وسمعية، الحل إنه ياخد علاج ومُضادات للمواد دي لأنه واخدها بكميات كبيرة، كأنه مخلص جرعة كاملة زي الإدمان كدا، صدقني أنا والله ببذل كل جهدي ومش أنا لوحدي معايا “مُـنذر” كمان ومعايا “فُـلة” أختي وكلنا هنا علشان “إسماعيل” واوعدك هيرجعلك أحسن من الأول، ودا وعد ودين في رقبتي، على الأقل أرد دين الحج “نَـعيم” عليا وارجعله ابنه.
طُعِن مُجددًا في قلبه؛ فنكس رأسه..
أخفض عينيه بدلًا من مُجابهة العالم بشيءٍ هو لم يعد مالكًا له، نكس رأسه كي لا يُلمح الذُل من عينيه والهوان في نظراته، لذا كان أقرب الأفعال إليه أن يهرب بعينيه من تلك المواجهة، وما إن بدأت خيوط الأسئلةِ تتشابك وتُشكل جديلة متضافرة في عقله من أسئلةٍ بلا أجوبةٍ، تقدم بجسده يسأله بلهفةٍ:
_طب الدوا أو الهباب دا خده ليه؟ يعني اللي حصل حصل وخلاص وسيطروا عليه، والشيخ كان قالي إن حالة “إسماعيل” بيتحكموا فيها بسهولة لأن طول الوقت مش هيكون جاهز والجن اللي عليه مش بيأذيه، فليه ياخد العلاج دا لو هما عاوزينه يتسخر علشان يكون تحت طوعهم، ماهو كدا مش تحت طوعهم ولا حاجة يعني.
طافت النظرات بين كلًا من “جـواد” و “مُـنذر” حتى التحمت مع بعضها، فتحدث الأول بثباتٍ قدر المستطاع لديه حتى لا يتضح أسفه وحزنه:
_كل الحكاية يا “إيـهاب” إن من مجرد خروج “إسماعيل” من هناك هادي والشيخ متحكم فيه دا معناه إن عقله هيكون مستقر وبالتالي يقدر يتذكر ويراجع كل حاجة حصلت فيه واتقالت، بس لما خد الجُرعات دي، بقينا قدام حالة فقدان عقل، وقانونًا “إسماعيل” فاقد الأهلية، يعني لو روحت تقدم بلاغ كلامه مش هيعتد بيه، لأنه صاحب الوقعة بس قدام القانون فاقد عقله، وحتى لو معاه “سـراج” كمان وهيشهد، بس حالة الاتنين نفسيًا صعبة، فالكلام مش هيتاخد بيه غير محضر وتحقيق من النيابة وهتيقفل على كدا، لو بتسأل ليه بقى حصل فيه كدا، علشان لو هتقدم بلاغ أو تاخد أي إجراء قانوني يقف، ودي سياسة اليهود..
تنهد بضجرٍ ثم هتف بقلبٍ تمزق لأجل حالٍ فاسدٍ طغى وتفشى:
_كل المعتقلات السياسية والدينية في الوطن العربي مؤخرًا بقت للأسف ماشية على النهج دا، علشان اللي يخرج يفقد أهليته وميقدرش يفتح بوقه بكلمة من اللي شافه جوة، وحتى لو ماخدش أي مواد من دي فهو مش هيقدر يتكلم عن الأذى النفسي اللي حصله، لأن العوامل النفسية أثرها في التعذيب يفوق الجسدية بمراحل، فأنا آسف علشان بصارحك بالواقع المؤلم دا، بس أنا لازم أخليك على علم بكل حاجة لأن فيه وقت هييجي هتكون أنتَ العامل الأساسي في المساعدة دي.
من جديد يصيبه التشتت والضياع في ميدان الحقائق المؤلمة، تلك الحقائق التي كان تائهًا عنها ما إن وصل لها تمنى لو كان يجهل تلك الحقائق قبل ما تضربه بسوطٍ من نارٍ في قلبه، لذا تحرك بصمتٍ بعدما أصدر إيماءة بسيطة من رأسه ثم خرج من الغرفة قاصدًا غرفة شقيقه، وصل هناك يُهيء نفسه لما هو مُقبلٌ عليه…
ولج الغرفة مُشتت الخطى وتائه الحركة ثم وقف بجوار الفراش يطالع وجه النصف الآخر من الروحِ بهذا الوضع المُزري، وقف يستمع لصراخ قلبه مناداةً باسم شقيقه وقد أيقن أن الروح تتألم ليس لأجل نفسها وإنما لمن ينام طريح الفراش أمامه بجبينٍ مجعد ووجهٍ مُتغضن كمن يُصارع في درب الأحلام قبل أن ينجرف خلف الكوابيس.
ارتمى فوق المقعد بهزيمةٍ ساحقة أقرب في وصفها لذاك الجندي الخاسر الذي ركع على رُكبتيه بعد الهزيمة المُميتة التي باغتته في منتصف الحرب بغير تمهيدٍ، فخرَ راكعًا وبجواره سيفه ملتصقٌ فوقه الدماء كدليلٍ على جدارة مُحاربٍ قام بكامل دوره في الحرب، وتلك الدماء لم تكن للعدو وإنما هي خير الدليل على استبساله وإقدامه في الحرب..
جلس فوق المقعد بعدما رمى جسده وحرك عينيه الحمراوتين بلهبٍ مشتعلٍ يستقر بالنظر فوق وجه شقيقه النائم وما إن التقط بعينيه ملامح شقيقه تنهد بقوةٍ وترك العنان لعَبراته تنساب فوق وجنته كأنه يعترف ويُقر لنفسه بتلك الهزيمة الساحقة، انتحب وبدأ صوت بكائه يظهر علنًا وهو ينتحب ثم سحب نفسًا عميقًا ومسح وجهه وتحدث بصوتٍ أعرب عن انكسار روحه:
_طولت في الغياب عني يا “إسماعيل” وأنا من غيرك وسط الناس غريب، مش لاقيلي مكان كأنك بيتي، وعيني عمالة تدور عليك حتى وأنتَ قصادي، أجيب حقك منين وإزاي وأنا والله مش هقصر، حتى لو هتوصل إني أحرق قبر “أشرف الموجي” ذات نفسه علشان ترتاح هعمل كدا، هحرقه علشان أرتاح، بس أتمنى يكون غرقان في نار جهنم ميلاقيش حاجة تشفعله، ياريته ما كان خلفنا ولا كان دا أبونا..
انهمر البكاء من عينيه كأنه تمسك بلحظة الضعف هاته وترك الحُرية تأخذ مجراها في قلبه فيبكي كما لو كان صغيرًا يحق له أن يبكي وينتحب ويصرخ ويفعل كل ما يحلو له، ظل يبكي بتلك الحالة التي شابهت صغر عمره حينما كتم البكاء في قلبه وعينيه وكأن لتوهِ انفجرت الحواجز من ضغط المياه فتفرقت الجفون وبكى هو كما لو كان صغيرًا ولم يستطع أن يفعلها، ثم ألقى رأسه فوق كف شقيقه وهو يخبره بالدموعِ عن حجم الهزيمة الساحقة التي انتهت بها حربه مع الحياة..
لكن، لطالما كان القلب حُرًا،
والروح حاضرة، فإذًا ولابُد من عودةٍ للخيل الحُرِ…
____________________________________
<“تلك المرة كانت الهزيمة أكبر من تخطيها”>
الإنسان وُلِد كي يخوض مضمار الحرب مع دنياه..
وبين المعركة والأخرى يربح مرة ويخسر مرة أخرى، ورُبما تلاحقه هزائم وتتبعها أرباح، لكن من بين تلك المرات كلها تأتي هزيمة واحدة فقط تكون بقدر كل الهزائم كأنه لن يقف من جديد، تلك الهزيمة التي تكون بقدر كل الهزائم حتى نكاد نخسر فيها الحرب، لكننا لن ننس أن تلك الهزيمة كانت أكبر من تخطيها..
هزائمه كثرت وتلاحقت خلف بعضها وهو الوحيد الذي خسر كل شيءٍ حتى رفقة العُمر، كان يود أم يصرخ لكنه سيُلام إن فعل، أراد أن يبكي لكنه كبيرٌ بما يكفي كي يوقف البكاء ولا يظهره، خسر كل شيءٍ وأولهم نفسه التي تغربت عنه منذ أن عاد للواقع وتفاجأ بما حدث، كل شيءٍ كان أشبه بهزائم مُتلاحقة، وهو قبل أن يواجه واحدة تداهمه الأخرى فيقف حائرًا هو أيهما يواجه ويُعالج؟..
جلس “سـراج” وحده في حديقة البيت ولقاءه مع “إيـهاب” يتكرر ويُعاد وقهرته في رفيقه لا تنسى، وكأن الخيبة في الأصدقاء لن تُضاهيها أية هزائم أخرىٰ، أي هزيمة تلك تُقارن بهزيمة المرء فيمن كانوا له أقرب من قرب الرموش لجفون العين؟ احترق حينها قلبه وأراد أن يصرخ ويبكي لكنه صمت وتوقف عن ذلك ثم تحرك من موضعه وتوجه نحو غرفته فلمح زوجته التي تنام بهدوءٍ بعدما ترك مكانه بجوارها، أقترب منها يُطالع تلك الملامح الرقيقة التي اشتاقها كثيرًا ثم مال يُلثم جبينها بصمتٍ كأنه يود أن يحتمي بها لكنه يخجل أن يفعلها، لذا استقام في وقفته ثم تنفس بعمقٍ..
تحرك “سـراج” ببطءٍ يسحب متعلقاته وبعض الأشياء التي تلازم احتياجاته وقد وضعهم في حقيبة كبيرة الحجم قابلته صدفةً، ثم التقط بعض الثياب دون مراجعة ما يقوم بخطفه ثم وضعهم في الحقيبة وأمسك هاتفه يكتب رسالة لزوجته كي تراها حينما تفيق، رسالة كانت قاسية بقدر ما لقى هو القسوة في حياته وبالأخصِ في هزيمته الأخيرة، لذا كتب بقدر المستطاع منه:
_أنا ماشي يا “نـور” وهروح بيت أبويا ارتاح فيه شوية، عارف إن صعب أسيبك وأمشي وصعب أحطك في الموقف دا، بس أنا مش قادر أفضل هنا ولا قادر أقعد أتفرج على نفسي بخسر كدا كتير، حاليًا أنا بخسر كل حاجة، وأولهم نفسي اللي كنت عارفها، مش هقدر أرفع عيني في عينك وأنا راجل مكسور كدا وعيني في الأرض، يمكن أكون بغلط دلوقتي وأنا ماشي بس مش قادر أقعد كدا متكتف، خلي بالك من نفسك ومن “چـودي” ومتزعلوش مني، بس أنا متأكد إن وجودي ضرر عليكم أكتر من وجودي.
أنهى إرسال رسالته لها ثم اقترب من جديد يُلثم جبينها بخفةٍ كي لا تستفيق من نومها، ومن ثم مر على غرفة صغيرته ثم وقف يبحث عنها حتى وجدها تحتضن صورتها معه وهي تنام فوق الفراش وحينها لمعت العبرات في عينيه وهو يتقدم منها ثم وقف يُلثم كفها الصغير ويشتم رائحتها تلك التي يحفظها عن ظهر قلبه، وقف يراقب ملامحها وتخيل لو كان لاحقها هي الأذى في تواجده كيف له أن يتصرف في وضعٍ هكذا فقد فيه كل الحِيل؟ كيف يتصرف إذا مسها هي بذاتها الضرر وكانت مجرد ضحية لرجلٍ لا يهوى إلا الأطماع فقط؟ هو تمامًا كما اللعنة على الجميع، أينما حلت خُطاه؛ حل في عُقرها الخراب..
خرج من البيت وقاد سيارته التي أعادها له “عَـزيز” بعد أن عثر عليها في الطريق ثم تحرك نحو بيت والده القديم كي يهرب من الجميع ومن تلك النظرة التي لا تنفك عن الأعين كافة، ولج البيت وأضاء كل المصابيح ثم ارتكن بجسده فوق أول أريكةٍ قابلته وارتمى عليها يُحملق في سقف البيت القديم..
ها هُنا في موعدٍ مع الذكرى واللقاء يتجدد،
وما بين ذكرى حبيبة وأخرى كريهة كان القلب يواجه طوفانًا وشُراع مركبه مزقته الرياح قبل أن يُداهم هو هذا الطوفان..
في مكانٍ آخرٍ..
بوسط أحد الأحياء المصرية القديمة التي تعد طرازًا أصيلًا في مدينة القاهرة، توقفت سيارة “نـورهان” بعد أن أوصلها “بـاسم” معه لحيث منطقة سكنه، وما إن أوقف السيارة حرك رأسه نحوها يخبرها بهدوءٍ يتنافى مع طريقته عند مقابلته بها:
_الحمدلله هي بقت كويسة، جارتنا قاعدة معاها جوة وهي قدرت تاخد نفسها، تقدري تتحركي أنتِ وكأن مفيش حاجة حصلت، ومعلش عندي أنا دي علشان ضيعتلك الدماغ، مع إنك خرابة يعني مش هيفرق معاكِ، تلاقيكِ مأمنة نفسك بزيادة.
ضيقت جفونها وهي ترمقه بحيرةٍ وحتى لحظتها تلك ترى أن كل شيءٍ خارج حدود المنطق والمعقول، لذا عاد ذاك السؤال الذي كاد أن يبتعد عن أفق عقلها وعاد من جديد يلوح برأسها فسألته هي بلهفةٍ:
_أنتَ مين صح؟ ومين بعتك في طريقي؟ أكيد مش صدفة صح.
حرك رأسه نفيًا لها ثم قال بصمودٍ أمامها حتى يبدو بتلك الخشونة معها دون أن يظهر أي شفقةٍ أو حتى تعاطف:
_مفيش صدف بتحصل، كل حاجة متربت ليها، ولو عاوزة تتعالجي وتمسكي في فرصة عمرك يبقى ألحقي خدي خطوة علشان الفرصة متضيعش منك يا “نورهان” لأن مش كل الفرص ينفع تتعوض، وأنتِ قدام فرصتك أهو.
قررت هي أن تتجاهل حديثه لذا سألته بتوترٍ كسىٰ ملامح وجهها حين قالت مُغايرةً لحديثه هو:
_طب وتعزمني أطلع ولا مش هينفع؟.
رفع كلا حاجبيه للأعلىٰ بغير تصديقٍ لسؤالها وقد ابتسم رغمًا عنه ثم ضحك بيأسٍ وقال بسخريةٍ ردًا عليها:
_مش خايفة مني طيب؟ يمكن أكون ناصبلك كمين.
وتلك المرة تم رد الضحكة بضحكة أخرى يائسة من نفس القبيل ثم حركت كتفيها بمعنى حقًا أنها لا تعرف الجواب، بينما هو ترجل من السيارة وهي لاحقته كي تتأكد من رد فعله، وإذ به يشير لها أن تتبعه وتتجه معه لبيته، أما هي فما بين الرغبة في خوض مضمار الحرب، وما بين الخوف من مكمن الحرب سارت تتبعه بغير هدى أو علمٍ لأي مكانٍ تتبعه..
وصل هو أولًا وهي خلفه وقد وقفت وهي تتمنى أن تعلم هوية تلك المرأة التي جعلت قلبه يهوىٰ من موضعه ويقوم بعمل ما يقارب الثلاثين مكالمة هاتفية كي يطمئن عليها، ربما هي زوجته، وربما هي حبيبته، وربما قد تكون هي الزوجة المنتظرة له، ورُبما هي أمه، ظلت تخمن وتطلق سراح أفكارها للسباحةِ بغير حدودٍ حتى فتح هو الباب ثم وقف على الأعتابِ وهي خلفه وقد تحدث هو بنبرةٍ عالية:
_يا أهل الدار، الدار أمان؟.
خرجت له خالته بخطواتٍ واسعة تركض له ثم وقفت أمامه وهي تقول بحبٍ وضحكةٍ واسعة ترحب به من خلالها:
_وأمان الأمان كمان، وأحلى صينية مسقعة مستنياك جوة.
ضحك لها رغمًا عنه بينما هي لمحت تلك الغريبة التي تجاوره وهي تطالعها بغرابةٍ وتعجبٍ كأنها لا تعلم هويتها وحينها قال هو معرفًا بها:
_دي “نورهان الزاهي” لقيتها تايهة وعاوزة تعلي قولت أجيبها تدوق المسقعة بتاعتك، ألا هي لسه بتعلي برضه؟.
طالعته خالته بتعجبٍ بينما الأخرى ففرغ فاهها وتوسعت عيناها ما إن فهمت مقصد كلماته وحينما نظر لها وجدها تحدجه بشرٍ كأنها تنتوي له على نيةٍ لن ترحمه بها..
وبعد مرور دقائق جلست فوق الأريكة تفرك كفيها مع بعضهما بتوترٍ طاغٍ عليها وهي لا تعلم أي خبالٍ أتى بها إلى هُنا، لا تعلم الهدف من تواجدها هُنا وهي حتى لا تعلم من هذا الذي خاطرت معه كل تلك المخاطرة كي ينتهي بها الأمر في منزله حتى دون أن تعرف أية تفاصيل عنه، وقد أتى هو وجاورها ثم قال بسخريةٍ:
_طبعًا أنتِ مش عارفة أنا مين ولا هنا بتعملي إيه ولا حتى إزاي جيتي هنا معايا وأنتِ متعرفيش مين أنا ولا تبع مين، بس أنا هقولك علشان أريحك وأقولك الإجابة…أصل الكيف بيذل.
توسعت عيناها حتى مرحلة الجحوظ بينما هو قال بنبرةٍ ضاحكة:
_هي دي الإجابة خلاص، إن الكيف بيذل، بس أنا عارف أنتِ جاية معايا ليه، يمكن أخطفك أو حتى تتأخري أو حد من عيلتك ياخد باله فمشاعرهم تتحرك علشانك، كيفك للمشاعر بيذلك، بس عمومًا أنتِ منورانا هنا.
ترقرق الدمع في عينيها من قوة مصارحته لها بالكلامِ وقد أتت “كـنز” تحمل صينية معدنية مستديرة ثم وضعتها فوق الطاولة القصيرة أمامهما ثم قالت ترحب بضيفتها:
_نورتينا يا “نورهان” والله، معلش والله دي حاجة بسيطة علشان هو مقالش ليا إنه هيجيب حد معاه، بس دي مسقعة باللحمة المفرومة عمايل أيدي ويا رب تعجبك، المرة الجاية هعملك معاها بقى شاورما علشان أعوضهالك.
ابتسمت لها ببشاشةٍ وجهٍ، بينما هو ضحك بخفةٍ ثم أخذ صحنه والخبز دون أن يهتم بالبقية وما إن لكزته خالته في مرفقه زمجر متأففًا ثم قال بلامبالاةٍ:
_نسيت أعرفك دي “كِـنز” خالتي والست الوحيدة في حياتي ومعرفش غيرها، وحلم حياتها تجوزني وتفرح بعيالي وتشيل عوضي، وأنا كاسر بخاطرها في الدنيا دي وعمري ما نصفتها، عرفتي هي مين؟.
كان يوجه حديثه للفتاة ثم استأنف تناول الطعام بينما “نورهان” فانتبهت لتلك المرأة صغيرة العمر التي لم تتخط عامها الأربعين وقد انتبهت لما حدث قبل حضورها؛ فسألت بتوترٍ:
_هو حضرتك كنتِ تعبانة؟ علشان أنا جيت أتطمن عليكِ.
أومأت لها الأخرى ثم أضافت بوجهٍ مُبتسمٍ:
_متقلقيش دي يدوب نوبة ربو، لو البخاخة بعيد عني زي النهاردة كدا بتعب أوي وأنا بعمل الأكل خصوصًا لو توم، بس الحمدلله خدت البخاخة وبقيت زي الفل علشان شوفتك طبعًا، كُلي بس دا أنتِ منورة الدنيا كلها، والله يا بنتي الباب دا عمره ما دق ولا حد بيسأل فينا، دا أنا مبسوطة أوي إنك جيتي تنورينا وتطمني عليا زي ما بتقولي، يا رب بس تتكرر تاني.
ابتسمت من جديد لها بودٍ وكأن الألفة أخذت موضعها بينهما، وقد ظلت “نورهان” ترمقها بنظرة حنونة وفي تلك اللحظة أخذت “كِـنز” لُقيمة صغيرة تدسها بفم الفتاة التي رفعت كلا حاجبيها لها بغير تصديقٍ فضحكت لها المرأة ثم مسحت فوق كفها تحثها على تناول الطعام، وما إن حركت “نـورهان” عينيها نحو “باسم” ابتسم رغمًا عنه ثم تفوه بمزاحٍ:
_كُلي يا “نورهان” علشان أخليكِ تعلي.
ضحكت له بعينين دامعتين ثم عادت تنتبه لتلك المرأة الحنونة التي اهتمت بها فورما رآتها وهي في أشد الحاجة لمثل تلك المشاعر الغريبة عليها، كانت حقًا تود أن ترى بعينيها حب أحدهم لها، لذا بكت وهي تبتلع الطعام وتخيلت هذا الموقف لو كان صدر مرة واحدة فقط من أمها من المؤكد كان حالها تبدل كُليًا…فعجبًا لهؤلاء الذين يتركون أولادهم يشحذون الحب من كل غريبٍ يمر في حياتهم، والعجب العُجاب لهم حينما يُدهشون بجحودٍ في قلوب صغارهم وكأنهم نسوا أن كل ساقٍ يُسقى بما سقى؟.
____________________________________
<“البداية كانت هكذا ويجب أن تبقى وتستمر”>
بعض البدايات ما إن تبدأ بوتيرةٍ ما يتوجب أن تبقى هكذا وتستمر، وبعض البدايات منذ النقطة الأولى بها كان يتوجب أن تتغير، لكن الفضول هو أقوى الدوافع للمرء كي يُكمل طريقٍ قد يبدو لا يتناسب مع معركة الحياة، لكنه في النهاية انكشف عنه الستار ودفعنا الفضول لخوضه حتى ولو تورطنا به..
حل الليل والمساء ازداد ظلامًا، والقلوب المشتاق يطلب رؤية من يُحب كي يرتوي من الظمأ ويُطفيء نيران اللوعة التي تسرح وتشرد في طيف الحبيب، وأول المُشتاقين كان “أيـوب” الذي خرج من بيتهِ يسير في الليل وحده كما يُحب، لكنه ما إن مر أسفل بناية “قـمر” وقف بحيرةٍ وهو حقًا اشتاق لتلك التي شارف غيابها على إتمام أسبوعٍ دون أن تكون معه، فقط يراها بمحض الصُدفة البعيدة ولا يقدر على قربٍ..
أخذ قراره الأخير وصعد للأعلى ضاربًا بكل شيءٍ عرض الحائط ثم توجه نحو شقة حماته؛ ولحظه الذي يحبه هو فتحت له “غالية” صاحبة الوجه البشوش والملامح المنبسطة وقد ابتسمت له رغم حزنها ترحب بها، فابتسم هو لها ورد بقوله:
_البيت منور بوجودك يا أمي، “قـمر” هنا ولا عند أختها؟.
_لأ هنا يا حبيبي، “ضُـحى” نامت شوية و “قـمر” جت ترتاح هنا ادخل تعالى هي هتفرح أوي لما تعرف إنك جيت، معلش هي مقصرة معاكم بقالها كام يوم بس أختها محتاجاها.
أومأ لها موافقًا ما إن ردت عليه بذلك وقد وقف قبل أن يتبعها نحو الداخل ثم سألها باهتمامٍ قبل أن يطيء بقدمه الشقة:
_هو “يـوسف” هنا ولا مشي؟.
التفتت له تجاوبه بضحكةٍ يائسة من طباعه:
_لأ هو فوق هيبات عند حماته علشان يكون جنبنا لو “ضُـحى” محتاجة دكتور أو حاجة، بعدين قولتلك البيت بيتك، أدخل يابني بقى متتعبنيش، دا أنتَ غلباوي يا واد أنتَ.
بادلها الضحكة بأخرى ثم ولج غرفة زوجته التي كانت فوق سجادة الصلاة تُقيم ركعات الشفع والوتر فوقف يبتسم بحنوٍ وهو يرى نبتة زراعته الصالحة عليها، وقد انتظر حتى انتهت هي من الذكر والتسبيح ثم خلعت اسدالها بهدوءٍ واقتربت منه وهي تبتسم له بحزنٍ فوجدته تلك المرة هو من يُبادر ويفتح ذراعيه لها، فألقت هي نفسها بينهما تتمسك له بقوةٍ وهتفت بصوتٍ مختنقٍ:
_أنا محتاجالك أوي يا “أيـوب”.
ضمها له يمسح فوق رأسها ثم مسح فوق ظهرها بحنوٍ وقال بضعفٍ يماثل هذا الذي تتحدث هي به كأنه يشاركها المشاعر ذاتها حتى الفؤاد المُتألم:
_وأنا والله محتاجلك أوي، محتاجك معايا ومش عارف ليه كل مرة المفروض أكون قوي كفاية بلاقيني ضعيف قدامك أنتِ، قولي مالك وطلعي اللي جواكِ كله، دا أنا هنا دلوقتي علشانك.
أنهى حديثه ثم جلس فوق طرف الفراش وهي في عناقه حتى أرخت نفسها كُليًا وقالت بصوتٍ اثقلته الهموم:
_أنا زعلانة علشانها أوي يا “أيـوب” ومش حاسة إن الموضوع هيعدي، “ضُـحى” سكتت ودي مش عادتها إنها تسكت، هي ساكتة ليه ومش عاوزة تتكلم؟ طب تقولي وتريحني هي مالها، من ساعة ما عرفت إنه راح المستشفى وهي ساكتة، ومش بتتكلم، حتى فستان الفرح شالته وهي ساكتة، هي ساكتة ليه؟.
تنهد هو بثقلٍ لأنه أدرىٰ الناس بأهمية الصمت، لذا قال بهدوءٍ:
_ساكتة علشان الساكت جواه زحمة مبتفضاش ولا صوت بيسكت، وهي أكيد مش ساكتة وبتحارب، فرحتها مكملتش للأسف وكل حاجة عطلت والسبب قهرها، مش سهل على حد يسكت في وجعه، دايمًا الساكت شيلته تقيلة وكلامه بيوجع فبيوفره لنفسه، متتخدعيش بسكوتها دا، هي أكيد بتعاني ودا حقها، واجبك تكوني معاها في الوقت دا متسيبيهاش.
بكت “قـمر” بحزنٍ ولاحظ هو ذلك لكنه ضمها له أكثر ثم مسح لها فوق ظهرها ورأسها حتى بدأت ترتخي معه، بينما هو فترك نفسه ونام وهي بجواره تتمسك به كأنها تخشى عليه من شيءٍ قد يصيبه كما أصاب غيره فجأةً وتتعرض هي لخسارته..
بينما في الأعلى كان “يوسف” يتسطح فراشه بصمتٍ والعديد من التساؤلات لا تنفك عن عقله، لكن تلك الذكرى التي وقف يحاربها اليوم وانتصر عليها جعلته يأخذ مسلكًا جديدًا في التفكير، كان يفكر ويفكر وبين الفكرة والأخرى كان يلمح بعينيه أملًا جديدًا، خرج من شروده على دخول زوجته الغرفة وقد جلست بجواره وهي تقول بحنوٍ:
_عملتلك كوباية شاي بالنعناع وسندوتشات علشان عرفت إنك طول اليوم كنت برة وماكلتش، وعارفة إنك مالكش نفس زي الباقي، بس فيه علاج أنتَ بتاخده ولازم تكون واكل كويس أوي.
أومأ لها موافقًا ثم تناول الشطيرة منها وكوب الشاي أيضًا وعاد من جديد للشرود وقد سقط في مثلثه حتى شعر أنه يحمل الكثير فشاركها حيرته بقوله:
_أنا النهاردة دخلت المستشفى اللي كنت فيها قبل كدا، معرفش عملت كدا إزاي ودخلت هناك بعد ما كنت حتى الشارع بتاعها مش بدخله لو من باب الصدفة، بس حاجة جوايا جت تفتكر الخوف والكره دول ملقتهمش، فجأة لقيت نفسي هناك وبدخل من الباب ووقفت كمان جنب “إيـهاب” وتابعت مع “جـواد” وحسيت إني طبيعي، تفتكري في أمل فيا يا “عـهد” إني أتعالج وأكون طبيعي؟ ولا لسه هفضل عايش زي العلة على نفسه؟.
لاحظت هي تشتته وضياعه فمسحت فوق كفه ثم أتت برأسه كي تضعها فوق كتفها ثم مسحت فوق خصلاته بحنوٍ وهي تقول:
_الأمل موجود علشان أنتَ موجود مش العكس، وكونك خدت خطوة زي دي فدا شيء كويس جدًا ليك، أنتَ عملت فوق طاقتك علشان غيرك ودي خطوة كويسة، أنتَ ليه مصمم تشوف نفسك وحش وفيك حاجة غريبة؟ ليه حاطط نفسك في حتة إنك الظالم وبس؟ دا أنتَ أغلب من الغُلب نفسه.
رفع عينيه نحوها ليجدها تبتسم له بصفاءٍ فابتسم بلمحة حزنٍ ثم قال بحيرةٍ كأنه يسأل ولا يجاوب:
_يمكن علشان كل حاجة حواليا كانت بتأكد إني وحش؟ أو يمكن علشان علطول كانوا حاطيني في خانة الظُلم ومحدش فكر يحط نفسه مكاني، دايمًا كنت الغلطان واللي الناس بتلومه، بس ولا مرة حد فكر يلوم حد علشاني، مش سهل عليا إني كل حياتي تبقى صراعات وحروب كدا وياريتها مع حد غريب، بالعكس دي مع نفسي ومعايا أنا، عارفة أنا دلوقتي قاعد جنبك وعقلي فين؟ عقلي هناك مع “إسماعيل” لحظة ما يفوق على اللي هو فيه دا ويلاقي نفسه محبوس هناك، تاريخ حياتي كله هناك كان بيتكرر قدامي وأنا معنديش أي حاجة أعملها غير أني أقف على رجلي علشان مش هقدر أرجع خايف تاني، بس دلوقتي أنا قلبي بيتقطع على صاحبي وأخويا اللي ذنبه بس إنه ابن “أشرف الموجي” عديم الرحمة..
كان يتحدث بوجعٍ وعناءٍ جعلاها تقترب منه ثم أعادت رأسه فوق كتفها كي تشاركه حمل الليالي الثقيل عليه، أرادت أن تقاسمه الحزن وتفي بعهدها له أن هذا الكتف له حينما يحتاج هذا الرأس أن يميل، وحينما يكون الحمل فوق الأكتاف بثقيلٍ، أما هو فعلم أنه نجح في اختياره لمبيت تلك الليلة في غرفتها بجوارها بدلًا من الذهاب لشقته وصراع الليل وحده بدون أن تكون هي معه وبرفقته.
“في صباح اليوم التالي”..
بحارة العطار صباحًا، بدأت اليوم بحركاتٍ روتينية شبه اعتيادية من الجميع وقد كان “أيـوب” في محله يعمل به حتى ولج له “مُـحي” الذي تحدث مباشرةً بعد أن رحب به:
_بص يا “أيـوب” علشان متزعلش مني، أنا هنا بكبرك زي أخويا الكبير وأكتر كمان، وكلمتك سيف على رقبتي، بس كون إن “مُـهند” دا يحاول يمد أيده على “جـنة” فديه معناها كبير أوي ومش هقدر أعديها، ويمكن أكون عكيت الدنيا أكتر بس معلش ما باليد حيلة خلاص، وأنا مبقاش عندي حيل تانية غير إني آخد حقي بالعافية من الدنيا دي، وهي حقي ومش هسيبه.
عقد “أيـوب” حاجبيه وضم جبينه وفي تلك اللحظة ولج “مُـهند” صدفةً كي يشارك “أيـوب” في معضلته وفي تلك اللحظة اتقدت النيران في عيني “مُـحي” الذي أشبه بثورٍ وجد أمامه قطعة القماش الحمراء كي يثور، وفي تلك اللحظة حاول “أيـوب” أن يقوم بسحبهما فوق بساط الود، وما أن جلسوا وبدأ الحديث من الطرفين وانتهى بختام “مُـحي” حينما هدر:
_يعني فيه راجل محترم ومربي دقنه وعامل فيها شيخ يمد ايديه على واحدة ست؟ ياريتها حتى مراته ولا أخته هقولك هما أحرار، لكن دي يدوبك خطيبته وهو مالهوش كلام عليها أصلًا علشان يمد أيده، وفي الآخر يغلط في شرفها ويتهمها بكلام زي الزفت وهي واقفة قدامي؟ دا أنا الصايع بتاع الكباريها زي ما بيقولوا عليا مقدرش أزعل واحدة ولا حتى أفكر أمد أيدي عليها، بس هو فاكرها بالشكل، كل واحد هيربي دقنه يمشي يدوس على الخلق.
كاد “مُـهند” أن يقوم له ويرد على حديثه لكن “أيـوب” منعه وردع حركته حينما مد كفه وهدر بجمودٍ قاسٍ:
_مكانك يا “مُـهند” هتقوم تمد إيدك عليه وأنا قاعد كمان؟ هو دا المعروف اللي أهل العلم بيتصرفوا بيه؟ علشان ربيت دقنك وفضلت داخل وخارج من المسجد خلاص كدا بقيت شيخ وتمشي تربي الناس بايدك؟ عاوز تمد إيدك على بنت المفروض إنها هتكون مراتك؟ هو دا الدين اللي أنتَ ظاهر بصورته؟ يابني حرام عليك هو الدين ناقص تشويه؟ هتبقى أنتَ وهما عليه؟ بدل ما تاخد قدوتك النبي عليه أفضل الصلاة والسلام بتغلط وتمد أيدك كأنك بلطجي؟ والاسم إنك راجل ملتزم مبيخرجش من بيت ربنا؟ اسمع يابني علشان أنا مش حِمل هبل، لو مش هتقدر تفرق بين الصح والغلط يبقى ياريت تحلق دقنك دي وتتعامل عادي لأنك بعمايلك دي بتسوء سمعة المسلمين والملتزمين، مع إن الصح أن الالتزام بيربي الناس صح، بس اللي بياخدوا الدين زيك صورة دول عار على الناس كلها وربنا يعافينا من التدين الظاهري اللي يخلينا نمشي نكره الناس فينا وفي كل ملتزم كدا.
توسعت عينا “مُـهند” وقال بلهفةٍ يُبريء نفسه:
_أنتَ فهمت غلط يا “أيـوب” أنا كنت بقولها متنزلش المكان دا علشان غلط، وكل مرة بقولها بترفض وتعاند معايا وتنزل، خوفت تكون بتنزل تقابله هناك علشان ابن عمها قالي على إنها كانت مرتبطة بالأخ قبل كدا، بس كنت بخوفها علشان متعملش كدا تاني وتقدر موقفي كراجل، إنما اللي الأخ دا عمله أنا مش قابله ومش هسكت عليه..
في تلك اللحظة ولجت “جـنة” تمسك في يدها حقيبة متوسطة الحجم، وقد فعلت ذلك حينما أبلغتها أمها عن ذهاب “مُـحي” لـ “أيـوب” فأخذت هي القرار الأكيد ثم قامت بجمع الأشياء ونزلت من البيت تتوجه نحو نفس المكان وقد تحدثت هي بقوةٍ:
_لو هو دا عُذرك فهو أكبر من ذنبك عندي، بص يا ابن الناس قدامهم أهو علشان أنا مش هخدعك تاني، مصمم إني غلطانة وعملت حاجة تغضب ربنا أو أيًا كان ظنك فيا فدا براحتك، بس أنا مستحيل أديك الأمان تاني، علشان كدا حاجتك أهيه مش لزماني وربنا يعوض عليك بالخير، إنما أنا بقى فمن غير كدب قلبي مش ليك، وأنا كلي مش ليك، أنا مستنية حد تاني وبتمنى ربنا يكرمه علشان يقدر ييجي ويطلبني وساعتها أنا همشي معاه من غير ما أفكر، علشان حتى في غيابه كنت بحس بالأمان، إنما أنتَ من يوم ما دخلت حياتي وأنا خايفة بس، ربنا يعوضك خير ويعوضني عنك بكل الخير ويقدرني وأسامحك.
وقف “مُـحي” يُطالعها بشوقٍ ولهفةٍ بينما هي تنهدت براحةٍ ما إن تركت الأشياء وحملها هو وغادر بصمتٍ، وفي تلك اللحظة وقف “أيـوب” بعينين مُبتسمتين يتابع بهما نظرات العاشقين لبعضهما ثم حمحم وقال بثباتٍ:
_أنا واقف على فكرة، بس وعد مني ليكم، طالما النية خير وحلال هساعدكم أنا، بس الحال يروق شوية والدنيا دي تهدا ونتطمن على “إسماعيل” وأنا بنفسي هجمعكم مع بعض.
التفت له “مُـحي” يسأله بعينيه فأومأ له “أيـوب” مؤكدًا وحينها ارتمى عليه “مُـحي” يُعانقه بقوةٍ وامتنانٍ وقد تحركت “جـنة” بخفةٍ وهي تشعر أن الفراشة أخيرًا تحررت فوق الأغصان بدلًا من ذاك المحيط الذي كانت تغرق فيه على الرغم أنها حاولت أن تنجو بنفسها؛ لكنها لا تعلم من ألقاها في عُمق اليم؟..
____________________________________
<“الأيام كما الكُرة والجميع يسعون لإحراز الهدف”>
[بــعد مـِرور ثـلاثـة أشـهر في مشفى الأمراض العقلية].
كُرة؛
الأمر أشبه بكرةٍ تتقاذف بين الأيدي وكل يدٍ تحاول أن تحفظها بين راحة الكف والفراغ كي لا تسقط، رُبما في إسقاطٍ ديناميكي يشبه الأمر بتكوينه الحُلم،
هذا الأمر الذي يعيش هناك في آخر زوايا القلب ويلتصق في حبالٍ كلما سحبها العُمر ناحيته، تقترب أكثر من الهدف المُراد وهو العيش في قبضة كفٍ حلم ونال على الرغم من صعوبة المنال..
كانت الكرة تذهب وتعود وترتفع وتنخفض والكفوف تُلاحقها باستماتة مُحاربين تدربوا بجل طاقتهم كي يظفر كلاهما بتلك المعركة المُميتة، أو بتوضيحٍ آخر هي مجرد مُباراة ودية بين كلا الطرفين، رُبما كانا يتشابهان في كل شيءٍ ورغم ذلك كان بينهما النقيض بذاته، سلاحٌ بحديْنِ كما يُقال، وعلى الرغم من ذلك كانا سويًا بجوار بعضهما النصل الثالم أمام عالمٍ نصله باترٌ ..
وقعت الكرة في المنتصف بينهما والأربع كفوف يتلاحقون عليها وكلما استحوذ كفٌ، خطفه الكف الآخر وهي تتراقص حائرةً بغير مرسىٰ حتى ابتسم أحدهما بعينيه وقال بظفرٍ ما إن قاس بنظراته قرب الشبكة منه:
_حد قالك عن “إسماعيل الموجي” قبل كدا؟.
ضيق الآخر حدقتيه نحوه وسرعان ما فهم سبب السؤال فضحك بزهوٍ حينما اختطف الكُرة وعكس جهة الركض بينهما ثم قال برفعة أنفٍ وشموخٍ طغيا على نظراته قبل كلماته:
_محدش قالي بس شوفت بنفسي يا “حوكشة”.
هتفها ثم تبع حديثه بغمزةٍ وقبل أن يتجه بالكرة نحو الشبكة كان “إسماعيل” أعاد اختطاف الكُرة ثم ألقاها في فوهة الشبكة ومن ثم أحرز هدفه ببسمة انتصارٍ جعلته يرفع رأسه نحو السماء يُطالع الطيور الحُرة التي تُرفرف بكلا جناحيها، فتنهد ومسح فوق قلبه قائلًا بهمسٍ خفيضٍ لنفسه:
_لا بأس من ضيقٍ فوق الأرض
هناك المُتسع عند النظر في السماء
فياليتني أطير وأصل لها،
يا ليت قلبي كان واسعًا مثلها..
شرد “إسماعيل” في السماء وهو يُرفرف بأهدابه وقد أتى من كان يُلاعبه ثم وضع كفه فوق كتفه وهو يقول بمزاحٍ:
_إيه يا “إسماعيل” روحت مني فين؟.
التفت له مُبتسمًا وهو يقول بقلة حيلة تزامنًا مع حركة كتفيه:
_هروح منك فين يا “محمود” يعني؟ أديني متلقح قصادك.
أومأ له موافقًا ثم قام بتحريك الكُرة بحركاتٍ تقافزية ثم هتف يؤكد عليه قراره الأخير قبل أي جدالٍ أو مناقشات:
_بقولك إيه النهاردة الجمعة و”جـواد” و “مُـنذر” قالوا لينا الجمعة أجازة من كل حاجة، فأعمل حسابك هتقضي الجمعة كلها معايا النهاردة ونقضي اليوم مع بعض هنا، مش هدخل غير بليل.
رفع “إسماعيل” أحد حاجبيه ثم سأله مستنكرًا بوقاحةٍ:
_أقضي معاك الجمعة كلها ليه؟ هو أنتَ خطيبتي؟ أخرك معايا ساعتين من دلوقتي ومن بعد الصلاة مع حالك الله يعينك على حالك بقى.
خطفه “محمود” من سترته ثم قال بجمودٍ:
_ولا !! أنا ميتقالش ليا لأ بقولك أهو، هنتنيل نقضي اليوم مع بعض لحد ما نتزفت ونخرج من هنا، وغصب عنك هتقضي اليوم معايا، دا أنتَ عيل ندل وقليل الأصل.
قبل أن يرد عليه “إسماعيل” أتى صوتٌ من الخلف يقطع عليهما اللحظة حينما هتفت صاحبة الصوت بلهفةٍ أعربت عن شوقها:
_”مـحمود” !!.
التفت لها المذكور وهو يبتسم بعينيه وقد وقف يراقبها وهي تقترب منه وقد وقف “إسماعيل” بجواره يتخصر بكفيه ثم همس له في أذنه بسخريةٍ:
_طبعًا هتبيعني علشان المزة جت يا قليل الأصل صح؟.
أومأ له “محمود” دون أن ينظر له وقد أتت هي ووقفت أمامه تبتسم بعينين صافيتين جعلتاه يغوص فيهما فيغرق، وفي تلك اللحظة نطق “إسماعيل” بضجرٍ:
_طب والجمعة اللي هنقضيها مع بعض؟ إيه نسيتها؟.
التفت له “محمود” يسأله بتهكمٍ في باطنه الاستنكار الشديد كأنه لم يكن هو صاحب تلك الفكرة منذ البداية:
_جمعة إيه اللي نقضيها مع بعض؟ هو أنا كاتب عليك يالا ولا إيه؟ مع نفسك يا حبيبي ومش عاوز ألمح وشك الليلة دي، روح أقعد مع “حوكشة” خليه يحكيلك حدوتة.
أنهى حديثه وهو يقترب من ابنة خالته حتى وقف في مقابلها وفي تلك اللحظة خطف “إسماعيل” الكُرة ثم ضربها بظهر “محمود” الذي التفت له يهتف بنبرةٍ عالية يشتمه:
_ياض يا ابن الـ****، مش هسيبك.
حينذاك ولج “جـواد” ساحة اللعب وأشار لـ “محمود” الذي رحل مع قريبته، بينما “إسماعيل” فزفر بقوةٍ ثم قال بضجرٍ يعبر عن مدى سخطه ويأسه من هذا الوضع:
_ماهو دا مش عدل برضه يا “جـواد” يعني هو تجيبله المُزة وأنا تاخدني جلسة؟ حط نفسك مكاني يا أخي، يقطع دي رحلة علاج كرهتني في الحياة.
ضحك له “جـواد” ثم ضم كتف الآخر وقال بمؤاخاةٍ وودٍ:
_خليها عليك يا “سُمعة” وسد معايا بس وأنا محضرلك مفاجأة حلوة تعالى بس علشان نلحق نخلص قبل الصلاة ووعد هسيبك طول اليوم براحتك، مش ناقص قلبة دماغ من كله، أرحموني.
في مكانٍ أخرٍ تحديدًا ببيت “سـراج” الذي ترك بيته لمدة ثلاثة أشهر كانت “نـور” تجلس برفقة الصغيرة في البيت تعاونها في مذاكرة دروسها بعد أن عادت الدراسة من جديد وقامت هي بدورها على أكمل وجهٍ حتى في غياب زوجها الذي زهد الجميع وعكف العالم بأكمله، وقد شردت في ملامح تلك الصغيرة التي تشبهه كثيرًا ثم مدت كفها تمسح فوق خصلاتها بحنينٍ له ولتواجده معهما كما كان..
وفي تلك اللحظة ولجت مدبرة البيت بخطواتٍ راكضة وخلفها مجموعة من الرجال جعلوا “نـور” تنتفض من مكانها فقال أحدهم بلباقةٍ وكياسةٍ في الكلامِ:
_صباح الخير يا مدام، أنا “أحـمد” عم “چـودي” ومعايا حكم محكمة بالوصايا على البنت، فياريت تسلميهالي بالمعروف بدل أي خلافات أو مشاكل أو حتى تنفيذ جبري، أظن حضرتك عارفة القانون كويس.
وهي الآن وضعت في خانة اليك،
ظلت بموضعها صامتة بغير حديثٍ وكفها تحرك بتلقائيةٍ يقبض فوق كف الصغيرة التي انتفضت من موضعها تتمسك بكف زوجة خالها بل وتتشبث بها وتدفن نفسها قبل أن يأخذها عمها وهي تحت الوصاية…

تعليقات