رواية غوثهم الفصل المائة والثاني والسبعون 172 بقلم شمس محمد


رواية غوثهم الفصل المائة والثاني والسبعون 

يا من تسمع الأصوات وإن خفيت
وتقضي الحاجات وإن عظمت
وتجيب الدعوات وإن ثقلت،
وتغفر الزلات وإن كثرت،
اللهم يا كريم يا ذا الجلال والإكرام
نسألك أن تكسينا حلل السعد والمهابة
وأن تحفظنا من الهم والكآبة
وأن تلهمنا الدعاء أوقات الإجابة
إنك على كل شيء قدير..
_”مُناجاة”
____________________________________
للحُبِ العديد من اللُغات لم يُدركها إلا الفصيح..
ولأن الفصاحة قلما يمتاز بها البشر بذواتهم، نجد أن القلوب هي من تدفع المرء لتشكيل لغة الحُب الخاصة به، فكما كانت الطيور على أشكالها تقع؛ ستجد كل من يحب ينجذب لشبيه ما يُحب، ومن سمات القلوب وأهلها أن القلوب بذاتها تُبصر قبل العين، فالقلوب إذا صفت رأت، وإذا رأت اصطفت، وإذا اصطفت أحبت، وإن أحبت اختلقت في مكمنها الأُلفة لمن تُحب حتى لو كان المكان مزدحمًا؛ لكن المُحب إن أحب فهو لمكانه يصل..
نعم قد تجدينني فقيرًا في الكلامِ، لكني في لغة الحُب خاصتنا سأكون أنا لأجلكِ أفصح الناسِ، فهذا رُبما يكون لغة الحب الخاصة به هي مشاركة لحظاته المُميزة مع من يُحب، وذاك رُبما تكون لغة الحُب لديه أن يضع رأسه المُثقل على كتف من يُحب، ورُبما نجد من يُعبر عن لغة الحُب خاصته بعناقٍ دافيءٍ، ورُبما تتعدد وتتعدد اللغات وأنا لم أكن فصيحًا بهم جميعًا..
لكني أعلم أن قلبي يوم أن أحبك وإن لم يكن بلغات الحُب شغوفًا، إلا أنه لأجل عينيكِ أضحى في قراءة حديث المُقلِ فيلسوفًا..
حُبي لكِ بالغ الأفقِ لن يوفيه الكلامِ،
وحربي مع العالم لأجلك فقط انتهت بالسلام،
الآن قلبي مثل النيران وإن قلبك عن قلبي ذهب،
فمُدي يديكِ وامسحي فوق فؤادي، وبقول الأندلسيين
“ما أجدر الماء بإطفاء اللهب؟”.
<“مرة واحدة بغير تمهيدٍ يسلب الحق من اليد”>
في مرةٍ واحدة بغير سابق إنذارٍ..
يُخطف الحق من أصحابه، هذا الحق الذي طُوِقَ بين الذراعين بقوةٍ وحُفِظَ بين الرمش والجفن؛هو بذاته الذي وإن سُلِبَ سقطت خلفه الرموش، وأُغلِقت لأجلهِ الجفون، فما عادت العين تُبصر وترى، وما عاد القلب يشتهي جدالًا مع الورىٰ،
فسلوا الحقوق قبل أن تسلبوها هل هي حقوق القلوب من بين كل الورىٰ، أم أن القلوب عند سلب الحقوق لا تُرىٰ..؟.
في لمح البصر هجم على البيت كي يأخذ ابنة شقيقه المتوفي، خطواته يبدو أنها كانت مدروسة بما يكفي كي يمتلك هذا الكم الهائل من الثقةِ، وقفت “نـور” أمام “أحـمد” بفاهٍ فارغٍ ورفرفت بأهدابها تحاول أن تتأكد مما تُبصر وفي تلك اللحظة اقتربت منها الصغيرة تُعانقها بقوةٍ حتى لا يأخذها عمها، فتحدثت هي معه باللين تقول:
_ينفع بس يا أستاذ “أحـمد” تدينا فرصة؟ أكيد حضرتك مقدر الوضع والموقف، ملهاش لازمة المحاكم والقضايا والحكم دا، لو سمحت بس من فضلك أدينا فرصة نحاول نفهم الوضع.
ولأنه لا يكترث بأي حديثِ يراه تراهات وخبالًا؛ سكت ولم يجاوب وجل ما استطاع أن يفعله كتقديرٍ للموقف، اقترب فقط من ابنة شقيقه الراحل وهو يقول بحنوٍ قصد به الصغيرة فقط:
_”چـودي” مش أنتِ عارفة إني بحبك؟ أنا هاخد تلعبي معايا ومع أخواتك في البيت وتيتة وجدو، كلنا هناك بنحبك ومستنيينك تيجي عندنا وتكوني معانا، مش أنتِ بتحبي تقعدي معانا؟.
حركت رأسها نفيًا تنفي هذا الشيء من هذا القبيل ثم زادت في تمسكها بجسد “نـور” وهي تتشنج برجفةٍ سارت في شتى جسدها كما تزحف الحية أسفل المياه وتُصيب هدفها؛ والهدف هُنا كان الخوف الذي تمركز في قلبها، وفي تلك اللحظة تمسكت بها “نـور” بقوةٍ خشيةً من أخذ عمها له، لكنه استغل ضغف الاثنتيْن ثم قبض على جسد الصغيرة فجأةً، وحينها صرخت هي بملء صوتها وهي تُنادي “نـور” وتصرخ مستغيثة بها..
أما عمها فكانت خطواته واسعة بشكلٍ بالغٍ وهو يهرول بها بعيدًا عن المكان والمُحيط قبل أن تتصرف “نـور” التي أخذت تهرول وتركض خلفه وما إن صرخت “چـودي” تمزق قلبها حينما وصلتها الاستغاثة بقول:
_يا “نـور” علشان خاطري مش عاوزة أروح عندهم، تعالي يا “نـور” بسرعة مش عاوزة أروح…
هذا ما وصلها قبل أن يضعها عمها بالسيارة ويشرع في القيادة بينما “نـور” ظلت تضرب فوق نافذة السيارة بقوةٍ وهي تصرخ بصوتٍ مكتومٍ لم يصله بسبب الزجاج الذي فصل بينهما وما إن يأست هي من استجابته تنحت للجانب الآخر؛ وحينها قاد السيارة هو مُسرعًا وأنطلق كما ينطلق السهم من القوسِ..
حينها التفتت الصغيرة في السيارة تراقب زوجة خالها التي وقفت تبكي بخزيٍ كونها لم تفلح في حمايتها منه، أو حتى الاعتراض على أخذها بتلك الطريقة، لذا وقفت تبكي وهي تشد خصلات رأسها حتى أنتهى الأمر بها جالسة على رصيف البوابة الحديدية وهي تتذكر كيف أنقلبت حياتها رأسًا على عقبٍ منذ أن غاب “سـراج” عنها في تلك الليلة المشؤومة حينما اُختِطَف ومن ثم لم تعد الحياة كما كانت..
ولأن الإنسان دومًا يجلب المشقة لنفسه..
يختار ما يُزين له عمله غافلًا عن تعبٍ أكيدٍ سيُنهي مطاف لعبته تلك التي اختارها بمحض إرادته؛ مهما كانت هي البداية ومهما كانت الغاية، لذا بعض الاختيارات تؤلم صاحبها قبل الوصول للنتيجة حتى، فكان هذا الخاسر يجلس ببيت والده وحده مرتميًا فوق الأريكة كما حاله كل يومٍ منذ أن ترك بيته ورحل منه..
جلس زاهدًا للدنيا وقد عكف العالم بأكمله، وعزف عنهم وعن سُبلهم، كل شيءٍ تحول لعزيمة لن تعوضها أية مكاسب مهما كانت تلك المكاسب عظيمة، فذكرى الأمس تبقى كما العطر المُميز لا تُنسى مهما مر العُمر وزحف الدهر، يبقى عبقها متمكنًا بحبال العقل، كُلما هبت رياحٌ في محيط العقل، عادت الذكرى من جديد تتراقص على تلك الحِبال..
صدح صوت جرس الشقة فزفر بمللٍ ثم تحرك من مكانه بخطواتٍ مُثقلة ثم توجه للباب يفتحه فوجد أمامه “عـزيز”، وللحق هو كان يعلم هوية الزائر قبل أن يتجه نحو الباب وقد أولاه ظهره بينما الآخر ولج وأغلق الباب ثم وقف بجوار الطاولة يضع فوقها الحقائب البلاستيكية ثم قال بجمودٍ:
_دي الحاجة اللي بتقضي بيها أسبوعك أهو، جيبتهم زي المرة اللي فاتت، وحساب الشهر دا خلصته وظبطته وهتلاقي الفلوس عندك، وزي ما قولت الباقي كله اتحول لـ “نـور” وبعتلها مصاريف “چـودي” كمان علشان متقلقش، بس آخرتها إيه طيب؟.
قلب “سـراج” عينيه بمللٍ ثم سحب علبة السجائر خاصته يُنفث دخان واحدة منهم ثم زفر وأخرج الهواء المُعبأ من رئتيه بقوةٍ وتجاهل عن قصدٍ حديث الرفيق، بينما “عـزيز” تحرك نحو الداخل يقوم بوضع الحقائب والمنتجات بالبراد وقد صدح صوت الجرس من جديد فتحرك “سـراج” يفتح الباب وتلك المرة توسعت عيناه حينما لمح “يـوسف” أمامه والآخر يرمقه بازدراءٍ..
حينها تبادلت النظرات بينهما، فأنسحب صاحب المكان وارتمى فوق الأريكة يُنفث هواء لفافة تبغه بينما “يـوسف” ولج ببرودٍ ثم أغلق الباب ووقف أمام رفيقه وهو يسأله بتهكمٍ:
_طب وآخرة اللي إحنا فيه دا إيه؟ هتفضل هنا سايب حياتك وبيتك وشغلك وعايش زاهد الدنيا كدا؟ طب لو مش علشان نفسك يبقى علشان خاطر مراتك والبت الصغيرة اللي ملهاش غيرك دي، هتفضل كدا كتير؟.
عند نهاية الحديث ظهر “عـزيز” ووقف أمامهما، فابتسم له “يـوسف” بسخريةٍ ثم أضاف يتهكم عليهما:
_علشان لقيت اللي يسد مكانك ويقف شايل همك وهم فلوسك وشغلك، مش كل الناس زي “عـزيز” كدا بتقدر قيمة العزيز، فيه ناس قليلة الأصل معندهمش دم، قوم شوف حالك ورزقك مش هتفضل نايم على ضهرك كدا وسايب الدنيا تضرب تقلب برة، ما تقوم يابني وشوف حياتك، هتفضل رامي على “عزيز” وهو شايل وسادد مكانك؟.
كانت زعقته عالية وهادرة؛ لطالما كان الضعف هو عدوه اللدود، يكره كل ضعيفٍ وجبانٍ يختبيء خلف الجدران، وقد زفر “سـراج” بقوةٍ يتجاهل بذلك الرد، بينما “يـوسف” التفت لـ “عزيز” وهدر فيه بعنفٍ مقصودٍ:
_اسمع يا “عزيز” علشان أنا جيبت أخري خلاص منه، من النهاردة تشيل أيدك من كل حاجة تخصه، تبعد نفسك وتلتزم بشغلك في الكافيه وبس، إنما الشراكة والبزارات فكك منهم، هو لما اسم أبوه ينزل الأرض ويخسر شغله وورثه واسمه اللي عمله يرج في السمان كلها هيعرف إن الله حق وهيقوم من تاني..
في تلك اللحظة كان “سـراج” طفح كيله، مل من الحديث ومل مم العتاب وتعب من الزبد في الحديث بغير فوائد، فحتى وإن كان خير الكلام ما قل ودل، ففي بعض الأحيان يكون خير الكلام حينما لا يُقال من الأساس، لذا انتفض من فوق الأريكة يرمي لُفافة تبغهِ فوق الأرض ثم هدر بعنفٍ:
_مش عاوز أقوم من تاني ومش قادر ومش طايق نفسي ولا طايق حد، معنديش طاقة أتكلم حتى ولا أجادل قصاد الناس، عاوز تلومني لومني براحتك بس أنا مش قادر حتى أتكلم مع حد، عاتبني على غيابي براحتك وأظلمني بتفكيرك بس أنا غرقت ومش قادر أخد نفسي حتى، وبدل ما تسيبني لحالي بتلومني على غيابي؟ أمشي يا “يـوسف” وسيبني في حالي علشان لو متعرفش فأنا مبقيتش عارف أنام من غير مُهدئات ولا منومات.
كان “يوسف” يعلم كم الضغط الذي يتلف أعصاب رفيقه لكنه كان يأمل في مد كفه له؛ فيتشبث الآخر متمسكًا لكنه لم يعلم أن الانفجار كان قريبًا لهذا الحد، لكنه أتى يوصل رسالته بقوله:
_طب لعلمك علشان أوصلك الأمانة اللي عندي، حماك كلمني من يومين وقالي أعرفك تطلق بنته علشان الوضع دا مش نافع، ولو على بنت أختك هي معاهم في الحفظ والصون متقلقش، شوف هتطلقها إمتى بقى؟.
توسعت عينا “سـراج” وتثبت بؤبؤاه في محجريهما وهو يطالع وجه رفيقه الذي ابتسم بسخريةٍ مريرة ثم قال بجمودٍ:
_أظن دا عدلها وحقها، أنتَ سيبت ورميت ورا ضهرك، فمتزعلش لما تتساب وتترمي أنتَ كمان، أبوها وشايف إن بنته عمرها بيضيع وهي مستنية شخص حتى مش هاين عليه يسأل ويتطمن.
رفع “سـراج” كلا كفيه ثم مسح وجهه بعنفٍ وأومأ عدة مراتٍ بعشوائيةٍ وهو يُضيف مُقررًا بتأكيدٍ كحال من يغرق في اليم بغير ضوءٍ يُغيثه:
_حاضر، لو هما مُصممين هطلقها.
وتلك المرة كانت الصدمة من نصيب “يـوسف” الذي تجمد محله وفرغ فاهه، بينما “سراج” فطالعه بيأسٍ ثم حرك رأسه مع كتفيه بلامبالاةٍ وحقًا كم الهزائم في طُرقاته لا يُعقل لفردٍ واحدٍ أن يواجهها ويبقى كما هو ثابتًا بغير يأسٍ أو مواجهةٍ، وفي تلك اللحظة دوىٰ رنين هاتف “عـزيز” وما إن جاوب ووصله الحديث حرك عينيه في المكان بغير هدىٰ حتى لمحه الاثنان فأغلق هو الهاتف ثم قال بتيهٍ:
_”أحـمد” عم “چـودي” كسب حضانتها والوصاية اتنقلت لعنده.
وهُنا أتت القشة التي قسمت ظهر البعير،
تلك هي الهزيمة المُلقبة بأم الهزائم،
فأي هزيمةٍ تلك يمكن للمرء أن يعبر من فوق ضفتيها ويأمن ويسلم، خاصةً وإن كانت تلك الهزيمة ممن نُحب فيمن نُحب،
تلك المرة أصابه التيه وهو يُحدث نفسه أين مكمن الوصول، لكن هل لتائهٍ في حنايا عقله أن يجد طريقه؟.
____________________________________
<“ولأن الحياة تحتاج لحياة لن ينفع فيها الميت”>
الحياة تُحب الحياة..
والحي أقوى وأبدى من ذاك الميت الذي يرمي جسده للأيام تحركه كيفما تشاء وقتما تشاء فيصبح هو المُسير فقط في يومه، لكن ذاك الحي الذي عاند ووقف شامخًا كما الليث في أرضه، لن تُرضخه الحياة لما تُريد وإنما هو الذي سينجح في قهر الحياة أمام عزمه، لذا تأكد أن الأصيل وإن خفتت نيرانه، ستعود من جديد وتلتهب فوق مرجلها..
فُرصة جديدة أتت له منذ ما يُقارب الشهر حينما بدأ الشقيق ومُناصف الروح يستعيد وعيه للحياة من جديد، حينها بدأ “إيـهاب” يستعيد حياته هو الآخر ويعود للحياة، على الرغم أن تلك الفترة التي مر بها كي يجتازها قُتِلَ في نفسهِ آلاف المرات؛ فمات شيءٌ بداخلهِ لن يعود وإن عادت مياه الأيام لمجراها..
وقف يُتمم على الأشياء المتواجدة أمامه فوجد الساعة في هاتفه تُشير إلى العاشرة صباحًا، حينها تلهف للميعاد ورفع صوته ينبه زوجته بقولهِ:
_يلا يا “سمارة” بسرعة مفيش وقت، يدوب ألحق أروح قبل الصلاة، فاضل كتير لسه؟ يا رب نبطل لكاعة ونخلص شوية.
خرجت له من الداخل تحمل عُلب الطعام ووضعتهم فوق الطاولة وهي تقول بنبرةٍ مرتفعة ردًا عليه بحنقٍ هي الأخرى:
_هو أنا أسرع من النار يا جدع أنتَ؟ أنا بلف حوالين نفسي من صباحية ربنا وأنتَ مش راحم نفسك حتى، أتفضل الحاجة أهيه كلها وبزيادة كمان، حطهم في الشنطة وخلي بالك الحاجة تطق منك في الطريق، الحاجة غالية ومتكلفة.
تجاهل حديثها وهو يتناول منها الطعام بينما هي تنهدت بقوةٍ ثم ربتت فوق كتفه وهي تقول بنعومةٍ ورقةٍ كأنها تبصر قلبه دون أن يظهر هو ذلك:
_هيكون كويس متقلقش، عارفة إن مش سهل عليك تروح تزوره في مكان زي دا وتبقى واقف بتتفرج عليه، بس والله هو وأنتَ محتاجين للمقابلة دي، ربنا يرده لينا من تاني ويرجع ينور البيت اللي الحزن مسك فيه وتبت كأنه قُرادة، روح ربنا يريح قلبك على الغايب.
رفع عينيه لها بامتنانٍ صامتٍ ثم ابتسم بحنوٍ وهو يوميء بصمتٍ وقبل أن تتحدث هي قاطعها بلهفةٍ وهو يحمل الحقائب:
_جهزي “دهـب” يلا لحد ما أنزل الحاجة في العربية وغيري ليها علشان الطريق، بسرعة بس الله يرضى عنك مش عاوز أتأخر عليه.
أومأت له موافقةً لكنها عادت تتحدث بترددٍ تخبره:
_ما بلاش ناخدها معاك، هتسوق إزاي بيها وهي معاك؟ بعدين أنتَ رايح تشوف أخوك وتقعد معاه، واخدها هي تعمل إيه هناك؟.
زفر بقوةٍ ثم قال بثباتٍ يواري خلفه حزنه على حال الشقيق:
_باخدها علشانه هو، ما بيصدق يشوفها ويفرح بيها، ومتنسيش إن أهم حاجة نفسيته تكون مرتاحة علشان يقدر يتجاوز كل دا، بس سيبك أنتِ هو لما بيشوفها بيطير من الفرحة، بقى بيستجيب للعلاج والجلسات بشكل أسرع، ربنا جعلها سبب علشان يفوق.
أومأت له موافقةً ثم ابتسمت له بطيبةٍ ودعت ربها أن يعود الأخ لكليهما كما كان حاله سابقًا، ولو كانت ابنتها سببًا في عودته لهم آمنًا في كنفهِ، لن تحفظها عنه ولن تبخل بها عليه، ستتركها إن كان هذا الخيار هو الأصلح..
كان يتمسك بكل أملٍ ويحيا الحياة وإن لم تكن الحياة تُحييه..
ولج الجلسة النفسية مع طبيبه وهو يأمل تلك المرة أن يجد الجزء المفقود منه ومن عمره، في كل مرةٍ يواجه، ويصطدم بحقائق، يعلم ما لم يسع له أن يجهله، يكتشف الكثير عن حياته، سواءً كانت حياة الماضى أو أيام الحاضر..
في تلك الجلسة كان “جـواد” ينوب عنه بالأسئلةِ ويعرض الأجوبةِ معها، حتى يستفز ذاكرته وتعود لسيرتها الأولى، لكن التيه الذي يصيبه أشبه بمرض الزهايمر، نسى الجزء وترك الكل، راح الحلو عن عقله، وظل المُر وحده عالقًا كمن كان يقوم بتجرع نبتة الصبار كل يومٍ، وفي تلك المرة كان الحديث عن “دهب” الصغيرة التي تُعتبر السلاح الأقوى في علاجٍ غير معروفٍ، فتحدث “جـواد” بثباتٍ:
_عاوزين المرة دي والفترة الجاية نركز على العواطف والمشاعر، بمعنى إن حتى لو الشيء بديهي عليك لازم تجرب تفتكر مشاعرك تجاهه إيه، يعني مثلًا زي “دهـب” كدا لما شوفتها حسيت إنك عارفها هي بذاتها، ولا مجرد ما شوفتها مشاعرك اتحركت ناحيتها؟ الإجابة هتفرق كتير خُد بالك..
تنهد “إسماعيل” بقوةٍ ثم قال بقلة حيلة:
_مش عارف، يمكن كنت مصدوم لما عرفت بحاجة زي دي إن “إيـهاب” عنده بنت واتجوز وحياته استقرت، يمكن الحاجات اللي فاكرها مش كتير بس لما شوفتها حسيت إنها مني، حسيت إني قلبي عارف قلبها ودي مش غريبة عني، بُص يمكن مش متأكد أنا طلعت فاكرها فعلًا ولا هي لما شوفتها عرفتها، بس أنا حبيتها، ونفس الفكرة مع “مُـنذر” حسيت إني أعرفه رغم أني مش فاهم إزاي هو ميت ورجع تاني يعيش..
تفهم “جـواد” حالته وأومأ له موافقًا ثم قال بتفسيرٍ للموقف والحالة الطبية التي يعاني منها “إسماعيل” وتباغت عقله:
_اللي حصل ليك دا نوع من أنواع الخلل في الذاكرة، بمعنى إن الأدوية اللي أنتَ خدتها دمرت جزء كبير في خلايا المخ وعملت خلل كبير في المعلومات والذاكرة، ولأن ساعتها العقل الواعي نفسه كان في حالة خمول، وقتها العقل الباطن اتحكم لأن رصيده أكبر في الوجود والمكان، علشان كدا اعتمادنا كله على المشاعر حاليًا، هتقابلك حاجات كتير فاكرها، وحاجات هتحاول تفتكرها، وبين كل دا وكل دا خليك فاكر إن محدش طالب غير مصلحتك، إحنا حاليًا بقالنا شهر أهو ماشيين كويس جدًا، واستجابتك معايا كويسة جدًا، فدا إنجاز..
ابتسم له “إسماعيل” بصمتٍ ثم أومأ وشرد بعينيه في الشُرفة بصمتٍ دون أن يتحدث بأي كلامٍ، فقط يبحث عن شيءٍ مفقودٍ لا يعلم أين هو مكمنه، ولا على أي جدارٍ يتكيء كي يصل للمُراد، لكنه يحاول فقط بصمتٍ ويعلم أنه إن أراد سوف يصل..
____________________________________
<“غابت الشمس وغابت معها سيرة الحبيب”>
تلك الشموس الغاربة عن طريقٍ أضناه الليل جراحًا..
رُبما تعود وتُشرق من جديد، رُبما نتوه ونضل السُبلِ لكن ذاك الشعاع الساطع من شمسٍ عادت تُشرق يكون هو الهداية نحو الطريق، فمهما طال السير
لن نتوه بغير وصولٍ،
ولن تبقى الشموس بغير شروقٍ…
جُمعة تلي الأخرى، يومٍ يلتحق بسابقه، شهر جديدٌ يُختم أيامه كي يبدأ العد في الشهر الذي يليه، ثلاثة أشهر مروا وقبلها تقريبًا أسبوعٌ مر، وبدأ العد من جديد في أيامٍ جديدة الروح فيها مفقودة، وهي هُنا فقدت روحها؛ لكنها ترفع رأسها تُراقب حركة الطيور الحُرة وهي تأمل أن تنل حُرية الطير هي وقلبها المُعذب، لذا تنهدت بقوةٍ ما إن عاد صوت مذياع الجارة في البيت المُقابل تجذب انتباهها بكلماتٍ قاسية:
_حبيبي كان هنا مالي الدنيا عليا،
بالحُب والهنا، حبيبي يا أنا يا أغلى من عينيا
نسيت مين أنا؟
أنا الحُب اللي كان، اللي نسيته قوام،
من قبل الأوان، نسيت يا سلام على غدر الإنسان..
والغدر هُنا ليس منه أو منها هي، وإنما الغدر صفة متأصلة في البشر بأكملهم وهي تعلم ذلك جيدًا، تعلم أن طباع البشر تتأصل في الغدرِ والشر، ونصيبه بنصيبها كانا في مُلتقى الشرِ الأكيد، لذا، ترقرق الدمع في عيني “ضُـحى” وهي تقف عند شرفة غرفتها ثم أغلقت الباب وولجت تجلس على طرف الفراش بعد أن أحكمت باب الغرفة على نفسها، فهذه العادة التي داومت عليها طوال الأشهر الماضية وتظن أنهم لا يعلمون،
لكن الجميع يعلم، ويترك..
أخرجت فستان زفافها الأبيض تُلقيه فوق الفراش وتقوم بفرده ثم تُبحر بكفها فوق قماشه الناصع وتتذكر حُلمها الوردي في لقاءٍ فوق سُحبٍ صيفية، تذكرت حلمها وبيتها وحديثها وأيامها وكل شيءٍ كان برفقته، تذكرت كيف تعاهدا أن يسيرا سويًا والآن أحدهما حتى يعد يعلم الآخر، فجأةً هجمت الهواجس المُخيفة فوق عقلها وتذكرت ليلة ذهابه لمشفى الأمراض العقلية، وكانت تلك هي الطعنة الأولى، أما الثانية في فقدان عقله كُليًا ووصفه بالجنون الأكيد..
حينها ضمت فستانها كأنها تُعانق حلمها ثم بكت، بلل الدمع ثوب الفرحةِ، فأصبحت فرحته ملوثة بمياه الحزن، كان حزنها سببًا في تدمير ثباتها وقوتها حتى أصبحت غريبة عن نفسها، فتلك لم تكن هي ذاتها القوية والمُثابرة ولا العنيدة، وإنما هذه فتاة ضعيفة، مُسيرة خلف الأيام بصمتٍ، تصحو بيومٍ باردٍ تتمنى خلاله أن تصل لتلك اللحظة التي تنفرد فيها بنفسها فتعانق حُلمها الوردي وسط غابةٍ مُحترقة من مشاهد الكوابيس، بكت وتركت لنفسها الحُرية ثم تكلمت أخيرًا بصوتٍ مختنقٍ تسأل قلبها عنه:
_يا ترى قلبك عامل إيه يا “إسماعيل”..؟
وهذه هي العادة الثانية، تسهر الليل في جراحٍ مُلتهبة، فتداويها الشمس حينما تُشرق بأملٍ، تسأل عليه النجوم، فيجاوبها القمر حينما يخبرها بظهوره أنه مهما غاب حتمًا لها سيعود، تعانق الحُلم الوردي بخوفٍ من هروبه، وذاك الحُلم يخبرها أنه لو لم بحقيقةٍ؛ لن يعرف الطريق لقلبها، تبتعد وتشرد وتتوه ثم يعود قلبها يخبرها أن ضي الحبيب بوصلة عليها أن تسير خلف خُطاها.. وهي لأنها تصدق القلب وصاحب القلب، كانت تصدق قلبها وتعلم أن الحقيقة تتمركز فيه..
____________________________________
<“كانوا فرصة لنا من بعد الموت، كانوا هُم الحياة”>
البعض لنا كانوا سببًا في الحياة..
كانوا فرصةً من بعد الحرب كي نختبر شعور السلام،
كانوا خير الحديث بعد الصمت، فكانوا هم أحق بالكلام،
ولأن القلوب تعرف وتألف وإن لم تنطق الألسنة، فالأعين خير الدليل على باطن القلب، وكأن العيون بدلًا عن القلوب نواطق..
كانت فرصة من جديد في حياته جعلته يحيا من جديدٍ بعد أن كان مات وترك نفسه لطوفان الحياة يقوم بابتلاعه في جوفه، كان يجلس مبتسمًا أمام ابنة خالته وملامحه تسرد عن حاله بدلًا من لسانه العاجز عن وصف حالته وقد شرد “محود” في ملامح “تُـقوى” ابنة خالته وهي تتحدث واطمئن عليه وعلى حاله، وتشاركه حلوانه المفضل، بينما هي فتلك هي فرصتها الجديدة..
كانت تجلس معه وتتحدث وهي تطمئنه على أحوال أمها وأخوتها وعن حال عملها ونجاحاتها المستمرة التي لم تتوقف حتى الآن وقد طالعها بفخرٍ وهو يبتسم بسعادةٍ كونها نجحت في حياتها وقد تنهدت هي بقوةٍ ثم سألته بلهفةٍ:
_أظن خلاص أنتَ أكيد بقيت كويس، هتخرج إمتى يا “محمود” من هنا وترجع تاني تملى مركزك ومكانك برة؟ الحياة برة مش زي ما أنتَ فاكر خالص، بالعكس دي طل حاجة اتغيرت نهائى، وكل الناس برة مستنية رجوع “محمود الألفي” من تاني علشان أكيد وجودك مفيش حد ممكن يملاه حتى ولو بالعافية والعند..
ابتسم لها بحزنٍ طفيفٍ ثم أومأ موافقًا بحركةٍ خافتة وأضاف بقهرٍ:
_من غير ما تجملي الموضوع في عيني، أنا متفهم الوضع وصل لفين دلوقتي، بس صدقيني الوضع اختلف دلوقتي كتير خالص، بقيت على الأقل متقبل شوية الحياة، بقيت بحاول أتقبل أنا وصلت فين وبقيت فين، عارف إن الوضع اختلف كتير وإن الحياة مش زي الأول وإن اللي خايف منه برة مش هيحصل، بس أنا مستني أخلص من النوبة اللي بتيجي مرة واحدة وتدمرني دي..
أومأت له بتفهمٍ ثم ابتسمت تدعمه بقولها:
_عاوزاك متقلقش إحنا وصلنا لمرحلة حلوة أوي، تخيل كل دا عدينا بيه ووصلنا في علاجك لهنا؟ أكيد اللي فاضل مش كتير علشان كدا هتعدي بيه زي ما عديت باللي قبله بالظبط، وكلنا واثقين فيك، ارجع واملا مكانك في حياتك وحياة اللي بيحبوك.
ارتسمت بسمة خبيثة فوق شفتيه ثم قرر أن ينتهج هذا السبيل فسألها بنفس الخبث:
_طب وأنتِ شايفة بقى إني عادي أرجع حياة اللي بحبهم؟ أصل ساعات في حاجات حلوة بتضيع مننا ومبنعرفش نرجعها من تاني، خايف بصراحة الحاجة الحلوة دي تكون ضاعت ومش هينفع ترجع من تاني..
حينها فهمت هي أن الحديث يقصدها هي لذا ابتسمت برقةٍ ثم قالت بصدقٍ تخبره بتلك الحقيقة التي كانت مخبوءةً عنه وعن الجميع:
_اللي ليه نصيب في شيء بينوله غصب عن الكل، وساعات الحاجات الحلوة دي بتكون محفوظة في مكانها علشان تكون عوض وجايزة عن المر اللي الإنسان بيشوفه، مش يمكن الحاجة الحلوة بتاعتك محفوظة في مكانها ليك؟.
فهم مقصدها هو وضحك بصفاءٍ وهو يحفظها بعينيه بينما هي ضربها الخجل في مقتلٍ لذا مدت يدها بعلبة الحلويات المفضلة لديه ثم أومأت تحثه على التناول، أما هو فتلك كانت فقرته الفاصلة من ضغط الأسبوع النفسي والعصبي، لذا تناول الحلوان منها وشاركها تناوله..
في الداخل خرج “إسماعيل” من تلك الجلسة مشتت الخطى بعض الشيء وهو يحاول في البحث عن أجوبةٍ لم يعرفها، يحاول ربط الخيوط ببعضها ومُشابكة الأطراف سويًا حتى يكون أمام إطارٍ معروفٍ ومؤكدٍ له أين هو من تلك النقطة الوهمية، خرج يسير في الرواق بخطواتٍ هادئة حيث الشرود الذي سيطر عليه والفراغ يتمكن من عقله..
خرج عند بداية الدرج الرُخامي وقبل أن يتجه نحو غرفته لمح بعينيه سيارة شقيقه وهي تقترب من المكان، حينها تهللت أساريره وبدأ قلبه يشعر بالحرية بين ضلوعه، لذا ركض من مكانه ثم خطى الخطوة بخطوتين واقترب من تلك الصغيرة يلتقطها من كف شقيقه ثم ضمها لعناقه فجأةً وكأنه يحتمي بها..
تلك الصغيرة إذن هي مفاجأة اليوم التي حضرها له “جـواد” وللحق هي أجمل مفاجأة، لذا ظل يُلثم جبينها ووجهها وكفيها الصغيرين ثم ضمها لصدرهِ وهو يبتسم بحنوٍ، أما هي فكان استسلامها له غريبًا من نوعه، كانت تسكن وتسكت معه وينتابها الصمت وهي في عناقه كأنها في أكثر الأماكن أمنًا لها، بينما “إيـهاب” فوقف يطالعه تلك المرة بشوقٍ ووقف يراقب كل تفاصيله وحينها لمحه “إسماعيل” بطرف عينه فلثم الصغيرة ثم نظر لشقيقه يخبره بسخريةٍ:
_لو خلصت نظرة الحنين والشوق دي تعالى سلم.
ضحك “إيـهاب” رغمًا عنه واقترب أكثر يخبره بتهكمٍ:
_الحنين والشوق دول مش شايفهم غير منك لعقلة الصباع اللي أنتَ ماسكها في أيدك، خلاص جه اللي ياخد مكاني عندك؟.
ضحك له شقيقه ثم لثم الصغيرة وبعدها عانق شقيقه بقوةٍ وشدد قبضته على قميصه الأبيض بقوةٍ كأنه حقًا يتوه بغيره، ولأن القلب يشم رائحة القلب، فالتقط “إيـهاب” رائحة الخوف في قلب شقيقه لكنه مسح فوق ظهره ثم قال يدعمه ويحثه بقوله:
_هتعدي زي ما كل حاجة عدت وراحت، مش عاوزك تخاف وأنا في ضهرك هنا، مهما كان خوفك هيعدي وكل حاجة هتعدي معاه هي كمان، يبقى لازم تطمن علشان حاجتين،أولهم ربك رحمته واسعة واللي أنتَ فيه دا ابتلاء من ربنا، والتاني إني معاك مش هسيبك وروحي فدا روحك كمان.
ولأنه اعتاده صادقًا ارتمى عليه في عناقه ثم ترك رأسه الضائعة تلتقي بصدر شقيقه فترتاح عليها من العبء الداخلي الذي تسبب في شتاتٍ وضياعٍ، بينما “إيـهاب” فكان يعلم أن شقيقه لازال يعاني، وبين الفنية والأخرى ربما تهاجمه بعض الكوابيس والهلاوس المروعة التي تدمر كل شيٍ باقٍ، لذا عليه أن يكون صبورًا قبل أن يغامر بحياة نصف روحه، خاصةً إن كانت تلك الخسارة لا تعوض..
____________________________________
<“ذهب الطير من العُش، وهاجر من موطنه”>
الطير رُبما يهجر صاحبه لكنه أبدًا لن يكون خائنًا..
فمهما حلق وارتفع وصعد للأعلى سوف يعود لموطنه ويهبط بكلا جناحيه فوق أرضه ويلقى أحبته من جديد، خاصةً إن أُجبر على طيره وتركه لموطنه، حينها تكون العودة أكيدة واللقاء فرض عينٍ بين القلوب،
فمهما حلق الطير وارتفع،
عند قلوب احبته سيقع..
ركض من مكانه بخطواتٍ مهرولة ما إن تأكد من أن صغيرته رحلت من بيته، خاض “سـراج” مضمار الحرب مع نفسه بشراسةٍ وكانت النتيجة انتفاضة منه للخروج من البيت كي يلحق ابنة شقيقته وحينها ركض بخطواتٍ واسعة وخلف سار “يـوسف” الذي لاحقه في الخطوات كي يكون معه وداعمًا له، فتحرك الاثنان معًا وقصدا بيت جدها لأبيها، فولجه “سـراج” بقوةٍ وزعيقه يسبقه للبيت وهو ينادي عمها بقوله:
_يا “أحــمد” هات البت بطل حركات العيال دي وخليك راجل وأقف قدامي وش لوش مرة واحدة، أظهر لو أنتَ راجل من ضهر راجل وأنا أوريك الرجولة شكلها إيه، يا “أحـمد”..
رفع صوته وصرخ وفزع جدران البيت بصياحه الهادر حتى ظهر جد الفتاة يخبره آسفًا بندمٍ وقهرٍ مما فعل ابنه:
_حقك عليا يابني والله ما كنت أعرف إنه ناوي يعمل كدا، بس متقلقش عليها هي في أمان معاه ومستحيل يحصلها حاجة وهي مع عمها، هيحطها في عينه ويعاملها كأنها بنته كمان، بالله عليك متزعلش نفسك أنتَ واتطمن عليها هتبقى في أمان..
تدخل تلك المرة “يـوسف” يؤنب الرجل بقوله مشيرًا لما فات:
_يا حج دي مش أول مرة، دي تاني مرة تحصل رغم إن فيه كلام رجالة بينا واتفاق إن “”چـودي” مسؤلية خالها لوحده وهو أحق بيها، وأنتَ عارف من ساعة ما أتجوز وهي بقت مسؤولة منه ومن مراته كمان، يبقى ابنك بيخون العهد بين الرجالة ليه بقى؟.
ظهرت تلك المرة جدة الفتاة تصرخ في وجهيهما بصوتٍ عالٍ:
_جرى إيه أنتَ وهو هي وكالة من غير بواب؟ جايين بصوتكم علينا وفاكرين هنيجي بجو خدوهم بالصوت دا؟ ابني عمل كدا من خوفه على بنت أخوه، النزلة كلها مش بتتكلم غير عن خالها تاجر الآثار واللي حصل فيه لما راح عملية واتوكس فيها هو وصاحبه، عاوزه يضحي بسمعة البت علشان تنتكس وحالها يقف؟ دي لما تكبر وتيجي تتجوز ويسألوا عنها يتقالهم خالها تاجر أثار قد الدنيا وشمال؟ دا نسب يعر ويكسف.
توسعت الأعين وتجمد “سـراج” موضعه وهو يرمقها بغضبٍ أعماه، بينما هي تجاهلته ثم وجهت حديثها لـ “يـوسف” بقولها الذي ضرب كل ثباتهما في مقتلٍ ووأد الروح الحية فيهما:
_ريحوا نفسكم ووفروا الشويتين دول علشان خلاص البت بقت مع عمها وزمانها ركبت الطيارة وراحت معاه الإمارات كمان، خليه ينضف القرف اللي خالها عمله في حياتها ودمر سمعتها بيه، ربنا يتوب علينا من الأشكال دي وياخد العِفش..
وتلك المرة وفي تلك اللحظة تحديدًا غاب عقل “سـراج” وتاه عن نفسه وهو يتمنى أن تلك القسوة من الدنيا تكون كاذبة، تمنى أن يكون الأمر مجرد كذبة وستمضي، تمنى أن تكون تلك المرأة تود فقط قهره وتكذب عليه من هذا القبيل وليس إلا، لكن نظرات زوجها المغلوب على أمره أكدت عكس ذلك.
بينما “يـوسف” فعاد ماضيه له مع عمه يتراقص فوق جفونه فأصبح لا يلمح غيره، رأى الصغيرة بموضعه هو تُذل وتُقهر خاصةً وإن كانت لا تحب تلك الأسرة البغيضة التي أخذتها، حتى زوجة عمها تكرهها وكانت تغار من أمها، وهو يعلم والجميع يعلم أن تلك الأسباب كفيلة بتدمير حياة الصغيرة، لذا انتبه لرفيقه وصرخ فيها بصوتٍ هادرٍ:
_معايا بسرعة نلحقهم، قوم أنتَ لسه هتتفرج.
رحلا سويًا بالسيارة يقصدان المطار كي يلحقا الفتاة، كانت القيادة سريعة ومتهورة والقلوب تتأرجح فوق النيران الغير رحيمة، كان “سـراج” حينها في أوج لحظات خوفه وقهره، بينما “يوسف” فبتلك الهيئة ظهر فقط أنه يصارع ماضيه ويركض كي يلحق نفسًا سوف تعاني مثله، يركض كي يخرج أحدهم من ظلمةٍ عاش بها طوال عمره، لذا وصل للمطار وركضا من السيارة حتى ولجا للداخل..
اصطدما أولًا برجال الأمن فشرح لهم “يوسف” الموقف موجزًا وحينها أتى أحد الضباط يقف معهم وما إن علم بوجهة الطائرة، سأل عن الميعاد واستعلم عنه، وكأن الجواب بأسفٍ لهما:
_للأسف يا فندم الطيارة اتحركت من نص ساعة..
وللحق الطائرة ليست وحدها من تحركت وإنما القلوب هي التي تحركت من مكانها وجزعت من تحمل كل هذا الألم، تلك المرة الهزيمة ساحقة ولن تعوض ولو بماء الذهب، ارتمى “سراج” فوق المقاعد المعدنية يضع كفيه فوق رأسه بقهرٍ بينما “يـوسف” ارتسم الأسف فوق ملامحه وجلس جوار رفيقه ثم رفع كفه يضم كتفه كأنه يخبره أنه معه، وفي تلك اللحظة تلاقت الأعين ببعضها وبعد لقاء العين أتى الحديث بالقهر، فألقى “سـراج” نفسه في عناق رفيقه ثم صرخ بقهرٍ يعبر عن كمدٍ بالروحِ..

تعليقات