رواية غوثهم الفصل المائة والثالث والسبعون 173 بقلم شمس محمد


رواية غوثهم الفصل المائة والثالث والسبعون 

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ،
وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ..
اللَّهُمَّ يَا فَارِجَ كُلِّ هَمٍّ وَكَاشِفَ كُلِّ غَمٍّ وَمُنَفِّسَ كُلِّ كَرْبٍ وَمُجِيبَ دُعَاءِ المُضْطَرِّينَ ، يَا غِيَاثَ المُسْتَغِيثِينَ وَيَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ، ارْحَمْنَا رَحْمَةً تُغْنِينَا بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ.
يَا جَبَّارًا عَلَا فَوْقَ السَّمَاوَاتِ،
يَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالبَلْوَى وَالمُلِمَّاتِ،
يَا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ
ولَا يَتَبَرَّمُ بِإلْحَاحِ المُلِحِّينَ،
اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ، وَأحْيِنَا مُسْلِمِينَ ، وَألْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ .. اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ ، وَإلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخَافُ عَذَابَكَ ، إنَّ عَذَابَكَ بِالكُفَّارِ مُلْحَقٌ.
اللَّهُمَّ إنَّكَ قُلْتَ ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ وَإنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ ، اللَّهُمَّ هَذَا الدُّعَاءُ وَعَلَيْكَ الإجَابَةُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ.
“مُناجاة”.
____________________________________
إلى ذاك الغريب الذي أصبح نائيًا في أطراف المدينة..
السلام عليكَ أولًا ولقلبك ثانيًا؛ فأما بعد..
ها قد عاد الشتاء وأنتَ لم تعد، تبدلت الأحوال وأنتَ لم تعد، اليوم_وليس اليوم فقط_ كُلما سِرت في طريقٍ سألتني عنك الناس، ووقفت نصب عيني مُتلهفةً لرؤياك معي الطيور، ثم تساقطت فوق كتفاي أوراق الأشجار، حتى القمر أصبح يُشاركني سهر الليالي كي يًقاسمني خيباتي وقهري وأنتَ لازلت البعيد عني..ألم يكن حرامًا على قلبك أن يشعر بقلبي المُعذب كل من في الأرض، وقلبك رغم مُناداة قلبي له يسير من طريقٍ مُغايرٍ كي لا يلمح هذا القلب الذي كان سكنًا وسكينةً له؟..
لا تقلق، فاليوم نحنا لسنا في خضم عتابٍ،
لكن قلبي يود إخبارك بشيءٍ؛ لعلك له تعود..
“لو كنتُ غريبًا ستجدني أنا موطنك،
ولو كنت زاهدًا ستجدني لك قمرًا، ولو كنت خائنًا أنا عهدك الذي لا يُخان، ولو كان قلبك مُظلمًا ستجدني أنا ضُحاه، ولو كنت سراجًا ودربكَ مُعتمٌ سأكون لكَ نورًا، ولو كنت قاسي القلب يهابه الجميع، سأكون لك لينًا وودًا، وحتى لو كنت المُحارب في قصتنا وحربك قاسية ستجدني لكَ رهف المشاعر، ولو كنت المُخطيء أولًا ستجدني لكَ الصواب ثانيًا، ولو كنت حُرًا لكنك مظلومٌ، ستجدني أنا من بين العالم أُنصِفَكَ،
فقط عُد لي يا خليل القلب، فالقصة لم تنتهِ بعد،
لازال قلم الراوي يكتب،
ولازالت الحكايا لم تُسطر آخر الأحرف بها..
<“كثرة المُتلاحقات الخيبات أودت بالقلب للممات”>
أخبرني يا رفيقي كيف بوسعي إخبارك بحزني؟..
وكيف أخبرك أنني أشعر بذاك الحزن الصامت الذي يجعل القلب يحيا فقط بغير أي شعورٍ، أخبرني كيف أخبرك أن ذاك الهدوء الذي تراه ماهو إلا تلك المحاولة الفاشلة مني كي أنجو في يومي من نفسي؟ كيف لي أن أصف لك شعوري واليم في داخلي يبتلعني حتى كدت أن أغرق فيه وأفقد نفسي؟ أخبرني لما أنتَ فقط من وسط كل العالم الذي تأتيني منه الخيبات فأخجل أمام نفسي حينما كنت أحسبك ناصفًا لي، أخبرني يا أنا
هل كان العالم معك أرحم من رفقتي، حتى تترك يدي وتمل صُحبتي؟.
سقط “سـراج” في هوةٍ ساحقة جعلته يتيقن أنه فقد كل شيءٍ في حياته حتى تلك الأشياء التي كان منذ بدايته خاسرًا لها، جلس فوق المقعد في بيت والده يعود بجسده للخلف وذكرى مرور الشهور الفائتة تمر نصب عينيه فلا يعلم هو من أين كانت بداية الهزائم، لا يعلم كيف آل به الحال لهنا عند هذه النقطة التي تسمى بنقطة الصفر وخسر فيها كل شيءٍ، حتى النوم هجر جفونه وكلما غفل ولو دقائق عادت تلك الكوابيس تُهاجم عقله..
جلس “يـوسف” بجوارهِ يطالعه بتيهٍ، لا يعلم كيف يُرشد صديقه وهو تمركز الشتات بذاته، لذا التزم الصمت وفقط، لمح بعينيه صديقه يجلس فوق الأريكة ورأسه مائل للخلف فزفر بقوةٍ ثم ربت فوق كتفه وقال يواسيه بحديثه:
_قعدتك كدا مش هتحل حاجة، لازم نشوف حل وترجعها.
طالعه “سـراج” بخيبة أملٍ تمددت وتوطدت في أواصره ثم سأله بتهكمٍ يسخر من الوضع برمتهِ أو ربما يخفي فقد الحِيل من يده:
_حل؟ حل لإيه بالظبط ولا منين؟ هحل أنهي مصيبة من دول؟ أنا بعدت عنها علشان ميحصلهمش حاجة بسببي، في الآخر تضيع مني كدا؟ خدها إزاي وظبط كل دا إمتى، خدها مني ليه وهو عارف أني مش باقيلي غيرها، مكانش فاضل ليا غيرها هي، خدها مني ليه وهو عارف إني ماليش حد في الدنيا دي تاني.
زاغ بصر “يـوسف” في نقطةٍ بعيدة يشرد فيها هُناك متذكرًا حاله في الصغر حينما وقع أسيرًا في قبضة عمه، تذكر كيف جُرِحَ وتم إذلاله وقهره على يد عمه وعائلته، وحينها لم يرد أن يبث الخوف في قلبه، فقال بهدوءٍ واهٍ على عكس ما في داخله:
_أكيد مش هيحصلها حاجة وحشة، عمها مش هيأذيها يا “سراج” أكيد، أبوه هيخوفه، دا ليه كبير يقفله ويخليه يخلي باله منها، بس مش هنسكت غير لما نوصلها ونعرف مكانها، هي الإمارات بعيدة يعني؟ كبيرها طيارة توصلنا لعنده.
ابتسم له “سـراج” بخيبة أملٍ تفاقمت عن ذي قبل وأضاف بيأسٍ قد تمكن منه ووصل لروحه يُضيق عليها الخِناق:
_كان عمك خاف ربنا وخاف من “حكمت” وهو بيدوس عليك، عارف المشكلة فين؟ إن هي هناك لوحدها من غير أهل، ملهاش حد معاها، لو كان دا أبوها وعمل اللي عمله كنت سكت، إنما دا عمها وواخدها عنده بالعند فيا علشان يقولي أنا أنضف منك، تصدق هو معاه حق، أنا لو مكانه هخاف عليها من القرف دا، دا أنا سيبتها من خوفي عليها مني.
طالعه “يـوسف” بقهرٍ ثم ضمه لصدره ومسح فوق كتفه وهو يقول بنبرةٍ حاول صبغها بالحنوِ بدلًا من الخوف:
_هنرجعها، هنشوف حل ونرجعها تاني، خليك معانا أنتَ بس بلاش تقفل على نفسك، عارف إن اللي شوفته مش شوية، بس لازم تقف وتحاول، الدنيا مش هتجيلك لحد عندك تديك حاجة، لازم تاخد اللي ليك لو من بوق الأسد، فاهم؟.
في تلك اللحظة صدح صوت هاتف “يـوسف” برقم “عادل” فزفر بقوةٍ ثم تحرك نحو الشُرفة يفتح الهاتف كي يجاوب على المكالمة، فوصله استفسار الرجل عن الأحداث الأخيرة، فأخبره بما حدث، وأضاف معُبرًا عن خيبته:
_للأسف سافرت مع عمها، الطيارة اتحركت علطول أول ما خدها من البيت، و”سـراج” أكيد مش هيقدر يتصرف وأنتَ عارف ظروفه واللي هو فيه، بس أنا عاوز منك مساعدة، ياريت لو تقدر تعرفلنا هو فين في الإمارات بالظبط، يمكن نقدر ناخدها.
تنهد “عـادل” وحرك عينيه نحو ابنته الباكية بجواره ثم قال مفتقدًا لكل الحِيل من يديه كأنه لم يملك من الأمر شيئًا:
_ولو دا حصل؟ أي خطوة تانية هتكون غلط، لأنه لو حد منكم راح وفكر بس يعمل حاجة هو ممكن ببساطة يقدم بلاغ في السفارة هناك وساعتها هتبقى جناية خطف، لأنه قدام القانون معاه الوصاية عليها ويقدر يخليها تحت وصايته، أكيد ليها حل تاني، المهم البيه اللي عندك عامل إيه؟ أتمنى يكون مبسوط بعد اللي حصل وضياعه لبنته من أيده.
شخص “يوسف” ببصره لهناك حيث جلوس “سـراج” والهموم تتدلى من فوق كتفيه ثم أغمض عينيه وقال بهدوءٍ لمحاولة امتصاص غضب الآخر:
_صدقني هو فيه اللي مكفيه، خسران كل حاجة وأهمها عزة نفسه، واللي شافه مش كتير برضه وأيًا كان وضعه أو هو اتسبب في إيه، بس لازم نكون معاه، وياريت موضوع الطلاق دا يتأجل شوية.
حينها أرهف “سـراج” السمع لرفيقه والتقط الحديث فسقط قلبه من موضعه وهوىٰ ما إن تذكر هذا الشيء، يبدو كأنه لعنة كُلما قارنت شيئًا فارقته وفقدته، منذ أن ولد وهو وحده يعيش ويواجه ويقع ويقوم، وحتى في تلك اللحظة هو وحده المُلام والمُعاتَب، هو الحرب بذاتها، وهو الجيش لنفسه، هو المتروك بدون صفوفٍ وحده، وهو الذي يغدر الزمان به، هو من قيل في الأبيات ببالغ الوصفِ يصفه:
_عليل النفسِ لم أجد لي في الراحةِ مكانًا..
تاه عني الأمل وأصبح لي الألم عنوانًا،
فما جُرمي إلا حُلمي حتى يُرهقني الطريق
وكل ما أرغبه يصبح فقط مجرد تمني؟..
____________________________________
<“الوداع منذ البداية لم يلق بنا، فالخواتيم ليست لنا”>
ليست كل الحكايا يلزمها وداعٌ..
فالخواتيم في بعض الأحايين لا تلق بعظم القصص، فمن يعلم بداية القصة إلا ذاك الراوي الذي وضع نفسه في خضم أسرٍ بين الأشخاص هو وحده من يعلم حكاياهم؟ ولأن تلك الحكاية لا تستحق وداعٌ، فلا يلزمها خواتيمٌ، ولعل كل النهايات بلا وداعٍ..
كان يكره تلك اللحظة ويبغض الوصول لها، يكره أن يوضع في هذا الموقف كل يومٍ وهو يتحضر لوداع شقيقه بعد أنسٍ خضر أراضي اللقاء المُجرفة، كان “إسماعيل” يحتضن ابنة شقيقه التي نامت فوق كتفه تتشبث بقبضةٍ صغيرة في قميصه وقلبه ينبض تزامنًا مع نبضها هي، ظل متمسكًا بها حتى سأله “إيـهاب” بصوتٍ ضاحكٍ:
_ها مش ناوي تسيب؟ الوقت أتأخر وعاوز أروحها.
طالعه “إسماعيل” بحزنٍ مُتجليًا في عينيه لحين موعد الوداع، فتنهد بثقلٍ ثم لثم الصغيرة وضم كفها الصغير بين أحضان كفه وقال بتوسلٍ له يوصيه بعدم التأخر:
_ينفع متتأخرش عليا المرة الجاية؟ أنا بصبر نفسي بشوفتكم مع بعض، وحاول تشوف “جـواد” وتسأله هخرج مم هنا إمتى، خلاص مش قادر ودماغي تعبت من كتر التفكير، يمكن لما أخرج أفتكر اللي أنا ناسيه دا، عارف أنا حاسس إني فاضي من جوايا، حاسس إن فيه حاجة غلط، معقول اللي حصل يوصلني لكدا؟.
كان يسأل ويستفسر عن شيءٍ مُبهمٍ ترك في نفسه فجوة مفتوحة لا يوجد ما يُغلق تلك الفجوة، كان يشعر بالفراغ بداخله كأنه طفلٌ يبدأ الحياة من جديد، تمامًا كمن عاد له البصر بعدما كان فاقدًا للرؤية، فلا هو يُحب العمى، ولا هو اعتاد على الضوء، لذا تحرك شقيقه وجاوره ثم ضمه لصدرهِ ماسحًا فوق خصلاته وهو يقول بحنوٍ:
_اللي حصل عدى برحمة ربنا علينا، صدقني أنتَ رجعت للحياة من تاني ولسه هترجع وتنور حياتنا وبيتك، واحدة واحدة هترجع تاني تفتكر كل حاجة وتعيش وسطنا، ومتنساش إن قلبك مش ناسي، بدليل إنك لما شوفت “دهـب” افتكرتها وقلبك رجع تاني يفتكر، يمكن العقل ناسي بس القلب مبينساش حبايبه..
أومأ له بشرودٍ وحرك عينيه نحو الصغيرة التي تغفو فوق كتفه ثم مسح فوق ظهرها وقال بتيهٍ كمن يبحث عن مأواه بين البشر:
_ياترى إيه تاني العقل ناسيه وهو غايب عن القلب.
بعد مرور ما يقارب الساعة…
خرج “إيـهاب” بابنته من المشفى وولج السيارة يضعها في حقيبتها بجوارهِ ثم قاد السيارة بعد وداعٍ حارٍ وترحيبات وسلامات للجميع، بينما “إسماعيل” فأخذ الطعام ثم خرج للحديقة يتجول فيها بحثًا عن “محمود” الذي جلس برفقة ابنة خالته قُبيل الوداع حتى رحلت هي وتركته وحده بعد وعدٍ قطعته له بالعودة في الوقت المُناسب..
التقيا سويًا في نقطةٍ بالمنتصف، فجلس “إسماعيل” أولًا ثم بدأ يفتح الأطعمة كي يشارك رفيقه الذي وضع الحلويات المفضلة لديه فقال “إسماعيل” بسخريةٍ يُمازحه:
_الست جابتلك رموش الست؟ بألف هنا.
جلس “محمود” أمامه مبتسمًا ثم قال ردًا عليه:
_الله يهنيك يا “حوكشة” عاملين حسابك معايا، بس أنا ماليش نفس آكل بصراحة، كل مرة نفسي بتتسد ومبقدرش آكل.
بحث “إسماعيل” في وجه رفيقه عن سبب حديثه وسرعان ما أدرك السبب فترك موضعه وتحرك بالمقعد يجاوره وهو يقول مشفقًا عليه وعلى حاله:
_لو السبب أخوك يبقى صدقني مش حل إنك تنكد على نفسك كدا، سيبهم عايشين مع بعض ربنا ينتقم منهم، هتخسر حياتك أكتر من كدا إيه يا “محمود” أنا مش فاهم، أربع سنين ضاعوا من عمرك وهما السبب، ولعلمك؟ هو برة خسران كتير أوي، المصنع قفله، ومشروعه فشل، وحياته ضاعت، وهي مش هتقدر تتحمل الفقر دا، علشان هي مش بنت أصول، هي زبالة غاوية تاخد لقطة بس، واللقطة خلاص راحت والمخرج شطب..
كان حديثه مثيرًا للتركيز وتحريك التروس المتعطلة في الماكينة، لذا التهبت نظرات “محمود” الذي طالع الفراغ أمامه وهو يشدد كفيه فوق بعضها يُدلكهما بعنفٍ حتى ابيضت يداه، بينما “إسماعيل” فابتسم بسخريةٍ وهو يُضيف:
_أوعى تقولي إن كلامي عنها مزعلك، بالعكس دي الحقيقة اللي لازم تكون عارفها، هي مش بتحبك ولا حتى بتحبه، هي بتاعة مصلحتها بس، لما كنت شاطر وناجح والقرش بيجري في إيدك كانت معاك وفي ضهرك، لما بدأت تلاحظ إنها طماعة وكلبة فلوس كانت هي بدأت تلف على الطرف التاني علشان تضمن نفسها، هي مكانتش بتحبك هي كانت بتاخد اللقطة بس.
تنهد “محمود” بثقلٍ ومسح وجهه بكلا كفيه، فوجد “إسماعيل” يُضيف من جديد مستخدمًا سياسة الطرق فوق الحديد الساخن كي يسهل عليه تشكيله:
_الحج “نَـعيم” كان علطول يقولي لازن تفرق بين اللي يحبك وبين اللي بيحب اللي ياخده منك، علشان لو هو بيحبك علشان اللي بياخده منك لو خلص حبه هيخلص، إنما اللي بيحبك بجد حتى لو فلست وراحت منك كل حاجة، هيفضل معاك وواقف في ضهرك، اللي بيحبك بجد هيفضل ماسك فيك حتى لو أنتَ بنفسك روحت هو مش هيروح، علشان كدا فيه فرق بين اللي بيحبك وبين اللي بيحب اللي بياخده منك، وأنتَ بنفسك شوفت الفرق.
أومأ له “محمود” موافقًا وقد أدرك المقصد والغاية من الحديث، بينما “إسماعيل” تحرك يشاركه الطعام الذي أرسلته زوجة شقيقه له ومعها “تـحية” أيضًا وهو من بعد أمه لم يقتنع إلا بطعام الاثنتين معًا، لذا كانت ضمن مكافأته اليوم؛ تناول الطعام الذي يُحب ممن يُحب..
بينما “إيـهاب” أخيرًا وصل البيت وترجل من السيارة وهو يحمل ابنته فوق ذراعه وقد تجاهل عن عمدٍ مكالمات “ضُـحى” له التي لم تنقطع بعدما رحل هو من المشفىٰ، كان يعلم محوىٰ المكالمة من قبل أن يرد، كان يهرب من مواجهة الألم بنوعيه سواءً كان من حالة شقيقه أو من حالتها هي..
ولج البيت فوجد “نَـعيم” يجلس برفقة “سمارة” ومعهما “آيـات” التي كانت تجلس بصمتٍ كعادتها وما إن لمحته ودت أن تسأله عن حال شقيقه لكن خجلها تحكم بها وجلست بصمتٍ تنتظر معرفة حال هذا الشاب الذي أثر غيابه سلبًا على زوجها الذي افتقده طوال الأيام الفائتة، بينما “نَـعيم” فتلهف لمعرفة أخبار حبيب الروح؛ فانتفض من وقفته يسأل بلهفةٍ:
_طمني، الغالي عامل إيه؟ بقى كويس دلوقتي؟.
أومأ له “إيـهاب” ثم جلس بصمتٍ وقال بهدوءٍ:
_حبيبك كويس وبخير، وحاله كويس أوي و”جـواد” قالي بقى مستجيب للجلسات بشكل أسرع وبدأ العلاج ياخد وقته وحالته تستقر، يعني لو عاوزينه يفتكر حاجة أو نبدأ نمهدله الوضع دا هيكون عادي بس بحدود، وعلى فكرة هو باعتلك السلام وبيقولك حضنك وحشه أوي.
ابتسم له “نَـعيم” وجلس بجوار زوجة ابنه وهو يتنهد بعمقٍ بينما “سمارة” لمحت هاتف زوجها المُضيء بتوالٍ دون توقفٍ وحينها قالت باستفسارٍ:
_تليفونك بيرن بقاله كتير، مش هترد؟.
حرك عينيه نحو الهاتف وما إن لمح اسم المتصل زفر بقوةٍ ثم حرك رأسه نفيًا، ففهمت هي السبب لذا تحركت تحمل منه ابنتها ثم قالت بجمودٍ بعض الشيء:
_طب وآخرتها طيب؟ هتفضل كل مرة تهرب من الإتصال كدا وتسيبها قلقانة؟ جاوبها وخليها ترتاح يا “إيـهاب” علشان هي زمانها بتموت دلوقتي بدل المرة ١٠٠، جاوب عليها خليها ترتاح شوية على الغايب.
وقف هو أمامها بعدما قال بصوتٍ هادرٍ وقد حقًا نفذت طاقة تحمله:
_ومين قالك إني لما أرد عليها هي هترتاح، أنا عارف هي عاوزة إيه ومش هقدر أجاوبها، أنا معنديش أي إجابة أقولها ليها، ومش هقدر أخليها تتوجع كدا، خليها لحد ما نشوف الحل، “جـواد” بدأ معاه يمهدله علشان لما يعرف يكون قابل وجودها، وفاهم، هنقول تاني؟ عقله طار منه ولسه راجع وبنعامله كأنه عيل صغير، أي صدمة أو مواقف تقيلة عليه هترجعنا لنقطة الصفر تاني، وهي حاطة أمل في موضوع حياتها كلها واقفة عليه.
كان يتحدث من منظوره هو، يرى الموضوع من فلسفته الخاصة، بينما مشاعر المرأة فهي دومًا تكون مرآة عاكسة لمشاعر المرأة الأخرى، لذا سحبت الهاتف وهي تعلم كيف هو حال الأخرى، هي سبق وأدركت قسوة مشاعر الفقد لذا تتلهف لطمأنة قلب الأخرى، لذا فتحت الهاتف وهي ترد التحية بصوتٍ هاديءٍ…
كانت “ضُـحى” تعلم جيدًا أن “إيـهاب” لن يواجهها، لذا تنهدت بثقلٍ ثم قالت بصوتٍ هجم عليه الحزن:
_إزيك يا “سمارة” معلش بس هو “إيـهاب” جنبك؟.
ذهبت “سمارة” بعينيها لوجه زوجها الذي ظهر التبرم عليه وفي تلك اللحظة زفرت هي بقوةٍ ثم جاوبتها بشفقةٍ عليها:
_جنبي يا حبيبتي، بس هو راجع تعبان شوية من برة علشان كدا رديت عليكِ أنا، أنتِ عاوزة حاجة طيب أقولها ليه؟.
كانت الأخرى تعلم بتهرب “إيـهاب” منها لذا قالت بثقلٍ:
_طب افتحي الصوت علشان أنا متأكدة إنه جنبك وبيهرب مني زي كل مرة، معلش هتقل عليكِ بس أنا معنديش حاجة تاني أعملها وقاعدة متكتفة، معلش افتحي الصوت.
فعلت الأخرىٰ ما طُلِبَ منها بينما “ضُـحى” بصوتٍ مُختنق أقرب في محواه للبكاء المكتوم الذي لم يتم الإفصاح عنه:
_أنا المرة دي مش هسألك عني عنده، عارفة إنه مبيجيبش سيرتي و”يـوسف” قالي كدا، بس هو كويس دلوقتي؟ بقى أحسن من الأول ولا لسه مش عارفنا؟ مجابش سيرتي خالص ولا مرة بالغلط طيب؟.
والسؤال يضرب في مقتلٍ، كان “نَـعيم” حينها في أصعب لحظاته وكأنه يشعر بها، لذا تحرك من موضعه يسحب الهاتف برفقٍ منها ثم رد هو على “ضُـحى” يُخبرها بحكمةٍ اكتسبها من عبق الزمن الماضي:
_المرة دي مجاتش، بكرة يجيب ويفتكر كمان، مش هيفضل ناسي كتير يا “ضُـحى” ولو فضل هيعرفك، قلبه هيعرفك يا “ضُـحى” زي ما عرفك أول مرة ومقدرش يهرب منك، فاكرة لما حاول يبعد عنك والنصيب جمعك بيه؟ هيجمعك بيه من تاني، ويمكن المرة دي تكون من غير فراق ولا بُعد حتى.
بكت “ضُـحى” وانتحبت بصوتٍ باكٍ ولأنها لم تجد ما يُقال من الحديث أغلقت المكالمة دون أي ردٍ، أغلقت وهربت وتركتهم حائرين بعد تلك المكالمة القاسية التي كانت خير دليلٍ على قهر قلبٍ مُحبٍ حُرِمَ ممن يُحب..
فلما رأته موطنًا عامرًا، أصبح مدينةً بها تغترب،
ولما ظنته من بين العالم بلادًا، وجدت نفسها
عن بلادها تبتعد ولم تقترب، ظنت نفسها مع
أمان العالم في كنفه، ولم تكن تدرِ أنها بين النيران تضطرب.
____________________________________
<“يا حنو العالم في زمانٍ قاسٍ، احتاجك أنا”>
دربي مُعتمٌ، طريقي طويل، خوفي يقتلني..
وسط كل ذلك احتاجك أنا كي أعبر من فوق المخاطر،
أنا هُنا في ضفة حربٍ كلا الطرفين فيها؛ هما أنا، وأقسى ما يواجهه المرء أن يكون خصمًا في حربٍ بين إنسانيته وفكره، فأنا يا صديقي مُتعبٌ بلين قلبي، فهل اللين هو العقاب؟..
بيتٌ دافيءٌ، قلبٌ حنونٌ، ضمة رقيقة بمشاعر حقيقية، رائحة طعام شهية ملأت البيت بأكمله بزواياه، ضحكات عالية تُجلجل ومزاح مستمر، سُخريات دائرة ومشاعر كانت ضائعة ثم عادت لموطنها، شقة قديمة دافئة باللون الكريمي والأثاث العتيق القديم، وهي هُنا تتمنى هذا المكان بيتًا لها، تتمنى ألا تفقد ما وجدته هُنا..
كانت “نورهان” تُجالس “كِـنز” في شقتها، تحديدًا بمطبخ الشقة معها تتعلم منها الطعام كما تُجيد الأخرى، وقد جلست “كِـنز” تعاونها فيما تفعل وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_يابت خففي إيدك شوية، كدا هتطلقي أول ما تتجوزي علشان إيدك بطيئة في الأكل، الراجل في موضوع الأكل بالذات ميقدرش يستنى، كأنك بتعاملي عيل صغير لسه، اسأليني أنا، وخصوصًا الواد “باسم” بيحترم مواعيد الأكل أوي.
ابتسمت لها “نورهان” بخجلٍ حينما فهمت مقصدها وتلميحها، بينما الأخرى عادت لما تفعل بانسجامٍ أكبر وقد تركت نفسها للحلم الوردي الذي جعلته يطغى فوق كل سُحبٍ سوداءٍ تخفي آشعة الشمس خلفها، كانت تتمنى وتتمنى بينما الأخرى فشردت في ملامحها وهي تبتسم، فمنذ ما يقارب الثلاث أشهر وهي تأتي هُنا تجلس معها وتقضي معظم يومها ثم ترحل في نهايته لوحدتها، كلتاهما وجدت الأنس في الأخرى لذا كانت كلًا منهما تتمسك بالأخرى..
كانت “نورهان” تُطالع الساعة المُعلقة وهي تلاحظ قرب موعد قدومه، وكلما اقترب الوقت، تعالت دقات قلبها، هذا الشخص الذي ولج حياتها صدفةً جعلها تجلس وهي تتمنى أن تلمحه، فهو برغم قربهما من بعضهما إلا أن المسافة بينهما تُقارب بُعد المسافة ما بين الواحد والثلاثين من ديسمبر والأول من يناير، الفرق بينهما مجرد يومٍ، لكن الفاصل بينهما عامٌ..
صدح صوت الجرس فتأهبت حواسها للقياه، بينما “كِـنز” ابتسمت لها وقالت بتلميحٍ مُبطنٍ حينما افتضح حال الأخرى أمامها:
_أهو حضر أهو العو وجه.
تلون وجه “نورهان” سريعًا وزاغ بصرها وقبل أن تتحرك المرأة أوقفتها بلهفةٍ تقول:
_طب بصي متقوليش إني جيت، يعني أخرجي أنتِ بس وأقعدي معاه وأنا هخرج وراكِ حتى أكون خلصت اللي بعمله دا، ماشي؟.
خرجت الأخرى ضاحكةً ثم فتحت له الباب، وقد جلس هو جلست هي فوق الأريكة بلامبالاةٍ كاذبة تمسك جهاز التحكم بالتلفاز وقد جلس هو بجوارها بعدما رمى هاتفه ومفاتيحه، وقد سألته هي باهتمامٍ تحاول به خلق أية أحاديث بدلًا من الصمت المُطبق عليهما:
_راجع بدري شوية النهاردة، أخبار الشغل إيه صحيح؟.
أومأ لها موافقًا ثم قال بثباتٍ مُتخليًا عن ذاك الجزء المؤلم في نفسه بسبب حلمٍ ضاع في غياهب الظُلمات الليلية:
_كويس، أهو العادي بتاع كل يوم بس أحسن من قعدتي كدا من غير شغلانة مستني مصلحة يمين ولا شمال، والراجل صاحب المطعم محترم بصراحة ومقدر ظروفي لا بيسأل عن ورق ولا فيش، وفاهم ظروفي، ومقدر أبويا الله يرحمه، علشان كدا مش قلقان بصراحة.
أومأت له موافقةً ثم ربتت فوق كتفه وهي تؤازره بعدما بحثت له عن هذا العمل وأرشدتها إليه واحدة من نساء المنطقة فذهب هو للعمل بعدما قرر أن يترك هذا الدور الأقرب لدور الضحية، هذا الذي كان يأمل في دور الناجي أصبح الآن يحتل قمة دور الضحية، خرج من شروده على نظرات خالته؛ فسألها باهتمامٍ:
_أومال فين الأكل؟ أنا جعان ومفطرتش أصلًا.
تركت جهاز التحكم ثم جاوبته بثباتٍ واهٍ:
_استنى علشان “نورهان” هتيجي تاكل معانا وقربت توصل، هي على وصول خلاص، بعدين أنا عاملة الطاجن اللي هي بتحبه وكانت طلباه مني، أدخل غير هدومك وخد دش علشان تفوق لحد ما هي تيجي.
حينها قلب عينيه بمللٍ ثم قال بقسوةٍ كأنه يظهر عكس ما يُبطن في داخله ونفسه:
_يادي “نورهان” وسنين “نورهان” مش هنخلص بقى من الحكاية دي؟ يا ستي ما تسيبك منها وخلينا نرجع في حالنا تاني زي ما كنا، عمالة تلفي وتدوري على إيه مش فاهم أنا، اللي أنتِ عاوزاه مش هيحصل، وأنا خلاص فاض بيا، عرفيها أنتِ إن خلاص كدا ياريت كفاية لحد كدا، اللي كنت ناوي عليه خلاص اتلغى ومش هقدر أعمل أي حاجة، يبقى الأحسن كل حاجة ترجع لحالها..
توسعت عينا خالته وصُدِمت من انفجاره في وجهها، بينما “نورهان” فكانت تقف على أعتاب المطبخ تستمع لكامل الحديث وقد طعنها في قلبها بحديثه، وفي تلك اللحظة سقطت السكين من يدها وارتجف جسدها ما إن وصلتها قسوة الكلمات، بينما هو التفت خلفه حيث مصدر الصوت وما إن رآها صُعِق كمن ضربت الكهرباء جسده ودمرت روحه فأصبح ثابتًا..
حينها بكت أمامه وهي تعاتبه بعينيها ثم سحبت حقيبتها ورحلت من المكان بخطواتٍ راكضة، بينما خالته فوبخته بقولها المُعنف له تُعاتبه على فعله:
_ليه كدا يابني دي البت غلطانة وملهاش حد غيرنا، حرام عليك هتبقى أنتَ وأهلها والأيام عليها؟ فاكرني مش واخدة بالي منك وأنتَ شاغل بالك بيها وعارفة ومتأكدة إنك خايف منها وخايف تحبها، بس أنتَ شكلك حبيتها خلاص، بيبان في عينيك لما بتشوفها، بس لعلمك اللي زي دي لو كسبتها أنتَ اللي هترتاح، علشان دي لو حبيتك هترعاك، بس أنتَ غبي وعنيد وهتضيعها من إيدك، أنزل يمكن تلحقها قبل ما تعمل في نفسها حاجة..
توسعت عيناه وجحظت المُقل ما إن أدرك تلك الهوة الساحقة، هي أكثر عُرضةً للانتحار بسبب مرض الإكتئاب الذي تعاني منه إضافةً لتناول تلك المواد المُخدرة، لذا ركض نحو الباب وقفز الدرج بأكمله حتى وجدها بداخل السيارة تبكي وحدها، حينها تنفس بعنفٍ ورطب شفته السُفلى ثم اقترب يفتح باب السيارة وجلس بجوارها…
حينها حركت عينيها له وما إن لمحته ارشقته بنظراتٍ حادة وكارهة ثم أمرته بصوتٍ جامدٍ كأنه آلي:
_أنزل من العربية وسيبني في حالي لو سمحت، مش دا كان طلبك إنك تبعدني عنك وعن طريقك؟ أنا أهو بقولك أنزل وأنتَ مش هتشوف وشي تاني في حياتك، سيبني في حالي يا سيدي خليني أروح أشوف أي داهية تاخدني.
كان يعلم أن الحق معها ويُحق لها أن تفعل ما تود لذا لم يغضب من طريقتها بل تركها تفعل ما يحلو لها، وقد تنهد بقوةٍ ثم قال بصوتٍ هاديءٍ بعدما لاحظ تهدج صوتها وكسر خاطرها:
_طب ممكن تتحركي بالعربية ونخرج من هنا؟ اعتبريه آخر طلب منك ومش عاوزك ترفضي، أنا محتاج أتكلم معاكِ شوية، ممكن؟.
رفضت وأصرت على موقفها وتماسكها، بينما هو رفع أحد حاجبيه يرمقها بسخطٍ، فوجدها تقول بجمودٍ وهي تتجهز للتحرك بسيارتها:
_خلي عندك دم وأنزل يا “باسم” علشان أنا مستحيل آجي معاك.
بــعد مرور نصف ساعة..
توقفت سيارتها عند كورنيش النيل ليلًا وقد كان “باسم” يجاورها بها وقد قالت هي بنبرةٍ وضح بها التبرم والسخط:
_ياريت تنزل بقى، طلبت مني أوصلك هنا وجيبتك أهو، ممكن تمشي وتروح تشوف طريقك بعيد عني؟.
أومأ موافقًا ثم نزل من السيارة وقبل أن تنوي التحرك اقترب منها يفتح الباب لها وحينما رفعت له عينيها فأومأ بأهدابه لها أن تنزل من السيارة وقد زفرت بقوةٍ ثم تركت موضعها ونزلت تجاوره فوجدته يجلس فوق مقعدٍ من المقاعد الرُخامية وأشار لها وحينها جاورته هي وما إن فعلت ذلك وجدته يقول بنبرةٍ هادئة وهو يُطالع حركة النيل أمامه:
_أنا آسف لو كلامي ضايقك.
ابتسمت بسخريةٍ وهي تقول ردًا عليه بتهكمٍ:
_لأ خالص ولا يهمك، دي يدوبك مشاعري اتهرست بكلامك دا وخلصت، بس تصدق الغلط عليا أنا مش عليك، عارف ليه؟ علشان أنا ما بصدق ألاقي مكان حد يحبني فيه، ما صدقت أرجع أتكلم تاني بعدما عيشت عمري كله لوحدي، ما صدقت لقيت حد ياخدني في حضنه، مش عارفة ألومك أنتَ ولا ألوم نفسي، ولا ألوم أهلي اللي خلوني أشحت الحب من الغُرب وهما عايشين..
تهدج صوتها وبكت وهي تحدثه وقد لمح هو ذلك في عينيها حينما هربت منها وهي تُنكس رأسها للأسفل، هربت بعينيها من لقاء عينيه قبل أن تلمح ما يُمحي أي شيءٍ له لديها، بينما هو أخرج من جيبه محارم ورقية ثم مد يده لها بها وقال برفقٍ:
_أمسحي دموعك يا “نورهان” وبطلي عياط، لا أنا ولا غيري نستاهل دموعك دي، يمكن كلامي زعلك ويمكن قسيت عليكِ بس أنا عاوز أهرب منك، عاوز أهرب من أي إحساس ليكِ مهما كان هو إيه.
طالعته بغرابةٍ بينما هو عاد ينظر لها ثم قال مُضيفًا:
_أنا مجرد واحد كان ليا حلم غريب أوي نفسي أوصله، كان نفسي الناس كلها تكون حُرة والناس تكون واعية والشباب كلها فاهمة حقوقها إيه، كان نفسي نعيش في حياة تليق بالبشر والشباب ودنيا تسيع الحلم، كان نفسي لما أكبر أحقق حلمي وحلم الشباب، تعرفي إني بحب البلد دي أوي؟ بحبها فوق ما تتخيلي بس للأسف، ساعات الحاجة اللي بنحبها دي بتكون هي السبب الأول في وجع قلوبنا، وأنا والله موجعش قلبي غير إني بحبها.
تركته يحكي ويزبد في الكلام بينما هو راقب بعينيه النيل الأسمر والضوء الساقط فوق ضفتيه وقد لمح المراكب الحُرة التي تتحرك في منتصفه فتنهد بعمقٍ ثم سحب الهواء عنوةً داخل رئتيه وأضاف بحزنٍ جليٍ فوق ملامحه:
_كنت الابن الوحيد لـ “أحمد الطيب” الراجل الحُر المُناضل اللي عاش حُر وعمره ما قبل ذل أو قهر أو حد حتى يرفع عينه فيه، علشان كدا رباني أكون حُر زيه ومقبلش الذل من حد، بس أنا لما حاولت أعمل كدا لقيت نفسي حر بس في سجن، شاب عجوز وكبر قبل أوانه، بقيت معتقل سياسي وسُمعتي اتشوهت، أمي ماتت بحسرتها على ابنها الوحيد، كنت صحفي وكان قلمي حُر زيي وقوي، بس كسروا القلم وحبره طفح عليا، بقيت بين الناس زي العبء، لا بقيت نافع للماضي ولا بقيت حتى نافع للحاضر، علشان كدا بهرب بس، ماليش في الحياة مكان، بحب أهرب بس..
حاولت هي أن تفهم مقصده من الكلام فوجدته يتنهد بثقلٍ ثم عاد يطالعها هي وهي تبكي أمامه، وقد قرر أن يخرج من تلك اللحظة التي أثرت عليهما بالحزن، فتحرك من جوارها ثم قام بشراء مشروب “حُمص الشام” لهما سويًا واقترب منها يناولها الكوب الخاص بها وهو يقول بلينٍ وحنوٍ:
_خدي كوباية المشروب المصري الأصيل دا، لعلمك دا المشروب الوحيد اللي بيخليني أصبر على أي حاجة هنا، واللي بعزهم بس هما اللي بخليهم يشاركوني فيه، شكلك كدا طلعت بعزك يا “نورهان”.
ابتسمت رغمًا عنها وقبل أن تمد كفها تأخذ الكوب منه سألته بنبرةٍ ضاحكة كأنها تمازحه:
_يعني اعتبرك كدا بتصالحني يعني؟.
أومأ لها مُبتسمًا ومد كفه أكثر لها فأخذت الكوب منه، بينما هو جلس بجوارها ثم سحب نفسًا عميقًا وقرر تلك المرة ألا يراقب نفس الصورة في كل مرةٍ يجلس في نفس موضعه، قرر أن يصرف فكره عن همومٍ أثقلت روحه، وقد حرك عينيه نحو تلك التي تجلس بقربه يراقب ملامحها، لاحظ وجهها المستدير، وعينيها الصافيتين ذوات الأهداب الكثيفة، ثم لاحظ تلك المرة خصلاتها التي أصبحت ناعمة على عكس الصيحة المُجعدة، كانت رقيقة بكل شيءٍ وتفاصيلها المخبوءة خلف تلك الشخصية كانت أجمل وأعظم لذا ابتسم وتذكر قول “أحمد فؤاد نجم” الذي لائم وضعه:
“‏أنا كنت وحداني، ‏والدنيا واخداني
‏عايز ونيس تاني،‏ يقاسمني في الأحلام”
____________________________________
<“أنا هُنا معك في كل وقتٍ وحينٍ، لأجلك أنا هُنا”>
لا شيءٍ يحدث بمحض أي صُدفةٍ..
وإنما كل شيءٍ يحدث كان مقدرًا ومكتوبًا على القلوب وأصحابها، حتى حضوري لهنا بجوارك ومروري من تلك الطُرقات الخاصة بك كانت هي النصيب بذاته، فأنا معكِ هُنا ولأجلك أنا هنا ومهما ثقلت عليك الأحزان، أنا وكتفي وكُلي لأجلك هنا..
الهموم لا تقل وإنما تزداد، كل شيءٍ أتيًا من ذكرى ويشبه أخرى والقلب فقط يتألم من الذكريات والماضي، لعل أصعب ما يواجهه المرء بنفسه أن يكون في حربٍ دائرة بين ماضٍ وبين حاضرٍ برائحة ذاك الماضي، فلا تعلم من أيهما تهرب، لذا رغم صموده ومحاولاته إلا أنه حقًا في نهاية الليل يقع في دوامة لا مُتناهية من حروبٍ لا تتوقف، وحربه تلك المرة أكبر منه هو بذاته، فهو الآن يحارب في كل جهةٍ وكل الجهات تهزمه..
وقف “يـوسف” على أعتاب شقته وولجها بصمتٍ وهدوءٍ وقد ارتمى فوق الأريكة بعدما خلع سترته وظل بقميصه ثم وضع ساعده فوق عينيه لقرابة النصف ساعة، ظل هكذا يصول ويجول في متاهات العقل وهو يفكر في رفيقه الأول ثم الثاني، ثم أخته المتألمة، ثم زوج عمته الهارب، ثم عمه الذي رغم ذلك لازال قاسيًا، هو يحارب لأجل الجميع ورغم ذلك الهزائم تلاحقه، لذا حاول أن يهرب بالنوم، لكن يبدو أن النوم هو الذي هرب منه فزفر بقوةٍ ثم رفع عينيه نحو الساعة يطالع التوقيت وحينها اعتدل يجلس في انتظار “عـهد” لحين عودتها من بيت أمها..
حرك عينيه بمللٍ في انتظارها ثم أخرج دفتره وقلمه ثم فتح صفحة من بين الصفحات ثم بدأ الخطاب لأجلها هي، نفس الخطابات القديمة الخاصة بالعصر اليوناني عاد يسرد لها قصة قديمة من بين تلك القصص وتلك المرة كانت القصة تليق بهما سويًا كما اعتاد، وقد ولجت هي بعدما أنهى خطابه فرفع عينيه لها حينها جلست هي بقربه ثم قالت بلهفةٍ:
_والله ما أعرف إنك جيت، بس ماما دور البرد مبهدلها علشان كدا اتأخرت شوية، بس طمني عملت إيه؟ عرفت توصل لأي حاجة طيب من اللي كنت بتحاول فيهم؟.
حرك رأسه نفيًا وجاوب بثقلٍ:
_ولا أي حاجة، مجرد مشاوير كلها في الآخر رجعت منها مهزوم زي العادة، مش لاقي “سـامي” ومش عارف أوصله، “إسماعيل” فاكر حياته طشاش من بعيد على حسب كلام “إيـهاب” و “سـراج” خسر كل حاجة حتى بنت أخته مش لاقيينها، أنا تعبت من كل الخساير دي وأنا مش لاقي حاجة تنصفني.
فهمت هي سبب حديثه وعلمت من طريقته أنه حقًا يتوه من نفسه وضاع في دروبٍ لم تحتويه لذا ضمت نفسها تستقر فوق صدره برأسها وهي تقول بحنوٍ:
_أنا معاك وواثقة فيك، عاوزاك ترتاح شوية من اللي أنتَ عامله نفسك دا يا “يـوسف” بقالك شهور، بالوضع دا هنرجع ورا وهتتعرض لانتكاس زي ما “جـواد” قال وحذرك، الضغوط النفسية ليك غلط، سيب كل حاجة زي ما تيجي وصدقني ربنا هديبرها، زي ما كل حاجة دايمًا بتتحل وإحنا العباد مش حاسين بحاجة، بالراحة على نفسك علشان محدش هيفرح بخسارتك، ينفع يعني؟.
أومأ لها موافقًا ثم ضمها له أكثر وتنهد بقوةٍ، وقد لاحظ مع مرور الوقت وروتين الحياة أن الحياة بينهما أصبحت مثقلة بالهموم، لذا حرك عينيه يقابل عينيها ثم قال بهدوءٍ:
_كويس إنك هنا وإنك مش وهم زي ما كنت فاكر، أظن دي القطمة اللي بجد وملهاش قومة من تاني، كويس إنك معايا وجنبي يا “عـهد” لسه لحد دلوقتي، ربنا يحفظك ليا.
ولأن الهدوء هو الصفة النادرة لديه منذ ما يقارب الشهر الرابع في أيامهما كانت تطالعه بغرابةٍ بينما هو ابتسم لها ثم قال بعدما حرك أنامله كي يُدلك عُنقها كما اعتاد أن يفعل دومًا ثم قال بحنوٍ بالغٍ وهي أمامه تبتسم برقةٍ بعدما أعلن سيطرته عليها:
_النهاردة أول مرة من شهور آجي لحضنك جري، مش عارف ليه الدنيا قاسية مش رحماني كدا بس أنا شايفك رحمة ربنا ليا، كتر خيرك إنك لسه معايا وماسكة فيا بعد كل حاجة بتحصل، أنا أصلًا كنت زهقت من نفسي خلاص، بس أنتِ علشان معايا هنا أنا لسه قادر أكمل من تاني.
ابتسمت بحبٍ له ثم طوقت عنقه بذراعيها وهي تشدد ضمتها له، بينما هو فحقًا كان يعلم أنه لها هي ينتمي، كان يُدرك أن الحياة تحتاج لمن هُم بلين قليها كي يستطع مُجابهة قسوة الأيام، كان يُدرك أن الموطن في عينيها، والغريب بمثل وضعه يوم أن يجد ضوء عينيها سوف يأخذ منه هوية موطنه في حين أنه الغريب..
لذا استقر فوق الأريكة وهي بين ذراعيه تجلس بصمتٍ في عناقه وقد أغلق هو دفتره كي يُكمل لها الخطاب ويفصح لها أكثر عن ذاك البطل المزعوم الذي اقتبسه هو كي يتحدث عنه باسقاطٍ يناسبهما سويًا..
____________________________________
<“ياقمري الضائع خلف سُحبٍ، لقد مل الصبر مني”>
أن يُفنى عمر المرء في انتظار شيءٍ هذا هو القتل بذاته..
فتخيل أن يمر عمرك فقط وأنتَ سجينٌ في خيالٍ تود منه شيئًا وتُفني عمرك في انتظاره، ويمر بك العمر وتمر بط الأيام وهذا الشيء لا يحدث، تخيل أن يكون عمرك فائتًا لأجل شيءٍ لا يحدث وتخيل أن يكون عمرك بلا هدفٍ…
كانت تقف في شرفتها تقوم بجمع الملابس منها بعد أن عادت اليوم تقوم بتنظيف شقتها وتعاون في تنظيف البيت مع “وداد” خاصةً مع حمل “نِـهال” التي بدأت في شهرها الخامس، وقد كانت “قـمر” تُقسم وقتها بين أختها وعائلتها، وبين عائلة زوجها ومراعاتهم، وللحق قد أهملت “أيـوب” كثيرًا وهو لازال يتحمل حتى أنه لم يتحدث معها بهذا الشأن، حاولت أن توفق بين جميع الجهات لكن هناك جهة كانت تتحمل الكثير بصمتٍ..
ولج “أيـوب” شقته بتعبٍ بعد يومين مرا عليه بصعوبةٍ في مركز الصيانة حتى أنه قضى هناك ما يقارب الأسبوع يبيت ليله ثم يأتي للحارة في منتصف الأسبوع يتابع المسجد ثم يعود من جديد، وما إن ولج ولمحها قفز قلبه من محله واقترب منها يسألها بلهفةٍ:
_أنتِ هنا يا “قـمر” بجد؟.
التفتت له بملامح أكلها الحزن ثم حركت رأسها موافقةً وحينها خطى نحوها يقطع المسافة الفاصلة بينهما ثم ضمها له في عناقِ قوي وهو يقول بلهفةٍ ولوعةٍ بعد فراق ما يقارب عشرة أيام:
_لو أعرف إنك هنا كنت جيتلك من بدري أوي، أنتِ كويسة؟.
حركت رأسها مومئة بالإيجاب توافقه _رغم كذبها_ وقد مسح هو فوق ظهرها عدة مراتٍ ثم عاد للخلف يسألها باهتمامٍ أكبر:
_طمنيني أخبارك إيه؟ دلوقتي بقيتي أحسن؟.
أمام هذا الكم من الحنان عليها حركت رأسها نفيًا ثم ألقت نفسها بين ذراعيه وهي تقول بصوتٍ باكٍ وقد حقًا أضناها الحزن على أختها التي أصبحت كما البناية المتهالكة:
_لأ مش كويسة، أنا تعبانة أوي وزعلانة يا “أيـوب” وزعلي مش راضي يقل، كل يوم أحس بالذنب علشانها وأنا مش قادرة أعمل علشانها أي حاجة، ياما هي ضحت بنفسها علشاني، بس أنا مقدرتش أعمل أي حاجة علشانها، أنا خايفة وقلبي مش كويس.
في تلك اللحظة كان يشعر بها، نبضات قلبها بجوار قلبه أخبرته عن حالها دون أن يسأل هو، كان يعلم أن قلبها الحزن توطد به وأصبحت العلاقة بينهما أكيدة لذا ظل يمسح فوق ظهرها ثم حرك كفه الدافيء يُدلك موضع نبضها مستطردًا بحبٍ:
_بسم الله على قلبك حتى يهدأ،
بسم الله على روحك حتى تطمئن، اللهم إني استودعتك زوجتي وحبيبتي وطارفة عيني، ومالكة قلبي، وشريكة عمري، فاللهم أني أسألك الرحمة بقلبها الطيب، وأن ترزقها بالخير كما كانت لي كل خير، اللهم إنها زوجتي وحبيبتي وسبب دخولي إن شئت وأردت لجنتك، فاللهم أكتب لها الفرح والهنا،
وبارك لي في عُمرها وقلبها.
ألقت بثقلها عليه وتركت نفسها له وهي تعلم أنه حقًا لن يتركها إلا بأفضل حالاتها، لذا حينما تركها تجلس فوق المقعد وحدها جلست تنتظره لحين عاد لها ثم وقف بجوارها يمد يده لها بحقيبة بلاستيكية ثم قال بصوتٍ هاديءٍ يمازحها:
_لما كنت بجيب حاجة حلوة لِـ “إيـاد” خلاني جيبت حاجات كتير بزيادة ومعرفتش السبب بس بعدها قالي إنه عاوز يديكِ منهم علشان بتحبي تاكلي الحاجات دي لو زعلانة، كنت محضر الشنطة دي علشان أجيبهالك هناك تاكلي منها، بس خدي بألف هنا هجيبلك غيرها تاني.
حركت رأسها نحوه ثم عادت تستقر بنظراتها على الحقيبة وقد تنهدت بقوةٍ قبل أن تبكي من جديد بينما هو جلس على رُكبتيه أمامها ثم مسح أهدابها وقال بصوتٍ دافيءٍ يشبه دفء قلبه:
_من غير ما تعيطي، أنا فاكر مرة قولتي ليا إنك كان نفسك تجربي إحساس صحابك في المدرسة لما كانوا بيطلبوا حاجة من أهاليهم في المدرسة وتاني يوم الحاجة دي كانت بتحضر، صحيح أنا مقدرش أحط نفسي في مكانة والدك ربنا يرحمه، بس أنا راجل مسلم وقوامتي كراجل تحتم عليا إن مراتي ملزومة مني وواجب عليا إني أخليها تفرح، صح ولا غلط؟.
ابتسمت له بوجهٍ مُشرقٍ وهي تحرك رأسها موافقةً، بينما هو اقترب يُلثم وجنتها بعمقٍ حتى تعالت نبضاتها بسبب رائحة المسك التي توغلت وسكنت في وجدانها، بينما هو عاد يُطالع وجهها البريء ثم قال يتصنع الجدية في حديثه بقوله:
_يا خبر أبيض؟ دا إيه اللي في وشك دا؟.
توسعت عيناها وهي تطالعه بهلعٍ ثم رفعت أناملها بحركةٍ تلقائية تتحسس وجهها بينما هو قال بعبثٍ وهو يغمز لها:
_أحلوينا شوية كمان أهو، ما تيجي أحكيلك حدوتة.
في تلك اللحظة ضحكت رغمًا عنها وقد جلجلت ضحكتها لكنها ضربته في كتفه بعدما أدركت مزاحه، بينما هو فضحك معها ثم وقف وحملها فوق ذراعيه وقبل أن تسأله هي وجدته يقول بإصرارٍ:
_لأ أنسي، دخول الشقة هنا مش زي الخروج منها يا قطة، دي أنتِ لقطة بقولك.
ضحكت معه رغمًا عنها ثم تركت نفسها معه، بينما هو ما إن ولج بها غرفته أجلسها فوق الفراش ثم جلس بجوارها يقول بنبرةٍ هادئة:
_عارف إن الوقت صعب وإن الحياة حوالينا كل المؤشرات فيها صعبة بس مش عاوزك تيأسي، اليأس في حد ذاته دا هزيمة يا “قـمر” ومفيش مكسب هيعوضها بعد ما الإنسان يكون فقد جزء من إنسانيته، خليكِ واثقة في رحمة ربنا بينا ولطفه وكرمه وإن مهما كان الاختيار صعب فهو دا اللي رينا كتبه لينا، صحيح مش كل حاجة بتحصل بتكون زي ما إحنا عاوزين، بس اللي ربنا بيختاره لينا هو الأفضل، علشان في العموم النفس إمارة بالهوى، والهوى فتنة صعبة علينا كبشر، فنرجع نقول الحمدلله إنها دنيا مش دايمة وإن الصبر دا لينا عليه أجر عند ربنا، سواء العوض في الدنيا أو الأجر في الآخرة، صح ولا أنا غلطان؟.
كان كعادته مرشدًا من الحزن، مُغيثًا من ألم النفس، كان يعلم أن كل من هُم حوله حينما يكون الأمر خاصًا بأمور الدُنيا فإن العقل يتغيب ويظل القلب وحده هو من يتألم ويندم ويحزن، فلو حكم الإنسان عقله لرشد في أمره وعلم أن الدنيا زائلة وهذا هو الربح منها…فلا تبكي آسفًا على دنيا زائلة،
واسع خلف عُمرك واستمسك بعتاب نفسك السائلة..
____________________________________
<“تكفينا قسوة الأيام كي نسقط في منتصف الحرب”>
في منتصف الحرب قد لا نحتاج لهزيمةٍ ساحقة..
وإنما وحدها تلك التراكمات هي التي تُسقطنا أمام كل عدوٍ، فتلك الهزائم وإن تعددت لن تُقارن بهزيمة المرء من نفسهِ لنفسهِ بعدما كان يحسب نفسه الرابح الوحيد، فتكفينا وحدها قسوة الأيام كي نُهزم بغير هزيمةٍ من العدو..
في الليل مع الصمت المُطبق كان “مُـنذر” يجلس بجوار الخيول بعد عودته من العمل وقد شرد في هذا الحال الغريب الذي وقع فيه رفيقه، كان يحاول حل المعضلة لدى رفيقه لكنه كلما حاول أن يجد حلًا وجد نفسه يعود للاشيءٍ ويبقى بجوار تلك النقطة التي توصله بالحلقات المُفرغة، جلس هكذا ثم حاول أن يتصل بِـ “چـودي” يطمئن عليها كما يفعل كل يومٍ لكنه كُلما حاول وجد هاتفها مُغلقًا، لذا ترك هاتفه ثم وقف بجوار خيل رفيقه يمسح فوق رأسه ثم خاطبه بقلبٍ مكلومٍ:
_عارف إنك زعلان بسبب غيابه عنك بس صدقني هيرجع من تاني، لازم يرجع علشان كل حاجة من غيره بايخة أوي وقعدته هناك مش حلوة، هو خلاص بدأ يفوق ويفتكر، تصدق إنه مش ناسيك؟ سألني عنك وعن صحتك ووصاني أخليك تجري كل يوم زي ما هو معودك، وقالي أحطلك السكر الصبح والجزر بليل، كان مدلعك أوي وحنين عليك، هو أصلًا حنين على كل الناس، مش هيحن على صاحبه؟ أوعدك هرجعه ليك من تاني.
في تلك اللحظة خرج “مُـحي” يضرب الأرض أسفله ثم وقف أمام “مُـنذر” وقال بصوتٍ عالٍ أعرب عن ضيقه وانفعاله:
_أنتَ عرفت إن “أحمد” عم “چـودي” خدها معاه الإمارات وكسب وصايتها بحكم محكمة يا “مُـنذر” وخلاص ضاعت مننا؟.
توسعت عينا المُخاطب وهدر باستنكارٍ بالغٍ:
_نـعم !! أنتَ بتقول إيه يا “مُـحي” خدها إزاي ومين قالك أصلًا ومحدش عرفنا ليه وقالنا؟ هي سايبة علشان ياخدها؟.
في تلك اللحظة خرج “إيـهاب” بهيبته الفارضة ثم قال بقسوةٍ أتت من صميم قلبه كأنه ينتقم للماضي والحاضر معًا بعدما أخبره “يـوسف” بما حدث وأخبر الجميع كذلك:
_لو دا حصل بجد و”أحـمد” اللي عمل كدا يبقى كتب نهاية عمره بأيده، ولو هو فاكرني مختوم على قفايا يبقى أهبل وبريالة كمان، والبت هترجع، ذوق عافية غضب اقتدار، هترجع لحضننا تاني، بس صبره عليا، هجيبه راكع تحت رجلي.
في تلك اللحظة جاورهم “نَـعيم” الذي حتى الآن رفض أن يعلن هزيمته ثم قال بشموخٍ قوي رغم ضعفه وقلة حيلته:
_هنلاقيها منين ولا منين بس؟ الواحد مش عارف يعمل إيه وهو يعمل يخسر في اللي بيحبهم، أخوكم فين؟ “سـراج” فين يا “إيـهاب” وحصله إيه بعدما عرف باللي حصل، عرفت عنه حاجة؟.
حرك رأسه نفيًا بخزيٍ ولوهلةٍ كاد بخبره أن كل محاولاته للتقرب من رفيقه باءت بفشلٍ محتمٍ وحينها كان “تَـيام” خرج من الداخل بعدما حاول أن يتواصل مع “سـراج” لكنه فشل في ذلك، لكنه قال بخيبة أملٍ لوالده:
_ملحقتش أعرف عنه أي حاجة يا بابا، الراجل اللي في البيت عند والده قالي إنه خرج من بدري ومرجعش، و”عـادل” حماه قال إنه مراحش بيته ولا حتى راح عند مراته، هيكون راح فين بس؟ أحسن يحصله حاجة تاني والمرة دي منلحقش نتصرف برضه، أو هو يعمل حاجة في نفسه.
في تلك اللحظة بدأت المخاطر تعزف فوق رؤوسهم بينما “إيـهاب” شيءٌ ما في نفسه أخبره عن شيءٍ جعله يترك موضعه ثم يتحرك للجهة الخلفية من البيت، تحديدًا موضع الجلسة العربية بجوار الخيل الخاص بـ “سـراج” وما إن وصل هناك لمحه يجلس القرفصاء مُطأطئًا رأسه للأسفل، هرول له بخطواتٍ واسعة وذكر اسمه بلوعةٍ وقد لحقه البقية راكضين خلفه، بينما هو كرر بلهفةٍ:
_”سـراج”…”سـراج” أنتَ كويس؟.
رفع الآخر عينيه الحمراوتين نحوه ثم حرك رأسه نفيًا وقال بصوتٍ مكتومٍ من كثرة البكاء:
_لا مش كويس، ومش عارف أكون كويس، أنا ضهري مقطوم. مش قادر أقف على رجلي من تاني، “إسماعيل” كان قالي في مرة إنه لما بيحس إن ضهره مكسور أول حاجة بيعملها إنه بييجي يحضنك، ينفع تعتبرني هو وتحضني، أنا قدامك أهو ضهري مكسور ومحتاجلك، الدنيا كسرت صاحبك يا “إيـهاب”…
ولأن الحاضر يشبه الماضي، فعادت نفس الجملة تتردد في سمع “إيـهاب” حينما أخبره بها شقيقه بروحه المنكسرة:
_كسروني، كسروني يا “إيـهاب”..
حينها لمح صورة شقيقه في وجه “سـراج” ولمح الاحتياج ذاته والقهر نفسه، فضمه باختطافٍ لعناقه وحينها صرخ “سـراج” في عناق رفيقه معبرًا عن قهره ثم كرر بالصيغة ذاتها يخبره عن قهره على كل شيءٍ كان يملكه:
_قطموا ضهري وسابوني لوحدي من غير أي حاجة، آخر حاجة كانت بقيالي من دمي راحت ومش عارف ألاقيها، الدنيا كلها كسرت ضهر صاحبك، حتى أنتَ كسرتني معاهم، ومن غُلبي مش لاقي غيرك أروحله، أروح فين والدنيا كلها عليا..؟.
بكى وبكت معه القلوب بينما هو فحاول أن يتمسك بـ “إيـهاب” حتى سقط كفه برخوٍ ثم سقط مغشيًا عليه بثقل جسده فوق جسد “إيـهاب” الذي لاحظ ذلك ولاحظ ثقل جسده عليه وهذا إن دل على شيءٍ، فهو يشبه فراق الروح وما شابه ذلك..


تعليقات