رواية غوثهم الفصل المائة والرابع والسبعون 174 بقلم شمس محمد


رواية غوثهم الفصل المائة والرابع والسبعون 

يامن يرى مافي الضمير ويسمع
أنت المعدُّ لكل ما يتوقع
يامن يرجى للشدائد كلها
يامن إليه المشتكى والمفزع
يامن خزائن رزقه في قول كن
امنن فإن الخير عندك أجمع
مالي سوى فقري إليك وسيلةٌ
فبالإفتقار إليك فقري أدفع
مالي سوى قرعي لبابك حيلةٌ
فلئن رددت فأيَّ باب أقرعُ
_”ابتهالات”.
____________________________________
اليوم رأيتُ اقتباسًا وكنت أعايشه واقعًا..
فبعيني رأيت الأحرار في أرضهم ينتشرون كما ينتشر الياسمين في حقله وموطنه، رأيتك بعيني في دفاع الحُر عن أرضه، وفرحة الأسير المُحرر من أسرهِ، وجدتُكِ في عناق الأمِ للغائب، ووجدت كل ذلك في يومٍ واحدٍ فرحت فيه الجموع، وهرعت فرحًا من المُقلِ الدموع، اليوم أدركت قيمة العودة من بعد غيابٍ، خاصةً وإن كان الحبيب مرابطًا رافضًا الذهاب، وتيقن بعودة حبيبه والإياب، اليوم أراكِ وطنًا حُرًا سقط فيه الطُغاة وربح فيه الثوار، رأيتك بعيني في عناق الأم للأسير المُحرر، ورأيتك في ركض الأسرىٰ بين حنايا الشوارع المُحتلة، لمحتك في حُرية الطير حينما يطير ويصل للسماء، ورأيتُكِ في لمعة أعين السُجناء، رأيتك في فرحة وطنٍ عربيٍ عادت له الهوية،
رأيتك في وجه كل فتاة جميلة، وعيناها لكل ضائعٍ في وطنه هوية، رأيتك كصباح أول يومٍ من بعد الحربِ،
هذا الصباح الذي يُشبه سقوط كل طاغيةً ورفعة كل حُرٍ،
فأنتِ وببالغ الوصفِ والقول تمامًا كـ
“اليوم الذي استيقظ فيه الناس على بلادهم حُرة،
تُشبهين الشمس الساطعة في عيني أسيرٍ تلهف للحُرية”..
<“خطأ واحد فقط في العُمر، رُبما يكلف عمرًا بأكمله”>
“لست نتاجًا لظروفي وإنما أنا نتاجًا لقرارتي..”
تلك المقولة المأثورة قيلت ذات مرةٍ لتكون عِبرة للقادمين من دروبٍ مُخطأة، فنحن ما إلا مجموعة من البشر وصلوا لما وصلوا إليه نتاجًا لتلك القرارات الخاطئة التي أتت جُزافًا في دروبٍ مُظلمة لم يتبين لنا نهايةٌ منها، فما تراني عليه اليوم هو نتاج قرارتي وليست الظروف المُحيطة،
لكن لولا الظروف، لما اتخذت تلك القرارات..
فجأةً أنلقبت الأوضاع رأسًا على عقبٍ ما إن وقع “سراج” على جسد “إيـهاب” وحينها تحرك الشباب خلف بعضهم بصرخةٍ هادرة من “نَـعيم” الذي بأمره تحركوا جميعًا وتفرقوا لكي يلحقوا ما يُمكن إلحاقه وقد رحلوا نحو المشفى خلف بعضهم فس سيارتين خاصةً حينما سقط مغشيًا عليه بتلك الطريقة، وما إن وصلوا للمشفى وتم تشخيص حالته الطبية والصحية، خرج الطبيب بوقارٍ يخبرهم بثباتٍ بعدما زفر بقوةٍ:
_الحمدلله عدت على خير، جاله هبوط حاد في الدورة الدموية والحمدلله اتلحق في الأول، ياريت بس بلاش ضغط عصبي ونفسي عليه، وبلاش يكون في جو كله توتر وقلق لأن دا هيأثر على حالته الصحية، خصوصًا إن صحته متدهورة وشكله مهمل في نفسه، عمومًا إحنا بنعمل تحاليل علشان تكون زيادة إطمئنان وإن شاء الله خير، متقلقوش، عن إذنكم وحمدًا لله على سلامته.
حينها ظهرت زفرات الارتياح منهم وقد انبسطت ملامحهم المُقتضبة عن السابق ما إن اطمئنوا على رفيقهم، بينما “نَـعيم” فجلس يضم رأسه بكلا كفيه ثم مسح فوق جبينه ما إن وجد الصداع ينزل ويتسرب كما الأفعى ويؤلم عينيه، كل المصائب عليهم لا تأتي فُرادًا، وإنما تحضر جمعًا وكُلًا، حال صغاره ألم قلبه وقد أصابه العجز في مقتلٍ، هذا الذي ربى خيوله الحُرة لم يُخيل له ولو مرةٍ أن يصيب العجز خيوله بتلك الطريقة..
وقف “إيـهاب” خارج الغرفة يُطالعه من الفاصل الزُجاجي ثم تنهد مُطولًا وهو يقول بإصرارٍ أكبر تفاقم لديه فورما رأى عجز رفيقه النائم في الغرفة مُتسطحًا فراشهِ بعجزٍ كما الخيل الطريح في ميدان معركته:
_وعزة وجلالة الله حقك هيرجع من الكل، وأولهم “أحمد” اللي راح يصطاد في المياه العِكرة دا ووصلك للحالة دي، لو فاكرين إنهم كدا بيستغلوا كسرتي، يبقى ميعرفونيش بجد، علشان قومتي ليهم بحساب للكل، الخساير مش بتاعتي، أنا بكسب وبرد حقي وبس.
كان مُحقًا، وكان صادقًا، قطع الوعد وكما يُقال أن وعد الحُر دينٌ عليه، هو الآن حمل نفسه دينًا يعلم أنه لن يلفظ أنفاسه الأخيرة إلا وقد وفى بهذا الدين، كان يعلم أن طباعه بأكملها أخذها من مجاورته للخيول، لذا ثار بعدما خمد حماسه، وظنه الجميع خسر في معركته، لكن تلك الحرب لم تنتهِ بعد، ولن تنتهي إلا بربحٍ يظفر هو به ضد كل عدوٍ وغريمٍ…
أتى “مُـنذر” وجاوره يُطالع وجه النائم بشفقةٍ ثم تحدث بصوتٍ يُعلن تضامنه مع “سـراج” وشفقته عليه بنظراته، ثم أيد ذلك بحديثه وقوله حينما تحدث بغُلابةٍ وفرضٍ على أمره:
_تصدق معذور من اللي هو شافه؟ حقه يقع كدا ويتعب، مفيش إنسان بيجازف ويكمل بطاقة خربانة كدا غير لو كان فعلًا تعبان وطاقته راحت في داهية، وهو طاقته بقالها شهور مش موجودة، اللي شافه مع “إسماعيل” مكانش هين، دا واحد كان واعي ومفتح وشايف صاحبه والجن مسخره، طبيعي عقله ميقدرش يستوعب كل دا، واللي زاد وغطى مراته وبنت أخته كمان واللي حصل، واحدة عاوزة تطلق، والتانية للأسف مبقيتش موجودة، حقه يتعب وحقه يتوجع وحقه يضعف، إحنا بشر كلنا، بس مش من حق حد يقفلنا بعصاية كدا ويلومنا كأننا بنغلط بس، مع إنه مغلوب على أمره، لأن على حسب اللي هو شافه، يبقى “سـراج” كان على حافة الجنون، الدنيا جت عليه أوي..
زفر “إيـهاب” بقوةٍ ثم مسح فوق وجهه ونطق أخيرًا بصوتٍ متباين المشاعر ما بين التيه والضياع والشفقة والعزمِ:
_وهي الدنيا إيه غير شوية ناس بتيجي على ناس، والقوي يدوس على الضعيف تحت رجليه، بس تصدق؟ هي ملهاش لازمة غير إنها دنيا، يا تاخد منها حقك تالت ومتلت، يا تداس بالرجلين وتتهرس وتتاخد وسط الحقوق، بس زي ما فيها القوي الغشيم، فيها الأقوى اللي بيمشي الدنيا بدماغه، علشان كدا الحق لو هيرجع هرجعه بدماغي وبس.
وفي تلك اللحظة لمح “مُـنذر” نظرة حادة في عيني رفيقه فتعجب كثيرًا من تحوله وقد زاد هذا التعجب حينما أخرج “إيـهاب” هاتفه وطلب رقمًا ما يبدو مجهولًا ثم ألقى أمره بصوتٍ جامدٍ أقرب للحِدة:
_عاوزك تعرفلي “أحمد” فين بالظبط، الليلة دي قبل بكرة كمان، هبعتلك اسمه بالكامل واسم الفندق اللي كان بيشتغل فيه الأول، تقلبلي الدنيا وكل السفارة على دماغهم، علشان أبوه مش هيجيبها لبر معانا.
توسعت عينا “مُـنذر” ورفع كلا حاجبيه بدهشةٍ من تسلط رفيقه وتأمره بينما الآخر أغلق الهاتف ثم أرسل اسم الآخر وكافة البيانات التي استطاع أن يحصل عليها ثم جلس بجوار “نَـعيم” وبحركةٍ خفيفة مد كفه يضم به كف “نَـعيم” كأنه يشد به أزره ويخبره أنه معه..
بينما “مُـنذر” فسحب هاتفه من جيب بنطاله الرياضي ثم طلب رقم “نـور” التي جاوبت بعد المحاولة الثانية منه، وما إن فتحت الخط وصلته لهفتها وهي تقول بصوتٍ باكٍ ذكره بجرحٍ في عُمق روحه:
_قول إنك لقيت طريقة ترجع بيها “چـودي” أخيرًا، بالله عليك متقولش إنهم خلاص خدوها مني، مبقاش ليا حاجة تخليني أقف تاني غيرها هي، لو هي راحت يبقى مبقاش عندي حاجة تانية تخليني أكمل يا “مُـنذر” عرفت ليها طريق؟ حتى لو هسافر أنا ليها…
تهدج صوتها أكثر وتوقفت عن الحديث بسبب البكاء، بينما هو فشعر بتعاظم مشاعرها المُتألمة وقد قرر أن يُباشرها بما يود دون أن يتطرق لأية تفاصيل من جهةٍ أخرى في الحديث:
_”سراج” في المستشفى عنده هبوط في الدورة الدموية يا “نـور” لو لسه باقية عليه تعالي شوفيه، الحياة أقصر بكتير من أيام نقضيها في زعل وخصام، المستشفى اللي جنب بيت عمي هتلاقينا فيها، تعالي شوفيه وخليكِ معاه، كفاية أوي اللي راح منه.
هُنا وانقلبت الموازين في طرفة عينٍ..
فقلبها الذي سبق وأغلق أبوابه، فتحها الآن على مصراعيها كي يُطلق سراح خفقاته لأجل المذكور، لذا دون أن تعي لنفسها وجدت نفسها تهب منتفضة من موضعها وكل ما فيها يُعيد ويُكرر عليها خصام الشهور الفائتة وكيف افترقا عن بعضهما بغير دواعٍ حتى يليق بنهاية تلك القصة التي أمتاز طرفاها بالمُثابرةِ..
____________________________________
<“ياليت ما بيني وبين الناس خرابًا”>
في بعض الأحيان جل ما يتمناه الإنسان أن يكون ما بينه وبين الناس خرابًا وما بينه وبين شخصه الوحيد المُفضل في هذا العالم أن يكون عامرًا، فياليت لو أن العالم يهجرنا وحدنا بغير حسابٍ أو إيلامٍ أو حتى عتابٍ، ياليته لو كان الزمان علينا أكثر لينًا بدلًا من تلك القسوة التي يُعاملنا بها..
كانت تقف في شُرفة شقتها وحدها تسهر كل ليلةٍ بعد أن هجرها الحبيب وتركها وحدها في مضمار حربها مع الدنيا، كانت تقف وحدها تشكوه لكل شيءٍ حولها وفي نفس اللحظة بنفس التوقيت تعود وتُدافع عنه ضد كل شيءٍ حولها، هي وحدها من يحمل السكين ذي الحديْن وهي وحدها من تتحمل كلا الطرفين بكلا الحالتين، لذا تنهدت بقوةٍ ثم جلست فوق المقعد وكلما عادت فكرة تخطيه لها عادت المخاوف تنهش بقلبها..
أصبحت في خِضم كارثةٍ شارفت على الطرق فوق أبواب حياتها المُغلقة كي تنبش في قلبها البريء، ولأن الكوارث يقع بالغ أثرها في توقيتها الذي يُباغت حياة المرء على طاولة الفُجع، لذا كارثتها كانت بغير موعدها ومحلها، فمن يُصدق أن تلك العروس التي بدأت في العد التنازلي لعرسها أن تنقلب الأمور لهذا الحد، فيتحول العُرس إلى مأتمٍ والقلب السعيد بثوبٍ أبيض يتشح بالسوادِ..
بحثت بعينيها عن “قـمر” وسرعان ما تذكرت أنها ذهبت لشقتها وحينها تنهدت بتقطعٍ ثم ألقت رأسها فوق درابزون الشُرفة وتركت رأسها المُثقلة بهمٍ فوق المعدن وقد أتتها الفُرجة على هيئة صورةٍ أُرسِلت لها من هاتف “سمارة” حينما وصلتها الآن ما إن فتحت هاتفها المُغلق، توسعت عيناها وسرعان ما ضحكت مُرغمة حينما رأته في ملعب المشفى يضحك بجوار رفيقه الجديد، لمعت عيناها بالعَبرات بالأخص حينما رأت صورته برفقة “دهـب” و شقيقه الذي كان يضمه هو وصغيرته الضاحكة..
ضحكت هي الأخرى حينما وجدت السعادة باديةً فوق ملامحه، على الرغم أن عينيه كان الألم مُتجليًا بهما إلا أن الضحكة يبدو أنها خرجت من القلب مُباشرةً، حالة تضاد غريبة ساورتها وهي تجلس أمام الهاتف وصورته تُزين مرأى العينين بطلتهِ البهية، وما بين عدم الإهتمام بها وهي تتلظى فوق النيران في غيابهِ..
وقف “فـضل” خلفها يُطالعها بعيني أبٍ مكسورٍ ومغلوبٍ على أمره أمام حال ابنته، وقف يلمحها بعينين دامعتين وهو حائر في أمرها هي أكثر منها، يصعب عليه أن يرى تلك الفراشة تقترب من اللهب فتحرق أجنحتها بدلًا من الرفرفةِ بهما، وقد أتى “عُـدي” ووقف بجوارهِ ثم قال بصوتٍ هاديءٍ:
_ريح نفسها وخليها في حالها، مش هنفضل نعيد ونزيد كتير في نفس الكلام يا بابا، هي حُرة وحقها تختار اللي هي عاوزاه، بس مش من حق حد فينا يجبرها على حاجة، سيبها تتحمل نتجية اختيارها مهما كان هو إيه.
ولأن الحديث لم يعجب والده بالأخص في هذا الشأن لذا اندفع يُقاطعه بقوله الحاد الذي خرج من قلبه المكلوم على ابنته الوحيدة:
_ولو هي لاغية عقلها أنا أعمل إيه؟ أسيبها ترمي نفسها في النار؟ هو مش واعي ومجابش سيرتها ولا مرة، الدكتور قال أي صدمات زيادة على عقله هتخليه يتصدم أكتر، هي حاطة أمل إنه يرجع ويعيد اللي كان كله، وقتها بيروح يا بني، كل ما آجي أفتح معاها الكلام ألاقيها مصممة على رأيها، وكلمتها واحدة بس، هيرجع ومش ناسيني، طب لو مرجعش، ولو ناسيها، هتتقبل كل دا إزاي؟.
في تلك اللحظة خرجت زوجته على صوته ووقفت بجوارهما تحرك رأسها بتيهٍ بينهما وقد سألته بانزعاجٍ جليٍ فوق ملامحها بسبب حديثه وطاقته السلبية المنتشرة بالمكانِ:
_حصل إيه يا “فـضل” لكل دا؟ هو كل يوم نفس الكلام هيتعاد؟ قولنا متقدرش البلا قبل وقوعه، سيب كل حاجة لربنا وهو قادر على كل شيء، هتفضل تبكت فينا كدا كتير؟ خليها طالما هي مرتاحة كدا، إحنا ما صدقنا تشم نفسها شوية وتقدر تتقبل الوضع.
وفي تلك اللحظة بترت زعقته حديثها بقولهِ:
_أنهي وضع بالظبط يا “أسماء” بالظبط؟ إن هي لسه متأكدة إنه راجع زي الأول ومش ناسيها؟ ولا وضعها وهي بعيدة عنه وضايعة كأنها تايهة في مولد؟ بصي على بنتك كدا وقوليلي دي مين؟ دي نفسها بنتك اللي نعرفها؟ دي نفسها اللي ضحكتها مكانتش بتفارق ملامحها؟ دي “ضُـحى” اللي خست النص ووشها دِبل كأنها وردة الخريف داسها؟ دي مين يا “أسماء” لو هي كدا حياتها طبيعية؟ دي واحدة دفنت نفسها بالحيا.
هرع الدمع من مُقلتي أمها وضمت جفونها فوق بعضهم كي توقف سيل البُكاء قبل أن يتدفق ويظهر فوق وجنتيها أكثر من ذلك، بينما “عُـدي” فترك الموضع الذي كان يقف فيه ثم ولج يجلس في مواجهة شقيقته وقد رفعت عينيها الباكيتين نحوه، وما إن وجدته أمامها أشهرت الهاتف أمام عينيه وهي تقول بلهفةٍ:
_بص صورته حلوة إزاي؟ تحسه بدأ يتحسن عن الأول بكتير، أول ما راح كان باين عليه الزعل وشكله كان مُجهد أوي، تعرف؟ أنا مستنية اللحظة اللي يسمحولي فيها أروح أشوفه علشان ساعتها هجري على هناك علطول، أكيد هلاقيه مستنيني أروحله، اللي بينا مكانش شوية برضه.
أشفق عليها كثيرًا، حقًا جل ما فعله قلبه في تلك المعضلة أنه أشفق عليها وأراد حقًا أن يضربها بسوط الحقيقة؛ لكنه خشى عليها من الألم، فهي حتى الآن لم ولن تقتنع بفكرة نسيانه لها، لم تتقبل مجرد فكرة خيانة ذاكرته له قبل أن تكون لها هي، لذا سكت وسكتت هي وهي تُناظره بخوفٍ من صمته، فتحرك نحو الأمام يُلثم جبينها ثم قال بحنوٍ جبرًا لخاطرها المُتصدع:
_طالما قلبك قالك كدا يبقى صدقيه يا “ضُـحى” وخليكِ أنتِ اللي ماسكة في اللي ليكِ، يمكن تكوني شايفة وحاسة باللي إحنا مش حاسين بيه، بس كلنا معاكِ وبكرة “إسماعيل” يرجعلك تاني وتحققوا كل أحلامكم مع بعض سوا، أنا متفائل خير علشانكم.
أومأت له بضحكةٍ باهتة لم تصل لعينيها..
أومأت تُصدق على حديثٍ يراه عقلها من منطق الخبال،
بينما قلبها تعلق به ورآه أمتن الحِبال، وما بين فلسفةٍ كاذبة ومنطقٍ غير مُفسرٍ كانت النفس تحمل همًا أثقل من الجِبالِ..
____________________________________
<“ووجهك بغير الصُبحِ صبحٌ وحده”>
أتيتُ إليكِ من منفاي فلا تكوني كما بلادي وتُغربيني،
رأيت في وجهكِ نور الشمس، فلا تكوني كما الليل وتَغرُبيني،
وجدتُ فيكِ أمنًا لم يجده اللاجيء على الحدود، فلا تكوني كقسوة بلادي وتُنفيني، عبثًا كنت أجول من المشرق للمغرب، وأنتِ في الضفاف بينهما كما النهر الجاري وأرضٍ خصبة أنا، كلما جروتي فيه، كانت مياهٌ ترويني،
اليوم كلاجيءٍ أتى لدولةٍ عربية يطلب منها الحماية،
فلا تكوني كحكومة بلدي وعن أرضي تُنفيني..
صُبحٌ أتاه أخيرًا بدأ فيه يستعيد طاقته وصحته بعد عدة محاليل طبية مُغذية بات ليله عليها وقضى نهاره يتناولها حتى شعر ببعض الطاقة تسري في جسده وبدأ يعود لواقعه المؤلم، وقد جلس “سـراج” فوق الفراش يضم كفه ويفتحه بعدما اشتد عليه الألم حتى فُتِح الباب وولج منه “مُـحي” وخلفه والده الذي ابتسم ببشاشةٍ، بينما ابنه فقال بمزاحٍ:
_ألف سلامة على عيونك الزُرق، محسود يا حبيبي، عين وصابتك يا غالي وجت فيك، إن شالله عدوينك كلهم.
ابتسم “سـراج” رغمًا عنه وأغمض جفونه بيأسٍ، بينما “مُـحي” فجلس بجوارهِ ثم وضع الطعام وهو يقول بتحايلٍ مفتعلٍ كي يقنعه بتناول الطعام:
_البت الممرضة كانت هتموت وتدخل تأكلك هي بنفسها، بس أنت علشان مايعجبنيش الحال المايل خدت الأكل منها وقولت أأكلك أنا بنفسي، وعلشان برضه ميرضينيش كسر الخواطر، خدت رقمها علشان لو عاوزة تأكلني أنا معنديش مانع.
ضحك في تلك اللحظة “سـراج” رغمًا عنه بينما “نَـعيم” فلكز ابنه من الخلف في عنقه وحينها التفت له صغيره يهتف ببراءةٍ مفتعلة:
_والله العظيم فاهمين غلط، أنا قولت مكسرش بخاطرها علشان شكلها متعشمة جامد في العيون الزرقا، أنا رُمادي وبليق على كله، فواتح شغال، غوامق شغال ومبقولش لأ، لكن “سـراج” لأ أديله في الغوامق بس، بعدين قولي يا بابا ليه؟.
ضحك “نَـعيم” بيأسٍ وسأله بقلة حيلة ونفاذ صبرٍ:
_ليه يا أخرة صبري؟.
_علشان هو عينه زرقا يعني مياه، وهي عينها بني ترابي يعني رملة، كدا هيطينوا الدنيا، بعدين هو متجوز، أنا لسه على البر.
هكذا كان رده الجاد الذي لم يلق بالموقف حتى مال عليه “نَـعيم” يهتف بدهاءٍ وحنكةٍ أكتسبها من الزمن والمواقف المارة عليه:
_أنتَ صح، وبما إنك على البر وحماك لسه بيشاور عقله، خليني أعرفه بقى باللي بيتقال دا علشان يقطع عليك السكة كلها ويسدها في وشك، تصدق أنتَ مش وش نعمة يا نسوانجي؟ مش توبت يالا خلاص وبطلت هبل؟.
ضحك له “مُـحي” بتوترٍ ثم رد عليه ماحيًا كل أخطائه السابقة بقوله:
_يعني أنا بعمل كدا علشان أضحكلك الواد وهو داخل على مشروع طلاق وأنتَ دا كل اللي همك؟ طب تصدق كلامك زعلني وهتخليني أطلع آخد رقمها بجد علشان يبقى سوء الظن في محله بقى بجد؟.
لكزه من جديد في مرفقه بينما “سراج” فزفر بقوةٍ ثم أغمض عينيه حتى ولج كلًا من “تَـيام” و “مُـنذر” مع بعضهما فقال الأول برفقٍ وحنوٍ مقدرًا مشاعر قريبه:
_ألف سلامة عليك يا خالي، شدة وتزول بإذن الله.
فتح “سراج” عينيه على مضضٍ من تلك الصفة، بينما “مُـنذر” فاقترب منه يُربت فوق كتفه ثم قال بثباتٍ وإحجامٍ لتفاعله معه:
_ألف سلامة عليك، الحمدلله عدت على خير وجت سليمة، بس خلي بالك من نفسك، مفيش حاجة مستاهلة إنك تخسر عمرك وصحتك، بالعكس حاول على قد ما تقدر إنك تقف في وش الدنيا وتواجه علشان للأسف الدنيا دي مبترحمش يا “سراج” بتدوس وبس، وعمومًا إحنا كلنا معاك وفي ضهرك.
أومأ له بجفنيهِ ثم حرك عينيه نحو الباب يبحث عن رفيقٍ بعينه، كان ينتظره رغم الجمع حوله وخشى أن يخونه هذا الرفيق ولا يحضر إليه، كان يترقب قدومه ويود أن يراه بالأخص بعد موقفهما سويًا بالأمسِ، لذا عاد بعينيه يُطالع “مُـحي” الذي بدأ يُطعمه، وهو حقًا بدأ يشعر بفراغ معدته؛ لذا تناول الطعام بصمتٍ، وقد ولج “إيـهاب” وفي يده الورق الخاص بخروج رفيقه وقال بصرامةٍ:
_تذكرة الخروج جت أهيه، كمان شوية كدا يفوق أكتر ونخرج بيه علشان يرتاح في البيت ويبعد عن التوتر من هنا، أهم حاجة الأكل والعلاج والإهتمام بصحته علشان ميقعش من طوله تاني، خليه ياكل يا “مُـحي” كفاية دلع لحد كدا.
رفع “سـراج” حاجبيه بتعجبٍ لكن “نَـعيم” تدخل وقال بقلة حيلة مفتعلة وبطريقةٍ درامية تمثيلية:
_للأسف مش عاوز ياكل، مطلع عينينا، أقعد أنتَ وأكله هو بيخاف منك وبيخاف على زعلك، يلا يمكن يرضى ياكل من إيدك أنتَ ونفسه تتفتح أكتر، قرب يا “إيـهاب” يلا بس.
رفع “إيـهاب” حاجبه الأيسر بحدةٍ نحو كبيره، فإذ بـ “نَـعيم” يزمجر بنظراته ويحدجه بتحذيرٍ من الرفض، حتى تحرك “إيـهاب” نحو رفيقه ثم أمسك “مُـحي” وأوقفه كي يجلس بدلًا منه ثم حمل الملعقة المُعبأة بالطعام ومدها نحو فم “سـراج” الذي حرك رأسه للجهةِ الأخرى، فقال “إيـهاب” بسخريةٍ تهكمية:
_أنا مش عاوز دلع مالهوش لازمة، مش هحايل في أهلك كتير علشان تاكل، اللي بياكل على ضرسه بينفع نفسه، وبعدين أنا حضني مش مفتوحلك علطول علشان كل شوية تقع وتترمي عليه، مراتي بتغير.
غمز بعبثٍ تزامنًا مع جملته الأخيرة وقد ضحك “سراج” بيأسِ حينما لمح بطرف عينه ملامح “إيـهاب” لكنه تحامل على نفسه ثم تصنع الجمود وهو يسأله بصوتٍ جامدٍ لا حياة فيه، بل كان مبحوحًا:
_هو أنا يعني كنت جيت أترميت عليك بمزاجي؟ بعدين دا أكيد كان كابوس ولا حاجة يعني رينا يحفظنا منه، قال أترمي في حضنك قال.
في تلك اللحظة ضحك كل الحاضرين وقد ضم “إيـهاب” رفيقه لعناقه بقوةٍ وحنوٍ في آنٍ واحدٍ وهو يقول بفيضٍ لحظي من المشاعر التي تدفقت فيه وبلغت مبلغها تفاعلًا مع حديث رفيقه:
_حقك عليا أنا، وزي ما بدور علشان أجيب حق اللي مني وحارق نفسي علشان حق أخويا، أنتَ أخويا أنتَ كمان وحقك هييجي حتى لو مني أنا كمان لو تحب، شوف يرضيك إيه يا “سراج” وأنا أعمله، اللي تطلبه هعمله ليك.
خرج “سراج” من عناق رفيقه ثم مسح فوق وجهه وهو يقول بنبرةٍ هادئة إلى حدٍ ما رغم تأثر مشاعره بحديث رفيقه:
_كفاية إنك معايا وفي ضهري، علشان لما توهت وتعبت وحسيت إني هقع جيت لحد عندك علشان كنت متأكد إني هقع، كفاية بس إنك تكون معايا وفي ضهري علطول.
ابتسم له “إيـهاب” ثم ربت فوق رأسه وعاتبه بحدةٍ طفيفة قائلًا:
_تاني مرة متقولش اعتبرني “إسماعيل” دي، أنتَ زيك زيه، من يوم ما ربنا جمعنا مع بعض والحج خلاني كبير عليكم وأنا معتبركم كلكم أخواتي، علشان كدا اللي حق فيكم عند الدنيا أنا هجيبه لحد عنده ولو من بوق السبع نفسه، واللي ليك عند الدنيا هجيبه.
في تلك اللحظة فُتِحَ الباب وقد ظهرت منه “نـور” التي وقفت على أعتاب الباب تطالعه هو وحده بعينيها اللامعتين بعبراتٍ حارقة وقد لاحظها “سـراج” الذي انتفض قلبه لأجلها فاعتدل في جلسته وازدرد لُعابه خشيةً من وداعها الأبدي وهو لم يكن بمستعدٍ لتلك اللحظة، كان يخشى من لحظةٍ كهذه تنطق وتخبره فيها أنها ملت تواجدها وحدها في انتظاره، بينما هو فعل ما فعله كي لا يمسها أي ضررٍ بسببهم…
طالت بهما اللحظة سويًا ما بين الشوق واللهفة ولوعة النظرات، وما بين العتاب والألم والوجع المكتوم خلف نظراتٍ متألمة كانت تسرد وتزبد في الحديث وتقول كل شيءٍ توقف اللسان عن التعبير عنه وقوله، حتى أذن “نَـعيم” للبقية بالإنسحاب ففرغت عليهما الغرفة ولاحظت هي ذلك أولًا فخطت نحوه بخطواتٍ مُترددة ثم سألته بصوتٍ مبحوحٍ:
_أنتَ كويس دلوقتي؟.
دار بعينيه في المكان ثم تنفس بقوةٍ وقال بصدقٍ:
_على حسب، لو جاية تطمني عليا فأنا كويس، لو جاية تقوليلي إنك زهقتي وتعبتي مني فدا حقك بس أنا ساعتها مش هكون كويس يا “نـور” ومش هيكون من حقي أجبرك على حاجة وأكون أناني تاني، بس لأجل الحق، أنا كويس علشان شوفتك.
لمعت العبرات في عينيها وهي تطالع حالته، لقد شحبت ملامحه، زار المرض وجهه فبان الأثر عليه بشكلٍ يؤلم نفسها التي كانت معه وعاشت في ربيع وجهه وروحه، لما الآن يظهر وكأن الخريف دهس كل أوراق عمره الخضراء فبدا وكأن الخراب حل فوق أرضه؟ في تلك اللحظة أنبها قلبها وعاتبها لأجلهِ بالأخص حينما فشلت في الخروج من المنزل ليلًا بعد تلك الحماية التي فرضها عليها والدها، فأتت له عند شروق الصباح، وقد ركضت له تحتضنه بقوةٍ ضاربة بكل شيءٍ عرض الحائط..
بينما هو فتنهد بقوةٍ ثم ضمها لعناقه بقوةٍ أكبر وتمسك بها كأنها طوق نجاة الغريق في منتصف البحر، أو ربما هي الهوية التي يحصل عليها اللاجيء في أرضٍ لم تكن له، لكنها مجرد حقٍ يعطيه وسيلة كي يعيش بغير إيذاءٍ وهي كانت وسيلته في الحياة بغير إيذاءٍ أو إيلامٍ، كانت الحق المكتسب من النور في طُرقات بأكملها مُظلمة، لذا تهدج صوته بقدر تماسكه الواهي حينما قال بندمٍ:
_حقك عليا، سامحيني ومتزعليش مني، بس أنا ماكنتش لاقي حل تاني غير إني أمشي، ماكنتش قادر أرفع عيني في عينك وأنا حاسس بالكسرة وقهرة النفس على حالي وأنا راجل طول بعرض وحصل اللي حصلي وكنت عاجز أحمي نفسي، كنت هحميكم إزاي بس؟ خوفت تحصل قدامكم وأتذل تاني وأركع تحت رجليهم وتبقى الكسرة اللي بجد قدامك، علشان كدا بقولك سامحيني، ضيعتها من أيدي واديني أهو بضيعك..
مسحت هي عبراتها ثم ابتعدت عنه تضم كفه بين كفيها وهي تقول برفقٍ بحالهٍ وحنوٍ كان أسمى صفات طباعها:
_سيبك من اللي راح خلاص مش هنقدر نغيره ولا نقدر حتى نلوم حد على غلطه، بس دلوقتي أنا عاوزاك ترجع تاني العنيد اللي أنا عرفاه علشان ترجعلي بنتي من تاني، ماظنش إنك هتسكت على اللي حصل دا وهتسيبها ليهم، قوم أقف على رجلك علشان تاخد اللي ليك من الدنيا، مش دا كان كلامك؟ أديني أهو بقولك قوم يا “سراج” وخُد اللي ليك.
ولأن بعض الكلمات تكون كما الرياح لمراكب راكدة في منتصف البحر وجد نفسه يندفع بحماسٍ أكبر والدماء تتدفق لرأسه وبات الحماس لديه في أوج النهايات الممتلئة بطاقةٍ عامرة، وبنظرةِ واحدة من عينيها وجد نفسه يبتسم لها ثم ضمها لعناقه من جديد كأنه يخبرها فقط أن تبقى بجوارهِ كي يستطع أن يواجه العالم الغادر ببطلٍ اتعبته الحرب وأثقلت أنفاسه، لكنه لازال لم يستسلم رغم خسارته لعدة معارك، لكن عزاؤه الوحيد أن تلك الحرب لم تنتهِ بعد..
____________________________________
<” لو كان الربح في الدنيا لما كنا أدركنا سلامًا”>
قد يكون الأمر سلاحًا بحديْنِ،
فقد تجد أن الجيد في الأمرِ في خسارةٍ دنيوية، وقد ترى أن هذا هو السوء بذاته، فكما نعرف ويُعرف للجميع أن هذه الدنيا زائلة، لكن ما يُضنيك حقًا أنها زائلة، فهل يعقل أن تكون حربك القاسية لهذا الحد في مجرد دنيا عابرة فقط؟ لعل ما نُعانيه يكون خيرًا لنا في دار القرار، لطالما كانت الدنيا لم تكن يومًا لنا، بل وجد فيها الإنسان كي يكون كادحًا..
انتصف النهار وهو يعود من عمله ككل يومٍ يطمئن على زوجته التي بدأت تعاني من أعراض الحمل المؤلمة، بدأت بطنها تتكور بشكلٍ ملحوظٍ وتعاني من بعض الآلام في جسدها، بدأت قدماها تؤلماها بسبب التورم الذي أوجب عليها الراحة، كل شيءٍ حولها ألم نفسها وألم جسدها لكنها كانت تتحامل على كل شيءٍ حولها حتى تبدو تلك القوية التي لم يرهبها الحمل..
كانت “نِـهال” تجلس فوق الأريكة ممدة جسدها المتورم وهي تشعر ببعض الراحة التي سارت في جسدها بفعل الدواء الذي أخذته وقد أتى “إيـاد” وجلس بجوارها يمسك زجاجتي من العصير وهو يقول بصوتٍ ضاحكٍ:
_الواحد نفسه يشكر أبوه على حوار أزايز العصير الجاهزة دي بس بصراحة العصير طعمه يقرف والله، مش عارف دا ثواب ولا عقاب ولا جنس ملته إيه، ربنا يجعله في ميزان حسناتنا بقى.
ضحكت رغمًا عنها بينما “أيـهم” هجم عليه من الخلف يسحبه من سترته ثم قال بجمودٍ:
_ولما هو عقاب ومش عارف جنس ملته إيه، بتشربه ليه ياض؟ ما تسيبه وخلي عندك دم واركنه، ولا هو نفسي فيه وقال العيب فيه؟ تعبتني ياض، تعبتني وجيت عليا خلاص.
التفت له الصغير يشاكسه بقوله:
_أظن يعني لو حلفتلك إني بشربه علشان أرحمكم من طعمه مش هتصدقني صح؟ علشان كدا بخلصه كل يوم، خايف عليك منه، مُضر بالصحة خصوصًا لو عُمر صواني بسبوسة زيك كدا شكلها حلو والدنيا بتيجي عليها بسرعة.
ضحكا سويًا عليه بينما “أيـهم” حمله فوق كتفه يتصنع ضربه حتى ضحك الآخر وظل يُرفرف بكل أطرافه حتى أسقطه والده برفقٍ ثم لثم جبينه وتحرك يُلثم جبين زوجته وهو يسألها باهتمامٍ بدا في غايته:
_أنتِ كويسة النهاردة؟ أتمنى تكوني أحسن.
أومأت له موافقةً فوجدته يجاورها وهو يضم ابنه ويُرتب له خصلاته الثائرة بكفهِ بحركةٍ حنونة جعلت الصغير يستكين بين ذراعيه، بينما هي قالت بصوتٍ هاديءٍ:
_أحسن كتير الحمدلله عن الصبح، بعدين تقريبًا كل دا طبيعي، مش عاوزاك تقلق على الفاضي، مجرد أعراض وهتروح لحالها وأنا هفوق وأقوم من تاني، المهم طمني “آيـات” عاملة إيه؟ كلمتها بس مش بترد عليا، قولت يمكن تليفونها فوق في الشقة وهي تحت زي كل يوم.
زفر بضيقٍ ما إن تذكر عناد شقيقته وتعنتها بما تود، فأضاف مُعبرًا عن ضيقه بقوله المختنق:
_كويسة، بس مش باين عليها، شكلها بدأت تتعب بجد علشان خلاص دخلت في الرابع، بدأت تتعب والتعب ظهر عليها بزيادة بس هعمل إيه؟ هي مصممة تستنى لحد ما يتطمنوا على “إسماعيل” والدكتور يقولهم إنه هيخرج، وبصراحة في حالة بيتهم هناك أنا بقيت شايف معاها حق، الحال هناك صعب أوي، الحزن باين عليهم كلهم، وكل واحد في عالم تاني، بس طالما جوزها معاها ومخلي باله منها خلاص.
أومأت هي له موافقةً ثم حركت رأسها نحو الصغير فوجدته نام بين ذراعي والده، حينها ابتسمت له برفقٍ ثم تحركت رغم ثقل جسدها تُلثم جبينه فسألها الثاني بسخريةٍ:
_هو الحمل مغطي على الرؤية؟ المفروض أنا أتباس يا ست أنتِ، بس هقول إيه؟ ربنا على الظالم والمُفتري اللي هو مين فيكم مش عارف، مصيبة سودا لا بكون اللي جاي في السكة نسخة تانية من العقاب دا ليا، ساعتها هتبرأ منكم وأقول للناس معرفهمش مين دول.
سحبته من طرف سترته ترد عليه بفحيحٍ قصدته له:
_هقتلك، لو فكرت تقرب من عيالي.
وضع كفه في تلك اللحظة فوق كفها ثم شدد قبضته عليها وهو يقول بعبثٍ مستفسرًا منها:
_أهون عليكِ يا عسل؟ طب واللي بينا؟.
حاولت تُخلص نفسها من قبضته لكنها فشلت فعملت على كبح جماح ضحكتها وهي تحاول كتمها، بينما هو استغل قربها منها ثم ضمها له في عناقٍ قوي جعلها تستسلم له سريعًا وهي ترتكن برأسها فوق قلبه بينما هو كعادته ضم عائلته لعناقه بقوةٍ وكل ما يتردد بخاطره كان تضرعًا للخالق أن يحفظ له عائلته وألا يُفرق بينهم كما حدث وافترقت عنهم أمهم، لحظة أتت له بالمخاوف القديمة، لكنه عاد يذكر نفسه بإرادة الخالق لذا ضمهما بقوةٍ ثم لثم جبين كلًا منهما على حدىٰ وعاد بظهره للخلف يستشعر دفء اللحظة بين كنزه الثمين الذي لن يعوضه كل كنوز العالم..
في الأسفل كان “عبدالقادر” يتناول طعامه مع “أيـوب” و “قـمر” وقد لاحظ بعينيه الفارق بين حالة ابنه ما بين غياب زوجته وما بين حضورها، الفارق يتضح للعيانِ من مجرد نظرة عابرة في ملامحه، حتى تناوله للطعام بدا مُرتاحًا عن السابق، ضحك “عبدالقادر” بخفةٍ ثم وأد بسمته وعاد لزوجة ابنه يسألها بغير إدعاءٍ كاذبٍ:
_خلاص هتمشي كمان شوية يا “قـمر”؟.
رفعت عينيها له وهي توميء بصمتٍ وما إن لاحظت تبدل تعابير “أيـوب” قالت بتفسيرٍ لسبب رحيلها مُجددًا قبل أن تتسع فجوة التفكير:
_إن شاء الله يا بابا، هظبط كام حاجة في البيت بس قبل ما أمشي علشان طنط “وداد” راحت عند “آيـات” وهمشي بعد المغرب إن شاء الله لو “أيـوب” فاضي ييجي يوصلني، أو ممكن أروح أنا كدا كدا حاجتي هناك كلها لسه.
حرك “أيـوب” رأسه نحوها وما إن طالعته هي بأسفٍ كأنه تخبره حقًا أنها فقدت كل الحيل من يديها، ولأنه يعلم أن عضد الإنسان يقوى ويشتد بأخيه وافق ورضخ لأجلها وظهر ذلك في قوله:
_هاكل وأروح المحل هنا أخلص حاجات مطلوبة مني تكوني خلصتي اللي هنا وراكِ، ولو مش قادرة سيبي كل حاجة وأنا هاجي أعملها، متقلقيش أنا هتعامل عادي مكانك.
ابتسمت له بتقديرٍ وامتنانٍ ثم عادت لطعامها تتناوله، بينما “عبدالقادر” فلاحظ أن كليهما حقًا لم يملك من الأمر شيئًا إلا العون لمحبيهم، لذا سألها هو تلك المرة بلمحة استفسارٍ وليس تطفلًا منه:
_هتقعدي هناك كتير؟ مش عاوزين قمرنا يغيب عننا.
ضحكت له بطيبةٍ وتقديرٍ لمكانته لديها ثم قالت بصدقٍ:
_صدقني يا بابا لو مش “ضُـحى” فعلًا محتجاني معاها ماكنتش مشيت بس لازم أكون معاها علشان من غيري بتسكت وتسيب نفسها للزعل، وأنا مش عاوزاها تسكت كدا علشان الزعل مياكلش فيها، بس أوعدك مش هتأخر عنكم، أول ما تفوق هاجي.
_لأ يا بنتي براحتك، ربنا يبارك فيكم لبعض ويحفظكم، بالعكس أنا أفرح إنك واقفة مع أختك وقادرة تسدي معاها حزنها ومشاكلها، إن شاء الله بكرة كل دا يعدي على خير وتنسوا الأيام دي لما تروحوا ليها بيتها وتباركوا ليها كمان، يا بنتي دا ابتلاء من ربنا والإنسان عليه بس الصبر والتسليم، عارفة؟ بعد وفاة “رُقـية” أنا يأست من الدنيا، وقولت خلاص الحياة وقفت عندي بس بكرم ربنا عليا وقفت وعديت بكل دا، ربنا قدرني وربيتهم وكبرتهم، وخليتهم ناس ملو هدومهم رافعين راسي، كل ما العمر يجري بيا وآجي أفتكر اللي حصل عدى إزاي، أرجع أحمد ربنا من تاني علشان اللي حصل كله ماكنتش عمري هتخيله، بس أرجع وأقول الحمدلله ربنا قدرني وقواني عليهم.
ابتسمت هي له ثم رددت بخفوتٍ وهي ترفع عينيها له:
_الحمدلله على كل حال، صدقني يا بابا والله راضيين ومستنيين الصبر والفرج من ربنا، وهي كمان اللي فيه دا صبر منها، هي تقبلت الموضوع وقدرت تقف من تاني ونزلت شغلها ومستنياه وبتصلي وتدعي ربنا يكرمها ويُرده ليها من تاني، أنا بقى عندي أمل منها هي، رغم إن تعبها باين لينا، بس هي مش عاوزة توضحه.
ابتسم لها “عبدالقادر” ثم قال بأملٍ وببسمةٍ بشوشة:
_ربك كريم ورحمته واسعة، ومش هينفع نيأس من رحمته، مييأسش من رحمة ربنا غير القوم الكافرين وإحنا مؤمنين وموحدين بالله، ربنا ما يفرق الحبايب ولا يوجع القلوب ويفجعها على أهلها يا بنتي، كملي أكلك يلا بألف هنا..
عادت تتناول طعامها وهي تبتسم له بينما “أيـوب” فطالع الساعة ولاحظ قرب موعد رحيلها فتنهد مُرغمًا وهو يعلم أن غيابها عنه قد يصل لأسبوعٍ بأكمله، يعلم أنها ما إن ترحل عنه سوف يعود ويتخبط وحده وكأنها سكنًا له، لذا أول شيءٍ يفعله في غيابها هو الذهاب للمسجد والجلوس فيه كي يلتحد به ويذكر نفسه بتأكيد أن سكنه وملجأه في حضرة رحاب ربه، لذا كُلما زاد تعلقه بها، كلما زاد تهذيبه لنفسه..
____________________________________
<“وحدها نظرة عينيك من تقدر على بث العزم في”>
مُد لي يدك فإني من دونها توهت كثيرًا..
فلا أنا أحب السير وحدي ولا أحب أن تلتقطني يدٌ غير يديك، دربي مُظلم، وطريقي مُعتمٌ، ووحدي أنا بين الخلائق أسير هم يفرحون وأنا وحدي في مأتمٍ، هذه يدي خُلِقت لتمسكها يداك، وبغير يديك ستجدني تائهًا..
ولج الحارة من جديد كي يتابع العمل بدلًا من الطبيب الذي ذهب يتابع بعض الأمور الخاصة بحياته الشخصية فذهب “مُـحي” يتابع العمل بداخل الصيدلية وقد وقف فيها بأملٍ وروحٍ تتجدد في هذا المكان، ليس لشيءٍ معلومٍ، لكن لأن بدايته الحقيقية كانت من هُنا، بدأت الحياة المقصودة من تلك البداية التي قصدها بنيةٍ غير النية، لكن ما إن فهم المقصد بدل كل مسالكه كي يسلك ذاك الطريق الصحيح رغم بُعد المسافة عنه، لكنه عاد وتذكر أن المحارب لا يخشى مضمار الحرب أبدًا، ولا يَهاب التُجربة..
الآن جلس وأخرج المصحف من درج المكتب ثم فتح دُفتي المُصحف على الصفحة التي توقف عنها سابقًا ثم بدأ قراءة ورده اليومي كما اعتاد أن يفعل حتى أنهى الختمة الأولى في عمله، وبدأ في الختمة الثانية، هذا الذي كان يظن أن الفروض ربما تكون أربع، حتى في بعض الأحايين كان يحسب أن الفجر سُنة وليس فرضًا، اليوم يعلق قلبه بالقرآن الكريم لعله يبتعد عن كل سوءٍ كان يُدمره ويسحبه في هوةٍ ساحقة لن ينجو منها..
مرت هي بجوار أمها صدفةً دون أن تعلم بأمر تواجده في الداخل لكنها وقفت تراقبه مبتسمة الملامح وهي تراه جالسًا يقرأ في كتاب الله عز وجل، هذا الذي كلما رأته كانت تلمحه بين أحضان المعاصي والذنوب، اليوم تراه يجلس يقرأ القرآن بوقارٍ وخشوعٍ، وقد لاحظت ذلك أمها فقالت ببسمةٍ هادئة وفخرًا به:
_سبحان الله، ويهدي من يشاء.
ابتسمت لها “جـنة” وقالت بتأكيدٍ تقصد به التفسير:
_إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهو كان نفسه يتغير، كان تايه وعاوز حد يشاورله على السكة الصح، بس مكانش عارف مين هيمسك إيده، علشان كدا أنا فرحانة وفخورة بيه، سواء هو نصيبي أو لأ بس يمكن ربنا جعلني سبب علشان يفوق لنفسه ويلحقها، شوفتوا بقى إني كان معايا حق لما قولتلك التوبة بابها مفتوح للي عاوز؟ الإنسان لازم يروح لربنا حتى لو الذنوب داست عليه، لازم يفوق ويروح يخبط على الباب ويقول يا رب أنا جاي أهو، صدقيني كدا أفضل مليون مرة من إننا نتكسف ونبعد ونخسر كل حاجة.
ابتسمت لها أمها ثم دفعتها بخفةٍ كي تسبقها نحو البناية وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة لابنتها التي بدا الحُب جليًا في عينيها:
_طب يلا يا سنيورة علشان أبوكِ بدأ ياخد باله وإحنا ما صدقنا يهدا علينا شوية، يلا ولما نطلع أعمليلي تحليل شامل ووافي لشخصيته كلها، أهو أدينا بنتعرف ليه لحد قبل الخطوبة.
صعدت قبلها “جـنة” تسبقها نحو الأعلى، بينما “مُـحي” فصارع نفسه كي لا يُطالعها، فحتى تلك اللحظة قطع وعدًا لأبيها أنه لن يقترب من ابنته لطالما هو لم يرغب في ذلك، ولن يعترض طريقها حتى يوافق هو له، ولن يخون وعده ولو بنظرة عينٍ لحين يصبح ذاك الشخص الذي يليق بها، لذا عاد يقرأ في المُصحف الشريف ثم أخفض عينيه وغض بصره عنها، لكنه كما قال فحتى وإن غض بصره وأغمض عنها عينيه، كيف له أن يُغمض عينا بصيرته ويعمي رؤية قلبه لها؟..
____________________________________
<“بداية الحلم بسمة أملٍ، ثم يُعانق الحلم الأمل”>
الحلم والأمل..
تلك القصة التي ضمت في سطورها مكمن الهدف من تلك الحياة، فالمرء بلا حُلمٍ لا يملك هدفًا، وبغير أملٍ لا يملك حياة، فكلا الأمرين واحدٌ وكلاهما هو بذاته الحياة، لكن الحياة بذاتها قد تقتل فينا الحُلم، ورُبما تسرق مننا الأمل، وفي روايةٍ أخرى قد نجد الحلم يعانق الأمل فلا يفترقا مهما مر الدهر وتوالت أيام العُمر، فبداية الحُلم بسمة أملٍ، ومكمن الأمل صدقًا في الحُلم..
بعد عدة محاولات كثيرة من الطرفين لها وافقت أخيرًا أن تذهب إليهم، بعدما أقسمت لنفسها أنها لن تُثقل عليهم الجو بتواجدها لكن تلك المرأة المُحبة توسلت لها أن تأتي وأخبرتها بلهفةٍ عن رغبتها في رؤيتها، بينما “باسم” فكان كما هو أمره نافذًا وقال بجمودٍ لها بسبب تعنتها ورفضها:
_لو ماجيتيش هاجي أنا آخدك وبفضيحة.
ولأنها تعلم مدى جنونه وثورته التي لم تخمد أبدًا وافقت، لذا وقفت تبحث عن ثيابٍ وقورة تليق بها بعدما أعادت ملامحها الهادئة بدلًا من تلك التي كانت تخفيها مساحيق التجميل، أو بحسب ظهورها سابقًا كانت فهي كانت تُقبح نفسها في عين الناظرين قبل نفسها، لكن اليوم طالعت نفسها ببسمةٍ هادئة وهي ترى نقاء ملامحها المتوردة، ولم يخرب تلك الصورة إلا بعض الهالات السوداء التي تمركزت حول العين كأنها باتت دليلًا ضدها على ما تقترفه في حق نفسها، لذا زفرت بقوةٍ ثم عادت الخيبة تتمركز في قلبها..
أمسكت بعض المساحيق تخفي أثار ما حول عينيها ثم قامت برسم عينيها بالكُحلِ كي تُبرز جمال تلك المُقل الصافية، أرتدت بنطالًا من خامة الجينز الداكن فضفاضٌ فوق ساقيها، ثم أرتدت سترة رياضية بيضاء اللون وحذاءً بنفس اللون السترة وتركت خصلاتها الناعمة تتطاير في سباقٍ مع الهواء..
ذهبت إلى هذا الحي الشعبي وهي تمسك في يدها علبة حلوى من أشهر أماكن الحلوى في المدينة ذات الصيت الذائع في كل مكانٍ وصاحبة الأسعار العالية، وقد وقف “باسم” ينتظرها عند مقدمة الشارع حتى قابلته هي ببسمةٍ صادقة بعد اللقاء الأخير بينهما، أما هو فلعن قلبه وحمقة مشاعره التي أودت به لهذا الطريق لكنه صمت وتأكد أن القلب لا يَنبض لغير أهله، وقد شاء الخالق أن تكون هي “أهل هذا القلب” ربما هذا حمقٌ منه، وربما غباء من مشاعره التي ظلت محفوظة، لكن الأكيد أن قلبه أعلن عليه سلطانه، ليكون أول سُلطةٍ تخضع ثائر كان يُناضل لأجل حق الهتاف بالحُريةِ..
اقتربت أكثر ثم مدت يدها بعلبة الحلوى له وهي تقول برفعة أنفٍ وشموخٍ كأنها تجابهه في نضاله:
_محدش أحسن من حد، عزمتني على حمص الشام، كسرت عينك بعلبة حلويات كاملة، علشان تعرف بس إنه بمزاجي مش أكتر يا أستاذ وإن محدش بيمشي كلمته عليا.
رفع كلا حاجبيه بغير تصديقٍ ثم ثبت بُنيتيه عليها وقال بتحدٍ لها:
_وماله، بكرة نكسر رقبتك ونقطمها خالص ولا تزعلي نفسك، بعدين لا عاش ولا كان اللي يفكر يكسر عيني، دي الحكومة بجلالة قدرها مقدرتش تعملها، هتيجي أنتِ تعمليها؟.
أومأت له بتأكيدٍ وضمت ذراعيها ترد له الصاع صاعين، فضحك هو رغمًا عنه ولوهلةٍ كاد يُخبرها أن فعلت ما قالت عنه وقامت بكسر عينه أمام طاقتها وبراءة قلبها المُختبأة خلف حقيقةٍ كاذبة تصدرها عن نفسها، كاد أن يُخبرها أنها حقًا ربحت عليه تلك الحرب وأعلنت هواها سُلطانًا عليه يجبره ويُخضعه لتقديم فروض الولاء والطاعة، هذا الذي كان يهرب ويهرب ثم يعود ويناضل بالحرية، الآن أصبح يُطالب بحقه في الأسر معها هي..
صعدا سويًا للأعلى وقد رحبت خالته بها وضمتها لعناقها وهي تقول بأسفٍ عما فعله في المرة السابقة:
_حقك عليا أنا دا عيل عديم الرباية أبوه كان مدلعه، وأمه كان قلبها رهيف مقدرتش عليه، بس والله ما خليته داق لقمة غير لما حلف على مصحف ربنا إنه صالحك وخلاكِ ترجعي مبسوطة.
أومأت لها “نورهان” بتأكيدٍ بينما هو تجاهل الحديث ثم ولج للداخل وترك الاثنتيْن معًا وقد تعجبت الفتاة من فعله لكنها لم تعد تندهش منه، هي رأت معه الأغرب من كل ذلك ولن تشكل أفعاله فارقًا معها، لذا جلست بجوار خالته حتى خرج هو وجلس بعدما بدل ثيابه بأخرى بيتية بينما خالته تركتهما كي تقوم بتحضير الطعام، ومع طيلة الصمت تحدثت هي تخبره بهدوء:
_هو أنتَ زعلان علشان أنا جيت تاني؟.
كانت تخبره عن شكها في حالته بسبب رؤيته لها من جديد، بينما هو فكان شاردًا في تلك الفجوة الشاهقة التي تفصل بينهما من كل شيءٍ وعلى رأس كل الأشياء إدمانها للمواد المُخدرة، لذا حرك عينيه نحوها وداهمها فجأةً بقوله:
_”نورهان” عندك استعداد تتعالجي وتبطلي؟.
توسعت عيناها وحركت رأسها للجهة الأخرى تراقب خالته التي يبدو أنها تنشغل في الطعام، بينما هو كرر سؤاله من جديد يتكيء على مقاصد الحروف والكلمات، حتى جاوبته هي بخوفٍ:
_ليه وعلشان مين؟.
_علشان نفسك مش علشان حد، علشان تقدري تعيشي قبل تدمري اللي باقي من نفسك، علشان تقدري تنجحي في حياتك اللي جاية، علشان عمرك اللي بيضيع في غفلة وعلشان صحتك اللي بتتدمر وعلشان وشك اللي المفروض إنه جميل بس متداري غلط، لو مش علشانك يبقى علشان اللي حواليكِ..
هكذا اندفع في رده عليها، وهكذا أتاها جوابه، بينما هي فكانت أمامه تائهة حتى وجدته يمسح وجهه بكلا كفيه ثم قال بثباتٍ أمامها وهي الضعيفة التي تود أن ترتكن بجوار أي حائطٍ:
_بصي، أنا هساعدك وأنتِ تساعديني، أنا هخليكِ تتعالجي وتقفي من تاني على رجلك، وأنتِ تديني بس أمل في بكرة في حاجة حلمت بيها كتير، مش عاوز منك رد دلوقتي، عاوزك تفكري فيها وتحسبيها صح، وأنا معاكِ أهو.
دارت بعينيها في المكان ثم عادت له تسأله بصوتٍ مبحوحٍ:
_طب ولو قولت مش هقدر ومش عاوزة؟.
_يبقى أنتِ أنانية ومش بتحبي غير نفسك وبس، وأنا للأسف مش هقدر أتعامل معاكِ بالأنانية دي كلها، لازم تفكري أنتِ صح وتاخدي القرار من نفسك لنفسك وبس.
يبدو أن ردوده عليها حاضرة ومُجهزة لذا طالعته بحيرةٍ وقد أتت خالته تدعوهما لتناول الطعام، وفي تلك اللحظة حركت عينيها تشمل المكان بعينيها ثم قالت بثباتٍ له:
_لو عرضت عليك تتجوزني، تتجوزني يا “باسم”..؟
توسعت عيناه من جُرأتها معه بينما خالته ضربت صدرها بكفها ثم قالت بصدمةٍ جلية فوق ملامحها:
_أنا قولت علبة الحلويات دي وراها إنَّ.
دارت حرب النظرات بينهما وهو يطالعها بغير تصديقٍ وهي تأمل ألا يُخيب ظنها وقد طال صمت الطرفين معًا وخالته تراقب الحال بترقبٍ، فوجدت الشاب يندفع بحمية بدائية لذوات الطباع الحُرة:
_أنتِ مجنونة؟ فيه بنت تقول كدا لشاب؟.
_آه أنا، في ظروفي دي هقولك، علشان أنا ماليش حد يخليني آخد أي خطوة علشانه ومش هقدر أعمل حاجة وأنا مش لاقية سبب قوي لدا، فلو أنتَ موافق تتجوزني أنا موافقة أتعالج، ومش عاوزة منك أي حاجة ولا حتى حقوق شرعية كمان، بس علشان لما أروح أتعالج أبويا ميقدرش يأذيك، ويبقى واحد بيعالج مراته، ووعد أول ما أتعالج هخليك تطلقني.
فاجئته بمدى شراسة ووسع فكرها فبدا أمامها كأنه ضيق الأفق، رمقها بعجبٍ وسخطٍ بينما هي أكدت له طلبها بنظراتها ثم سحبت حقيبتها بعدما أعطته مهلة للتفكير في الأمر، وما إن يصل للقرار الصحيح يبلغها به أيًا كان اختياره على ما وقع في النهاية..
أما هو فرأى التجبر في عينيها كأن سُلطانها طاغٍ..
وكأن الوقت قد حان كي يُكبل الحُر في أغلالٍ تمنع عنه الرفرفةِ بكلا جناحيه، لكنها رغم ذلك لم تمنع رأسه من الارتفاع ومُطالعة السماء كأنها تدعوه لرؤية الأمل وملامسة الحُلم ثم تعود به للحقيقة المُرة، أنه لازال مُقيدًا..
____________________________________
<“عن أي مجازف أسرد لكِ وحُبي لكِ وحده أسطورة”>
تلك المجازفات القديمة ربما هي مجرد وهمٍ،
لكن الحقيقة الملموسة حقًا هي تلك التي تراها عيني كلما رأتكِ، فأنا حتى تلك اللحظة التي رأيت فيها عينيك لا أعلم أن المُدن بأكملها ولو ملأها البشر تظل فارغةً لطالما كانت بعيدًا عن عيني من نُحب، لكني حتى وأنا بمدينتي في عينيك رغم أنها لا يسكنها غيري إلا أنني وجدتُ فيها كل الأنسِ..
كان يعمل في أربع أمكنةٍ غير بعضهم، أولًا بشركة البترول التي تفاقم وتعاظم دوره بها، ثم في مكانه بنزلة السمان يتابع العمل بدلًا من الشباب، ثم عاد لشركة والده حينما طالبته “رهـف” بذلك وأصرت على قدومه لهم، لذا ولج الشركة وجلس يُنهي عدة أعمال حتى نسى تناول طعامه والدواء ونسى حتى يطمئن على زوجته وأسرته، وقع سجينًا في خضم الأعمال الشاقة وتكالبت عليه الظروف بأكملها..
أنهى اجتماعه الذي تعنت فيه وأصر على إصدار أوامره وقراراته بالرغم من كل شيءٍ حوله حتى رضخ له جميع الأطراف وعادت الخيوط تتشابك في أنامله وحينها وافق عاد بظهره للخلف يتابع المكان بانتصارٍ ثم عاد وجلس باسترخاءٍ حتى فرغت الغرفة وقالت “رهـف” بحماسٍ:
_أنا كنت متأكدة إنك مش هتقبل بأي ضغط منهم، السعر اللي عاوزين ياخدوا بيه خامات قليل أوي ورغم كدا شروطهم متعبة، يعني لو فات أيام بسيطة على التوريد هندفع تعويض عن كل يوم؟ دي شروط ظالمة بصراحة وكويس إنك رفضت، رغم إن “عاصم” على عينه الموضوع دا.
ابتسم لها بخفةٍ ثم قال بثباتٍ وثقةٍ في قدراته:
_علشان “عاصم” مش لعيب، أخره يتفق ويصدق على الاتفاق وبس، إنما الشغل اللي زي دا عاوز واحد دماغه تكون كبيرة ويعرف يلاعب الكل، يعني مثلا عندك واحد زي اللي كان قاعد من شوية، هو عارف إن الخامات متوفرة، وعارف إن جودتها عالية وسعرها مناسب، وعارف إن اللي بنعمله ميتعملش زيه، بس لازم يحشر مناخيره ويعمل نفسه جامد وليه وجهة نظر، ويقولك أنا ببص للموضوع من ناحيتي، وهو أصلًا أعمى، لو بيشوف صح مكانش جازف وحط نفسه في الموقف البايخ دا، علشان كدا لو مش قد اللعبة بلاش تدخلها وتفتح صدرك في وش اللاعيبة.
أومأت له موافقةً باقتناعٍ بينما هو عاد يشهد بها بقوله:
_بعدين برضه أنتِ شاطرة وخدتي بالك من الهبل اللي هو حطه دا، كان ممكن آجي بسرعة وأوافق زي اللطخ وخلاص ومعرفش إنه جاي يحط نفسه في مقارنة معايا، يا بخته الواد “عُـدي”.
ضحكت بخجلٍ ثم أخفضت رأسها تتذكر حبيبها الذي رغم أيادي التغيير التي طالته إلا أنه لازال مُبهرًا كما عاهدته هي، ذاك الفاتح الذي يخبرها كل يومٍ أن قلبه يُقاسم قلب شقيقته حزنًا وكمدًا حتى باتت تقاسمهما الحزن ويكون لها معهما نصيبًا، بينما “يـوسف” فصدح صوت هاتفه برقم زوجته فاعتدل فوق المقعد ثم قال يأمر من تجلس أمامه:
_سكتك خضرة يلا، قومي علشان دي مكالمة مهمة.
ضيقت جفونها وهي ترمقه بشكٍ ثم ضحكت ما إن لمحت لمعة عينيه وفهمت من هي المُتصلة بينما هو انتظر خروجها ثم جاوب على زوجته التي قالت بعتابٍ طفيفٍ:
_دا اسميه إيه بقى وأنتَ مش معبرني طول اليوم؟.
_سميه غُلب وشقا، هيكون إيه يعني؟.
هكذا جاوبها بينما هي زفرت بقوةٍ ثم قالت بهدوءٍ:
_أنتَ واخد عليهم وهتسد قصاد كل حاجة، المهم بس إنك تكمل اللقطة للآخر متجيش آخر الليل وتفضل تتعصب وتشتم وتسب فيهم كلهم، عارفة الحالة أنا لما بتشتغل، بتبقى سواد علينا كلنا.
ضحك رغمًا عنه ومسح وجهه بأحد كفيه ثم قال بمراوغةٍ:
_الله !! ودورك أنتِ فين يا عسولة؟ لما تلاقيني متعصب تعالي ضحكيني، أحضنيني، أعملي أي حاجة، ريقي نشف في العلاقة دي.
ضحكت رغمًا عنها ثم قالت بتهكمٍ تمازحه:
_ يا عم أقعد بقى، إحنا بقينا نتقابل صُدف أصلًا، بس أقولك؟ نخلص كل دا وهاخدك ونهرب من الدنيا كلها، مش هخلي حد يوصلك خالص ولا يقدروا يلاقوك، شد حيلك أنتَ بس شوية.
وافقها في الحديث ثم أطمئن عليها وأخبرته بذهابها لبيت أمها كي تكون مع “ضُـحى” لحين يعود هو من عمله، بينما هو أغلق الهاتف ثم خرج من مكتبه فوجد “عاصم” في وجهه كاد أن يعبر نحو المكتب المجاور له وقد طالت النظرات بينهما بتحدٍ سافرٍ، فقال له عمه يؤنبه بقوله:
_متفتكرش إنك كدا ناصح يعني باللي عملته جوة، أنتَ بالظبط زي اللي رقصوا على السلم، مطالوش حاجة غير إن السعر هيتدفع على دفعات أطول، علشان كدا عادي وأقل من العادي كمان.
في تلك اللحظة ضحك له “يوسف” ثم أضاف بوقاحةٍ يؤكد صدق حديث عمه وتأكيده لكل حرفٍ يتفوه به:
_أنتَ صح وبصراحة كدا أنا بموت في الرقص على السلم، أبقى المرة الجاية تعالى بدري علشان تشوفني وأنا برمي فلوس على الرقاصة، هستناك، أوعى تتأخر يا عمو.
ولج “عاصم” من أمامه قبل أن يرتكب جناية أكيدة في المكان وقد أتى “نـادر” في تلك اللحظة يقف بجوار “يـوسف” وبعد الترحيب بينهما تحدث الثاني بدعمٍ للآخر:
_جدع إنك عملت كدا، المهم روح أنتَ يلا وأنا هكمل مكانك كفاية عليك لحد كدا شغل، بس متاخدش على كدا ها؟ أنا بقدم السبت علشان لو احتاجت منك الحد ألاقيه، يلا اتكل.
صفعه “يوسف” بخفةٍ ثم ضحك في وجهه ورحل بينما الآخر فهرب من لقاءه بـ “عـاصم” ثم ولج بدلًا من “يـوسف” وجلس فوق المقعد وما إن جلس أخرج هاتفه وقام بفتحه حتى وصلته مكالمة كان ينتظرها من الصباح وقد أتته حينما وصلت له رسالة محواها:
_عرفت والدك فين، موجود في “إيطاليا”.
توسعت عيناه بغير تصديقٍ بعدما تأهبت حواسه وقد ارتخت أعصابه كُليًا ما إن لمح الرسالة مُجددًا، المسافة بينهما بعيدة والبُعد أخذ يزداد أكثر والفجوة تتسع حتى بات الفارق بينهما بحجم البعد بين الشمال والجنوب، لذا ضم رأسه بكفهِ وزفر باختناقٍ وهو يرى المسافة تبعد أكثر كلما اقترب من نقطة النهاية..
____________________________________
<“أهذا هو اللقاء الذي ظننته لقاء الحياة؟”>
دعني أخبرك أن بلدتي قاسية..
كُلما رأت عاشقين سويًا فرقت بينهما كما تفصل الحدود بين البُلدان، وكُلما وجدت الأعين هوية قامت بسلبها، ولما رأت القلوب عامرة بالخير قامت بنهبها، ولما وجدت الحبيبين آمنين معًا حرقت في أعينهم المدينة وباتوا على شفا حُفرةٍ من لجوءٍ غير آمنٍ لمدن ربما تكون أكثر قسوةً، فاليوم وفي هذا اللقاء الذي حسبته عودة الحياة كان هو الموت بذاته..
بعد مرور اثنا عشر يومًا من الأحداث السابقة..
وفي بيت “نَـعيم” بالأخص عادت الفرحة لهم منذ الأمس حينما أخبرهم “مُـنذر” عن عودة “إسماعيل” وتصريح الطبيب له بالخروج من المشفى وقد زارت الفرحة البيت بكل أركانه، كان الاستعداد في أوج الحماسِ من الجميع..
بينما في المشفى كان “جـواد” يقف برفقة كلًا من “إسماعيل” و “محمود” قبل وداعهما من المشفى بعد إذن الخروج الذي أعطاه لهما وحينها تحدث بثباتٍ:
_حاليًا أنا مبسوط بيكم أوي، تقدروا تخرجوا وتواجهوا الحياة برة وتتعاملوا عادي، أظن يعني إحنا قطعنا مع بعض شوط كبير أوي خلانا نوصل للي وصلنا له دا، علشان كدا سمحت ليكم بالخروج، الحياة العملية لازمها مواجهة منكم، ودعوا بعض بقى علشان أروح أختم الورق.
احتضن كلًا منهما ثم ربت فوق ظهريهما بوداعٍ حارٍ ثم عاد لمكتبه، بينما هما وقفا سويًا يطالعا بعضهما بمشاعر متباينة حتى قال “محمود” بامتنانٍ له:
_على فكرة أنا هخرج علشانك أنتَ، مش هقدر أقعد هنا بعدما خدت عليك طول الشهور اللي فاتت، كان لازم أخرج أنا كمان أحسن أتجنن أنا كمان زيك ولا حاجة.
ضحك له “إسماعيل” ثم ضمه بقوةٍ يودعه وقد ربت “محمود” فوق ظهره عدة مرات ثم قال بصدقٍ بعدما استمع لمشاعره:
_خلي بالك من نفسك وحط أخوك في عينيك، اللي زي “إيـهاب” يتعمل علشانه تمثال يا “إسماعيل” ويتحط فوق الراس، أديك شايف أخويا واللي عمله فيا.
لمعت عيناها “إسماعيل” وسرعان ما تفاقمت مشاعره لأجل شقيقه وعاد يبتسم بفرحٍ من مجرد فكرة اللقاء الذي سوف يعود ويجمع بينهما، وقد تنهد بقوةٍ ما إن عادت ملامح شقيقه ترتسم في عينيه، وبالأخص لقاءه مع الصغيرة التي كانت سببًا في صبره طوال الأيام السابقة، لذا ودع رفيقه بحفاوةٍ ثم تحرك من المكان يكي يخرج نحو بوابة الحُرية كما لقبها هو..
بعد مرور ثلاث ساعات..
في بيت “نَـعيم” صدح صوت الزغاريد عاليًا ما إن توقفت سيارة “إيـهاب” أمام البيت وترجل منها الشباب الثلاثة، الشقيقان معًا وخلفهما “مُـنذر” الذي كان يبتسم بسعادةٍ لأجل عودة رفيقه، بينما البيت ممتلئًا بالكثير منهم “أيـوب” وزوجته و “يوسف” وأخوته والجميع في انتظار “إسماعيل” الذي عاد لهم أخيرًا..
رحب بالجميع وقد حاول أن يتذكر عائلة “يوسف” وبقدر محاولته فشل في الوصول لكنه حاول أن يتعامل مع الجميع، وقد ضمه “نَـعيم” في عناقِ سحق خلاله ضلوعه وبكى فرحًا متذكرًا عودة ابنه “تَـيام” والآن يعود له ابنه الثاني، ذاك الوحيد الذي اعتبره جزءًا من الروحِ، بكى واختنق صوته وهو يقول مُرحبًا به:
_نورت بيتك يا حبيب أبوك، نورت بيتك يا غالي.
في تلك اللحظة بكى “إسماعيل” بين ذراعيه وشدد ضمته له ثم قال بصوتٍ مختنقٍ وازى صوت “نَـعيم” في الاختناق:
_البيت طول عمره منور بوجودك فيه يا أبويا.
طال العناق وخفت الصوت ولم يظهر إلا صوت القلوب المُتعانقة مع بعضها خلف الضلوع، كانت لحظة تبكي لها القلوب بسبب التأثر، بينما “إسماعيل” فقد اشتاق لخيله كثيرًا لذا استأذن من الجميع ثم تحرك نحو مقر الخيول، قصد الخطوات لهناك ودقات قلبه تهرع بصخبٍ ما إن اقترب من مقر الخيل الخاص به، كان كما الخيال الذي يشتاق للساحة فركض بأقصى سرعته كي يصل لهناك، كانت سرعته فائقة وهو يركض كي يحتضن رأس الخيل ويطلق كلاهما العنان لطاقته المكبوتة..
كانت تقف هناك وهي تمسح فوق رأس الخيل وتضحك بسعادةٍ وهي تتحدث مع الخيل بحماسٍ بعدما وصلها خبر الشفاء مما كان يُعانيه، وقد لمعت عيناها بعبراتٍ وهي تقول بصوتٍ مُختنقٍ:
_راجع خلاص، صاحبك راجع وكل حاجة هتتصلح، عارف أنا ناوية على إيه؟ ناوية أعيد كل اللي فات معاه من تاني علشان ألحق الحياة اللي فاتتني من غيره حتى من قبل ما أعرفه، مش عارفة هييجي إمتى بس قلبي بيقولي هييجي هنا الأول، الوعد اللي قطعه ليا قالي ساعتها إنه مهما يغيب بيرجع لهنا، وأنا متأكدة إنه هيرجع لهنا..
قبل أن تُكمل حديثها تهادى لسمعها صوت خطواته بمرافقة عبق رائحته التي تعشقها هي وقد اقترب أكثر ثم قال بلهفةٍ وشوقٍ ولوعةٍ أكلوا قلبه:
_وحشتوني، وحشتوني أوي.
توسعت عيناها بغير تصديقٍ وفرغ فاهها وقد تيبست موضعها وجل ما استطاعت فعله فقط مجرد التفاتة من رأسها للجهة للخلف فوجدته يقف هو بنفس بسمته وملامحه البشوشة الطيبة، هو كما هو بضحكة عينيه وهدوء تقاسيمه وقد وقفت أمامه تحفظ كل إنشٍ فيه بعينيها وتسرد له شكواه عن حالها في غيابه، بينما هو فضيق جفونه يتعجب لما تقف أمامه هكذا بصمتٍ وهي تُطالعه فقط..
كانت لحظة تاريخية في مفرق حياتهما..
العين تنطق واللسان يتوقف، القلب ينبض والجسد يتيبس، العقل يُنكر والقلب يتذكر، الروح تهفو والوجع يعلو، والألم فوق الملامح يطفو، قفزت المسافة الفاصلة بينهما تقطع ثقل تلك اللحظة الثقيلة بينما هو فعاد للخلف وسألها مُستنكرًا ما يقتل الروح في الجسد بموضعها:
_أنتِ مين يا آنسة؟ وواقفة هنا بتعملي إيه؟.
هُنا وحقًا صدح صوت تهشيم القلب كما الزجاج..
نزف دفعها من عينيها وفرغ فاهها وتلك المرة بصدمةٍ أكبر، والحال يُناقض الحال ما بين الثانية والأخرى..

تعليقات