رواية غوثهم الفصل المائة والخامس والسبعون 175 بقلم شمس محمد


 رواية غوثهم الفصل المائة والخامس والسبعون 


“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عند الابتلاء والحزن:
اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس،
يا ارحم الراحمين أنتَ رب المستضعفين وأنتَ ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أم إلى
عدو ملكته امري إن لم يكن بك غضب علي فلا ابالي.
غير ان عافيتك هي أوسع لي.
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة.أن يحل على غضبك، أو ينزل بي سخطك.
لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك.
“اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ، اللهم انى اعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء”
_”مُناجاة”
____________________________________
“ولأن الروح باقية؛ أحببتك بما هو باقٍ مني..”
ألم أخبرك بها ذات مرةٍ في سابق الأمر أنني حين أحببتك كان حُبي لك أتيًا بما هو دائمٌ مني؟ فلو بالقلب كان رُبما يزول منه الحُب، ولو بالعقل فإن العقل قد يخون وينسى، ولو بالعين؛ فالعين رُبما تُحب كل ما قد تراه جميلًا..
لكني اليوم وأنا أراك وجدتُني في عينيك غريبًا عن موطنه،
رأيت النسيان مُتجليًا في المُقلِ وكأن طيفي لم يمر يومًا على تلك الذاكرة، اليوم وقفت أبحث عن مكاني الذي اتخذت منه ملجئًا آمنًا لي، لكني لم أحسب حسابًا يومًا لتلك اللحظة التي أقف فيها أمامك وأنتَ تُنكر هوية عيني..
أنسيت أنتَ من أنا؟ أنسيت الأمان بجواري هُنا؟
إن كنت نسيت أنتَ، فقلبي لن ينسى..
لن أنسى تلك المرات التي كُلما وقفت فيها أمامك وجدت عينيك تسرد لي عني، لن أنسى أنني كُلما تعثرت في ماضيِّ كنت أجدك أنتَ من تُساندني كيف أقف من جديد، رُبما اليوم لن تتذكر، ورُبما بالغدِ تُنكر، وقد تظنني مجرد غريبٍ مر من أيامك،
لكنك لن تستطع إنكار أنني موطن أحلامك،
وكما كنت لكَ موطنًا؛ حتمًا سيعود الشريد لموطنه،
أرأيت أنتَ طيرًا ترك عُشه وهاجر بغير عودةٍ؟..
إن كنت رأيت، فأنا لم أر إلا طيرًا طار وهاجر ثم عاد لموطنه حتى وإن كان نسى أين مكمن عُشه،
فالقلب كان ولازال دليل المرء نحو موطنه.
<“أيعقل أن ينتهي بنا الدرب غرباء عن بعضنا”>
إن أكثر ما يؤلم الرفيق أن يرى رفيقه هاجره..
وكأن الهجر هواية يُجيد فنها المُحب،
فلما يرغب المرء في وصالٍ ثم يُجازىٰ بالفراق؟
أيعقل أن ينسى المرء الذي كان وكأن ما حدث ما كان؟
أم يعقل أن من كان في قلوبنا يومًا ما كان؟..
_أنتِ مين يا آنسة؟ وواقفة هنا بتعملي إيه؟.
في تلك اللحظة كانت كما الشجرة التي شاب عليها الخريف فتساقطت الأوراق منها، كانت كما الشجرة الخالية من خُضرةٍ بل جار عليها الطقس فأصبحت فارغة من كل شيءٍ، تساقطَت في تلك اللحظة أحلامها ووقتها وعُمرها وكل شيءٍ كانت تحفظه في قلبها لأجله هو ضاع ولم تعرف كيف تأتِ به من جديد، كل شيءٍ كان غريبًا ولم تضعه في طيات العقل، أو رُبما كانت تنكر قسوة المشهد، بينما هو فركز بعينيه في عينيها ثم حرك رأسه بتيهٍ..
تلك المُقل لم تكن يومًا غريبة..
العين تعرف العين، والقلب ينبض لأجل شيءٍ غير معلومٍ، أما العقل فيبدو أنه أخذ استراحة مُحارب من تلك المعركة القاسية عليه، وجد الدمع يترقرق في عينيها فسألها باهتمامٍ دون أن يعلم سببًا لحالتها تلك أو حتى من تلك التي تقف أمامه في أرضه وهي الغريبة عنه:
_أنتِ بتعيطي ليه؟ فيه حد مزعلك طيب؟ أنتِ مين طيب؟.
كيف يسأل ويجاوب عن نفسه وهي لا تستطع الشرح له؟ كيف يسأل وطنه عن هويته ثم يجاوب وينكر معرفته بتلك الهوية؟ وقفت أمامه بعينيها اللامعتين بعبراتٍ نازفة وظلت تبحث في عينيه عن الدفء الذي كان يُلحفها به كُلما تواجدت معه، لكنها لم تجد إلا نظرة تائهة وحائرة فتنهدت بصوتٍ مُتقطعٍ، وقبل أن تفعل أي شيءٍ وجدت “إيـهاب” يقترب منهما ووقف بجوار شقيقه، فالتفت له نصفه يسأله بحيرةٍ:
_هي مين دي يا “إيـهاب” وليه بتعيط هنا؟.
في تلك اللحظة طالت الصدمة قلب شقيقه لكنه تجاهل كل شيءٍ ثم حرك عينيه نحوها يُحذرها برفقٍ ألا تفعل أي شيءٍ ثم عاد يُطالع وجه شقيقه وقال بثباتٍ واهٍ بعدما حاول أن يخرج من طور صدمته:
_دي “ضُـحى” أخت “يـوسف” وبنت خاله.
أومأ له موافقًا ثم عاد يُطالعها وهي تقف أمامه بصمتٍ وعتابٍ لم يفهم له سببًا من عينيها لكنه رحب بها بصمتٍ وتجاوز موضع وقوفها وأقترب من الخيل الخاص به يمسح فوق رأسها بخفةٍ فوجد الخيل يُصهلل ويرفع رأسه وجسده له كأنه يُرحب به، أما هي فوقفت تحسد الخيل على موقفه، هل يُعقل أن يحنو على كل طيرٍ وحيوانٍ وهي ينساها ويُبعدها عن ذاكرته؟ أقترب منها شقيقه وجاورها وهو يهمس لها بصوتٍ خافتٍ:
_بلاش نجيب سيرة أي حاجة تصدمه، واحدة واحدة هتخليه يعرفك بس “جـواد” محذرنا و”مُـنذر” معانا هنا هيتابع علاجه الباقي بنفسه واحدة واحدة، عارف إن حقك تزعلي بس أبوس إيدك ساعديه وساعدينا يا “ضُـحى” أبدأي من تاني لو تحبي..
حركت عينيه نحوه وحينها تركت البكاء يعرف الطريق نحو وجنتيها ثم قالت بصوتٍ باكٍ مُستنكرًا وكان مُختنقًا بسبب العبرات:
_أبدأ من تاني !! أبدأ إيه مع واحد ناسيني؟ غصب عنه أنا عارفة بس إزاي مش قادر يفتكرني؟ إزاي كل دا راح وضاع ورجعنا من تاني غُرب عن بعض؟ دا مش عارف حتى اسمي ولا فاكر أنا مين، دا بيعتبرني واحدة مش فاكر حتى سبب وجودها في حياته، ياريت كان سهل أساعد، بس أنا من حقي أتعب..
بكت أكثر وهي تجده يقف بجوار الخيل ويضحك معه بعدما همس له كعادته بعدة كلمات تفاعل معها الخيل، أخفضت عينيها نحو الجدار كي ترى الحديث المكتوب منه، وسرعان ما تعجبت من قسوة البشر والزمن في تغيير مجرى الحكايا لتلك النهاية العجيبة، تركت المكان وتحركت منه بخطواتٍ راكضة تهرب من وحش الذكريات المريرة التي تُلاحقها وقد اصطدمت في شقيقها الذي سألها بعينيه عن سبب ركضها فوجدها ترتمي عليه وتصرخ بقهرٍ ثم قالت تعبر عن وجعٍ لم تستطع الهرب منه:
_مش فاكرني يا “عُـدي” ومش عارفني، راجع ناسيني.
ضمها شقيقها لصدرها ثم ربت فوق وجهها يمسح بكفه عبراتها بينما هي فظلت تبكي بصوتٍ مكتومٍ وتشهق في عناق شقيقها الذي كان يعلم أن قسوة ما تُعانيه هي لن يجد لها دواءً،
فتلك المشاعر القاسية التي تؤذي المرء، هي بذاتها من كانت يومًا مهربًا للقلب، فهل يمكن أن يتوقع المرء سبب أذاه وهو بنفسه من كان يرمي نفسه في هذا الطريق؟.
وقف “إيـهاب” بجوار شقيقه يمسح فوق ظهره ثم أخبره بصدقٍ:
_البيت منور بوجودك يا “إسماعيل” أخيرًا، حاسس أخيرًا إني مش غريب هنا وإني في بيتي، كأن البيت رجع برجوعك أنتَ فيه، بس قولي أنتَ تيه بالظبط اللي مش فاكره نحاول نفكره ليك، يمكن تيجي بالهدوء واحدة واحدة كدا واللي فات يرجع.
طاف “إسماعيل” بعينيه في المكان ثم حرك كتفيه وقال بتيهٍ:
_مش عارف بصراحة، بس فاكر البيت وفاكر ناسه، حاسس إن الوشوش مألوفة عادي بس مش فاكر تفاصيل كتيرة، أو ناس زي أهل “يوسف” دول مش مجمعهم، هي صحيح أخته دي كانت بتعيط ليه؟ حد مزعلها هنا؟.
ضيق “إيـهاب” جفنيه فوق ملامح شقيقه ثم باغته حينما سأله بما لم يتوقعه منه شقيقه:
_وأنتَ مالك بيها؟ شاغل بالك بيها ليه دا أنا مش بطيقها.
تعجب “إسماعيل” من طريقة شقيقه لكنه جاوبه بلمحة ضياعٍ:
_مش عارف بس حسيت بصيتها ليا غريبة كأنها واقفة مستنياني، بعدين مش طايقها ليه يعني؟ شكلها طيب أوي وغلبانة، بس هي هنا بتعمل إيه أصلًا؟.
هرب من الجواب وقرر أن يضمه لصدره وبعد تلك الفعلة مسح فوق خصلات رأسه وقال بتقديرٍ لمشاعره الضائعة التي لازالت تتخبط وتتعثر وعقله حتى تلك اللحظة لم يعد بكامل وعيه، حتى أن عرضته للإنتكاسة أصبحت أكبر بكثيرٍ مما سبق وكأن تلك المرحلة فيصلية في ما مضى وفيما هو قادمٌ..
____________________________________
<“كل شيءٍ هُنا كانت بدايته حقيقية حتى نهايته”>
كل البدايات كانت حقيقية إلا تلك التي بدأها القلب بحماسٍ..
ففي الأغلب ما يبدأ بلهفةٍ ينتهي بفتورٍ، وكأن الطريق يقضي على حماس المرء ويسلب منه شغفه في المنتصف، تلك البدايات التي كانت صادقة انتهب بكذبةٍ في الطريق ومن ثم نعود لنقطة البدء من جديد نحتضن الهزائم ونرتاح في عمق نقطة الصفر..
في حارة العطار..
كان “عبدالقادر” يجلس مع “بـيشوي” يتابع مع العمل بعد تغيب “تَـيام” عن العمل وقيام رفيقه بعمله بدلًا عنه وقد تابع “بـيشوي” كل شيءٍ حتى عاد يُعطي لـ “عبدالقادر” التفاصيل الكافية بشأن العمل فقال له الآخر بتقديرٍ وامتنانٍ:
_معلش جايين عليك الأيام دي بس خليها عليك، “تَـيام” الله يعينه مش عارف يسد هناك وهنا بس بيحاول، بكرة أنتَ هتكون في المصنع مع “نـادر” لحد ما نشوف هيرجع شغله فعلًا ولا لأ، لو رجع يبقى خلاص “تَـيام” يكون مكانه هناك و “أيـوب” يرجع يمسك مكانه هنا.
اومأ له “بـيشوي” موافقًا ثم قال بتقديرٍ له:
_تحت أمرك اللي تشوفه صح هنعمله من غير كلام، بس ماظنش “نـادر” ممكن يرتاح هناك أصلًا، خليه يروح علشان ميقولش إننا وقفنا فيها وعطلناه، مع إنه بصراحة ذكي وشغله كان حلو وأنا كنت مبسوط وهو معانا، يا رب أوقفله حاله هناك.
ضحك “عبدالقادر” رغمًا عنه وضرب كفيه ببعضهما بينما “نـادر” ولج لهما وقال بضيقِ مُتفعلٍ بسبب حديث رفيقه:
_وليه يعني قلة الأصل دي؟ دا أنتَ راجل صعب بصراحة بس أقولك هسافر بالعِند فيك علشان أكيد مش هلاقي هناك حد يطلع عيني زيك كدا، هبقى أنا القبطان هناك والمركب كلها تتحرك بمزاجي وكيفي.
وقف أمامه “بـيشوي” وربت فوق ظهره ثم ضحك له وهو يخبره بصدقٍ وجدٍ خارج طور المزاح بينهما:
_والله يا بني ربنا يعلم أنا مش عاوزك تسافر علشان خدنا عليك معانا هنا وكلنا بنعتبرك مننا بس لو دا خير ليك وفي صالحك يبقى خلاص أنا مش هكره الخير لصاحبي، أهم حاجة لو مش مرتاح في أي وضع عرفنا ومكانك هيفضل مستنيك في أي وقت، وطبعًا أجازاتك كلها هتيجي تمسك الشغل من تاني هنا، مش هتفضل تتدلع كتير.
ضحك معه “نـادر” ثم أشار على عينيه كأنه يرحب بحديثه لكنه تجاوز نقطة وقوفه ثم اقترب من “عبدالقادر” وجلس على عاقبيه أمامه حتى ظهر التعجب جليًا في عيني الرجل وحرك رأسه نحو “بـيشوي” الذي حرك كتفيه وقبل أن تبلغ الحيرة مبلغها بينهم؛ تحدث “نـادر” وقال بصوتٍ ممتليء بالمشاعر:
_أنا جاي أشكرك وأقولك ياريتك كنت أبويا بجد، شكرًا علشان كل حاجة عملتها ليا وعلشاني وشكرًا إنك قبلت وجودي بينكم، كنت فاكر إني عمري ما هلاقي خالي “مصطفى” تاني في حياتي وهضيع طول ماهو مش معايا، بس أنتَ ولا مرة حسستني بعكس كدا، أتمنى إن وجودي جنبك يكون خفيف وتكون مبسوط بيا.
ابتسم له “عبدالقادر” ثم رفع كفه يمسح فوق رأس “نـادر” ثم قال بتأثرٍ يخبره عن الحقيقة التي يخفيها في سيرته حتى أرهقه كتمان سره:
_عارف يا “نـادر” إني طول ما كنت بدور على “يوسف” أنا كنت بدور عليك معاه، وصية الغالي ليا كانت أني أخلي الاتنين معايا بعيد عن “عـاصم” و “سـامي” بس للأسف مقدرتش أحافظ على الوعد، أبوك وخالك دمروا كل حاجة، قذارة البشر ساعدتهم يعملوا اللي هما عاوزينه، والمحامي اللي خلص ليهم الورق وباع خالك وابنه خلاهم ياخدوا حقوق مش بتاعتهم، علشان كدا لما رجعت ليا تاني مسكت فيك، كل ما أشوفك وأحاول أزعل منك أرجع أفتكر وصية الغالي، روح يابني ربنا يراضيك ويستر طريقك..
لثم “نـادر” كفه ثم استقام واقفًا وقال بثباتٍ كاذبٍ بعدما دمرت سيرة خاله المتوفي كل ثباته وزلزلت كل ذرات تعقله ووقوفه:
_عن إذنك بقى هتحرك علشان لسه هروح عند “حنين” وأتكلم مع عم “عاشور” علشان لما أرجع أعمل الفرح علطول، بس أمسحلي أني هخليه يجيلك ويتكلم معاك في التفاصيل واللي يرضيه ويرضي بنته أنا عيني ليهم، تمام؟.
أومأ له “عبدالقادر” ثم اذن له بالتحرك وقد خرج “بِيشوي” معه ووقف على أعتاب المكان والعمال يقومون بإخراج القطع الرُخامية الضخمة، وفي تلك اللحظة صدح صوت “عبدالقادر” يسأله بتهكمٍ:
_سيادتك رايح فين يا بيه؟ ورانا شغل هنا لسه.
التفت له يخبره بتعبٍ حقيقي وفقدان لطاقته:
_مش هتأخر عليك هروح بيت حمايا آخد دش هناك ونازلك علطول علشان “مهرائيل” بايتة من إمبارح هناك، وعلشان تضمني مش هروح شقتي علشان مانمش هناك، مع إن ابنك نايم براحته، بس أنا مكبر بمزاجي.
أنهى حديثه ثم خرج مع “نـادر” من الوكالة وقصد بيت حماه، ولج الشقة فوجد حماته تتجهز بثيابها وكذلك فعلت “مهرائيل” وهي تقف بجوار أمها، لذا سأل هو بحيرةٍ عن سبب الرحيل من البيت وقد جاوبته “سلوى” بقولها:
_رايحين نجيب حاجات من تحت، فيه سوبر ماركت عامل عروض تحفة، هاخدها وننزل نجيب لشقتك وللبيت هنا، عاوز حاجة يا حبيبي؟.
التفت لزوجته يطالعها فوجدها تبتسم له، وحينها عاد بوجهٍ مُكفهرٍ لحماته وقال بتهكمٍ يسخر منها:
_لأ وعلى إيه، ما خلاص اللي كان نفسي فيه أنتِ هتاخديه.
ضحكت له حماته ثم ضربته في كتفه بمزاحٍ ثم فتحت الباب وخرجت منه بينما “مهرائيل” فمرت من جواره وهي تقول بنبرةٍ خافتة:
_مش هنتأخر متقلقش، بس عاوزة مفاتيح العربية علشان أسوق بدل ما ندفع الفلوس في عربيات ونبقى اللي وفرناه ضيعناه، هتديني المفاتيح ولا هتتلكك زي كل مرة؟.
ضيق جفونه عليها ثم أخرج المفاتيح يعطيها لها وهو يقول بتهكمٍ وسخريةٍ:
_ماهو أنا اللي جيبته لنفسي وعلمتك تسوقي، بس لو فاكرة إنك هتسوقيني أنا تبقي غلطانة، علشان أنا بمزاجي بس مش أكتر.
رفعت حاجبيها بسخريةٍ ثم أصدرت صوتًا من حلقها يدل على الاستنكار ثم اقتربت منه ولثمت وجنته بقوةٍ حتى توسعت عيناه ثم عادت تسأله بمزاحٍ وتحدٍ سافر من خضراوتيها له:
_وكدا برضه بمزاجك؟.
ضحك رغمًا عنه لها بينما هي لثمته مرة أخرى ثم خرجت خلف أمها بخطواتٍ سريعة، بينما هو فجلس فوق المقعد يرتاح قليلًا من عبء العمل وثقل الشغل المنكب عليه، وقد تذكر أن “مارينا” سافرت لمدينة الإسكندرية مع “يـوساب” لتقديم الخدمة بداخل الكنيسة ورعاية الناس هُناك، فتحرك من مكانه وولج يستحم حتى يُجدد طاقته للعمل من جديد..
ولج المرحاض بعدما حضر ثيابه وقد تركها في الغرفة بالخارج، أنهى وقته في تجديد طاقته وفي فك تشنجات عضلات جسده وقد خرج يلف خصره بمنشفة كبيرة، ولأن مزاجه له الطرق الخاصة في أي شيءٍ يوده، ولج المطبخ يقوم بتحضير قدح القهوة ثم قام بسكبه وخرج من المطبخ تزامنًا مع وصول “جابر” البيت وفي تلك اللحظة هدر “جـابر” بصوتٍ عالٍ:
_أنتَ يالا يخربيت أبوك وأمك؟ أنتَ هنا بتعمل إيه؟.
التفت له “بـيشوي” يُطالعه ببرودٍ ثم ارتشف من القدح في يده وقال بثباتٍ لم يتزعزع من الأساس بقدوم حماه للبيت:
_بشرب قهوة، أعملك معايا؟.
في لحظتها كان “جـابر” يتفحصه بعينيه وقد راقب جذعه العاري وتلك المنشفة المُلتفة فوق خصره ثم أشار بإصبعه وهو يقول بذات النبرة المُغتاظة العالية:
_وأنتَ بتشرب القهوة كدا يا بجح؟ بيت أبوك هو !!.
حينها تحرك له بثباتٍ وهدوءٍ ثم وقف أمامه وهو يقول بتأكيدٍ:
_لأ بيت مراتي وحماتي اللي الشقة دي باسمهم، بعدين ما أشربها زي ما أنا عاوز هو أنتَ هتتدخل أشربها إزاي؟ مش عاوز أفاجأك بس أنا هلبس وهحضر لنفسي لقمة، أحضرلك معايا ولا أنتَ مش مأمنلي؟.
كان يغيظه بتلك الطريقة التي جعلت “جابر” يضرب كلا كفيه ببعضهما ثم تحرك نحو الداخل يقصد غرفته بينما “بيشوي” فقام بتشغيل التلفاز ورفع صوته على أغنية قديمة لـ “أم كلثوم” وظل يردد معها بغنجٍ وبالٍ رائق:
_وبخاف عليك وبخاف تنساني..
والشوق إليك علطول صحاني..
في تلك اللحظة كان “جـابر” يشعر أنه هنا مجرد غريبٍ وهذا المُتحذلق الذي ولج بيته يتصرف كما يود ويرغب لذا جلس يتابعه وهو يتحرك في ملكه كما يرغب ويود ويشاء هو..
____________________________________
<“تلك هي الخطوات العرجاء التي أسير بها”>
أعلم أن حربي ثقيلة لكني لازلت أحارب..
أعلم أن خطواتي عرجاء لكنها ما أستطع أن أفعله وأسير به في طريقي، أعلم أن الطريق لم يسعني لكني أحاول كي لا أتركه، أفعل كل شيءٍ وأنا أعلم أنه لم يكفِ ولن يوفي المُجازفة حقها لكن المحاولة خيرًا لي من الإنسحاب الذي يُخفض لي جناحًا من الذُلِ…
كان يحاول مع نفسه بكل طاقته لكنه فشل، كلما حاول أن يأخذ الخطوة لتلك اللحظة يعود خائفًا وخائبًا وهو يجلس مهزومًا بسبب ذكريات مريرة لم تُبرح عقله كما برحت الأيام عُقندها، حاول وحاول وحاول حتى نجح أخيرًا واستطاع أن ينجح في أخذ تلك الخطوة ووصل لبيت “نَـعيم”..
وقف “سراج” بجوار زوجته التي دعمته وحثته كي يذهب ويطمئن على رفيقه كما فعلوا البقية وقد فعلها أخيرًا وذهب كي يراه، ولج البيت وتلقى الترحيبات من الجميع وقد لاحظ غياب “ضُـحى” وشقيقها لكنه لم يكترث إلا برؤية صديقه الذي كان يوليه ظهره في مقعده، حينها ناداه بصوتٍ مرتجف وذكريات تلك الليالي الظلماء تتكرر في الوجدان فتضرب كل شيءٍ في وجهها كي تُدمره:
_”إسماعيل”..
التفت له رفيقه ووقف أمامه وفي تلك اللحظة عادت صورة “سـراج” المكبل بركوعٍ وهو يتلقى الضربات تتراقص في ذاكرة “إســمـاعـيل” الذي انقبض قلبه وعادت بعض الهلاوس تمر في عقله، بينما “سـراج” فلم يختلف عنه كثيرًا، وإنما تذكره في أصعب حالاته، تذكره بصوته الغليظ الذي لم يتحمله بشرٌ، تذكره وهو يتحرك بطريقةٍ مُخيفة تشبه حركات الأشباح، تذكره بمُقلتيه السوداوتين الواسعتين بشكلٍ مُخيفٍ، تذكر كل شيءٍ كان متواجدًا حينها ورغمًا عنه تندى جبينه بخوفٍ وظل يتنفس بعنفٍ ملحوظٍ للعيانِ..
أدرك ذلك “مُـنذر” الذي علم حال “سـراج” فتدخل بذكاءٍ منه وهو يقول مشيرًا لـ “إسماعيل” بقوله:
_أكيد طبعًا أنتَ عارف إن “سـراج” كان موجود معاك ساعتها وللأسف هو لسه متأثر زيك وعقله رافض تجديدات كتيرة، أهمها إنه مبينامش بقاله ٣ شهور وأكتر كمان، سلم عليه علشان شكله لسه مش مدرك إنك قدامه وحقيقي لسه.
في تلك اللحظة خطى نحوه “إسماعيل” وهو يزدرد لُعابه وقد وقف أمامه وتذكر صرخاته عليه باسمه ولهفته عليه ومحاولاته للفكاك من بين أيديهم كي يغيثه، كان حينها يحترق واللهب يأكل في جسده وفي نفس التوقيت كان يخشى على رفيقه من الأمطار، بعض الذكريات المخلصة جسدت له الحقيقة وبناءً عليه ارتمى على رفيقه يضمه في عناقٍ قوي حتى ارتجف جسد “سراج” وهرع الدمع من عينيه وهو يُربت فوق جسد صاحبه وقال بصوتٍ مختنقٍ:
_حقك عليا أنا، كان نفسي ألحقك وأقدر أعمل علشانك أي حاجة بس أنا مقدرتش والله، متزعلش مني أنتَ كمان، المهم إنك رجعلتنا من تاني ونورت بيتك، طمني عليك؟.
تنهد “إسماعيل” بقوةٍ ثم عاد للخلف يطالع وجه رفيقه وقال بأسفٍ على حاله وحال ذاكرته المريضة:
_عارف، كان نفسي أنسى اللي حصل دا زي ما نسيت حاجات كتير وناس أكتر، بس أنا للأسف فاكر كل حاجة حصلت هناك وفاكر كل تفصيلة كأن عقلي واقف ضدي وبيحاربني، بس تعرف؟ أنا فرحان علشان مش ناسي أنتَ كنت هتموت نفسك عليا إزاي، كنت ناصفني قدام نفسي هناك وهنا.
لمعت عينا “سراج” بوميضٍ اختلط بالدمعِ وقد حرك رأسه نحو “إيـهاب” يناظره بنظرة جامدة مفداها كان متواريًا بمعنى “أرأيت؟” وفي وقتها رد عليه “إيـهاب” يختلق جوًا من المزاحِ:
_لأ وحياة أهلك أنا مش ناقص، رضيتك وخلصنا اتلقح على جنب هنا وريح شوية، مش طلباك هي علشان تقرفني.
ضحك البقية عليهما وقد عاد “سراج” يحتضن رفيقه بقوةٍ يخبره عن مدى شوقه واحتياجه له، وقد جلسوا بجوار “يـوسف” الذي كان في أسوأ لحظاته وبكل آسفٍ، هوة مرضه الساحقة كانت تبتلعه وهو يسقط في جوفها منذ ما يقارب العشر أيام، كثرة الضغوطات التي واجهته جعلته يُهمل تعليمات “جـواد” والعلاج النفسي ولم تلاحظ ذلك إلا “عـهد” التي كانت تحاول بقدر المستطاع أن تكون بجوارهِ..
بينما “آيـات” فكانت تجلس بصمتٍ حتى وجدت “تَـيام” يقف بجوار والده الذي ظهرت فوق ملامحه السعادة بسبب عودة حبيبه وحينها لم يبخل عليه بفرحةٍ أخرى، لذا قال يوجه حديثه للجميع بفرحةٍ حاول أن يحتويها:
_طب بما إن الحمدلله البيت رجع ونور تاني برجوع “إسماعيل” اللي كنت شايل خاطره والراجل كتر خيره برضه طلع شايلني هو كمان، بس من ذاكرته الله يكرمه بكل خير يا رب..
في تلك اللحظة وبسبب فكاهته ضحك عليه الجالسون بينما هو فقام بتكملة حديثه بحماسٍ أكبر من السابق قبل أن يعلن فرحته:
_”آيـات” مراتي حامل في الشهر الرابع، وأنا عارف من البداية بس للأسف الظرف اللي حصل خلاني مقدرتش أقول تقديرًا للموقف ولأن الوقت مكانش مناسب أبدًا أني أفرح واللي أعتبرته زي أخويا زعلان ومش قادر يفرح، بس النهاردة قولت أخلي الفرحة فرحتين.
حينها حقًا اهتزت أرجاء البيت فرحًا بحديث “تَـيام” الذي ولج في عناق “مُـحي” بنفس اللحظة وشقيقه يضمه ويربت فوق ظهره بقوةٍ، بينما “نَـعيم” ففرغ فاهه وهو يطالع وجه “آيـات” التي ضحكت بخجلٍ وقد تحرك هو نحو ابنه وضمه ولثم جبينه ثم عاود ضمه من جديد وهتف بتضرعٍ:
_اللهم لك الحمد يا رب، ربنا يبارك فيكم ويحفظكم ويفرح قلبي بيكم كلكم، الحمدلله يا رب.
في هاته اللحظة شعر “إسماعيل” بغربةٍ غير مُبررة، كان يشعر أن إطار تلك الصورة لم يكن له، وجد شقيقه يحمل ابنته ويجلس بجوار زوجته، والبقية يجلسون كلًا منهم مع رفيقه، بينما هو فكان بينهم يبحث بعينيه عن شخصٍ غير متواجدٍ لكنه عاد يُفكر لما يبحث من الأساس عن شخصٍ لا يعرفه..
أو لما يبحث بعينيه عنها هي التي ظهرت فجأةً واختفت بنفس الطريقة..
____________________________________
<“قد يكون ذنبي الوحيد أنني ابنٌ له”>
بعض الخطايا لم نقترفها نحن
وإنما يقترفها البعض في حقوقنا؛
فنحاسب على تلك الذنوب من أهل الذنب نفسه، والأصعب في مضمون الأمر أن تلك الخطايا نحن المُطالبين بالتكفير عنها، وقد يكون ذنبك الوحيد في تلك الحياة هو من شكل لك النهاية..
خرج من الوكالة وقصد بيت “حـنين” كي يتفق مع والدها علنًا وقد اتخذ من هذا السبب حُجة قوية للذهاب بينما سرًا كان يذهب كي يراها، أراد أن يودعها قبل سفره فجرًا وأفضل طريقة كي يفعلها هو أن يذهب في حضور أبيها وأخيها كي لا يؤخذ عليه هذا الفعل..
أخذ لها الحلوى الشرقية المفضلة لديها وتوجه لهناك كي يزورهم ويراها، وقد جلس في تلك الشقة المتوسطة كحال أصحابها وبالرغم من ذلك لم تخلْ من لمحة الحداثة في بعض الأجهزة وبعض الأثاث الحديث، تلك هي مرته الثانية التي يأتي فيها هنا كي يتحدث مع والدها، وقد جلس معه “عـاشور” الذي رحب به وأخبره عن ترحيبه به زوجًا لابنته وأن يكون هو عوضًا لها..
أتت “حنين” تجلس بجوار والدها وقد حركت عينيه نحوه تبتسم له بخفةٍ كأنها تُحييه، بينما هو فأمام تلك الطلة التي تأتي إليه بها فهو يقف أمامها مشدوهًا، كانت كما المياه الطاهرة التي تُنقي الثوب من كل دنسٍ يلتصق به، هي تحديدًا تقوم بمحو كل خطاياه وأثامه من قلبه، حبها الطاهر يُجلي قلبه من ذاك الحب الذي كان يعيش فيه، تمامًا كما اللون الأبيض حينما يكون برفقة اللون الأسود فيتضح الفرق بين كليهما..
دارت عدة أحاديث بينه وبين والدها ثم تركهما وجلس على مقربةٍ منهما فحمحم هو بقوةٍ ثم تنفس بقوةٍ وقالت بعدها يوجه الحديث لها:
_أنا مسافر الفجر إن شاء الله وهرجع الشغل تاني، الحمدلله بقيت كويس وهقدر أرجع للحاجة اللي بحبها، إن شاء الله أول ما أرجع ناوي آخد الخطوة بجدية أكبر من كدا، هنتجوز علطول وهنكون مع بعض، صدقيني والله أنا بحاول علشانك أنتِ، عاوز أكون معاكِ وأنا شخص يستاهلك، وأتمنى الغياب ميطولش بينا يعني.
ابتسمت هي له ورفرفت بأهدابها كثيرًا، ولأجل حبه للتفاصيل فتلك هي حركته المفضلة منها، يعشق حركة أهدابها عندما تخجل أمامه، ويحب حبات النمش المتفرقة أسفل عينيها كأنها النجوم أسفل سماء عينيها البُنية بخيوطٍ عسلية كأن الشمس تغرب دومًا وتترك الأثر في مُقلتيها..
خرج من شروده بها على صوتها وهي تحدثه بنبرةٍ خافتة:
_تروح وترجع بألف سلامة يا رب، طالما خير ليك يبقى خلاص خد الخطوة وربك يكرمك، بس أهم حاجة تخلي بالك من نفسك، بيقولوا البحر غدار وملهوش أمان.
ابتسم هو لها ثم عاد يخبرها بصوتٍ مليءٍ بالشجن يُشير إليها هي حينما سحبته لعمق بحرها كما الدوامة التي تستقر خلف حركة الأمواج ومع أقل صدمة مرتدة من الجسد تسحب ضحيتها:
_البحر غدار آه، بس ساعات بيكون هو الأمان نفسه.
لمحت هي تلميحه لها في الحديث من نظرته وطريقته فهربت بعينيها بعيدًا عنه كي لا تقع في هذا البئر العميق، كانت ترى قلبها يسكن خلف قضبانٍ تحبسه وتمنع عنه حُريته، وقد عاد ينازع لأجل حريته بظهور هذا الرجل النادر في مرمى حياتها، بينما هو فكان يعلم أن الحياة بناسها إذا تغاضوا له عن أثامه سيكون حبها أول العطايا بعد هذه التوبة، لذا كان يتمسك ويستمسك بالعروةِ الوثقىٰ معها في عهده..
طال الصمت للحظاتٍ وقد قررت هي قطعه بقولها مُستفسرةً:
_هو صحيح أنتَ هتسافر فين إن شاء الله؟.
عاد لها ينجذب بانتاهه لحديثها ويجاوب بقول:
_إيطاليا إن شاء الله، وهقعد غالبًا شهر وممكن أكتر بس حاجات بسيطة مش كتير يعني، خلال الفترة دي جهزي نفسك وأنا اتفقت مع خالي “عبدالقادر” لو عاوزين أي حاجة هو معاكم واللي يرضيكم هيعمله واللي تعوزيه هيكون موجود عندك، متتكسفيش تطلبي حاجة منهم، المهم تكوني مبسوطة.
ابتسمت له ورأت في عينيه شيئًا من وداعٍ غير مرغوبٍ، لكنها لم تخبره عن مشاعرها تلك، تعلم هي أن الوداع الغير مقصود يؤلم أكثر من ذاك الذي يقصده المرء طواعيةً منه، وقبل أن يودعها حقًا ويقصد التحرك أوقفته حينما قالت بلهفةٍ:
_والدتك هتكون في عيني متقلقش عليها، هتطمن عليها وأفضل معاها كمان لحد ما أنتَ ترجع تاني، أتطمن مش هسيبها لوحدها يا “نـادر” وأكيد مش هخليها تحتاج أي حاجة في غيابك.
كانت تقطع له وعدًا ويعلم هو أنها صادقة فيه، لذا ودعها ببسمة صافية ونظرة تقطع وتزبد في الحديث بالكثير من الوعود والعهود ثم تحرك وترك المكان، وقد ترك الشقة بعدما ودع والدها وكل عائلتها وقام بتوصية شقيقها عليها وعلى أسرته والآخر أخبره عن تحمله لتلك المسؤولية..
خرج من البناية ثم هاتف صاحبه “عُـدي” الذي أخبره عن عودته إليه خلال دقائق وقد تقابلا سويًا في المقهىٰ التي اعتادا الجلوس فيها مع بعضهما، وقد عاتبه “عُـدي” بقوله:
_ما تخليك هنا يا “نـادر” وتكمل مع الحج في الوكالة، مش قولت إن شغلك معاهم مريحك ومديك وضعك كأنه ملكك؟ ليه تروح يابن الناس مكان تاني وتبعد عن عيلتك وأهلك واللي بيحبوك حتى البنت اللي بتحبها كمان؟ هو أنا ناقص غُلب؟.
ربت “نـادر” فوق ركبته ثم قال بأسفٍ:
_صدقني والله دا أسلم وأنسب حل، بعدين أنا راجع شغلي اللي بحبه بشهادتي وتعبي وكان في وقت من الأوقات هو الأمان ليا، عاوز أروح علشان أرجع اللي راح مني بس المرة دي بشكل تاني.
ضيق “عُـدي” جفنيه فوق ملامح رفيقه ثم قال بنبرةٍ جامدة:
_ولا !! أنتَ سفرك دا وراه إيه غير حوار رجوعك للشغل دا؟ أكيد فيه حوار تاني أنا مش مرتاحله وأنتَ مخبيه وباين عليك، قولي وأوعدك مش هقول لحد، بس لعلمك لو كدبت على أمك “فاتن” نفسها مش هتكدب عليا أنا علشان حافظك، مسافر فين وليه؟.
تنهد “نـادر” بقوةٍ ثم مسح وجهه بكلا كفيه وقال بيأسٍ من محاولات الهرب من رفيقه:
_مسافر هناك لأبويا يا “عُـدي”.
في تلك اللحظة فرغ فاه “عُـدي” وتوسعت عيناه إثر حديث رفيقه حتى أنه لم يجد من الحديث ما يرد به، بينما “نـادر” أضاف مُسرعًا في الحديث:
_مش رايح علشانه هو، بس رايح أجيبه وأحاول أرجعه وأرجع الحقوق اللي خدها تاني، أبويا داس على الناس بالجامد أوي، وغيابه أكيد وراه مصيبة سودا، هروح يمكن ألحقه قبل ما يعمل أي مصيبة تانية، يمكن يسكت شوية ويبطل ظلم وجبروت.
كان يتحدث بأملٍ وهو يعلم أن هذا الأمل ربما يكون كاذبًا، بينما “عُـدي” فتقدم بجسده للأمام وقال بحدةٍ مقصودة منه لرفيقه:
_أنتَ عبيط ولا مخك فيه حاجة؟ أبوك اللي الظلم ملاه وخلاه يدوس على الناس ويخطف أطفال وشباب ويظلم وياكل مال اليتيم لما أنتَ تروحله قلبه هيرق يعني؟ بطل هبل وشعارات فارغة بقى، كلامك دا معناه إنك هتضر نفسك بس، أبوك مش بعيد يضرك أنتَ لو لقاك بتدوس على مصلحته، اللي خلاه بقاله ٤ شهور سايبك ومش سائل في حد لما يشوفك هناك هياخدك في حضنه؟ بطل هيافة بقى.
ساور الضيق “نـادر” لذا حاول يتحدث فقال بضجرٍ:
_أفهمني بقى، هروح علشان على الأقل أعرف هو ناوي على إيه، حتى لو اضطريت أفهمه إني هفضل معاه، بس لازم أعمل أي حاجة، لو كان ذنبي الوحيد في الدنيا دي إني ابن “سـامي” فأنا هعمل أي حاجة تخليني أكفر عن الذنب دا، مش عاوز أفضل عمري كله بتحاسب علشان أنا ابنه وبس.
_كلامك دا معناه إنك رايح وشايل روحك على كفك؟.
باغته الرفيق بهذا السؤال كي يوسع له فجوة التفكير الذي لم يأخذ حيزه في عقله، وحينها ورغم قسوة السؤال إلا أن الجواب كان حاضرًا بقوله:
_آه يا “عُـدي” رايح وشايل روحي على كفي ومش فارقة معايا، بس عندي أمل أني أعمل أي حاجة وأرجع تاني، أكيد مش هيأذيني دا أبويا يعني، يمكن أكون أنا آخر سبب في الدنيا دي يخليه يحس إنه إنسان، زي ما أنتَ كنت آخر سبب يخليني أرجع تاني أحب الدنيا، تعرف؟ وجودك هون عليا كتير أوي من ساعة ما شوفتك، أنا ماكنتش أعرف يعني إيه صحاب، بس عرفت الكلمة دي لما لقيتك يا “عُـدي” ورجعت أخويا من تاني..
ضحك له “عُـدي” ثم ربت فوق ظهره وقال بصدقٍ بعدما ابتسم له:
_تصدق بقى إن آخر حاجة كنت أتوقعها هي إنك ترجع حياتي تاني وأحبك واعتبرك أخويا؟ دا أنا من يوم ما رجعت أكلمك تاني مفيش يوم فات عليا من غيرك، ولو على حتة إنك ابن “سامي” دي فأنا متشرف بيك حتى لو كنت ابن كلب، أصل الكلب أحسن من أبوك بصراحة.
ضحك “نـادر” رغمًا عنه وكذلك ضحك له “عُـدي” ثم سأله بحزنٍ حقيقي أفصح عنه حينما استشعر ثقل الأيام القادمة عليه:
_هعمل إيه من غيرك لما تسافر؟ اتعودت أشاركك كل حاجة.
في تلك اللحظة ملمح الحزن ظهر فوق وجه الإثنين فقال الآخر يجاوبه بقلة حيلة:
_كلمني، وقت ما تحتاج إنك تكلمني كلمني هتلاقيني.
أنهى حديثه ثم أخرج حافظة نقوده وقال مُختلقًا جوًا من السعادة كما سعادة الصبي الصغير بوصوله لمركزٍ أولٍ في منافسةٍ حادة:
_بص؟ دي صورة لقيتها لينا وإحنا صغيرين، ودي صورة لينا وإحنا في فرح “يـوسف” نفس الصورة تقريبًا رغم إن العمر اللي فات علينا كان كتير أوي، طبعتهم وحطيتهم في المحفظة، وطبعت ليك زيهم، خليها معاك بقى.
أخذها منه “عُـدي” يرى العمر متجليًا في صورتين، واحدة في الماضي البعيد والأخرى من الماضي القريب وذكرى العام مدونة فوق كلتا الصورتين، وقد أدار “عُـدي” الصورة فوجد بها:
_الدنيا بحرها عالي ومالوش ضمان،
بس كفاية في وجودك السكة بقت أمان..
ضحك له ثم ضمه لعناقه وقال بحبٍ بالغٍ وصدقٍ لمشاعره:
_تروح وتيجي بألف سلامة، بس لو أبوك هيأذيك أبعد عنه وأرجع هنا تاني، وصدقني سرك في بير محدش هيعرفه، بس بلاش غشامة وغباء من غير سبب وتفسير، أبوك مش مضمون، واللي يخليه يأذي كل دول مش هيخاف يأذي ابنه علشان يوصل للي هو عاوزه، صح ولا أنا غلط؟
ابتعد عنه رفيقه ثم أطاح برأسه بمعنى أنه لا يكترث..
لكن في الحقيقة القلب يعلم ويخاف ويكترث بكل شيءٍ، لكن تلك المحاولة الأخيرة التي يتوجب عليك أخذها _برغم استحالة حدوث النتائج المُرادة_ تكون دومًا هي الأصعب والأثقل في كل شيءٍ، وهذه المحاولة منه فقط لأجل اخبار نفسه أنه حاول بقدر المستطاع منه..
____________________________________
<“ياليتني ما كنت أتيت لذاك الطريق ذات يومٍ”>
غريبٌ هو أمر الإنسان حينما يذهب لطريقٍ ما بكل طاقته وشغفه مُحلقًا كما الطير ثم يعود منه خاوي الوفاض، خائب الرجا، محترق القلب، مبتور الأجنحةِ، ثم يعود ويتساءل هل هذه هي ل
الأشياء بذاتها التي كان القلب يحترق لأجلها شوقًا وشغفًا والآن أصبح يستسقل حتى مجرد ذكرى مرورها عليه؟…
كانت في سيارة “أيـوب” بجوار “قـمر” تضع رأسها فوق النافذة بخيبة أملٍ منه، لم تصدق أن الفرحة التي ذهبت إليه بها انتهت بهذا الكم من خيبات الأمل والقهر، هل يمكن أن ينسى حتى مرور طيفها على عقله؟ كانت تشعر بالسكين مغروسًا في قلبها وكلما كرر سمعها عليها سؤاله عاد القلب يدمىٰ من جديد..
وصل “أيـوب” وأوقف السيارة أخيرًا أمام البناية حتى انتبهت هي فعدلت رأسها ثم مسحت وجهها بكفها وأخفت عبراتها المُنسابة ثم خرجت من السيارة معهما وقد وصل في تلك اللحظة “عُـدي” ووقف بجوارهم حتى قال بتعجبٍ:
_هو أنتوا لسه راجعين من ساعة ما خرجنا من هناك؟.
أومأ له “أيـوب” ثم قال مفسرًا:
_قولت أساهم وخدتهم أعزمهم لقيتهم مكشرين أكتر، بس ميأستش، جيبت ليهم عصير كوكتيل برضه محدش فيهم فك شوية، جيبتهم وجيت بصراحة، هعمل إيه تاني طيب؟.
كانت “ضُـحى” تقف بصمتٍ ثم انتبهت لنظراتهم نحوها فكرهت ضعفها والإهتمام بجرحها لذا تهربت منهم بقولها:
_أنا هطلع أنام علشان الشغل بكرة، عن إذنكم.
طالعوها بحزنٍ بينما هي ولجت عند مقدمة البناية ثم تذكرت قسوة ليلها عليها واحتياجه المفرط للانهيار لذا عادت لـ “قـمر” تستفسر منها بقولها المختنق:
_”قـمر” هو أنتِ هتروحي شقتك؟.
طالعتها “قـمر” بعينين دامعتين وقبل أن تجاوبها تدخل “أيـوب” يجاوب بدلًا عنها بقوله:
_لأ متقلقيش هي هتبات معاكِ هنا فوق، اسبقيها أنتِ وهي هتحصلك حالًا، ولو تحبي تروحي تباتي معاها في الشقة هناك وتسهروا هناك براحتك البيت كله تحت أمركم، اللي تحبيه أعمليه.
أغصبت شفتيها على بسمةٍ ثم قالت بامتنانٍ له:
_شكرًا يا “أيـوب” وكتر خيرك متحملني ومتحمل غيابها عنك، بس دا غصب عني والله، مش بأيدي بس أنا ماليش غيرها هي و “عـهد” يكونوا معايا.
أومأ لها موافقًا ثم ابتسم بخفةٍ وهو يعود بعينيه لزوجته يشير لها بالتحرك فوجد “ضُـحى” تقف عند نقطةٍ ما بعينيها وكأنها في عالمٍ آخرٍ وحينها سألها بتعجبٍ:
_”ضُـحى” أنتِ كويسة؟.
انتبهت له وحينها حركت رأسها نفيًا وهي تخبره بخيبة أملٍ:
_يدوب بس جوزي مش فاكرني والمفروض أبدأ معاه من جديد متخيل قسوة الوضع والمشاعر اللي أنا فيهم؟.
تهدج صوتها وهي تخبره ثم تركته وتحركت نحو الأعلى وقد لحقها “عُـدي” الذي هرول خلفها بعدما تفاقمت أحزانه، بينما “أيـوب” فركز بعينيه على زوجته التي لمعت العبرات في عينيها وقالت بحزنٍ:
_مش قادرة أهون عليها المرة دي، كانت حاطة أمل كبير في الحياة أنه يخف ويفتكر كل حاجة بس اللي حصل كسر بخاطرها ودا حقها، أعمل إيه علشانها يخليها تخرج من اللي هي فيه دا؟.
هي تسأله تود منه هو الجواب وهو في تلك اللحظة لم يجد جوابًا محددًا، مصابها كبيرٌ وقلبها في حالٍ مؤلمٍ، لكن إيمانه قوي، لذا أشار لزوجته وأرشدها بقوله:
_تخليكِ معاها وتشدي إيديها من اللي هي فيه، متلوميش ومتزعليش ومتقطميش فيها، خليكِ معاها واسمعيها وأعرفي هي مالها، سيبيها تتكلم وتخرج اللي جواها كله، اقرأي ليها قرآن وخليها تصلي وأفضلي قويها واحكي ليها قصص الأنبياء علشان تعرف إن ربنا خلقنا في الدنيا متاعب وخلقنا كادحين فيها، لا مال ولا جاه ولا فلوس هينفعونا، خليكِ معاها يا “قـمر”.
كانت نعلم أنه يحتاجها هي الأخرى معه، رأتها في عينيه أنه أصبح يشتاق لتواجدها معه في معظم تفاصيل يومه، لكن الوضع الذي فرق بينهما جعلها يدرك أن شوقه لها فاق كل الحدود، حتى وهي تقف أمامه في تلك اللحظة وتستعد كي تودعه، كان يود أن يتحرك معها للأعلى ويظل مستأنسًا في حضرتها..
بينما في الأعلى صعدت هي وتوجهت لغرفة أختها فوجدتها تجلس باكيةً وهي تكوب وجهها الباكي وقد تحركت نحوها فهمت هي منتفضة ثم قالت بصوتٍ باكٍ:
_هو لو مش فاكرني دا معناه إنه خلاص ناسيني؟.
استقامت لها “قـمر” وطالعتها بحزنٍ فسألتها من جديد بانكارٍ:
_طب ممكن مثلًا يرجع يفتكرني ولا خلاص مبقاش فيه أمل؟ هو مش ممكن يكون مثلًا بياخد وقته؟ مش الكلام دا كان في الأفلام طيب؟ مش كنا بتفضل نتريق عليهم في التليفزيون ونقول إن دا هبل؟ ليه يوجعني كدا وأنا موجوعة علشانه هو؟.
ضمتها “قـمر” بذراعيها وهي تتوسلها باكيةً:
_خلاص بقى علشان خاطري كفاية، كفاية بالله عليكِ.
دفعتها “ضُـحى” وهي تقول بصوتٍ أقرب للصراخ الممتزج بالقهر:
_كفاية إيه يا “قـمر” بالظبط؟ مين اللي كفاية؟ أنا؟ دا بيقولي أنتِ مين، راجع مش عارف حتى أنا مين، راجع ناسيني وناسي أيامي، دا افتكر حصانه وخده في حضنه وأنا عداني زي ما يكون هوا جنبه…
أوقفت حديثها ثم تحركت نحو فستانها ثم رمته بالأرض وهي تقول بصوتٍ عالٍ وكأن ألم الشهور الفائتة بأكملها ظهر في تلك اللحظة كي تنهار بتلك الطريقة:
_حتى دا مالهوش لازمة، هعمل بيه إيه وهو ناسيني؟ هعمل إيه وهو حتى مش فاكرني؟ ملهوش لازمة خلاص، مش فاكرني يا “قـمر” وبيقولي أنتِ مين، بعد كل دا بيقولي أنتِ مين..
سقطت بتعبٍ فوق الأرضية وقد ركضت نحوها “قـمر” ثم ضمتها من الخلف وظلت تمسح فوق قلبها، بينما “غالية” فولجت لهما ثم ضمتهما لعناقها وهي تشارك ابنتيها البكاء الذي أخذ يزداد فقالت “ضُـحى” بوجعٍ وألمٍ لم تقدر على كبح جماحهما:
_ناسيني يا عمتو، ناسي حتى أنا مين.
_حق قليك على قلبي يا روح عمتو، حقك عليا أنا.
هكذا حدثتها “غالية” وهي تضمها لصدرها بينما “أسماء” وقفا على أعتاب الغرفة بقهرٍ على ابنتها ولم تملك شجاعة المواجهة حتى وجدت “يـوسف” يدخل الشقة فركضت عليه ترتمي بين ذراعيه وحينها ضمها هو له ثم قال بثباتٍ:
_حقكم عليا أنا، حقك وحقها وحقه عليا أنا، علشان خاطري بلاش أشوفك أنتِ بالذات كدا، أنتِ اللي بتخليني أقوم من تاني أعاند الدنيا، هقوم إزاي وأنتِ كدا طيب؟.
حركت رأسها نفيًا ببكاءٍ بينما “عـهد” فأتت لهما ثم وقفت بجوارهما لثوانٍ وعادت تدخل غرفة “ضُـحى” وقد جلست على رُكبتيها أمامها ومسحت فوق وجهها وهي تقول بصوتٍ مختنقٍ:
_حقك تعملي أكتر من كدا وحقك تزعلي، ومش من حق حد فينا يلومك ويعاتبك، بس صدقيني لازم تحاولي ترجعيه من تاني ليكِ، هو مش هيفضل كتير ناسيكِ، زي ما خطفتيه أول مرة وخليتيه يكون معاكِ، تقدري تخطفيه من تاني وترجعيه لحياتك.
طالعتها “ضُـحى” بعينين حزينتين ثم عادت تستقر برأسها فوق صدر عمتها بينما “عـهد” فمسحت فوق رأسها ثم تركتها تفعل ما يخرج طاقتها السلبية منها، لعلها تفيق مما هي فيه وتعود لتلك الحرة المرحة التي تعاند الحياة رغم كل شيءٍ..
فالعودة وإن طالت؛ تظل قادمة..
والحياة وإن استحالت تظل قائمة..
____________________________________
<“هي حقيقة ويجب لها أن تُكتَشف فقط”>
تلك الصغائر التي نكتمها في سريرتنا لن تبقى مخبوءة..
فلابد من كشفٍ لتلك الحقائق وسطوع شمس الحقائق الغاربة، لابد من شروقٍ يظهر من جديد ويلمع في سماءٍ حُرة بغير أي قيودٍ، تلك الحقائق لابد لها أن تظهر ويجب أن تُكتَشف..
في مكانٍ ما ببيت “نَـعيم” كان “مُـنذر” يجلس وهو ينهي بعض الأعمال المتعلقة بالمشفى ومنها حالة “إسماعيل” لاستكمال خطة العلاج الخاصة به، وقد صدح صوت هاتفه برسالةٍ من تلك المرحة أو النقطة البيضاء في حياته وحينها فتح الرسالة فوجدها أرسلت له أغنية تمازحه بها:
_حبك سفاح، مجرم وماسكلي سلاح
حبك مانجا وتفاح، حبك مانجا وتفاح،
قلبي مكانش متاح، خزنة وملهاش مفتاح
خزنة وملهاش مفتاح..
رغمًا عنه ابتسم وترك الهاتف من يده ثم ضرب كلا كفيه ببعضهما وهو يعلم أنها تحاول إخراجه من حالته بسبب غياب “چـودي” عنه وبسبب حالة رفيقه بينما هي تابعت رسالتها بأخرى تخبره فيها بمرحٍ:
_مش هتعلمني بقى إزاي أمسك سلاح؟ صدقني هطيرك.
قبل أن يرد عليها وجدها تتابع ذلك برسالة صوتية مقصدها:
_أقولك بلاش أحسن أنشل عليك وأطير راسك بجد، تصدق يا جدع أنتَ أنا مش قادرة أصدق إني بهون على جوزي علشان حبيبته غايبة عنه، حساني مُهزأة في العلاقة دي بصراحة.
رغمًا عنه ضحك وكاد أن يرد عليها وفي تلك اللحظة صدح صوت الهاتف بمكالمةٍ فيديو عبر الفيسبوك من حسابٍ يحمل اسم إمرأة جعله يضيق جفونه ثم تجاهل المكالمة أول مرةٍ، لكن مع التكرار جاوب أخيرًا على الإتصال بغير اكتراثٍ لكن سرعان ما توسعت عيناه حينما وجد “چـودي” تظهر أمامه في الشاشة..
حينها انتفض من موضعه ووقف يسألها بلهفةٍ واستنكارٍ:
_أنتِ فين يا “چـودي” وبتكلميني منين كدا؟.
لمعت العبرات في عينيها وهي تجاوبه بحزنٍ ووجعٍ:
_دا موبايل طنط مرات عمو، بس أنا خدته من وراها علشان أكلمك، أنا هنا مش معايا أي حاجة خالص، بس علشان خاطري مش هتيجي تاخدني؟ “سـراج” مش هييجي طيب؟.
لمعت عيناه بحزنٍ لأجلها وثبت مُقلتيه على الشاشة وقد تهدج صوته وهو يسألها بصوتٍ أعرب عن حال قلبه:
_هنيجي، والله هنيجي علشانك بس نعرف أنتِ فين بس، المهم أنتِ كويسة عندك؟ فيه حد مزعلك ولا حاجة مضيقاكِ؟.
سأل بخوفٍ ليأتيه الجواب بالدمعِ والقهرِ منها:
_كلهم هنا مزعلني وأنا لوحدي معاهم، عمو بس اللي بيفضل يتكلم معايا، عياله بيفضلوا يرخموا عليا وياخدوا مني كل حاجة، وطنط أصلًا مش بترضى تكلمني خالص وعلطول بتتعصب عليا، أنا زعلانة علشان مش معايا حد أو معايا حاجة، تعالى علشان خاطري بقى، قول لـ “إيـهاب” خليه ييجي ياخدني، “أحمد” بيخاف منه أوي، لو جه ياخدني مش هفضل زعلانة منه والله..
توسعت عيناه حد الجحوظ وتعجب كيف لطفلة صغيرة أن تجمع هذا الخوف بداخل قلبها؟ كيف تُلمح بعينيها عن قهرٍ تعيش فيه بعيدًا عن موطنها؟ أغمض جفونه يوقف عبراته ثم أقسم لها بقوله:
_أقسم بالله هاجيلك، هرجعك لينا تاني وتكوني معانا كلنا، مش عاوزك تخافي، بكرة ترجعي تاني وسطنا ومش هتسيبينا تاني، بس أوعديني تقوني قوية وشاطرة ومتخافيش من حد عندك، هجيبك تاني حتى لو التمن المرة دي روحي كلها علشانك..
انتظر منها الرد وهي تبتسم له لكن تلك المرة بأن عليها الهلع وهي تركض داخل الغرفة ثم أغلقت المكالمة في وجهه وقد ظل يُردد اسمها بلهفةٍ قلقة وقد حاول أن يتصل بها لكنه وجد المحادثة غير متصلة، فعلم أنها رأت أحد أفراد البيت لذا ركض كي يخبر “إيـهاب” بما حدث..
في الخارج جلس “إسماعيل” وحده أمام موقد النيران وترك الشرود يحتله ويقتله، لحظة مريرة مرت عليه زحفت خلالها الذكريات لرأسه وكلما حاول الهرب يجد نفسه في مواجهةٍ أصعب، لكن الأمر المُبهم لديه هو نظرة عينيها له، قلبه يحدثه أنها له، شيئٌ ما كان ينبهه أن تلك المُقل لم تكن بغريبةٍ عنه، كل شيءٍ يجره نحوها لذا تحرك نحو خيله كي يجلس بجواره وقد لمح بعينيه الحوار المدون منه على الحائط:
“أنتِ لستِ الوحيدة التي خلقها الإله في
الدنيا، لكنك أنتِ الوحيدة التي خلقها الإله في قلبي”
“الملك إخناتون مخاطبًا زوجته نفرتيتي
إسماعيل الموجي مُحدثًا زوجته ضُحى”…
رفرف بأهدابه ثم جلس على عاقبيه يمسح الحائط كأنه يرى تلك الهلاوس كما اعتاد الشهور الماضية لكنها كانت حقيقة لن تختبيء خلف غمامٍ تُغطي شمس الحق، عاد للخلف وفرغ فاهه وهو يردد الحديث مستنكرًا له وأول ما بدر لذهنه كان الركض نحو شقة شقيقه وقد ولج البيت وركض الدرج ثم ضرب فوق الباب حتى فتحه له “إيـهاب” يسأله بلهفةٍ عليه:
_أنتَ كويس يا حبيبي؟ عاوز حاجة؟ تعبان؟.
قاطعه بزعقة عالية بسبب تدهور حالته وألم رأسه من ضجيج الفكر:
_مـش وقـته، هو مين اللي كاتب الكلام اللي جنب باب الخيل دا؟ دا خطي أنا؟ أنا كاتب كدا ليه؟ ومين دي اللي مراتي يا “إيـهاب”؟ رد عليا هي مين دي اللي مراتي؟ وأنا إيه علاقتي بيها علشان أتوه قدامها كدا؟.
أتت “سمارة” تقف بجوار زوجها وهي تحمل ابنتها وحينها أشفقت عليه كثيرًا وعلى زوجته بينما هو صرخ بصوتٍ هادرٍ:
_ما تردوا !! هي دي مين وإيه علاقتي بيها؟.
حينها قاطعه “إيـهاب” بصوتٍ عالٍ وقد طفح كيله للأسف:
_مراتك، علاقتك بيها إنها مراتك وفرحك عليها كان المفروض من أربع شهور فاتوا، بس جت الدنيا لطشت فيكم بالقلم وآخرها النهاردة وأنتَ واقف قدامها تسألها أنتِ مين يا “إسماعيل”..
ولأن صدى الحقيقة عاليًا كما ضربة السيف..
تجمد “إسماعيل” بموضعه وشلت حركته وقد زاغ ببصره بعيدًا وهز يتذكر نظرتها له حينما لامته وعاتبته بعينيها بحديثٍ لم يفهمه، لكن صدق من قال أن في حالة العجز عن الكلام، تكون العيون نواطق..


تعليقات