رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثامن عشر 18 بقلم فاطيما يوسف

 


رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثامن عشر  بقلم فاطيما يوسف


كانت العيون تتلاقى بينهما كشرر الحديد حين يُطرق في أتون النار، كلّ نظرة منهما تصفع الأخرى بوميضٍ متحدٍّ لا يلين،

بدت لهما الساحة من حولهما كأنها ساحة حربٍ صامتة، تتأهب فيها الأرواح أكثر من الأجساد

شفتاهما ترتجفان بانتظار لحظة الانقضاض، وكأن الهواء بينهما سيفٌ مشحوذ على وتر الترقّب، تجلّت في وجهيهما عزيمةُ الصيادين، كلٌّ منهما تُخفي بين أضلعها عاصفةً تنتظر إشارة الانفـ.ـجار،

وفي ذلك الصمت المكهرب، كانت الهيبة تسري كالبرق، تُحيل المسافة بينهما إلى ميدان نزالٍ لم يُحسم بعد لتنطق تلك الأخرى بقوة وعيناي كالصقر :


ـ هدي خلقك يا "ديفا" نحن مش أعداء بنوب،نحن لازم نكون يد واحدة لمصلحة "فيروز" ، ليه عايزه تقلبيها حرب وضـ.ــرب كعادتك الشرسة؟ عايزاكي تستخدمي عقلك وبلاش نقضيها تحدي وعناد علشان خاطر نفسية البنوتة ما تتأثرش، والمنظر ده لا هيليق بيا ولا هيليق بمكانتك ولا هيليق بإني ضيفة عندكم، ومعروف عن الستات المصرية الكرم والجدعنة واستقبال الضيف، فليه تديني فكرة وحشة عنهم لأني ما ينفعش أسيبها في الوقت ده بعد ما اتعلقت بيا، ولا ينفع أسيبها لك وانتِ لسه ما استقرتيش في شغلك، أنا جاية هنا لأجل "فيروز" وبس، بلاش شغل الغيرة اللي ما لهوش لازمة ده .


ما زالت "رحمة" ثابتةً على رأيها؛ فهي لا تطيق "كارما"، ولا تحتمل وجودها، ولا ترغب حتى في سماع صوتها منذ البداية، كانت تعـ.ــضّ على أسنانها بغضبٍ كالجمر المشتعل، تدور حولها كما يدور الصقر حول فريسته، وعيناها تفحصان هيئتها من أعلى إلى أسفل بحدّةٍ واستخفاف، ثمّ انطلقت كلماتها مغموسةً بالتهكّم، حادّةً كحدّ السيف، لتغرز في قلب الموقف مزيدًا من الاحتدام،

فـكانت في تلك اللحظة كعاصفةٍ مكبوتة، تحيط بـ"كارما" كما يلتفّ الشوك حول وردةٍ ممتلئة بالشوك أيضاً؛ غضبها يلمع في عينيها كوميض برقٍ يوشك أن يشقّ السماء، وكأنّها نـ.ـارٌ تتلمّس وقودها قبل أن تشتعل بلهيبٍ لا يُطاق :

ـ يا روحي يا روحي انتِ مِفكِرة ان ليا في حوار التثبيت والتسبيل والدلع والمحن بتاعك دي عاد! انتِ قرياني غلط خالص، ما تفكِريش انك هتقولي ههدي الست داي بكلمتين والحوارات الهبلة بتاعتكم داي،علشان أني مش مختومة على قفاي يا بت لبنان، انتِ لو دخلتي من الأول مربية لبتي من غير ما تستفزيني ولا تحسسيني إنك عارفة كل حاجة عننا،وإن جوزي هيثق فيكِ وهيحكي لك كل حاجة؛ قال ايه علشان مصلحة البنت،


كانت الكلمات كالسياط تنغرس في الهواء، والعيون تتقابل كحراب مسنونة فوق حافة الهاوية، ارتفع التوتر في المكان حتى صار الجدار نفسه يحبس أنفاسه خشية أن ينهار المشهد على رؤوس تلك الـ"كارما":


ـ على أساس إني ما هشوفش نظراتك ليه، وبعدين ايه اللبس اللي انتِ لابساه دي؟!

البيت دي له احترامه هتقعدي فيه تلبسي لبس محترم ومحتشم لبس بقى الهوت شورت والحوارات دي مش في بيتي،

ولو مش عاجبك روحي على بلدكم البسي اللي على كيفك، واعملي حسابك تعاملك مع "فيروز" هيكون من خلالي اني مش من خلال "ماهر" ،


كان الغضب يتطاير من شفاه "رحمة" كشرر الحديد المشتعل، وكل حرف يخرج كأنه سهم لا يخطئ هدفه، تبدّت الكلمات في المشهد وكأنها حجارة تُلقى في بحر راكد فتموج أمواجه بعنـ.ـف:


ـ وقسما عظما لو لقيتك أول لما أرجع البيت في وشي ما هسمي عليكِ وقولي على نفسك يا رحمن يا رحيم،أني اللي هتولى أمر "فيروز" بعد رجوعي من الشغل بعد اكده،

يعني ما تحاوليش تحسسينا انك هيرو وبتعملي اللي ما حدش عيمله،

فهمتي يا بت انتِ ولا ما فهمتيش؟


كانت العيون متقدة كشعل نـ.ـار في عتمة الليل، والأرض تحس بثقل الخطوات كأنها دقات طبول حـ.ـرب وشيكة،أصبح الجو كله مسرحًا للهيبة والخوف والتهديد، كأن الزمن توقف ليستمع إلى الحكم الصادر في ساحة القضاء :


ـ ولو ما فهمتيش وتخنتِ مخك وياي أفهمك بطريقتي عاد اللي انتِ ما تقدريش عليها مهما كنتِ واخدة من البطولات والأحزمة

أصلها لو كانت بالعضلات ما كانش حد غُلب واصل.


تجمّعت الكلمات الأخيرة في الهواء كسحابة سوداء توشك أن تمطر صواعقها، وصار الصمت بينهما أكثر دويًا من الكلام،

بدا كل شيء وكأنه على شفير انفـ.ــجار صاعق، يوشك أن يحسم مصير منازلة طويلة ، لتنطق تلك الـ"كارما" بنفس التحدي والقوة:


ـ غريب حالك يا " رحمة" ليش مفكرتيني عدوتك أو إننا في حـ.ــرب؟! ما الي علاقة بـ"ماهر" غير إنه أبوها لـ"فيروز" وصديق عزيز واخ ما في متله، وإذا كنت هاخد الأوامر من حدا فهخدها من "ماهر" يا اللي جابني هنا وطلب مني راعي لـ" فيروز" ، طلعيني من راسك علشان انا ما بخاف ولا بتهدد ولا دماغي متل دماغك بنوب ولا بفكٓر في اللي انتِ هتفكري فيه أبدا، تمام ؟


لم تُعجب "رحمة" بطريقة حديثها، فهي في الأصل لا تطيق أن تسمع صوتها، ولا تحتمل حتى أن ترى ملامحها، ولا أيّ مبرراتٍ تسوقها تلك المرأة، دخلت كلماتها في أذنها كأنها خيوط دخانٍ خانقة لكنها لم تصدقها، فهي تراها خصيمتها كما لو كانت ترى نـ.ــارًا حمراء تتلظّى أمام عينيها، وكانت كأنها صخرةٌ على فوهة بركان، صامتة في ظاهرها لكن في داخلها زلزلةٌ لا تُطاق، وبدت خصيمتها أمامها كظلٍّ مرتعش تحت شمس قاسية يتآكل من لهيب النظرات، فأكملت "رحمة" تحذيرها بذات القوّة والتحدّي كأنها سهمٌ أُطلق من قوسٍ مشدودٍ لا يعرف التراجع:

ـ انت يا بت ما سمعتيش عن الست المصرية وبالخصوص الصَعيدية؟ لما حد بس يفكِر يقرب أو يجرب حاجة تخصها بتعمل ايه؟ الست المصرية بطبعها وخوفها على بيتها وجوزها فرعونية في تصرفاتها، على أساس اني ما شفتش نظراتك ليه وانتِ واقفة قدامَه، هتدلعي وهتتمايصي، ما تكونيش مفكِرة نفسك "مارلين مورلو" ولا حاجة عاد؟


ارتفعت في صوت "رحمة" نبرة الصرامة والفخر، كأنّها تُلقي خطبة حرب على جندي متسلل، كان في داخلها يقين بأنّ أرضها وحدودها لا تُمسّ، وأنّ زوجها وبيتها خطٌّ أحمر، هي الآن كالأسد إذا هدر لا يجرؤ أحد على الاقتراب:


ـ ريحي نفسك واعصابك هيشوف فيكِ ايه مختلف؟ يعني هتحبي توريه له ايه وانتِ هتتعري اكده علشان تجذبيه؟ إذا كان على الجمال فاحنا أساسه وإذا كان على الذكاء فاحنا ناسه فداي حتتي، وإذا كان على حبة الحركات الهبلة اللي انتِ هتعمليها داي علشان تجذبي الانتباه ليكي برده مش هياخد باله منيكي؛ لأن ما فيش في قلبه غير مرته ام بته اللي ما يقدرش يستغنى عنيها واصل .


فقد كان غضب "رحمة" قد بلغ ذروته، وصارت كلماتها أشبه بسياطٍ من نـ.ـار، لكن في قلبها خليط من الألم والغيرة، أرادت أن تحـ.ـرق بجملها آخر ذرّة من الغرور لدى خصمتها، وأن تُعيد ترسيم حدود الهيبة لنفسها ،حتى الهواء في المكان صار كثيفًا كأنّه يحبس أنفاسه احترامًا لموقفها:


ـ فتطلعي دلوك تلبسي هدومك وتداري جسمك اللي هتستعرضيه على الرجالة دي علشان يشوفوكي ست، اللي عايز يشوف الست حلوة ما بيشوفش عراها بيشوفها وهي جوهرة مصونة وملفوفة جوا غيار الحشمة، فلو عايزة تصطادي لك عريس صَعيدي بلاش الحركات الهبلة اللي هتعمليها داي عشان حدانا اهنه اللي زيك للفرجى بس ،اه وبعد ما تطلعي تغيري خدي بعضك وروحي اقعدي في أي داهية تاخدك علشان اني النهاردة طول اليوم هقعد ويا بتي وجوزي على راحتنا مش محتجاينك .


شعرت "كارما" بأنّها أُهينت إهانةً بالغة من "رحمة"، ولمعت الدموع في عينيها كالزجاج المشروخ، وتيقّنت يقينًا قاطعًا أنّ "رحمة" ليست سهلة أبدًا كما قال لها "ماهر"، وأنه لا أحد يستطيع الاقتراب من شيءٍ يخصّها، فهي حين يتعلق الأمر بما تملكه تتحوّل إلى وحشٍ كاسرٍ يفتك قبل أن يُفتك به، يعـ.ــضّ على أنيابه ولا يلين، وكأنّ أنفاسها نـ.ـارٌ تتصاعد من فم تنّينٍ محبوس في قفص، وجزّت "كارما" على أسنانها بغضبٍ جامح، وتفوهت بكلمتيْن قبل أن تغادر أمامها كمن يُلقي حجرًا في بئرٍ ساكن ليوقظه من سباته، كأنها تريد بفعلتها أن تُفرغ كأس غيظها على الأرض، أو كأنها قوسٌ مشدودٌ أطلق سهامه :

ـ غيرتي لي رايي عن المرأة المصرية الصعيدية الأصيلة في استقبالها لضيوفها، طلعت مش واثقة من نفسها ابنوب، وشايفة ان كل اللي حواليها هيخطفوا الفرعون المصري بتاعها، نصيحة مني ليكي خليكي واثقة في نفسك شوية، مش أول ما جوزك يتعامل مع واحدة ست تحسي إنها هتخـ.ـطفه منك، الموضوع له علاقة بإنك تدرسي الحوار ده مع نفسك علشان تزودي الثقة بحالك يا ست "رحمة" . 


تعصبت "رحمة" بشدة من استهزاء تلك الـ"كارما" بها وودت أن تنطلق ورائها كي تجلبها من خصلات شعرها المنسدل على ظهرها ويصل لما بعد منتصفه وهي ترد على حالها بعد أن تحركت من أمامها :

ـ نييييني... لايعنيني ، أبو تقل دمك ، هموت وأجيبك من شعرك وأخليكي متسويش واجيب لك فوبيا أخليكي تروحي لبلدكم كارهة مصر وناسها بس لولا حكم القوي اللي حايشني عنك .


وبعد مرور ما يقرب من خمسة عشر دقيقة نزلت "كارما" وهي ترفع رأسها لأعلى وتنظر إلى "رحمة" نظرات تحدي والأخرى تحدقان بها بنظرات حادة كالصقر وغادرت المنزل قبل مجيء "ماهر" اما هي صعدت إلى الأعلى كي توقظ ابنتها بحيوية وقد عزمت الأمر على أن تهتم بها فهي قد أخطأت بحقها وأهملتها إهمالا جسيماً :


ـ "روزي" حبيبة المامي فوقي اكده يا روحي علشان نُفطر سوا بابي زمانَه جاي من صلاة الجمعة .

تململت الطفلة في نومها وهي تهذي باسم "كارما" بثقل وعينيها مغمضتين :

ـ سيبيني كمان شوية يا كوكي ، عيني اقفل لوحدها وعايزة أنام .


اغتاظت "رحمة" بشدة من نطق ابنتها لاسم غريمتها ثم همست لحالها بأن تهدأ وتدع الانزعاج جانبا الآن وحاولت تنويم أعصابها الثائرة الآن ونادت على ابنتها بحنو مرة أخرى وهي تدغدها بخفة :

ـ اصحى يا قلب مامي ، علشان نفطر ونلعب game سوا ونرسم كماني. 


استيقظت الطفلة بضحكات عالية من دغدغة أمها ثم اختـ.ـطفتها والدتها بين أحضانها وهي تداعب خصلاتها بحنو لم تعتاد عليه مع ابنتها :


ـ يالا بقى ندخل الحمام ناخد دش ونسرح شعرنا وننزل يكون بابي جه ويشوف روزي وهي زي القمر وريحتها حلوة .


سألتها الطفلة ببراءة :

ـ هو انتي اللي هتديني الشاور يا مامي ؟


شعرت "رحمة" بالخزي من حالها لخذلان ابنتها منها وابتسمت لها وهي تداعب وجنتيها :

ـ آه ياقلب مامي عنديكي مانع ولا ايه عاد ؟


مدت الطفلة يدها لوالدتها كي تدلف معها إلى الحمام وهي تشعر بالسعادة فحملتها "رحمة" بين أحضانها ودلفت بها إلى الحمام وحممتها وهي تداعبها بحنو أم لم تعتاد عليه تلك الطفلة ، ثم خرجت من الحمام ومشطت لها شعرها وعطرته وألبستها بجامتها القطنية البيضاء المزركشة بالقلوب الحمراء التي جلبتها لها منذ يومين ووقفت الطفلة أمام المرآه وهي تنظر إلى هيئتها المختلفة اليوم عن كل مرة وهي معجبة بحالها بشدة لتقول بسعادة طفل فرح للغاية :


ـ الله جميل خالص لبس روزي ، حلوة اوي يا مامي ، بابا جابها لروزي .


قبلتها "رحمة" قبلات شغوفة من وجنتها وهي مازالت تدغدغها ثم احتضنتها من ظهرها بحماية وحنو وهمست لها بفخر :


ـ لااه طبعا ، اني اللي جبتها لك ، الحاجات الحلوة داي ذوق مامي ، وجبت لك كمان علبة الوان كَبيرة وكراسة رسم وسبورة وأقلام ألوان كتيرة علشان نرسم النهاردة طول النهار اني وانتِ .


صفقت الطفلة بسعادة عارمة وهي لم تصدق حالها ورددت بعدم تصديق:

ـ بجد يا مامي هترسمي معايا ؟


حملتها "رحمة" بحنو وهي تقبلها قبلات متفرقة بشغف وهي تلقي على مسامعها برنامجهم في اللهو واللعب الكثير اليوم والطفلة سعدت بشدة وهي تحتضن والدتها بتملك شديد وكأنها لم تصدق ، 

ثم هبطت بها إلى الأسفل في مشهد لأول مرة يحدث ويراه ذاك القادم من الصلاة بجلبابه الأبيض وطوله الفاره وجسده العريض اللائق عليه ، وما إن أبصرهم بتلك الهيئة حتى تبسم ثغره تلقائياً وخفق قلبه بسعادة لمشهد لم يراه من ذي قبل وهو يبدي إعجابه الشديد بجمالهم الآخاذ :


ـ الله مين ملكات الجمال والساحرتين دول ؟

أكاد من فرط الجمال أذوب .


ما إن وصل إليهم حتى قفزت الطفلة سريعاً إلى أحضان والدها الحنون وهي تتمسح به بسعادة غامرة فما كان منها إلا أنه قبلها قبلات متفرقة بنهم وهو يشم رائحتها المختلفة التي تشبه رائحة "رحمة" بالمثل وهو يمدح في عطرها الآخاذ:

ـ وه ، حبيبة بابي ريحتها تسحر والبجامة بتاعتها قمر عليها ، 


وأكمل وهو يغمز لـ"رحمة" بمكر :

ـ شبه ريحة حد أعرفه جميل قووي بيسحرني عطره ، قولي لي بقى مين اللي اداكي الدش الخطير دي النهاردة لدرجة اني حسيت ان روزي كبرت وبقت بنوتة زي القمر أكتر ؟


أجابته الطفلة بفرحة لإعجاب والدها بهيئتها ورائحتها :

ـ مامي هي اللي جابت لي الحلوة دي وهي اللي حممتني وسرحت لي التسريحة الحلوة دي ، مامي أحسن واحدة تدي شاور لروزى .


أنهت كلامها وهي تحتضن والدها بتملك من رقبته ثم نامت على كتفه ، فاقترب "ماهر" من "رحمة" ليهمس بمكر وعبث بجانب أذنها :


ـ أني رايد شاور زي اللي ادتيه لـ"روزي" بالظبط ، مش عيب أكون برة وتدخلو تاخدوا شاور لوحدكم وكمان عاملين ماتشينج ولابسين نفس البجامة المهلكة داي عليكِ ونفس التسريحة والأهم من دي كلاته نفس الريحة كمان ، اني اكده هدوب يا صغنن .


وقفت "رحـمة" تنظر إليه بخجل من همساته الوقحة وإلى "فيروز" ، قلبها يختلط بين الخجل والاشتياق، وهي تشعر بارتجافة حارة في صدرها. اقترب "ماهر" منها أكثر، رفع حاجبه وضحك تلك الضحكة القصيرة التي تُذيب حديد قلبها، ثم أكمل بنبرة رجولية خشنة:


ـ يا بنتي مش هينفع اكده، هتموتيني بنظراتك الخجولة داي عاد، مواخدش على اكده منك يا رحمتي .

اقتربت "رحـمة" منه خطوة صغيرة، نظرت إلى الطفلة وهي تتشبث بأحضانه ثم إلى وجهه وقالت بنبرة لائمة وهي تبتلع أنفاسها بصعوبة من حديثه وإيحائته وهيئته التى سلبت لب عقلها :

ـ وه! البنت هتسمعك وانت هتقول الكلام دي عيب يا "ماهر" بطل بقى طريقتك داي احنا مش لوحدنا عاد .


هزّ رأسه وهو يضحك، اقترب منها أكثر حتى شعرت بأنفاسه على خدها وقال ببطء:

ـ لاه ماهو المزاج وقت ما يطلب عاد محدش يعرِف يوقِفه وانتي بالبجامة ام قلوب داي مهلكة يا رحمتي ، مش بالراحة علينا مش كدك احنا غلابة عاد .


كان صوت ماهر مثل موجٍ دافئ يلتف حولها، كان يدرك تمامًا كيف يُعيدها إلى نفس عهدها القديم، وكانت "فيروز" بدورها تلتصق به كما لو أن كل العالم أصبح بين ذراعيه، ثم مدت "رحـمة" يدها لتلمس شعر الطفلة، وقلبها يرقص من عودتها إلى أحضان زوجها والذي تمسك بيدها ثم دخلوا إلى غرفة الطعام، الطاولة معدّة، وعبق الخبز الساخن يملأ المكان، جلس "ماهر" ووضع "فيروز" على كرسيها الصغير، ثم جلس هو قبالتها، 

ثم سأل وهو يمدّ يده إلى كوب الشاي:

ـ أمال "كارما" راحت فين ؟ مشايفهاش مش كانت المفروض تكون اهنه ، مختفية من ساعة ما رجعت 

رفعت "رحـمة" رأسها فجأة، تجمّد الدم في عروقها للحظة، ثم قالت بنبرة حاولت أن تُبقيها هادئة لكن ارتجافها فضحها وهي تشعر بالغيرة القـ.ـاتلة:

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله، ما تجيبليش سيرة ست زفتة داي دلوك، خلينا قاعدين نفطر وهاديين ومنسجمين وتدخل علينا الزعابيب، غارت في داهية تاخدها البعيدة، الهي ما ترجع واحنا في يوم مفترج .


نظر إليها بدهشة، رفع حاجبيه وهو يحاول أن يبدو هادئًا وقال:

ـ يا حبيبتي دي المربية بتاعة "فيروز" طبيعي أسأل عليها، دي حتى في يوم الاجازة بتكون عاملة برنامج حلو للبنت .


انفجـ.ـرت "رحـمة" من غيرتها الكامنة، ضـ.ــربت الملعقة على الطاولة وقالت بصوت أعلى:

ـ قلت لك ما تجيبليش سيرتها! أني مش مستريحه لها، ومش عايزاها في حياتنا عاد وان كنت صابرة فمقدراش اكتر من اكده.


كانت نظراتها في تلك اللحظة مثل شرارة من نـ.ـار، شفتيها ترتعشان، أصابعها تحاول كتم ارتجاف جسدها، وكل ما بداخلها يصيح خطر، أما "ماهر" فكان يحاول بكل ما أوتي من هدوء أن يُخفّف هذه النـ.ــار،

قال وهو يميل بجسده نحوها، صوته يبطئ كأنه يخاطب طفلة غاضبة:

ـ اسمعيني بقى يا رحـمتي، "كارما" داي مش ضدك ولا عدوتك، دي متعلَمة زين ، و أني ملاحظ تقدم رهيب في "فيروز" من يوم ما جات، وحتى نفسية البنت بقت أحسن حاجة ودي اللي هيهمنا عاد . 


رفعت يدها وضـ.ـربته بخفة على صدره، عيناها تلمعان بنـ.ـار الغيرة:

ـ ما تشكرش فيها قدامي اكده متجننيش عاد ، أني ممستريحاش ليها ولازمن تمشي، ما هيهمنيش شهادتها داي.

كان قلب ماهر يدق عشقاً لتلك الغيورة بشدة ، اقترب منها، وضع يده على كتفها وأخذ نفسًا عميقًا ثم قال بصوت حانٍ لكنه قوي:


ـ هنرجع نتحدت فيه الموضوع دي تاني ما كنا قفلناه يا "رحمة" ،عايزين نفطر بقى خلاص يا ستي ما هسألش عنيها تاني .


هزّت رأسها ببطء، تظاهرت أنها اقتنعت وقالت ببرود متعمد:

ـ مش بس اكده اني اللي هتابع وياها حوار البنت،ومليكش صالح بيها خالص ما تسألش عنيها مره تانية، واني اللي هرتب معاها مواعيد شغلها ومواعيد وجودها اهنه وتمسح رقمها من عِندك خالص .


كانت ابتسامة انتصار صغيرة تخفي خلفها كيدًا أنثويًا ناعمًا وهي ترى أثر اقتناعه بكلامها، فكانت تشعر أن هذا هو سلاحها الأخير، أن تلتف على الموقف بدل أن تصطدم به،اقترب منها "ماهر" فجأة، أمسك بوجهها بين يديه، عيناه تلمعان بصدق:

ـ أني فاهم غيرتك يا "رحـمة" بس صدقيني ما فيش حد ياخد مكانك، ولا حد يقدر يبعدني عنيكي ولا يفرق بيناتنا ولا ملكة جمال العالم حتى تهز شعرة من "ماهر البنان" غيرك يا صغنن ، اهدي عاد .

تراجعت أنفاسها، وشعرت بارتعاش شفتيها، ثم قالت بنبرة خافتة:

ـ "ماهر" أني بحـ.ــارب عشان بيتي وبتي ومش هستنى الظروف تجبرني على وضع ممستريحاش ليه عاد .


ضحك لغيرتها العمياء ، وقبّل جبينها وقال بنبرة دافئة:

ـ وإنتي عمرك ما محتجاش حـ.ـرب يا رحمتي لأنك المنتصرة والمتربعة في قلبي . 


المكان كأنه سكن على أنفاسهما، "فيروز" تنظر إليهما بفضول طفلة، قطعة الخبز في يدها توقفت، وابتسامة صغيرة ارتسمت على وجهها ،كان الصباح كله يتحوّل تدريجيًا إلى لوحة من السكينة رغم الغيوم الكامنة،


ثم انتهى فطارهما ودخل "ماهر" إلى مكتبه ينهي بعض الأشغال، اما "رحمة" جلست على الأرض بجانبها، فتحت صندوق الألوان، مدّت يدها لدفتر الرسم ،كان الضوء يدخل من الشباك ليغمرهما، أصوات الحديقة تتلاشى، ورائحة الألوان تختلط بأنفاس الأم وابنتها، "رحـمة" بدأت ترسم خطوطًا بسيطة، بيتًا وشمسًا وأشجارًا، بينما "فيروز" تقلدها بحماسة طفولية.

ابتسمت وهي ترى الطفلة تضحك، أحست أن كل ما مرّ من غيرة وغضب يمكن أن يذوب في هذه اللحظة، اقتربت منها، أحاطتها بذراعها، قبّلت رأسها وقالت بصوت ناعم:

ـ حبيبة قلب مامي بترسم قمر ربنا يخليكي ليا يا رب .


في تلك اللحظة بدا كل شيء ساكنًا، حتى الريح في الخارج توقفت عن الحركة، كأن الكون منحها استراحة قصيرة لتستعيد أنفاسها، كانت "رحـمة" تدرك أنها في معركة طويلة، لكن وجود " فيروز" بين ذراعيها جعلها تشعر أن كل شيء يمكن احتماله، بينما كانت الطفلة ترسم بابتسامتها العريضة، وجدت "رحـمة" نفسها تبتسم بدورها، ابتسامة هادئة بعد عاصفة.


                  *******


في تلك الأمسية التي تسلّل فيها الخريف إلى قلب البيت كأنه غبارٌ صامت، جلس "عمران" على طرف الأريكة يتأمّل "سكون" وهي واقفة عند البوتاجاز، بخار الطبخ يتصاعد مثل ضبابٍ يبتلع ملامحها الهزيلة، كان البيت ممتلئ بضجيج الأطفال، لكن صوته في أذنيه بدا خافتًا، كل ما كان يراه هو ظهرها المنحني وصوت أنفاسها المتقطعة، كانت منهكة حدّ الغاية، وكأن كل دقيقة من عمرها أصبحت ثقلاً إضافيًا على كتفيها الرقيقين، مدّ يده إلى كوب الشاي البارد أمامه ولم يشربه، فقد كان طعم القلق عليها أشد مرارة من الشاي نفسه،

وتحت ذلك الضوء الأصفر الخافت، شعر "عمران" أن المسافة بينهما اقتربت كثيراً عن ذي قبل عندما نفذ نصيحة "محمد" قبل أيام قليلة، 

رفعت "سكون" رأسها قليلًا، شعرها المبلول بالعرق ملتصق بجبهتها، عيناها محمرّتان من التعب والسهر، كانت تحرّك الملعقة في الحلة ببطءٍ رتيب وكأنها تؤدّي عقوبةً، لا واجبًا منزليًا، شعرت بنظراته خلف ظهرها لكنّها لم تلتفت خوفاً من أن يفسد الطعام،

اقترب منها بخطواتٍ بطيئة حتى صار خلفها، وراح يتأمّل ظهرها النحيل وهو يرتفع مع الشهيق وينخفض مع الزفير،


مدّ يده بخفة ولمس حافة الرخامة بسبابته كي يثبت وجوده خلفها، فالتفتت نصف التفاتة وهي تمسح جبينها بطرف كمّها وقالت بصوتٍ مبحوح يشبه تنهيدة طويلة:

ـ إيه يا "عمران" مالك بقالك ساعة هتبص لي اكده عاد ، وشايفة قلق في عيونك يا 

"ابو سَليم" ؟


كان صوته منخفضًا، يشبه رجاءً قلقا أكثر من كونه سؤالًا:

ـ شايفك ضعيفة وجسمك محتاج انك تاخدي بالك منيه شوي، وما بتهتميش بأكلك وكل يوم تعملي اصناف أشكال وألوان وترهقي حالك في البيت ووجبات الطعام طول النهار، انتِ صعبانة علي يا "سكون" بالراحة على نفسك يا حبيبي هتعرفي تعملي كل حاجة لاولادك والله العمر قدامنا لساته ميهفرش في ثانية عاد.


رفعت عينيها إليه بسرعة، ثم أعادت نظرها للوعاء باهتمام ثم طمئنته بابتسامتها الرقيقة:


ـ وه هتوصيني على حالي كاني عيلة صغيرة، ما تقلقش عليا عاد، أني زينة وأي حاجة بعملها ليك انت والولاد مهما كانت متعبة فبالنسبة لي قمة الراحة. 


اقترب منها أكثر ثم همس لها بحنان واحتواء مغلف بالمكر:


ـ وإن ما كنتش أخاف عليكِ يا "سكون" هخاف على مين؟ وبرده جسمك مش عاجبني وخسيتي زيادة عن اللزوم واني بصراحة عايزك تزيدي شوية عن اكده .


أطرقت "سكون" ببصرها إلى "عِمران" في حياءٍ كنسيم الصبح حين يلامس خدَّ وردةٍ غضة، وقد أربكتها تصريحاته التي لم يسبق أن باح بها منذ أن جمعهما بيتٌ واحد، فأطفأت الموقد عن الطعام، وغسلت يديها ومسحتهما بمنشفةٍ ناصعةٍ لتُزيل عن أصابعها أثر العطر الممزوج بالبهارات، ثم تقدّمت في خطواتٍ هادئةٍ نحوه، حتى احتضنت وجهه بكفّيها الرقيقتين وسألته بمكرٍ مماثلٍ ، كأنَّ اللحظة كانت حديقةً من همسٍ مكتومٍ ورغباتٍ متوارية، وكأنّ أنفاسها على وجنتيه نهرٌ من عسلٍ ينساب في ليلٍ مُقمَر، وكان قلب "عمران" في تلك اللحظة مثل طائرٍ محبوسٍ فتح جناحيه فجأةً وتهيّأ للتحليق :


ـ اممم.. إنت عايزني أكل كتير علشان اتخن وجسمي يزيد؟ ما كنتش أعرِف انك هتحب اللي جسمهم مليان وكيرفي، انت بقيت خطير ودماغك رايحة لحتة تانية خالص، قل لي بقى انت عايزني ابقى كام كيلو بالضبط؟ وايه اللي يزيد بالضبط أصل الحاجات داي بقت بالطلب دلوك يا باشا .


استغلَّ "عِمران" قُرب "سكون" منه فضمَّها إلى صدره كما يضمُّ البحر موجته في لحظة هدوء، وأسند جبينه إلى جبينها في سكونٍ يشبه تواطؤ الريح مع النخيل عند الغروب، كان المشهدُ يفتنه منذ زمنٍ بعيد؛ إذ لم يقترب من "سكون" في حالة صفاءٍ كهذه حتى وإن كان في مكان كالمطبخ شاهدًا عليهما، وردَّ عليها بنفس العبث الممزوج بالودِّ كما يردُّ الغيم على نداء المطر، في تلك اللحظة كان الزمنُ قد انحنى ليُصغي لهمسهما، وكانت أنفاسهما كخيوط الضوء تتشابك في فجرٍ جديد، حتى غدت "سكون" ككوكبٍ صغيرٍ يدور في مدار قلبه، وأصبح "عِمران" كسحابٍ يحرس نبعها من كلّ جفاف :


ـ لاااه ، الطبيعي يكسب ما ليش أني في حوارات النفخ والشد، أني عايز كله طبيعي في طبيعي، يعني مثلا ممكن أجيب لك شيكولاته مخصصة للنحافة ووكلها لك بيدي وقتها لما تدوقي طعمها من يدي هتحبي تاكليها كَتير، وساعتها جسمك هيزيد طبيعي ووقتها هتشوفي نفسك بعيني وبرؤيتي هتلاقيكي حاجة فخمة اكده، وبصراحة هتوبقى زينة قووي وهحبك اكتر من الاول .


رفعت "سكون" حاجبها بدهشةٍ من تغيّر "عمران" ومكره الخفيّ؛ فلأول مرةٍ تشعر أنّه يركّز على تفاصيل جـ.ـسدها بهذا الشكل بعد سنواتٍ من الزواج، إذ لم يطلب منها يومًا أن يزداد جسدها امتلاءً، بدأت تتماشى معه بنفس نظرته العابسة، محرّكةً سبّابتها على خدّه بنعومةٍ كنسيمٍ يتسلّل بين أغصان شجرة، فشدَّ "عمران" قبضته على خصرها باشتياقٍ لحركاتها ولشقاوتها التي بدت كاللحن الذي غاب ثم عاد، في تلك اللحظة غلبه الحنين كبحرٍ يتوق لاحتضان ضفّته، وكاد يسحبها إلى غرفتهما لولا أن الأولاد مستيقظون وهذا وقت الغداء، فظلّ ممسكًا بنفسه عنها كمن يحـ.ـبس نجمةً بين يديه ويخشى أن تفلت، كانت "سكون" في نظره قمرًا صغيرًا يدور في مجرّته، وهو في عينيها نجمٌ متألّق يحوم حولها ويشتعل بالشوق :


ـ أممم.. حالتك بقت صعبة قوي يا "ابو سليم" وما يتسكتش عليها واصل، عموما نجرِب الشيكولاتة ما عِنديش مانع، إنت عارف هحبها كد ايه، 


وتابعت بنعومة أثارته وهي مازالت تحرك سبابتها على وجنته :

ـ تحب بقى نجرِبها ميتة واني أهيئ لها الجو واظبط لها حالي على الاخر، علشان نعجب سعادة الباشا ،بس صدِقني "ام سليم" حلوة في كل حالاتها ما تنكرش .


ابتسم "عمران" ابتسامةً شغوفةً بالموقف الذي يجمعه بـ"سكون"، والحوار الدافئ بينهما أعجبه حتى التماعة قلبه، فلم يعُد يرغب أن يُفلتها من حضنه ولا أن يكفَّ عن سماع صوتها وكلماتها وحركاتها وشقاوتها، ردَّ عليها وهو يُكمِل ذات النغمة الشغوفة في القرب، كأنّ أنفاسهما صارت وترًا واحدًا على عودٍ قديم يعزف لحنًا لا ينتهي. كان قلب "عِمران" آنذاك كطائرٍ حُرٍّ وجد غصنه المأمون، وروحه كشعاعٍ من ذهبٍ يتعلّق بضياء قمرٍ ناعمٍ يرفض الغروب. أما "سكون" فبدت أمامه كندى الصباح على وجه الزهر، تُغويه وتروي عطشه العاطفيّ بلمسةٍ واحدة :


ـ بقيتي خطر قوي يا "ام سليم" حركاتك وشقاوتك اتغيروا كَتير عن الاول والظاهر اكده ان فاتني كَتير ،ورايد اذاكر وياكِ "سكون" الجَديدة عاد، وحاسس اني هكتشف حاجات ما كانَتش موجودة قبل سابق، وهتخليني أسحبك دلوك من يدك ونسيب العيال تضـ.ـرب أخماس في أسداس، ونراجع المنهج من أول وجَديد، حاكم الاختبار شكلَه هيبقى تَقيل قوي. 


وعلى حين غرة أمسك كف يدها وأدارها حول حالها وهو يتعامل معها كما تتعامل السندريلا مع أميرها ، وهو ينظر إليها بوقاحة لم يعتاد عليها مكملا بشغف:


ـ ولو انك عود البطل يا حبيبي بس بردو ميضرش ، في حاجة كمان بقي اني حجزت لك مع "رحمة" جلسة حمام مغربي بتقول انه مركز زين وكلاته حريم وبيطلعوا الست منيه آخر جمدان ومعاد الجلسة بكرة ، ها ايه رأيك وأهو نعيد الأمجاد من أول وجَديد على رواقة.


اندهشت "سكون" من تفكيره وكأنه عاد مراهقاً جديداً لتقول بذهول وهي تغر فاهها:


ـ وه ! حمام مغربي كمان، دي إنت شكلك دارس برة وجوة ودماغك فيها ليلة كَبيرة قوي يا باشا، طب ما ترسيني على الحوار ، وكمان حجزت واتفقت ويا "رحمة" من وراي علي.


شدَّها "عمران" إلى حضنه مرّةً أخرى، يُحيطها بذراعين كأنهما حصنٌ من أمان، وصوته يهمس في أذنها بطمأنينةٍ عميقة أنّه قد رتّب لكلِّ شيءٍ وأكثر مما تتخيّل، كان جوُّ اللحظة بينهما رومانسيًّا يفيض على حدود الخيال، حتى بدا المكان كسماءٍ مُعلَّقةٍ بنجومٍ ترقص، والوقت كأنه توقّف ليُبارك هذه السكينة المؤقتة، صار حضنه لها وطنًا يُشبه غابةً دافئةً بعد مطرٍ هادئ، وصارت أنفاسهما كأغصانٍ تتشابك في نسيمٍ حنون، وكلُّ نبضةٍ بينهما تكتب سطرًا من كتاب الشغف :


ـ هو في أحلى من إن الإنسان يرتب يقضي لياليه الحلوة كيف مع حبيبه يا روح حبيبك؟ بكره ان شاء الله هاخد "سيف" و"سليم" هعلمهم أول درس في الرماية على يد صَعيدي من الدرجة الأولى أبوهم اللي هو اني، تكوني انتِ روقتي على حالك زين علشان عِندينا ليلة بكره بعون الله هيتريسها الحكمدار .


ثم شدد من تملكه لأحضانها وهو يسألها بعبث:

ـ بذمتك ما وحشكيش ليالي الحكمدار اللي كانت بتظبط الدماغ عاد؟ أني بقى عايز ليلة ما تكررتش قبل سابق، ليلة العودة للملاعب، تكون مختلفة ومحصلتش قبل سابق يا "أم سليم" هتقدري ولا هتخيبي أملي فيكِ واصل ؟


ـ حكمدار كمان ! قالتها بدهشة وكأن التعجب هو علامة حوارها اليوم مع عمرانها ، فأكملت بدهاء أنثوي:

ـ طب بمناسبة الحكمدار دي انت عايزني آكل كَتير وازود جسمي، فلو زودت جسمي وأكلت كَتير مش هعرِف أعمل حاجة على أنغام الحكمدار، جسمي هيوبقى تقيل قوي والحركة هتوبقى خفيفة وعلى الهادي ومش هتبقى مستريح لأن الفراشة اللي كانت هتطير برقصتها هتوبقى كيف الفيل فايه رأيك في الحوار دي نخليني زي ما أني ولا ناكل شيكولاتة.


ـ التنين... قالها بغمزة من عينيه وأكمل :


ـ كله إلا وكل الشيكولاته مفيش منيه مفر عاد ، اما الفراشة وحوارها أول ما تبدأي على انغام الحكمدار الفراشة هتطير وتتجول وتتمايل ، ياه تصدقي التخيل خلاني اشتاقت تعالى بقى دلوك مصابرش على رزقي عاد .


جذبها من يدها عنوة عنها في جو ممتلى بالحب والارتياح ويغلفه السعادة المفقودة بينهم منذ زمن طويل ولكن ما إن وصلا إلى 

الغرفة، كان "سيف" و"سليم" يركضان خلف بعضهما ويضـ.ـربان بعضهما وكأنهما في حلبة مصارعةٍ مفتوحة، فارتسم على وجهَي "سكون" و"عمران" ضحكٌ لا ينقطع على نفسيهما أولًا وعلى لحظاتهما الجميلة التي لا تكتمل بسبب الأولاد، وعلى "سيف" و"سليم" اللذين يطيحان ببعضهما كعادتهما ، وقفت "سكن" تضحك عليهما ممسكةً بطنها من شدّة الضحك، فهي أصلًا التي تُشعل بينهما شرارة الخصام ثم تخرج منه كما تخرج الشعرة من العجين، فتتركهما يشتبكان وتبقى هي كالماء المنساب بلا أثر، بدا المشهد كلوحةٍ نابضةٍ بالحياة؛ ضحكات الأمّ تشبه أجراسًا فضيّةً تتناثر في الهواء، والأولاد كصقورٍ صغيرةٍ تتناوش في صخبٍ بريء، ومن بعيد نادى عليها "عِمران" مازحًا، وصوته يحمل نبرةً تجمع بين الدفء والمرح، كأنه يرسل سهمًا من دعابةٍ في وسط ضجيج المعركة الصغيرة :


ـ أكيد انتِ الشرارة اللي قادت بين التنين الغلابة دول يا شقية يا صغيرة، اه منك أنتِ كيف جَدتك "زينب" على حق وحقاني، واخده طبع القوة منيها، محدش يقدر يغلبك واصل، عميلتي ايه خليتي الجدعين مسكوا في بعضهم يا غلبانة يا مسكينة انتِ .


كانت "سكون" واقفةً تضحك من أعماق قلبها على حديث "عمران" مع ابنتهما "سَكَن"، عاجزةً عن كبح ضحكاتها من غرابة الموقف كلّه، ومن ملامح "سَكَن" الصغيرة وهي تتصنّع البراءة وتتقمّص دور المظلومة، ارتسمت على وجه "سكون" ابتسامةٌ كالشمس تُشرق في صباحٍ بارد، فيما كان قلبها يرقص على تلك اللحظات العائلية الصاخبة، أمّا "سَكَن" فردّت على أبيها وهي تدافع عن نفسها ببراءةٍ مفتعلةٍ، تظهر الكذبة فيها كأنّها خطٌّ أحمر على صفحةٍ بيضاء؛ يفضحها بريق عينيها المرتبكتين وحركات يديها المذعورة، كعصفورٍ صغيرٍ يحاول التخبّؤ من صيّادٍ يقظ، لقد كان المشهد لوحةً من المرح والأسرة، تتماوج ألوانها بين الضحك والمشاكسات البريئة بكلمات توحي بأنها امرأة محنكة وليس طفلة :


ـ وانا مالي يا بوي هم يعملوها الولاد ويقعوا فيها البنات عاد. ولادك أهم طايحين في بعضهم ولا عاملين اعتبار لأم ولا لأب واصل وتاجي تقول لي اني السبب واني واقفة قدامك اهه غلبانة هتفرِج عليهم من بَعيد وما هتشقاش زيهم عاد وكل الحكاية اني قلت لـ"سليم" إن "سيف" هيقول عليه انه ما بيعرِفش يلعب صوح وان هو أحسن منيه في اللعب، ويا ابوي الحـ.ـرب قامت بيناتهم ما قعدَتش، مالي اني بقى بالحوار دي عاد ولا كل حاجه هتلبسوها للغلبانة "سكن".


أخذ "عمران" يصفق كفًّا على كفٍّ وهو يضحك من أعماق قلبه على طريقة "سَكَن" في الكلام، ضحكًا يهزّ كيانه كما تهزّ الريحُ أوراقَ الشجر في ربيعٍ دافئ، كانت "سكون" واقفةً لا تستطيع كبح ضحكاتها على المشهد كلّه، وعلى كلمات "سَكَن" الصغيرة، وكأنّ الضحك قد تحوّل إلى نهرٍ جارٍ يغمر البيت، ثم انحنى "عمران" قليلًا، نازلًا إلى مستوى ابنته، بينما "سيف" و"سليم" ما زالا يطحنان بعضهما في صراعٍ طفوليٍّ يشبه معارك القطط الصغيرة في فناءٍ واسع، مدّ "عمران" يده نحو "سَكَن" وقال لها بخفّةٍ ودعابةٍ، وصوته يحمل مزيجًا من الحنان واللعب كنسيمٍ باردٍ في يومٍ قائظ:


ـ لااااه احنا اكده ظلمنا الحاجة "زينب" ، اني شامم ريحة "رحمة" صغيرة تلوح في الأفق انتِ اكده شبه عمتك "رحمة" بالملي، والله يكون في عون اللي هيتجوَزك عاد، ما ليهم حق "سيف" و"سليم" يمسكوا في بعض وانتِ اكده هتفتني بيناتهم يا لئيمة، واكيد ما عملتيش اكده إلا لما يكون ليكي طار حداهم هم الاتنين، دماغ "رحمة" حق وحقاني .


كانت "سَكَن" تدرك كلَّ كلمةٍ ينطق بها "عمران"، فهي تتميّز عن إخوتها بسرعة البديهة وقوّة الفهم، وذكيّةٌ، لمّاحةٌ تلتقط المعاني كما تلتقط العينُ اللمعان في حجرٍ كريم، كانت تتابعه بعينين لامعتين يشرق منهما نورُ الإدراك، ثمّ هزّت رأسها إلى الأمام تصديقًا لما يقول، استعدادًا لأن تردّد بكلمة جدّتها، كأنّها تورّث الحكمة في تلك اللحظة وتغزل بخيطٍ دقيقٍ رابطًا بين الماضي والحاضر :

ـ واه وعرفت كيف يا ابوي اني شبه عمتي "رحمة"؟ جَدتي "زينب" هتقول لي على طول انتِ كيف عمتك وهتقول لي البنت تشبه عمتها ،وبعدين عمتي "رحمة" زينة قوي ومحامية كَبيرة قوي، وناجحة وذكية يا ريت ابقى نصها حتى .

نصحت "سكون" "عمران" أن يترك "سكن" وثرثرتها لأن وقتَه لن ينتهي معها، وأن يمضي ليفضّ النزاع بين "سليم" و"سيف"، وفعلاً تركها وهو يضـ.ـرب كفاً بكفٍّ مندهشاً من طريقتها التي تجعلهم جميعاً منتبهين إليها وإلى كلامها الذي يوحي بأنها آنسة ناضجة لا طفلة صغيرة لم تكمل الست سنوات،

ذهب "عمران" وفضَّ الاشتباك بين "سيف" و"سليم" وانفـ.ـجر فيهما زجراً وتأنيباً شديداً، وقرَّر أن يعاقبهما بحرمانهما من اللعب والنزهة الأسبوعية التي يخرج بهما إليها لأنه أحسَّ أنهما أفسدا ليلته مع "سكون" وأشاعا الفوضى في هدوئه،

كانت "سكون" تعترض بشدّة على عقاب "عمران" لـ"سيف" و"سليم" وترى أنهما صغارٌ مساكين، لكنَّه ألقى باعتراضها عرض الجدار ومضى في قراره،

فكان كبحرٍ ثائرٍ في قلب الليل، تتلاطم فيه أمواج الطفولة وصرخات العقاب، وكانت براءة الصغار كالحمام الأبيض المذعور حين يهبط عليه الظلام فجأة، يرفرف فلا يجد مأمناً،

ثم التفت "عمران" نحو "سكون" ليقول لها :


ـ أوعاكي تقولي ولا كلمة علشان مش هتنازل عن قراري، ما ينفعش يتخانقوا همّ التنين ويمسكوا في بعض، واحنا واقف أني وإنتِ وما يعملولناش اعتبار، دي أول سبب.


ثم اقترب منها مكملاً بحسرة على ليلتهم الضائعة كالمعتاد بسببهم :


ـ تاني سبب إنهم أفسدوا عليّا ليلتي الحلوة اللي كانت هتوبقى تمهيد لليلة الكبيرة بتاعت بُكرة، وإني واحد لما مزاجه يتعكّر ما بينصلحش بسهولة، ربنا يسامحهم عاد، "سيف" و"سليم" هادمين اللذات ومفرّقين الجماعات، أني خارج رايح عند "محمد" صاحبي، وأوعاكي تخلي العيال دي يخرجوا ولا ينزلوا تحت الجنينة يلعبوا فيها، دي عقاب يلتزموا بيه.


وسلَّمهم "عمران" لوالدتهم ونزل مغادرًا، فيما ظلَّ الأولاد يتحايلون على "سكون" أن تُقنع أباهم بالتنازل عن العقاب من أجل فسحة الأسبوع، غير أنّ "سكون" أكلت على قلوبهم أنّه لا يتراجع أبدًا عن قراره وأنّهم هم المخطئون، فلا يليق بهم أن يتشاجروا أمام أبيهم وأمهم، فذلك عيب جسيم وسلوك منبوذ ونصحتهم ألّا يعيدوا الكرة، لأنّهم إن تجرّؤوا على التشاجر أمام أبيهم مرة أخرى فإن العقاب سيكون جديدًا وأشد وقعًا، وأكّدت أنّ الأهم أن يحترموا أنفسهم أوّلًا ثم يحترموا أباهم وألّا يفعلوا ما يغضبه، خصوصًا حين لا يُقيمون لوقوفه اعتبارًا،

كانت كلمات "سكون" تنهمر عليهم كما تنهمر الأمطار على أرض يابسة، تُحاول أن تُنبت فيهم شجرة وقار قبل أن تُثمر طاعة، وكانت عيناها تلمعان كالسيف في غمده، تُذكِّرهم بأنّ صبر الأب ليس نهرًا بلا ضفّتين، بل إذا فاض غرق الجميع،

فأجابوها بطاعة، لكنّ القلوب الصغيرة كانت تئن في صدورهم حزنًا على النزهه التي لن يذهبوا إليها بعد .


                   *******


في تلك الليلة كانت "نور" قد أنهت عملها الشاق في المزرعة ودخلت إلى استراحتها الخاصة وهي تستشعر ثقل الإنهاك يسري في أطرافها، فقررت أن تأخذ حمّامًا دافئًا تخلع به عن جسدها تعب النهار، كان الوقت آنذاك يناهز الحادية عشرة ليلًا، والهدوء يلفّ المكان والناس في سبات عميق، دخلت "نور" إلى الحمّام ثم خرجت بعد أن انتعش جسدها، مرتدية قميصًا قطنيًّا مريحًا، ولكن هيئتها كانت كالقمر ليلة اكتماله؛ فهي في الأصل جميلة، وما إن ترتدي ملابسها المنزلية وتفرد شعرها على ظهرها حتى تغدو لوحة من نور، تسرّ العين وتدعو إلى أن يكبر على هيئتها،

ثم قرّرت أن تُعِدّ لنفسها كوبًا من النسكافيه وتتابع قراءة روايتها التي شغلت قلبها منذ أيّام، فهي من أولئك الذين يعشقون القراءة ويغرقون في عوالم الكتب، وكانت الرواية الالكترونية بعنوان مشاعر موقدة للكاتبة "فاطيما يوسف"، وقد أسرتها أيّما أسر لأنّها تطرح قضايا جريئة تخصّ الفتيات والنساء بعمق، فكانت تقرؤها بانجذاب شديد ومتعة فائقة،

وأثناء ما هي جالسة مستمتعة بصفحات الرواية، جلست على أرجوحتها المقوّسة التي اشترتها خصيصًا كي تحيا لحظات القراءة مثل الأميرات في القصص، فإذا بها تسمع فجأة ارتطامًا قويًّا في غرفة نومها، ارتعدت فرائصها من الصوت، فقد كان الليل ساكنًا، والبيوت نائمة، فجاء الصوت كالصاعقة في سكون الجبال،

قامت "نور" من مكانها ببطء وهي تتقدّم بحذر نحو غرفة نومها لتستقصي مصدر الصوت؛ أهو شيء وقع وانكسر أم أمر آخر لا تعلمه؟ كان قلبها يدقّ كطبول الحرب في صدرها، وعيناها تجوسان في أرجاء البيت كعصفورين مذعورين، وما إن دخلت الغرفة حتى انصدمت ممّا رأت، فقد كان المشهد آخر ما يمكن أن تتوقّعه، ولسانها يردّد برعب شديد كلمات لم تكملها،

فكانت تشعر أنّ جدران الغرفة ضاقت عليها حتى صارت كقفص، وأنّ الليل نفسه صار وحشًا ينفث في وجهها أنفاسًا باردة، وصوت ارتطام واحد جعلها كأنّها تسير على جسر من زجاج تحت بحر من الظلمات، لا تدري أين ستضع قدمها التالية وهي تردد بصدمة كبيرة:

ـ "مكرمي" ....


الفصل التاسع عشر من هنا

تعليقات