رواية للهوى رأي اخر الفصل الثامن عشر 18 بقلم سارة حسن


 رواية للهوى رأي اخر الفصل الثامن عشر 

ألقى هاتفه بضيق شديد على سطح الطاولة، ثم أخذ الكأس وتجرعه مرة واحدة، لم يهتم بمرارته وعقله يكاد يجن من تجاهل أسيل عليه، مضطرب، يشعر أنه تائه محتاج لمن ينتشله من هنا، صخب الموسيقى حوله لم يطغَ على ضوضاء عقله، والآن وفي ذلك الضعف تحديدًا، ظهورها خطر لم يعمل له حساب.
شعر بملمس يدها على ظهره، كارفرفة الفراشات، تنحى ياسين جانبًا ولم تهتم، لكنها وقفت أمامه مستندة تظهرها على حافة الطاولة الباردة وابتسامة دلال:
_ ما صدقتيش لما عرفت إنك هنا
أجابها بحدة:
_ دلال، أنا مش في مزاج للكلام دلوقتي
مالت إليه حتى شعر بأنفاسها الساخنة تلفح وجهه:
_ قولي مين الست اللي تقدر تزعل راجل زيك، ده انت تحط رجل على رجل وتشاور بس
التوى فمه بسخرية:
_ أنا مش عايز أختار، المشكلة إنّي عارف أنا عايز مين
_ عايز مين قولي
_ واحدة مافيش منها اثنين، عمري ما تجرأت إني ألمسها، بخاف عليها حتى مني
لم ير تلك الابتسامة الصفراء على وجهها وهي تقول:
_ وسيباك كده، يمكن عشان عارف الكلام ده بتتقل، فيه بنات كده بتحب اللي يفضل يجري وراها
تجرع كأسًا آخر وبدأ ياسين في الهذيان، فأستغلت دلال وقالت تجذبه ليقف:
_ قوم معايا
بتأفف وغير وعي هتف ياسين:
_ يووه عايزة إيه انتي
وفي ركن منزوي عن الأنظار قالت دلال بأغواء:
_ بحبك يا ياسين وإنت مش حاسس بيا
ثم مالت تقبله، لم يصدها أو ينهرها، لكن صورتها ظاهرة في عقله تبكي وعينيها تعاتبه حزينة، لا يشعر بشيء مما تفعله دلال، بل كل ما يشعر به أنه يحتاج أسيل، أسيل! هنا
اتسعت عينيه ثم أبعدته دلال عنه بتقزز، وبخطوات مترنحة رغم أنه بدأ باستيعاب ما حوله بتشوش، وقف قبالتها ينظر إليها بتأمل غير مدرك وجودها حقًا، فرفع يده ببطء وحاول أن يلمسها، فابتعدت خطوة للخلف محذرة بغضب:
_ ما تلمسنيش
توقفت يده في الهواء وعينيه تنظر إليها بضعف، بينما بُكر واضح بعينيها:
_ إنت اي يا أخي، ما عندكش ضمير أو إحساس، طب حتى أزعل شويه أو أتأثر، ازاي قادر تكون ممثل شاطر كده، تبقي معايا رافض بعدي ومن ورايا بتخوني، ازاي ما كنتش شايفه وشك الحقيقي
فتح فمه ليقول أي شيء، لكن لم يسعفه عقله التائه، وقلبه يوجعه من كلامها وتلك النظرة التي كان يخشى أن تصل إليها أسيل بسببه.
انسابت عبراتها رغم أنها أرادت أن تظهر قوية، لكن صعوبة الوضع لم تتحملها، لكنها قوية بدليل أنها واقفة أمامه بقوة رافضة الخيانة، رافضة وجوده المزيف.
_ أنا ندمانة على كل لحظة حبيتك فيها، قلبي واجعني على اللي عملته فيه وإنّي أسمحلك تستهتر بيا وبمشاعري بالشكل ده
مسحت بكفها وجهها بعنف مشيرة عليه بأشمئزاز:
_ لكني أستاهل، ليه سكوت على نزواتك، ليه أرضي إنّي ماكنتش رقم واحد والوحيدة في حياتك
ثم صرخت بقهر باكي:
_ لييه أحب واحد زيك خاين، لييه؟؟
علا بكائها وفقدت السيطرة على انفعالها، وهو كالتمثال الحجري، متجمد مكانه قاضبًا جبينه ينظر لحالتها التي وصلت إليه بسببها دون أن يستطيع أن يفعل أي شيء، رآها تتحرك تجاه سيارتها التي تحركت بها حتى اختفت عن أنظاره، جلس على الأرض الصلبة أسفله، واضعًا رأسه بين كفيه التي تدور به، وبعد لحظات صمت كانت أصوات أنفاسه المتهدجة والتي توحي أنه يبكي، وأن يبكي رجل يعني أنه يتألم بشدة لكنه أيضًا جرح قلب لا ذنب له سوى أنه أحبه.

. .. . .. . ..

صباح يوم جديد..

نزلت دهب لأسفل، بعد ما استيقظت ولا زالت بمفردها، لا تعرف متى غفت، ولكنها لم تدري بنفسها، كانت الغرفة خالية إلا منها ومن حقيبة كانت بها ملابسها، ارتدت ملابسها وقررت تفقد الوضع أسفل.
كان الصمت يحيط ببهو القصر الواسع، وعندما مرت إحدى الخادمات أخبرتها بخروج السيدة رقية منذ أمس وذهابها للمزرعة، ربما أرادت أن تترك بعض الحرية للعروسين، ولكن هذا أفضل من أن تسمع بعرض أمس وما حدث من جنون، ثم أخبرتها مستفيضة بوجود السيد موسى بمكتبه دون أن تسألها، أومأت لها دهب، وبحيرة لا تعرف أين تتجه، أرادت بعض الهواء والتمتع بالحديقة التي لم تر منها الكثير يوم الحفل.
مرت بجانب مجموعة من الصور، إحداهم لرجل وسيم يشبه موسى، يبتسم برقة لزوجته، لم تخطئ في ظنها أنها كانت امرأة جميلة وتملك من الرقة ما يجعل رجل مثله يمتلك الهيبة والقوة، ينظر لها بتلك الطريقة الرومانسية، وأخرى تضحك وشعرها يتطاير من حولها وهو خلفها يشاركها الضحك.
وصور لموسى في عمر أصغر، ثم صور أخرى تجمعهم كعائلة، توقفت عندها كثيرًا، لا تملك صورة مثلها، فقط عدة صور لوالدها وأخرى لوالدتها التي كانت قليلة التواجد.

_ كل ده تأمل في الصور، عاجبينك للدرجة دي؟
التفتت دهب لصوت قاسم من خلفها، احتدت ملامحها وتحفز جسدها، ولاحظ موسى تغيرها فقال بهدوء:
_ اللي حصل امبارح ماكنش المفروض يحصل أبدًا، مش طبعي اتصرف بالشكل ده، لكن كمان تطاولك أنا ما قبلش به، ياريت ما نوصلش لده مرة تانية، خصوصًا إني راجل مش سهل يخرج عن شعور
التفتت برأسها للجانب الآخر فتكلم موسى وهو ينظر لصور عائلته:
_ ده أبويا الله يرحمه
فأشارت لصورته مع والده:
_ شكلكم إخوات أكتر
ابتسم لصورة والده في عمر أصغر وقال:
_ كنا أصحاب جدًا، واللي يشوفنا يستغرب إنه أبويا، ما كانش ظاهر سنه الحقيقي، أو يمكن لأن أبويا اتجوز صغير

أشارت دهب لصورة والده مع والدتها:
_ صورته مع والدتك جميلة أوي

نظر لصورة والديه لبره ثم قال:
_ دي من أفضل الفترات اللي مرت عليا، من بعدها حاجات اتغيرت

لم تفهم مقصده لكنها قالت مدافعة بحجتها من وجهة نظرها:
_ ما تفتكرش ممكن حاجة تحصل تغير النظرة من عيون والدك

_ يمكن اللي اتغير في عيون أمي

نظرت إليه قليلاً دون إجابة فتسائل موسى: علاقتك بوالدك كانت عاملة إزاي؟

رأى تصلب وجهها وأدارته الجهة الأخرى: مش عارفة، يمكن مش لاقيه لها مسمى بالظبط

_ ليه؟

حاولت التملص من الإجابة والعودة لغرفتها تحتمي من ذكريات سيئة تركت في نفسها أثر لم تتجاوزه بعد، تحركت من جانبه لكنه استوقفها ومسك ساعدها:
_ ليه يا دهب؟

سحبت يدها منه ثم عقدتها أمام صدرها بانفعال مكبوت:
_ لأنه ماكنش موجود، مرات قليلة اللي شوفتوا فيها
ابتسمت بسخرية مسترسلة له لأول مرة: كان عنده بيت تاني، أقصد أولاني، كان عنده زوجة وأولاد كبار ووقته كان ليهم، زياراته كانت باردة وقصيرة، كان خايف يعرفوا إنه اتجوز، و عرفوا...
و الوضع ما اختلفش كتير،
يمكن وصل إن زياراته انعدمت وقبل ما يموت بفترة كانت المصاريف بتوصل مع البواب، فكرت كتير ليه كمل في الجوازة دي، كنت فاكرة إنه سحر كامليا، لكنه كان خوف من الفضائح، وفجأة مات، وشوفت لأول مرة في حياتي إخواتي من أبي، كرههم لكامليا عمي عينيهم عني وهم بيحاولوا بكل الطرق ياخدوا نصيبنا الشرعي، كامليا محدش يعرف ياخد منها حاجة فبعدوا عنا، ودي كانت أول وآخر مرة أشوفهم فيها.

التقطت نفس مرتجف بعد حديثها المطول، أمام موسى المنصت لها، وعينيه التي لم تفارق ملامح وجهها بانفعالاته وعينيها الحزينة والتي تخفيها بنظرة ساخرة.

مسحت على جبينها وتمتمت بخفوت: ما كانش لازم أحكي كل ده

اقترب منها موسى، فارداً كفها وماسحًا بإبهامه بداخله، لأول مرة يرى ذلك الجانب من دهب، يراها طفلة فقدت والدها وهو على قيد الحياة مرة ،وأخرى عند موته.

نظرت له وتمنت أن يهون عليها بين ذراعيه، وهي كأنها تطلب منه شيء، شيء مبهم له لا يفهمه،

فقال بصوت هادئ مداعبًا:
_ المفروض إني إجازة النهارده، والنكد بدأ من أول ما شوفتيني، ممكن لو سمحتي يعني نفطر الأول، لأني بصراحة جعان جدًا، وبعدها نشوف هانكد على بعض بقية اليوم إزاي

ابتسمت حتى شمل وجهها ضحكة رائعة وهي تومئ برأسها موافقة وتحركت مقررة أن يكون الإفطار في الهواء، تتبعها موسى مع ظهور بسمة خاصة بها ونظرة لو رأتها لهدء قلبها وأشرقت.

........

بخطوات بطيئة وثقيلة دخل قاسم غرفته، يحاوطها الظلام إلا من نور ضعيف آتي من النافذة، لم يصدر صوت بعد ما أدرك أنها غافية، متقوسة على نفسها وشعرها مشعث بجانبها، ملامحها المرتخية لم تخفِ إرهاقها.
الآن فقط تذكر أنها لم تأكل شيء منذ يومين، جلس على الكرسي القريب من الفراش مستندًا بساعديه على فخذيه، وحالة الندم تعصف بداخله وتأنيب ضميره يقتله، كيف فعل بها كل هذا وصدق الافتراء عليها.
لقد خذلها قاسم، وفيروز وإن كانت هشة، إلا أنها لن تصفح عنه بسهولة، بل من الممكن أن تخرج كل الكبت بداخلها به، وسيتحمل، يتحمل أي شيء فقط أن تظل بجواره، وفكرة ابتعادها عنه مستحيلة مهما كانت الظروف، وخروجها من بيته يعني أنها لن تعود أبدًا، ولن يسمح بذلك حتى لو احتاج الكثير من الوقت لتغفر، سيفعل أي شيء فقط لتسامحه.
لم يشعر بنفسه وهو يتأملها أنه بدأ يغفو على وجهها، وجفونه بدأت تستجيب لسلطان النوم على غفوته تهدأ من ازدحام عقله.
تململت بعد ما شعرت بأشعة الشمس المتساقطة على وجهها، فتحت عينيها وتأملت أشعتها لبداية يوم جديد، أحلام يسعى أحدهم لتحقيقها وآخر يستقبل اليوم بحماس وتفاؤل، وهي تستقبل يومًا جديدًا من العذاب، تنتظر نهايته منذ أن بدأ حتى ترتاح وتهرب بنومها من واقعها المرير، لم يعد لها رغبة لأي شيء ولا حتى للحياة.
ظنت أنها بدأت تعيش، تحلم، وتحب، وترسم مستقبلًا، لكن بعد ما حلقت في السماء اصطدمت بالأرض بكل قوتها، وفقدت القدرة حتى على أن تساعد نفسها وتنهض مرة أخرى.
نزلت من على الفراش فأنساب فستانها الذي لا تعرف متى ارتدته، لامست قدميها الحافيتين الأرض الصلبة من تحتها واتجهت لتلك المرأة الكبيرة في جانب الغرفة، لم تنتبه لقاسم الذي يتتبعها بعينيه دون أن يصدر صوت، فقط يراقبها بعينين متألمتين.
قابلت وجهها الشاحب وعينيها المنتفختين، شعرها الباهت وعينيها الفاقدتين للحياة، لقد فعلوا كل شيء ليحطموها، فعلوا كل ما بوسعهم لتصبح شبح امرأة كالتي تراها أمامها الآن.
انسابت دمعتان بصمت على خديها، والخواء والكسر تأكلها، وهدَر قلب ذلك الحزين....
لامست المرآة بأصابعها وفجأة تحولت بأهتياج فدفعتها بقوتها حتى سقطت المرآة للخلف ودوى صوت تحطيمها الغرفة متناغمًا مع صوت بكائها العالي، أسرع إليها قاسم وقيدها من الخلف، فاهتاجت أكثر وحاولت التملص منه بغضب، لكنه لم يتركها، بل اعتدل وحاوطها بين ذراعيه وصدم مما استمعه منها وجعله يتخشب مكانه.

تعليقات