رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل التاسع عشر 19 بقلم فاطيما يوسف



 رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل التاسع عشر  بقلم فاطيما يوسف




 #

حينَما اقتربتُ من المكانِ ارتجف قلبي، والهوى في دمي اشـ.ـتعل كنهرٍ من عسلٍ مُسكِر وحنون، والعطرُ عِبقُه يلتفُّ حولي كأجنحةِ حلمٍ جميل والليلُ يفتحُ لي أبوابَ أسراره المكنون، و شموعُ الشوقِ المُضاءة تناديني بنورها الذي يذوبُ على ملامحي كقبلةٍ خفيّة تتسابق لعناية مع الورد المنثور، وقفت مشدوها من سحرِ اللحظةِ وخطايَ ترتجفُ والأملُ يسبقني كنجمٍ صغير يلمع في سمائه ونوره يسحر العيون ، أمشي كأنّي أحملُ قلبي بين يديّ، وأكتبُ قصيدةً على شوق الليل، وأنفاسي تحملُ عطرها المسحور بجنون، والنبضُ في صدري يرقصُ من الخجل، والكونُ كلُّه يهمسُ؛ تقدَّم يا فتى ها هو اللقاء؛ وهناكَ وجدت في عينيها مرساي ، وفي صوتُها دفءُ الشتاء، وفي ابتسامتها وطنٌ عاد إلىَّ بعد طول غياب، وحينما احتضنت الكفوف؛ أذابنا شوق اللقاء ونسينا العالم أنا وساحرتي .


كانت تشعر أنّ جدران الغرفة ضاقت عليها حتى صارت كقفص، وأنّ الليل نفسه صار وحشًا ينفث في وجهها أنفاسًا باردة، وصوت ارتطام واحد جعلها كأنّها تسير على جسر من زجاج تحت بحر من الظلمات، لا تدري أين ستضع قدمها التالية وهي تردد بصدمة كبيرة:

ـ "مكرمي" ؟!


بعد أن نطقت باسمه، كانت على وشك أن تصرخ بأعلى صوتها علَّ أحدًا يسمعها ويُنقذها من "مكرمي" ومن الشرر المتطاير من عينيه، لكنّه في لمح البصر كان قد قفز من النافذة كذئبٍ ينقضُّ على فريسته، وجذبها نحوه بقبضةٍ من حديد، انقطع نفسها وارتجف قلبها حين همس عند أذنها بفحيحٍ سامّ، وأخرج من جيبه مطـ.ـواةً لامعة ووضعها على عنقها مهدّدًا، وكأنّ الليل نفسه انحنى على كتفيها ليحاصرها بسواده،

كانت اللحظة كعاصفةٍ من الرعب تجتاحها، فكلُّ خلية في جسدها تصرخ بينما لسانها انعقد خوفًا، شعرت أنّها طائرٌ ضعيف انقضّ عليه صقرٌ في هواءٍ خانق، وأنّ أنفاسها الأخيرة تذوب بين حدّي الخوف والسكين :


ـ بلاش صوتك يعلـى يا دكتورة البهايم يا غدارة علشان لو صوتك علـى ما حدش هيحسّ بيّا، قَسَمًا بالله هخلّص عليكِ وعليّا، أنا مش باقي على حاجة، اقفلي بقّك ده خالص.


هزّت رأسها في ذعر، تحاول أن تنتزع صوتها المختنق من بين أصابع قبضته القاسية، ودموعها تنهمر في لحظة على يديه المرتجفتين، بينما خفقات قلبها السريعة تدق كطبول حربٍ في صدرها المذعور،

كانت تسعى أن تهمس له بالموافقة على كلماته، لكنّه كمّم فمها حتى أتمّ هو كلامه، وعيناه تقدحان شرراً كأنّما يستمدان لهيبهما من جحيمٍ مستعر،

فـكانت كحمامةٍ حُوصرت في قبضة صقرٍ متوحّش، ترفرف أجنحتها عبثاً فلا تنفكّ عن الأسر، وكان هو كليلٍ دامسٍ ابتلع نور النهار فلا يُرى فيه سوى أشباح الخوف والظلال:


ـ هسيب إيدي بس قَسَمًا بالله أنا واحد بايع نفسه وبايع الدنيا باللي فيها، لو سمعتك بتصوّتي ولو نفسك بس علـى برّه حيطان الأوضـة دي هخلّص عليكي، فخلينا نقول الكلمتين بهدوء من غير ما حد يسمع، تمام؟


هزّت رأسها وهي تشعر أنّ أنفاسها توشك أن تنقطع من شدّة كتمه لها، وما إن أزاح يده حتى انقـ.ـضّت بقبضتيها على صدره بضربةٍ مرتجفة، تتكلم بصوتٍ هامسٍ خافتٍ كي لا يسمعها أحد، لكنّه كان صوتاً مشبعاً بالألم والخذلان، كان أنينها يتسرّب من بين شفتيها كما يتسرّب الماء من شقوق الصخر، ضعيفاً لكنه لا ينطفئ،وكانت قبضتاها ترتجفان كعصفورٍ يرتعد في حضن إعصارٍ هادر:


ـ إنت إيه يا أخي؟ هموت في إيدك، كتمت نفسي وكانت روحي هتطلع، حرام عليك، إنت عايز منّي إيه؟ ابعد عنّي بقى، أنا سبت لك الدنيا باللي فيها، إنت مش هتستريح غير لما تموتني أنا عارفـة.


أمسكها من كتفيها وهزّها بعـ.ـنفٍ، يدور بها حول نفسه والذهول يشتعل في عينيه، ثمّ رمقها بنظرةٍ مزلزلة وسألها السؤال الذي كان ينهش صدره في كلِّ ليلةٍ من ليالي السجن بعد أن علم أنّها خلعته ،فـكان صوته يندفع من حنجرته كسيلٍ جارفٍ يهدم السدود في طريقه،وكانت عيناه كجمرتين تلتهمان صمت الليل وتفضحان كلّ خيانةٍ دفنتها السنين :


ـ جالك قلب تعملي فيّا كده! إزاي تروحي تخلعيني وتهربي وتسيبيني في عزّ أزمتي واحتياجي ليكي؟ بقى ده ردّ الجميل ليا؟

بقى حبّك الكبير اللي كنت دايمًا بتوصفيه لي؟

طلعتي قادرة قوي يا بنت عمري، اللي ربيتك على إيدي وحبيتك من وإنت عيّلة بضفاير، أوّل ما اتسجنت رحتِ خلعتِ نفسك على طول؟ ده أنا مالي وصحّتي راحوا عليكِ وبسببك، تقومي تعملي فيّا كده يا "نور"؟

طلعتي أنانيـة قوي قوي فوق ما كنت أنا أتصوّر.


كانت "نور" مثخنةً بالألم مثله تمامًا؛ فقد كان منظرُه الممزَّق وقوامُه الهزيل يعتصر قلبها، وتحت عينيه الهالكتين، أثرُ السُكرٍ والمخدّراتٍ أنستهُ ملامحَه الأولى؛ فما عاد ذاك "مكرمي" الجبّار، عريضَ المنكبين، الذي كان مَن يراه يسمي بالله من شدّته وبأسه، بل صار غريبًا عنها كأنَّه شبحُ رجلٍ سقط من علياء نفسه،

فـكان المشهد بينهما كصراع ريحٍ عاتيةٍ وشجرةٍ هرمةٍ تتمايل في مهبّها،

وكانت كلماتهما كسيوفٍ مُجرَّدةٍ تتقاطع في فضاءٍ واحدٍ فلا يُبقي أحدهما للآخر مهربًا ولا مخبأ :


مين فينا اللي أناني يا "مكرمي"؟ مين فينا اللي دمّر حياتنا وخلانا مشبوهين، والناس كلها بقت تبصّ علينا بسبب إنك بتسـ.ـرق بيوتهم وما بقوش حاسّين بالأمان بسببك؟ مين فينا اللي كان بيضـ.ـرب التاني وبيخـ.ـنقه وضيّق عليه الحصار قوي إلا إنت؟ مين فينا اللي ضعف ومشي في الطريق الغلط؟ قول لي يا "مكرمي"، مين فينا اللي وصلنا للي إحنا فيه دلوقتي أنا برضه؟


اشـ.ـتعل "مكرمي" غضبًا من كلماتها حتى كاد أن ينفجر؛ فاندفع نحوها يقترب منها بعينين تقدحان شررًا، وجذبها من شعرها بعـ.ـنفٍ كمن ينتزع الغصن من جذوره، وأطبق أسنانه بغـ.ـضبٍ صلدٍ يؤكِّد لها أنّها هي السبب في كل ما حدث، كان صوته في تلك اللحظة أشبه بصوتِ الرعد حين يشقّ السماء، وكانت قبضته على شعرها كالمخلب الجارح الذي لا يرحم صيدَه،وفي ملامحه ارتسمت نـ.ـارُ حقدٍ مكتومٍ يوشك أن يحـ.ـرقه قبل أن يحـ.ـرقها، وكأنّ الشيطان قد أوقد في صدره جمرَ الانتـ.ـقام :

 

ـ آه إنتِ، أنا كنت شاب رياضي، حطّيت رجلي على أوّل الطريق للقِمّة، لولا حبّك اللي وقعني في شرّ عيلتك، لولا إنّي قابلتك ما كانش زمان ده بقى حالي، هم اللي دمّروني وإنت كمان دمّرتيني زيهم وسبتيني في عزّ احتياجي ليكي، عمري ما هسامحك أبدًا. المفروض كنتِ تقفي جنبي لحدّ آخر نفس في عمرك.

حبّنا يِحتم عليك إنّك ما تتخلّيش عنّي لحد ما أخفّ، يا نعيش سوا يا نموت سوا، لكن إنتِ طلعتي جبانة وهربتي وسبتيني في عزّ ضعفي، أمّا أنا كنت قوّتك في عزّ ضعفك.


لم تستطع "نور" أن تسيطر على أعصابها؛ فانفـ.ـجرت باكيةً بكاءً مرًّا كالنـ.ـار تنـ.ـفجر في الهشيم، وكان قلبها يخفق وجعًا كطبلٍ مكسورٍ لا يكفّ عن الأنين من قسوة الحياة المُرّة التي عاشتها مع "مكرمي"،راحت تذكّره بصوتٍ مختنقٍ بالدموع بمواقفها الصادقة ووقوفها إلى جانبه في أحلك اللحظات، كالجدار الذي حمى بيتَه من الانهيار، وكالسراج الذي أضاء له طريق العتمة يوم تخلى عنه الجميع :


ـ أنا ما وقفتش جنبك يا "مكرمي"، ما حاولتش أعالجك بدل المرّة عشرة، وكل مرّة كنت تخذلني،

صحّتي وفلوسي وأماني كلّهم ضاعوا عليك، وأنا بحاول معاك إنّك تبطّل الهباب اللي إنت بتتعطّاه مرّات ومرّات،

كنت هموت في إيدك كذا مرّة بسبب ضعفك وإنّك عايز أي فلوس وخلاص عشان تروح تشمّ بيها. إنت اللي استغلّيت ضعفي واستغلّيت إنّي مليش حدّ واستغلّيت إنّي ما أقدرش أدافع عن نفسي قصادك، أنا هربت علشان أنجا بروحي، علشان أنا من حقي أعيش طالما إنت رافض إن إنت تعيش حياة سويّة، أنا ذنبي إيه؟


صفّق "مكرمي" بيديه تصفيقًا ساخرًا، كأنّه يُحطّم بهدوءٍ ما تبقّى من كرامتها، وكان صوته في التصفيق يدوّي في المكان كالصفعات على وجه الحقيقة، ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ مُلتوية في سخريةٍ تنضحُ احتقارًا وغضـ.ـبًا دفينًا، كذئبٍ يبتسم قبل الانقضاض على فريسته:


ـ فعلًا من حقّك تعيشي، زي ما بقول لك كده قمّة الأنانيـة؟

ياما الناس نصحوني إنّي أبعد عنك وإنّ حياتك كلها دمار، وأنا كنت بقول؛ عمري ما أسيبها، أنا بحبّها، عمري ما أتخلّى عنها لو هموت علشانها، أي حاجة وكل حاجة كنت بستخسرها في نفسي علشانك وأقول؛ هي تستحقّ أكثر منّي، إنت راجل وتتحمّل وهي لا،

كنت بدي لك ألف عذر على معاملة أهلك ليا وغدرهم بيا، وإنّهم حطّوني في طريق الإدمان إجبارًا عنّي علشان ينتقموا منك فيّ، ويا ريتك قدرتي ده، سبتيني ومشيتي؟


كانت "نور" تبتلع ريقها بصعوبةٍ، وكأنّها تتجرع نـ.ـارًا ملتهبة، بينما عيناها تسبحان في بحرٍ من الألم، أحسّت بحـ.ـرقةٍ في صدرها من نظراته، فقد كانت عيناه تفيض بالحزن أكثر ممّا تحمل من اللوم، وتغمرها بالشوق أكثر ممّا تلهبها باللوم، ومع ذلك ظلّت تحاول الدفاع عن نفسها، لأنّها في حقيقة الأمر لم تكن سوى امرأة قليلة الحيلة أمام إعصاره الجارف، كان قلبها حين ينظر إليها كطائرٍ مكسور الجناح يرتعش على حافة الموت، وكانت مشاعرها كأرضٍ عطشى تنتظر غيثًا لا يأتي:


ـ إنت بتعايرني يا "مكرمي" علشان وقفت جنب بنت ضعيفة ملهاش حدّ؟ طب أنا كنت بنت وارتبطت بيك، ارتبطت براجل المفروض إنّه يحميني من الدنيا كلها، المفروض يحافظ عليّا مش يضعف، وافتكر يا "مكرمي" إنّك في أوّل طريق الضـ.ـرب والإدمان حاولت معاك بكلّ الطرق وإنت كنت مستحلّي الموضوع وشايفه مزاج ودماغ، وأنا مهما كنت أحاول أبعدك تزعق لي وتبهدلني لحدّ ما وصلت إنّك تمدّ إيدك عليّا لحدّ ما كسرت لي رجلي في مرّة، فاكر ولا مش فاكر؟ كنت هستنى لما تطلع مطوتك اللي إنت شايلها في جيبك وتموّتني بيها؟ كنت ساعتها هتستفيد إيه بموتي؟ أنا هربت علشان أخليك تنقذ نفسك من الدمـ.ـار، علشان أعرفك إنّك ممكن تخسر كل حاجة إلا الحاجة الوحيدة اللي إنت ضامنها اللي هي أنا، فخلّيتك تحسّ بخسارتي علشان تفوق وتتعالج.


 كان "مكرمي" يدرك كلّ كلمةٍ تنطق بها "نور"، وكأنّها سهام تطرق باب ضميره المغلق، عرف أنّه قد أخطأ في حقّها، وأنّه لم يكن رجلاً يليق بالمسؤوليّة التي حملها، وأنّه جرحها وبعثر حياتها واستقوى عليها بإدمانه، ومع كلّ هذا الوعي كان قلبه يئنّ من وجعٍ آخر، إذ صعبت عليه نفسه التي خذلتها حين تركته، وكأنّها نزعَت آخر أعمدة بيته المتهالك، وفجأةً شعر بانهيار أعصابه وارتخائها، فجلس على الكرسي في الغرفة وهو يدفن وجهه بين يديه كمن يحتمي من عاصفةٍ لا مفرّ منها، كان كرجلٍ هزمته حروبه الداخلية، وكأنّ قلبه قلعةٌ انكسرت أبوابها تحت حصار الندم، وكانت يداه قفصًا يخبّئ فيه خيبته وانكساره عن العالم:


ـ أنا عارف إنّ أنا غلطان، وعارف إنّك عمرك ما كنتِ هتقدري عليّا، وعارف إنّ أنا بهدلتك ودمّرتك معايا، بس قلبي صعبان عليّه منك إنّك سبتيني، قلبي صعبان عليّه إنّي ضيّعتك وإنتِ ما حاولتيش معايا لآخر نفس في عمرك، أنا عارف إنّ أنا ضعيف وما أستحقّش واحدة زيّك.

انهمرت دموع "نور" وهي تشاهد انهياره؛ كان المشهد يمزّق أوتار قلبها، فهي رغم كل شيء لا تزال تعشقه إلى حدٍّ بعيد، وما غاب عن ذاكرتها في لحظةٍ قط، بل ظلّ محفورًا في قلبها كالنقش على الحجر، كانت متعاطفة مع حالته إلى أبعد الحدود، وكأنّها تحمل عن روحه بعض ثقل الوجع، وفجأةً وجدت نفسها تجلس على الأرض أمامه، كطفلةٍ عادت إلى حضن حكاياتها القديمة، ورفعت يده عن وجهه بلطفٍ، لتحتضنها بكفّيها الصغيرتين، وقد أحسّت برعشةٍ تسري في جسدها من مجرّد ملامستها يديه؛ يدي حبيب طفولتها وشبابها، حبيب عمرها الذي حرمتها منه الظروف القاسية، كان دفء يديه كالنبض القديم الذي عاد بعد طول غياب، وكانت هي كزهرةٍ عطشى عثرت أخيرًا على نبعها الضائع، وهمست بصوتٍ مرتجف تطلب منه:

ـ ما تعيّطش يا "مكرمي"، مش بحبّ أشوف دموعك ولا كسرتك، مش بحبّ أشوف ضعفك، أنا حبّيتك قوي واتجوزتك قوي، أنا حرّمت على نفسي الرجالة من بعدك، ومحافظة على نفسي طول فترة سجنك، وعمري ما فكّرت إنّي أبصّ لحدّ تاني، عمري ما فكّرت أحبّ راجل غيرك، إنت حبيبي وحبيب عمري وأيّامي، وعمري ما أنسى أفضالك عليّا ولا عمري هنسـاك يا "مكرمي" مهما عملت فيّا ومهما قسيت عليّا ومهما دمّرت حياتنا، أرجوك، إنت لازم تتعالج، إنت شكلك لحدّ دلوقتي حتى وإنت في السجن ما اتعالجتش، ليه؟ حرام عليك؟

ما إن لامست "نور" يدي "مكرمي" حتى ارتجف جسده بأسره، ارتعاشة رجلٍ عثر على وطنه الضائع بعد التيه، كانت هي الإنسانة الوحيدة التي عشقها، لا بل أدمن عشقها حتى صار هواهُ لها مثل الدم يسري في شرايينه، سنونٌ طويلة في السجن حرمتْه منها، حتى صار يشعر أنّه يختنق بالحنين إليها، وأنّ روحه تصـ.ـرخ شوقًا كي يضمّها حضنًا يتقوّى به ويستعيد أنفاسه المبتورة، فجأةً جذبها إلى صدره، وكأنّه يغرق ويتعلّق بخشبة نجاة،

لكن "نور" رغم ارتجاف قلبها حاولت أن تُبعد ذراعيه عنها، تذكّره بأنهما مطلّقان، وأنّه لا يجوز البتّة أن يقترب منها، وهي تعلم أنّه إذا سمح لنفسه بالاقتراب فلن يكتفي بعناقٍ عابر، كانت يدها على صدره تَحُول بينه وبينها، تقاوم انجرافها خلف ذكرياتها ، ومع ذلك حين رأتْه يقترب أكثر ويُقبّل عنقها باشتياقٍ يكاد يحـ.ـرق الهواء من حوله، ارتجف قلبها كطائرٍ صغير في يد صيّاد،

كان المشهد كالعاصفة تقتحم سكون الليل؛ شوقٌ صاخب في قلبه، وارتباكٌ ممزوج بالخوف في قلبها، بين ماضٍ يصرخ وحاضرٍ يقاوم:


ـ حضنك كان واحشني، وكل حاجة فيكي وحشاني، انا بحبك يا "نور" أرجوكِ أنا محتاجك قوي. 


حاولت "نور" أن تُبعد يدي "مكرمي" بكلّ ما أوتيت من قوّةٍ خفيّة، تدفعه عنها كما تدفع الموجةُ الغاضبةُ قاربًا صغيرًا يحاول الرسوّ على شاطئٍ محرَّم، كانت تناديه بصوتٍ مرتجف، تحاول أن توقظه من سُكر الاقتراب، وتفكّ قيود الشوق التي التفّت حوله كالأفعى :


ـ ابعد يا "مكرمي" حرام عليك، كفايانا حرام وذنوب احنا مطلقين وما ينفعش تقرب مني بالشكل ده أرجوك ابعد .


كان يتنفّس بصعوبةٍ في قُربها، أنفاسه تتلاحق كأنّها مطرٌ غزيرٌ على أرض عطشى، وصدره يعلو ويهبط في اضطرابٍ يشبه ارتجاف أوراق الشجر أمام ريحٍ هائجة، كان يوشك أن ينهار بين نـ.ـار شوقه وحائط خوفه،

فـاقترب منها حتى كادت أنفاسهما تختلط، لكنه لم يمدّ يده إليها؛ ظلّ يواجهها بعينين فيهما بحرٌ من الندم وسماءٌ من الحنين، رفع رأسه ببطء، وهمس في أذنها بصوتٍ مبحوح كأنه اعترافٌ بعد صمتٍ طويل:


ـ بس أنا ما طلقتكيش، ولا نطقت الطلاق وانتِ لسه مراتي، أنا ما ليش دعوة بحكم المحكمة طالما ما نطقتش الطلاق يبقى انتِ لسه مراتي .


شعرت "نور" أنّها على حافةِ منحدرٍ خطِر، كمن يسير على حبلٍ ممدودٍ فوق هوّةٍ سحيقة، فانسحبت بجسدها عنه بسرعةٍ وبصعوبةٍ بالغة، يداها ترتجفان وقلبها يخفق كطبولٍ مذعورة، كانت أنفاسها متقطّعة، تتصارع مع خوفها وحيرتها، كطائرٍ يحاول الإفلات من شبكةٍ خفيّة،

تراجعت خطوتين إلى الوراء، والعرق يتصبّب من جبينها، ووجهها يغمره خليطٌ من الارتباك والحزن، ثم رفعت يدها المرتجفة وهي تقول بصوتٍ مرتجّ تحاول أن توقظه من غيبوبته:


ـ إنت مضيت على قرار الخلع وطالما مضيت في المحكمة يبقى ده موافقة منك بالطلاق، فوق بقى يا "مكرمي" فوق لنفسك إنت لازم تتعالج .


حاول "مكرمي" أن يجذبها إلى حضنه مرّةً أخرى، لكنّها كلّما اقترب منها ابتعدت، وكأنّها طيفٌ يتفلّت من بين أصابعه مثل الماء، كان صدره يعلو ويهبط بشوقٍ محتدم، والعرق يتلألأ على جبينه كندى الصباح على صخرةٍ عطشى،

مدّ يديه نحوها بتوسّلٍ يائس، وصوته يخرج متقطّعاً كأنّه نايٌ مكسورٌ ينزف أنيناً، ثم قال لها برجاءٍ خافتٍ يضجّ بالحنين:


ـ طب خلاص يا "نور" تعالي نرجع مصر ونرجع لبعض وأنا اوعدك إن أنا هتعالج، أنا عمري ما هعرف أتقدم خطوة وانتِ بعيدة عني، أرجوكِ ما تسيبنيش. 


 رفضت "نور" بشدة وعللت رفضها بأسباب مقنعة: 

ـ ما ينفعش أرجع معاك يا "مكرمي" أنا هنا بقبض مرتب كويس، وعايشه بعيد عن الناس اللي تعرفني، لو عايز تتعالج صح أقعد معايا هنا، هخلي صاحب الشغل اللي أنا بشتغل عنده يشوف لك مكان تقعد فيه، وهخليه كمان يجيب لك دكتور يعالجك هو راجل كويس جداً وبيعتبرني زي أخته ،


وتابعت وهي ترى بوادر موافقته على حديثها :


ـ المكان هنا مريح للنفس والأعصاب، وبعيد عن كل اللي كانوا بيرجعوك للضرب تاني، لأنك طول ما انت قاعد في المنطقة اللي احنا كنا فيها طول ما انت هتضعف، وطول ما هما هيجروك، هنا في طبيعة وخضرة وجو هيحسن من نفسيتك وهيخليك تتعالج أحسن، بس المفروض تدخل البيت من بابه فانت ترجع دلوقتي لحد ما امهد لباشمهندس "عمران" بحاجة زي دي؛ علشان لو عرف إن انت هجـ.ــمت على البيت بالشكل ده مش هيحصل طيب أبدا، ودول ناس صعايدة فأنا هحاول أخرجك من المكان ده دلوقتي من غير ما حد يحس هم تقريباً كلهم نايمين وهقول لك ترجع امتى،ايه رأيك يا "مكرمي" مش كفاية ضياع وبهدلة؟


نفخ بضيقٍ شديد، لا يريد أن يتركها ولا أن يبتعد عنها، وعيناه وجسده بأكمله يستعطفانها أنْ لا تهجره، كان كطفلٍ ضائعٍ في صحراء، يمسك بظلّ أمه كي لا يضيع، 

ومع كل ذلك الاضطراب، قرّر "مكرمي" هذه المرّة تحديداً ألّا يخذلها؛ كأنّه فارسٌ جريحٌ يتّكئ على رمحه المكسور، ويقسم أن يصمد رغم النزف، بدا قلبه كقنديلٍ يتأرجح في مهبّ الريح، لكنّه مصرٌّ على أن يظلّ مضيئاً لها مهما اشتدّت العتمة:


ـ حاضر يا "نور" همشي بس اوعاكِ تكوني بتكدبي عليا علشان توقعيني؟ اوعاكِ تفكري تغدري بيا او تكوني بتضحكي عليا؟ ساعتها هتبقى القاضية والناهية ما بيني وما بينك .


 "نور" أكدت له بتشجيع وحماس : 


ـ عمري ما اغدر بيك طول ما انت ناوي الخير وعايز تصلح من نفسك علشان أنا عايزه كده أكتر منك بكتير توكل على الله وأنا في ضهرك وعمري ما هسيبك ولا هتخلى عنك. 


كانا كلاهما قد شربا من كأس العناء؛ حياتهما سلسلةٌ من الشقاء والمؤامرات، كلاهما يقاتـ.ـل ليبقى واقفاً أمام غدر البشر المحيطين بهما، سمع "مكرمي" كلماتها، وخرج معها، فيما ظلّت هي تؤمّن له الطريق حتى خرج، أعطته مالاً ليستأجر مكاناً قريباً من مسكنها، وناولته رقم هاتفها، وكأنها تعطيه حبلاً يربطه بالحياة من جديد،

وما إن غادر حتى اختلت بنفسها، وارتمت على السرير باكيةً بحـ.ـرقة على حاله وعلى ملامحه المنهكة، وعلى الحياة القاسية التي جمعتهما، كانت دموعها تتساقط مثل انهمار المطر على صخورٍ متعبة، وقلبها يهتف بالدعاء أن يجعل الله هذه المرّة شفاءً له لا كسائر المرّات، شعرت كأنها تحمل على كتفيها جبلاً من الذكريات، لكنّها رغم كل الألم ظلّت تضيء له شمعة الرجاء في ظلامه الطويل.


               *******

كانت "كارما" جالسةً في المكتب مع "ماهر"، تبثُّ له شكواها من "رحمة" ومن شدَّتها عليها، ولا سيَّما الكلمات القاسية التي تلفَّظت بها، كانت كلمات "كارما" تتساقط أمامه كأوراقٍ يابسةٍ في ريح الخريف، تحمل في طيَّاتها وجعاً دفيناً وخوفاً مكتوماً، بدا صوتها كجدولٍ صغيرٍ يحاول أن يشقَّ طريقه بين صخورٍ صلدة، فيما كان "ماهر" ينصت إليها بعينٍ ساكنةٍ وذهنٍ يقظٍ يحاول أن يفهم أعماق ما تقول :

ـ عن جدّ أم "فيروز" معاملتها صعبة ومو منيحة معايا بالمرّة يا "ماهر"، آخر مرّة التقينا سوا بهدلتني بالألفاظ اللي ما حدا بيتحمّلها بالمرّة، وأنا مو مضطرّة اتحمّل كل هيك المعاملة الجافّة والقاسية منها، مع إنّي ما بحاول استفزّها بأي شكل، ومش فاهمة هي ليه عم تعمل كل هيدا وياي.


ردَّ عليها "ماهر" وهو يشعر بأنَّ صراعاً عنيـ.ـفاً يدور بين "رحمة" و"كارما" لا ينتهي، فاعتذر لها نيابةً عن "رحمة" بصوتٍ هادئٍ يحمل في نبراته أسفاً عميقاً، كان يدرك أنَّ بينهما حرباً خفيَّةً كالمد والجزر،

فبدت كلماته كندى الفجر حين يسقط على أوراقٍ محترقة، يحاول أن يخفِّف من حدَّة الرماد، ويغسل أثر الجراح :


ـ حقك علي وبعدين اني متفق وياكِ من قبل ما تاجي من "لبنان" ومعرِفك كل حاجة عن طبع "رحمة" الصعب ،اتحمليها معلش عشان خاطري، ولا اني ما ليش خاطر عنديكي عاد ؟ وليكِ علي بعد اكده لما أعرِف انها خلصت شغلها وهتعاود على البيت هقول لك تمشي، بس ما ينفعش نسيب "فيروز" دلوك قبل ما اطمَن ان هي استقرت في شغلها وظبطت القضايا اللي حداها، معلش يا "كارما" اتحمَلي عشاني شوي . 


كانت "كارما" جالسةً تتنهَّد بضيق، تتساءل في سرِّها كيف لها أن تحتمل معاملة "رحمة" القاسية وسبابها المتكرِّر وإهانتها المستمرة، وهي لم تعتد قطُّ على هذا النمط من التعامل؛ فقد عاشت عمرها كلَّه تحبُّ أن يُعاملها الآخرون بذوقٍ وأن تردَّ الذوق بالذوق، والاحترام بالاحترام، فأجابت بنبرةٍ يختلط فيها الألم بالعزم و وملامحها كغيمٍ أسودٍ يتجمَّع قبل العاصفة، يهدِّد بالمطر أو الصواعق:


ـ أخي "ماهر"، إنت عارف أنا أخدمك بعيوني، بس المرّة اللي فاتت ما بقيت متحمّلة طريقتها الثقيلة، العمى شو هالمرّة، كيف اتجوّزتها بها اللسان الصعب ومعاملتها القويّة دي! عايزة رجال يكون جبل يقدر يتعايش معاها ومع قوّتها، وأنا اللي كنت عم قول على حالي قويّة، أنا جنبها ما أسوى شي.


لم يستطع "ماهر" أن يتحمَّل طريقة كلامها عن "رحمة"، فمهما كانت الأخيرةُ صعبةَ المراس وصلبةَ الطبع، فهي حبُّه الأول والأخير، وأمُّ ابنته، ومهما كانت معاملتها حادَّةً أو قاسيةً فإنَّه لا يقوى على سماع كلمةٍ تمسُّها بسوء، فكان قلبه كدرعٍ من حديدٍ يصدُّ السهام عن معشوقته، ولسانه كسيفٍ يلمع دفاعاً عنها في وجه كل كلمة:

ـ لاه ، بعدي عن "رحمة" عاد ما هتحملش اي كلمة عفشه عنيها واصل يا "كارما" ، وبعدين اني أعرِف عنك إنك جدعة يا بت أبوكي كملي جميلك وياي، وبعدين "فيروز" لازم تتعرف عليكِ وتحبك وترتبط بيكِ ما انتم دم واحد عاد. 


ما إن ذُكِرَ اسمُ "فيروز" حتّى ارتسمت على وجه "كارما" ابتسامةٌ دافئةٌ غمرها الحنان، فقد أحبَّتها هي أيضاً وتعلَّقت بها بصدق، لكنَّها طلبت من "ماهر" بصوتٍ ممتلئ بالرجاء أن يمنحها فرصةً لتكون أقرب إلى تلك الصغيرة:


ـ يا الله "فيروز" بنوّتـه كيف القمر، ما شاء الله عليها كتير كتير بموت فيها وبحبّها من ساعة ما دقّت رجلي لمصر وشوفتها لـ"فيروز" وحطّيتها جوّات حضني، من وقتها وأنا حبّيتها، تؤبرني هالحلا كلّاته ورثته من جدّتـها، طب ليش ما نحكي لـ"رحمه" عن طبيعة العلاقة ما بيني وما بينك، وخصوصًا إنّها لازم تعرف وكمان علشان تهدى بدل العواصف اللي رايحة جاية دي؟


كان "ماهر" رافضاً تماماً أن تُدرك "رحمة" طبيعةَ الصلة التي تجمعه بـ"كارما"، لأنّه لو علمت تلك القرابة لما أولَت "فيروز" اهتماماً، ولسلَّمت أمرها إلى "كارما" وعادت إلى العمل أشدّ مما كانت عليه، فهو يعرف "رحمة" جيداً ويقرأها كما يُقرأ كتابٌ مكشوف:


ـ "رحمة" لو عرفت إنك أختي من الأب هتعتمد عليكِ في "فيروز" وخصوصا ان كل اللي قاهرها دلوك إن " فيروز" اتعلقت بيكي جدا وحبتك فلما تعرِف إنك عمتها مش هتحاول توفق ما بين البيت والشغل والبنت أني عارف "رحمة" زين . 


تأففت "كارما" بضجرٍ، تتنفّس ببطءٍ وهي تحاول أن تتقبّل الوضع من أجل "ماهر"، رغم ما يهيج في صدرها من غصّةٍ لا تهدأ، كان صبرها يشبه حَبلاً يشدّه القدر من طرفيه، ويكاد ينقطع، وكانت كلماتها تتدحرج في صدرها كحجارةٍ في وادٍ ضيق، لكنها ابتلعتها في صمت:


ـ آخر يوم اتقابلنا أنا وياها، بهدلتني علشان بعمل رياضة ببيتك يا أخي. طب شو الغلط اللي أنا عملته وأنا بعمل رياضة ببيت أخي، حتى لو لابسة لبس متحرّر؟ فعلشان عارفة أنا فين وكيف، ما بتقوله بالمصري ؛عينك ما تشوف إلّا النور، أوّل ما شافتني واقفة معاك وإنت مشيت، المعارك اشتغلت ولسانها بقى زي المبرد ،والله دمعت عيوني من كلامها بعد ما فليت من عندكن.


ضحك "ماهر" ضحكةً قصيرةً امتزجت فيها الدهشةُ بالإعجاب، فقد كان يرى في "رحمة" قوّةً وعنـاداً لا يلينان، ثم التفت نحو "كارما" معتذراً لها بنبرةٍ هادئةٍ تحمل دفئ الأخوة:


ـ حقك على راسي أني يا ستي، بس بصراحة هي عنديها حق لما تشوف واحدة زيك جميلة ولابسة اللبس المكشوف دي اللي أني طبعا مش موافق عليه ومن زمان بطلب منك تعدلي طريقة لبسك لما كنا بنتواصل مع بعض فيديو كول كان لازمن تغير ولازمن توصل للدرجة اللي وصلت لها من الجنان دي، اصلك ما تعرِفيش "رحمة" هتعشقني كيف وهتغير عليا حتى من الهدوم اللي هلبسها، صَعيدية عاشقة لجوزها حتى النخاع. 


هزّت "كارما" رأسَها بإعجابٍ واضحٍ لكلمات "ماهر"، وقد ارتسمت على وجهها ابتسامةٌ خفيفةٌ تكسّر صمت اللحظة، ثم تابعت كلامها بنبرةٍ فيها دعابةٌ رقيقةٌ:

 ـ وعلشان كده ما اتحمّلتش إنّك تبعد عنها بعد ما طلّقتها وتاني يوم رجّعتها، وإنت كمان شكلك بتموت فيها وما بتطيق حدا يزعلها، قصّة حبّكن غريبة شويّة، تحسّ إنكن بحلبة مصارعة دوم، يعني هي كانت مقهورة عليك حبيبتي لما طلّقتها، وإنت كمان كنت مش طايق حدّ يكلّمك ولا حدّ يجي جنبك، بعكس اليومين دول بعد ما رجعت لك، حسّيت إنّك صغرت 100 سنة، ما شاء الله عليك يا أخي.


أشار"ماهر" في وجه "كارما" براحَةِ كفّه ضاحكًا على كلماتها، كأن ضحكتهُ تُذيبُ كلَّ ما بينهما من جديةٍ وقال بنبرةٍ تمزجُ الدعابةَ بالمودة:


ـ وه ! الله أكبر هتحسدي اخوكِ اياك، المهم نفذي اللي قلت لك عليه وما تحاوليش تستفزيها، وكمان حاجة مهمة لازمن تعدلي من طريقة لبسك داي، ما احبش انك تظهري باللبس المكشوف دي واخوكِ صعيدي، حتى لو كنتِ لبنانية وعشتي في لبنان عمرك كلاته بس ما تنسيش إنك اتولدتي في مصر وعشت فيها طفولتك وبعدين رحتي على لبنان وهناك والدتك سابتك تتحرري في لبسك، وبصراحة اكده أني هستغل وجودك حدانا اهنه وهخليكِ تغيري طريقة اللبس داي نهائي . 

ظلَّ "ماهر" و"كارما" يتحدثان طويلًا في شؤونهم، يتبادلان الرأي حول كيفية التعامل مع "رحمة"، وهو يهوّن عليها ويصبّرها على شدّة طباع "رحمة" وحدّتها معها، حتى بدا حديثهما كحائطٍ من طمأنينةٍ يحاول صدّ ريح القلق،وفجأةً انفتح البابُ عليهما كما لو أنّ إعصارًا اقتلعَ من جذوره، ودخلت "رحمة" بوجهٍ لا يُبشِّرُ بالخير، كأن الغضبَ غيمٌ أسود يتكثّف فوق ملامحها، وكأن حضورها سـ.ـيفٌ يقـ.ـطعُ السكون نصفين حتى وقفت أمام "كارما" وهي تنهرها بحدة :


ـ انتِ هتعملي ايه في مكتب "ماهر" يا ست سخامه انتِ؟ هو أني مش منبهة عليكِ اختصاصك يكون مع "فيروز" بس ومن خلالي! بتحطي نفسك في وش المدفع ليه؟ أني مش محذاراكِ ميت مرة قبل سابق، انتٓ ما هتفهميش شكلك صوح ؟!


قبل أن تنطق "كارما" لتدافع عن نفسها، كانت "رحمة" قد سبقتها بانفعالٍ جامح، فأمسكتها من كتفيها تهزّها بعـ.ـنفٍ يكشف عن بلوغ الغضب ذروته، غير عابئةٍ بوجود "ماهر" الذي كان يحدّق بها في دهشةٍ ممزوجة بعدم التصديق، إذ لم يتخيّل أنّ ما سمعه من "كارما" قبل قليل قد يكون بهذا الصدق،

كانت "رحمة" كبركانٍ يستيقظ بعد صمت القرون، تفيضُ حممه على كلّ ما حوله بلا رحمة، وكانت "كارما" كغصنٍ يابسٍ في مهبّ ريحٍ عاتية، تتأرجح بين الصمود والانكسار :


ـ ما تنطقيش نص كلمة أني عارفة إنتِ جاية تنحنحي وتعيطي وتشتكي له من أمنا الغولة اللي هو أني ،وتقولي له ان اني شتمتك وطردتك وبهدَلتك، ما أني عارفاكم جنس نمرود اللي هتلف على واحد متجوَز علشان توقِع بينا وبين مرته، لكن يمين بعظيم ما هتقعدي فيها النهاردة وتروحي بقى تشوفي لك حتة تانية خلاص يا ماما استغنينا عن خدماتك. 


كانت "كارما" توشك أن تنطق لتدافع عن نفسها، والغليان يشتعل في صدرها من اندفاع "رحمة" عليها، لكن قبل أن تتكلم قاطعها "ماهر" آمراً إيّاها بالصمت ومعتذراً لها أمام "رحمة"، الأمر الذي جعلها تثور من الداخل حتى كادت تفقد توازنها، فطرحت حقيبتها بعيداً وقد صار الجوُّ كالجمر المتّقد، إذ إنّ "رحمة" لا تملك زمام أعصابها أبداً،

كانت اللحظة أشبه بمرجلٍ يغلي فوق نارٍ لا تخمد، تتصاعد أبخرته وتوشك أن تنفجر، وكانت الكلمات في فم "كارما" كسهامٍ محبوسة في وترٍ مشدودٍ تنتظر لحظة الانطلاق :


ـ معلش يا "كارما" حقك علي اتفضلي إنتِ روحي دلوك علشان زمان "فيروز" راجعة من الحضانة، ومتأسف مرة تانية، مدام "رحمة" هتلاقيها جايه من الشغل تعبانة ومتوَتِرة شوي، أو لساتها خارجة من قضية صعبة .


كانت "رحمة" توشك أن تتكلّم وهي تشدّ بطرف بلوزتها، غير أنّ "ماهر" صاح بصوتٍ جهوريٍّ كالبرق، واشتعلت عيناه بنظراتٍ ناريّة وهو يرمق "كارما" بعزمٍ أن تمضي في طريقها وألّا تعبأ بحركات "رحمة"،

كانت اللحظة كعاصفةٍ انقضّت على شاطئٍ هادئٍ فهزّته هزّاً، وكانت نظرات "ماهر" كسياطٍ من لهبٍ تشقّ السكون وتلجم الغضب وبعد ان غادرت كارما تحرك من مكانه ووقفت مقابلتها هادرا بها:

ـ كانك اتجنيتي عاد معاملاش لوجودي اعتبار؟ هتهينيها كيف ما تكون عبدة عنديكي إياك !لساتك ما تعرِفيش تتعاملي مع الناس بذوق؟ سيبك من العنطزة الكدابة اللي انتِ فيها داي يا "رحمة" إنتِ ما بقيتيش صغيرة عاد، إنتِ ام عيب طريقتك داي تتعاملي بيها مع اي إنسان، بطلي اندفاع وعصبية وغلط في اللي قدامك عمال على بطال ، واياكِ ثم اياكِ المشهد دي والالفاظ اللي انتِ قلتيها داي تتكرر تاني لا في وجودي ولا في غيابي، وطالما اني أمرت إنها تفضل موجودة وان البنت محتاجاها يبقى لا رجعة في قراري لحد حضرتك يا ست هانم ما تخلصي مسؤولياتك وقضياكي الكَتيرة قوي اللي ما بتخلُصش .


كانت "رحمة" تدور في المكتب كأنّها إعصارٌ حبيس، يضـ.ـرب الجدران بريح الغضب، لا تطيق نفسها ولا تقوى على كبح أنفاسها المشتعلة، كان صدى صوت "ماهر" وغضبه كالسياط في أذنها، يجلد كبرياءها، وأوامره كأغلالٍ تقيّد عنادها، فكيف يدافع عنها على هذا النحو ويعتذر لها ويُحرجها أمام "كارما"؟

اندفع صوتها العالي كحممٍ تتفجّر من فوهة بركان، يهدر في أركان المكتب، كاشفًا عن غضبٍ ضارٍ لا يعرف السكون :


ـ هو يعني ايه تعتذر لها قدامي وتكسفني بالشكل دي مفهماش انت عايز ايه بالظبط؟

 انت عايز تقهرني، أني طهقت من العيشة داي، وطهقت من وجود البنت داي وما بقتش مرتاحة عاد، وأني قررت البنت دي لازم تمشي وما تقعدش ثانية واحدة بعد اكده ،مش حباها يا أخي انت إيه القساوة داي؟!


لم يحتمل "ماهر" هدير صوت "رحمة" العالي، فانقضّ على الباب وأغلقه بعـ.ـنفٍ، ثم أسدل الستائر الثقيلة كأنّه يحجب العالم حولهم عن انفـ.ـجار الغضب الدائر في الداخل، تقدّم نحوها بخطواتٍ حادة تحمل في كلّ منها غضب مكبوت، وامتدّت يده إلى ذراعها فأمسكها يهزّها بعـ.ـنفٍ، كأنّه يريد أن يوقظها من جنونها، كانت نظراته النـ.ـارية كالسياط تحـ.ـرق الهواء بينهما، واللحظة أشبه ببركانٍ يوشك أن يبتلع قمّته،

وكأنّ المكتب صار حلبة صراع، الجدران شاهدة على معركة الكبرياء، وكلّ منهما يتشبّث بما تبقّى من قراره :


ـ كانك اتجنيتي عاد هتعلي صوتك علي في المكتب؟

احترمي حدودك معاي يا "رحمة" وما تنسيش نفسك إن أني جوزك أبو بتك ما ينفعش تعلي صوتك أبدا في أي مكان وحتى لو بيني وبينك، وشكلي جلعتك زيادة عن اللزوم، ويكون في معلومك برده ما فيش أي حاجة هتتغير في موضوع "كارما" و"فيروز" غير لما انتِ تخلصي الدوشة اللي حواليكِ في الشغل، وحذاري اللي نبهت عليكِ فيه ما يتنفذش، اني خلاص صبري نفذ معاكِ. 


وجدت "رحمة" نفسها في تلك اللحظة بلا مفرّ سوى الانكسار؛ فقد كان "ماهر" شديد الصرامة، حادّ القرار، لا يلين في هذا الأمر تحديدًا، فيما بداخلها نارٌ متّقدة من الغيرة والغيظ تعصف بكيانها وتوشك أن تحـ.ـرق ما تبقّى من صبرها، لم تعد تحتمل وجود "كارما" ولا مشاعرها المتضاربة، فانهارت تبكي بحـ.ـرقة، والدموع تتساقط كسيلٍ جارف يقتلع جذور كبريائها،

أما "ماهر" فكان ينفخ بضيق، يمرّر أصابعه بين خصلات شعره في ضجرٍ من هذا الصراع الذي لا ينتهي بينهما، قبل أن يقترب منها ويحاول جذبها إلى حضنه ليربّت عليها علّها تهدأ، لكنها دفعت يده بحدّة وهي في قمّة انهيارها، كغصنٍ متمرّد يرفض يد الرياح، وكأنّ روحها تصرخ ألّا تلمسها حتى لا تتفتت أكثر:


ـ بعد يدك عني حرام عليك اللي انت بتعمله فيا دي، حرام عليك ضغط الاعصاب اللي اني عايشة فيه وياك، أني تعبت حياتي كلها معاك أوامر ونظرات من نـ.ـار وخناق وصراع ما هينتهيش واصل، حط نفسك مكاني لو أني بتعامل مع إنسان انت ماطيقش وجوده هتعمل ايه وقتها، اني خلاص زهقت وتعبت من الصراع اللي ما بيني وما بينك دي .


كان "ماهر" يحاول بكل ما أوتي من قوّة أن يتمالك أعصابه، يضغط على كفيه ويحبس أنفاسه وهو يرى انهيار "رحمة" أمامه، انهيارًا لم يكن يتوقّعه ولا تخيّل أن غيرتها من "كارما" ستبلغ هذا الحدّ، كأنّ عاصفةً جموحًا انطلقت من قلبها تهزُّ أركان روحه. كان يخشى أن يصارحها بالحقيقة، يدرك أنّها إن علمت ستنفجر كما يتوقّع، وأنها قد لا تصدّقه، وقد تعود إلى إهمال ابنتها وبيتها من جديد،

ولم يزل مشهد المصعد محفورًا في ذاكرته، جرحًا غائرًا في قلبه، يذكّره بأنّ طفلته كانت على شفا الموت لولا لطف الله وستره، اقترب منها ببطء، ثم انحنى حتى أصبح في مستواها، كمن ينزل من علياء كبريائه إلى ساحة الودّ، يحاول أن يبلغ معها آخر طريقٍ يمكن أن ينقذهما من الانهيار، علّه يجد في حضيض هذه اللحظة قنديلًا يبدّد ظلام الأزمة :


ـ تمام يا "رحمة" هديها أوردر دلوك حالا انها تمشي، بس قبل ما أعمل اكده دلوك حالا تديني برنامج محدد هتتعاملي إزاي مع "فيروز" بعد ما ترجع من الحضانة ،هتكوني فين، وهتقضي بقية يومك معاها ولا لاه؟

 لأن "فيروز" ما ينفعش تتساب نهائيا بعد ما ترجع من حضانتها، لو هتقدري على رعايتها والاستغناء عن مكتبك حتى من الفترة ما بعد الحضانة لحد ما تنام في ميعادها بالليل الساعه تمانية تمام ما عِنديش مانع، ويكون في معلومك شغل بالليل والخروج تاني بعد تسعة ما ينفعش، خلاص اني ما اقدرش اتحمَل وجودك بره البيت بعد الوقت دي .


"رحمة" هدأت من بكائها قليلاً وهي تشعر أنّ "ماهر" يُرغمها على السقوط في هاوية الفشل،

 فكان قلبها كـسفينةٌ مكسورة الشراع، تتقاذفها أمواج الغيرة واليأس في بحرٍ لا أفق له،

 و"ماهر" بدا لها كجبلٍ صلدٍ لا تلينه الدموع، يفرض عليها صخوره لتتعثر عند قدميه :


ـ يعني انت عايزني دلوك يا اما استغنى عن كل القضايا اللي معاي واضيع مكتبي وتعبي وشغلي يا إما "كارما" داي تفضل موجودة ؟!بتحطني في خانة اليك وبتستعمل ذكائك معاي يا "ماهر" ، بستضعفني جامد وبتضغط علي بالقوي مع اني قلت لك اني خففت شغلي وبقيت أحاول مع البنت وأظن انت شفت التغير دي بنفسك، وبالرغم من كل محاولاتي اني أحسن من نفسي مش إني أضيع نجاحي إلا إنك لساتك هتشوفني أم مهملة .


"ماهر" كان قد بلغ حدَّ الإرهاق من كثرة النقاش في هذه الأمور، فأغلق معها باب الحوار، وبدا كأنه جدارٌ أُغلق بوجه الريح، لا يترك منفذاً لكلمةٍ أخرى ولا شقّاً لرجاء،

وانكسرت عند صمته أصواتُ "رحمة" مثل موجٍ خمد على صخورٍ باردة :


ـ مش هنقعد نعيد ونزيد في الحوارات اللي ما لهاش عازه داي يا "رحمة"، باب النقاش اتقفل في الموضوع دي نهائي لحد ما تتخلصي من كل التزاماتك، يا إما تعملي اللي اني قلت لك عليه علشان "فيروز" مش لعبة فاضيين لها النهاردة نقعد معاها شوي وبكره وبعده ورانا شغل فنسيبها، يا ريت تقعدي مع حالك وتفكري زين هتمشي حياتك ازاي اني دلوك حداي شغل وأظن انتِ كمان ما فاضياش. 


               ********

وفي اليوم التالي ذهبت "رحمة" مع "سكون" إلى مركز التجميل كما تواعدتان وبعد مقابلتهن لم تحبذ "رحمة" ان تفتح معها اي حوار يخص "كارما" لأنها متيقنة من رد "سكون" عليها ان "فيروز" تحتاج الرعاية الكاملة في كل الأوقات وقررت نفض عقلها وعدم التفكير في ذاك الموضوع مع "سكون" وقررت التنعم بالحمام المغربي فهي تحتاجه بشدة فمنذ كثير لم تهتم بحالها هي الأخرى ، ثم سألت "سكون" :


ـ بس قولي لي عاد يا "أم سليم" ايه إصرار "عمران" خوي على الحمام المغربي دي هو أخوي دي لساته هيطبق على أنفاسك كيف ما كنتو عرسان حكم "عمران" أخوي هوائي شوي وهيحب جو "عبدالحليم" و" أم كلثوم" كاننا في الزمن القديم وهيحن له علطول .


ضحكت "سكون" بخجل من استفسار "رحمة" وهي تحرك رأسها برفض وتصحح مفهومها الخطأ:

ـ اسكتييي يا "رحمة" والله "عمران" خوكي دي مظلوم وياي واني نشفت ريقه على الاخر ، بس خلاص اتعلمت الدرس وأني عايزة أخرج النهاردة بلمع علشان النهاردة عاملة له مفاجأة زينة قووي بمناسبة إن النهاردة تاريخ أول يوم اتقابلنا فيه وأني حابة الجو ونفسي نوبقى مختلفين .


مطت "رحمة" شفتيها باستنكار وهتفت بسخرية:

ـ ولساتك فاكرة تاريخ أول يوم اتقابلتو فيه انتِ وخوي ؟! والله انتو عقولكم فاضية انتو التنين ، انجزي ياختى علشان حداي قضية مهمة هراجعها بالليل علشان حداي محكمة الصبح ومفضياش للتفاهات داي .


وظلت كلتاهن تشاغب الأخرى حتى انتهيتا من جلسة الترميم والتجميل لجسدهن والتي خرجتا منها وكأنهن نجمات تلمعان من جمالهن المخبأ تحت ستار العفة ، 

كانت تستعدُّ لمساءٍ مختلف، قررت أن تصنع جوا حالماً لعمرانها وقلبها فرصة جديدة معه وأن تُنقذهما من رتابة الأيام ومن برود المسافات، بعد أن انتهت من حمامها ، ولفح جسدها بخارٌ عطِرٌ ممزوج بزيوت المسك والورد، خرجت إلى غرفتها مبلّلة الشعر بأريج النعناع والياسمين، كأنها زهرة خرجت للتو من ندى الفجر، ارتدت قميصًا حريريًّا ينساب على جسدها بلونٍ أزرق داكن يشبه زرقة البحر في لحظة سكونه، يتماوج حولها مع كل نفس، يُظهر أكثر مما يُخفي، ويمنحها فتنة غير مألوفة،

كانت الغرفة قد تحوّلت بين يديها إلى لوحةٍ من الشوق ،الورود الحمراء متناثرة على الأرض، والسقف يلمع بنقاط الضوء الخافتة المنبعثة من الشموع الموزعة بعنايةٍ على الأطراف، كأن كل شمعةٍ هي نجمٌ في سماءٍ صغيرة، على الطاولة الصغيرة أعدّت عشاءً بحريًّا يليق بذوق عمران، أطباق سي فود، أسماكٌ بحرية متبلة بالأعشاب والليمون، رائحة البحر تمتزج برائحة الورد في الهواء فتخلق موسيقى حسية تُغري الحواس،

بينما كان الكاسيت يدور على مقطع قديم بصوت "أم كلثوم" للغنوة:

يا حبيبي ،الليل وسماه ونجومه وقمره، قمره وسهره ،وإنت وأنا يا حبيبي أنا يا حياتي أنا

كلنا، كلنا في الحب سوا

والهوى آه منه الهوى ،الهوى آه منه الهوى، آه منه الهوى، آه منه الهوى

سهران الهوى يسقينا الهنا ويقول بالهنا،

يا حبيبي ياله نعيش في عيون الليل

ياله نعيش في عيون الليل ونقول للشمس تعالي، تعالي بعد سنة، مش قبل سنة

تعالي، تعالي، تعالي، تعالي بعد سنة، مش قبل سنة دي ليلة حب حلوة بألف ليلة وليلة، ألف ليلة وليلة، ألف ليلة وليلة، بكل العمر هو العمر إيه غير ليلة زي الليلة، زي الليلة، الليلة زي الليلة،

هذه الكلمات لم تكن أغنيةً بقدر ما كانت مرآة لما يدور في قلبها،

كانت تُرتب كل تفصيلة بيد مرتجفة من الحماسة، قلبها يخفق أسرع من الشموع المتراقصة.، حدّثت نفسها أن هذه الليلة ستكون مولد عشقها من جديد، وأن "عمران" حين يدخل ويرى هذا المشهد سيتذكر كل بداياتهما الأولى وسينبهر، أغلقت الضوء الكبير واكتفت بضوء الشموع والورود، ووقفت أمام المرآة تضع اللمسة الأخيرة على شعرها وعطرها، أنفاسها تتلاحق من رهبة اللحظة،

حين عاد "عمران" وفتح الباب، توقّف لوهلةٍ على العتبة، الهواء تغيّر، رائحة العطر والورد والعطر المألوف لـ"سكون" اجتمعت كلها في صدره دفعة واحدة، عينيه اتسعتا بدهشةٍ حقيقية، قلبه قفز في صدره كما لو أنّه يلتقي بها لأول مرة، رأى الورود، الشموع، العشاء، ثم رفع نظره إليها ،كانت تقف وسط الغرفة كنجمةٍ هبطت من سماءٍ بعيدة، القميص الحريري يعانق جسدها، شعرها المبلل ينساب على كتفيها، وعطرها يملأ المسافة كلها،


لم يحتمل المشهد طويلًا؛ مدَّ ذراعيه نحوها، فتح لها حضنه بلا تردّد، كأنها اللحظة التي كان ينتظرها منذ زمنٍ بعيد، في تلك اللحظة فقط أدركت "سكون" أن كل تعبها وتحضيرها لم يذهب سدى، وأن دقات قلب "عمران" التي تسمعها الآن هي جوابٌ واضح على كل ما فعلته لأجله ليهمس بجانب أذنها:


ـ ايه القمر دي ، والرايحة الخطيرة داي ، والجمال اللي دوبني وخـ.ـطف قلبي دي يا "سكوني" ؟

وأني واقف قدامك دلوك وحاسس إن كل الكلمات اللي كنت فاكرها كَبيرة بقت صغيرة قدام اللي شايفه، كل حياتي اتغيرت في اللحظة دي، وبقيت معرفش أبدأ منين؟ أو كيف أوصف الجمال دي والحنان دخل قلبي فجأة وخدني معاه.

 اقتربت منه وضمّت وجنتيه بين كفّيها، تُغازله بلا وجل، ولأول مرّة ينطلق لسانها هكذا من غير أيّ ارتباك، فـكان حضورها كنسيمٍ دافئ ينساب على صخرةٍ باردة، فيذيب ما تراكم من صمتٍ وجفاء، وتحوّل خجلها القديم إلى طائرٍ ألقى ريشه في مهبّ الريح، فحلّق جسورًا في فضاء الجرأة




ـ وأني هبص في عينيك دلوك هحس إن كل التعب اللي كنت بعيشَه طول السنين كان مجرد طريق طويل يجيبني للحظة داي، اللحظة اللي فيها نظرتك تحسّسني إني أهم من أي حاجة في الدنيا كلاتها، وإني مش لوحدي أبدًا طول ما انت شايلني في قلبك اكده.

تآكلت عيونه ملامحها بجوع ونهم لاقترابها الذي أخذ قلبه وهو يهمس بصوت أجش من فرط إحساسه بجمالها الذي أذاب قلبه :


ـ يا كل عمري، أني طول عمري كنت بدور على الكلام اللي يقدر يعبر عن إحساسي بس دلوك كل حاجة واقفة، قلبي هيقول كلام أكتر من لساني، أني بشوف فيكي كل المعاني اللي كنت بتمناها، وبحس إني طفل بيجري في حضن الأمان لما أبص لك اكده ، إنتي مبهرة يا سكوني دوبتي عمرانك .


اقتربت منه بحميمية أكثر وهي تذوب من كلماته الساحرة ونظراته الحالمة :


ـ أني حاسة إنك مش بس هتحبني، أنت بتخلق فيا إنسانة جَديدة، أنت بتحوّل كل خوفي لطمأنينة، كل دمعة لضحكة، كل صمت لحنين، أنت بتخلي قلبي يكتب شعر من غير ورق، أنت بتعلّمني أعيش وأتنفس بالحب مش بالكلمات.

 جذب رأسها وأسند جبهته بجبهتها ونطق بوله وغرام وشفاه الساخنة تلفح وجهها :

آه ،لو تعرِفي إنتي غالية عندي كد إيه، لو تعرِفي إزاي كنت هحارب كل الظروف اللي مرينا بيها عشان اللحظة داي، لو تعرِفي كد إيه كنت محتاج حضن زي حضنك دي، وكلمة زي كلمتك، كان قلبي اطمَن يا سكوني . 

اهتز جسدها من قربه ورائحته و أنفاسه التي لاحقتها في وجهها وأذنها ورقبتها حتى انهارت في قربه المسكر والمخدر لأعصابها:


ـ وأني هقولك إنك الرجولة اللي كنت بدور عليها، الأمان اللي كنت محتاجة له، الحنية اللي كنت بحلم بيها، أنت اللي علمتني أصدق إن الحب مش وهم، وإن الكلام الحلو مش بس كلام، وإن في حد ممكن يجي ويغيّر حياة حد تاني بالكامل ، وان الرجولة معاك أفعال مش أقوال ، زي النهاردة أول يوم اتقابلنا فيه وكانت أجمل صدفة.


سألها بهيام ودقات قلبه تكاد تمـ.ـزق صدره من عنـ.ـفها :

ـ قولي لي كيف قدرتِ تخترقي قلبي بالشكل دي؟ كيف أول ما شفتك بقيت مش شايف غيرك؟ كيف قدرتي تخليني أعيش من غير خوف؟ كيف بقيتي أغلى وأثمن من كل غالي يا سكوني ؟


أجابته بصدق وعشق :


ـ يمكن لأني دخلت حياتك بصدق من غير أقنعة، يمكن لأني حبيت فيك الإنسان مش الصورة، يمكن لأني شفت فيك القلب قبل العين، يمكن لأني كنت محتاجاك تشوفني بجد، وكنت أنت الشخص اللي عنده القدرة دي.


سحبها لأحضانها وهو يلمس خصلاتها ويشم عبيرهم وكأنه من الجنة :


ـ أني دلوك حاسس إني مش عايز من الدنيا حاجة غيرك، حاسس إني أول مرة أتنفس وأعيش بجد من زمان، أول مرة أبقى شايف الألوان كلاتها واضحة، أول مرة أبقى طاير من الفرح من غير جناحات.


وحينما همَّ "عِمران" أن يضمَّ "سكون" إلى أحضانه ويسحبها إلى عالمهما، عالم العشق والسكون، إذا بها تطلب منه أن يتناول العشاء أولًا، ومن ثمَّ تفاجأ "عِمران" بالمأكولات البحرية التي أعدّتها له "سكون"، وبعد أن فرغ من طعامه قررت أن تغيّر أجواء الليل وتفتتحه بالمرح،

شغّلت "سكون" أغنيةً صاخبة لأغاني الحكمدار التي يعشقها ذاك العمران العاشق، وبدأت تدور كالفراشة وترقص، وعيون "عِمران" تكاد تلتهمها وهي تتلوى حوله بمرحٍ ودلال،وانتهت ليلة "عِمران" و"سكون" بحبٍ وغرامٍ افتقده منذ زمنٍ بعيد،

كان الليلُ آنذاك يشبه نهرًا من نجومٍ مذابة، تتلألأ حول جسدين يتعانقان في مدار الشوق،

وبدت "سكون" كوترٍ في آلةٍ سماوية يعزف عليه "عِمران"، فينهمر اللحن كغيمٍ من رغباتٍ لا تنتهي وهو يسحبها إلى عالمهم بعنـ.ـف وهو يلهث برغبة هامساً بجانب أذنها :


ـ مشتاق لك يا سكوني ، مشتاق فوق ما تتخيلي ، اروي اشتياقي ليكي بكل ما تملكي من قوة وهجوم لعمرانك وأني خير مستقبل بصدر رحب .

الفصل العشرون من هنا


غير معرف
غير معرف
تعليقات