رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل العشرون 20 بقلم فاطيما يوسف


رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل العشرون بقلم فاطيما يوسف


اهدأ قلبي وأنت تراه هناك، واقفًا إلى جوارها، وحينها تشتعل في عروقي نـ.ـار لا تُشبه سواها من الوجعِ؛ فَغِيرتي عليك كـسيف مُجرّد لا يعرف الانكسار ولا الرهبة ولكنه يُحزنُ روحي، كيف تجرؤ عيناها أن تلتقط نظرة منك وأنا صاحبة القلب والدار؟ أنا لست ظلًا ولا هامشًا، فـأنا العنوان الأول لحياتك وسطورها الأعمق ومعجمها الكلُ بكلماتي،دعها تُدرك أن كل اقتراب منك نـ.ـار تحـ.ـرق أحشائي، بل وهي تقترب منك وتشم عبيرك، وقلبي المتيقظ ليس جرحًا ولا ضعفًا ولكنه كبريائي ، وغرامي بك إنما هو لواء عاطفة لا تُهزم في عشقك ولكني أغار عليك غيرةً عمياءِ، فامضِ معي واترك سواها، فليس في الأرض قلب يعرفك ويحيطك مثلي بهيامٍ واحتواءِ.


كانت الغرفة ساكنة على نحو يثير الاطمئنان، الضوء الناعم يتسلل عبر ستارة شفافة، يوزع نفسه بهدوء على الأثاث البسيط المرتّب بعناية، مقعدان متقابلان بينهما طاولة صغيرة، عليها كوب ماء ودفتر مفتوح وقلم ينتظر أن يخطّ ما يُقال، جلست "فريدة" إلى جوار "فارس" ، ويدها متشابكة مع يده، تضغط عليها بخفة وكأنها تمدّه بقوة إضافية كي يواجه تلك اللحظة، أما "فارس" ، فكان يشيح بعينيه بين حين وآخر، كأنه يخشى الاصطدام بمرآة نفسه في عيون الآخرين، جلست الدكتورة أمامهما، عيناها تلمعان بتركيز وهدوء، وصوتها حين خرج بدا كمن يفتح بابًا واسعًا لا يَدخل منه إلا الصدق وهي ترحب بهم: 


ـ أهلاً ياداكتور "فارس" ، أني سعيدة إنك قررت تاجي اهنه انت والداكتورة "فريدة" خلينا نعتبر مَجيتكم داي مش حكم ولا تشخيص، هي بس مساحة آمنة ليكم، أنى اهنه عشان أسمعكم من غير ما حد يقاطعك أو يحكم عليك انت ومَرتك.


ارتجف قلب "فارس" للحظة، شعر كأنه وُضع في منتصف طريق لا يعرف أين يقوده، كل خطوة منه محفوفة بالشكوك، أصابعه انقبضت أكثر على يد "فريدة" ، بينما نظرته ارتطمت بالأرض ثم سرحت بعيدًا، بدا صوته متردداً، كأن الكلمات ثقيلة على لسانه، ومع ذلك خرجت وهو يشعر بارتياح لأجواء المكان :


أنا مش عارف إذا الكلام ده هيفيد، يعني.. مش حاسس إني مريض عشان أقعد أحكي، بس ساعات بحس إني مش فاهم نفسي خالص ، وساعات بحس اني شايفني اتنين واحد شرير بيتحكم فيا وواحد طيب بيسمع كلامه والأوامر اللي بيديها له ،هو أنا كده أبقى مريض والناس تخاف مني والمفروض أتعالج؟


انحنت الدكتورة قليلًا إلى الأمام، ابتسامتها لم تفارق شفتيها، لكنها لم تكن ابتسامة عابرة، بل تلك التي تمنح الثقة وتقول إن كل ما يُقال هنا مسموع وذو قيمة، حركت القلم ببطء، ثم رفعت عينيها نحوه بنبرة ثابتة، حانية في آن واحد:


ـ ودي السبب اللي إحنا قاعدين عشانَه، مش لازم تكون مريض عشان تحكيؤ الحوار دي زي مرآة، بيساعد العقل يرتّب حالَه من جَديد، تحادول تفتكر آخر مرة حسيت فيها إنك مش فاهم نفسك؟ إيه اللي كان بيحصل حواليك؟

ازاي تقدر تتحول بقوة انك ما تستجبش للإنسان التاني اللي بيسحبك لأوامرَه؟ لازمن انت تكون أقوى منيه، لازمن تواجهَه إنك ما بقيتش ضعيف، وتعرِفَه إن انت بقيت فاهمَه، وانك ليك شخصيتك، ومش هتسمع لكلاَمه ولا هتمشي وراه؟ فاهمني يا "فارس"؟


انقبض وجه "فارس" فجأة كأن السؤال لامس جرحًا قديمًا، نظراته اضطربت، وصدره ارتفع وانخفض بأنفاس متلاحقة، عـ.ـضّ شفتيه بأسنانه للحظة، ثم سمح لصوته أن يخرج، مبحوحًا، لكنه محمّل بثقل داخلي كبير:


ـ ساعات بحس بردو إني شخصين تانيين؛ واحد بيضحك وبيتصرف عادي، والتاني بيخاف فجأة من أي صوت عالي أو كلمة جارحة، بحس إني عايز أختفي وقتها وبفضل ابص حواليا،


وتابع بعينين زائغتين وهو يبتسم ابتسامة شاحبة :

ـ وأول ما أحس الإحساس ده اشوف ماما وأتكلم معاها أحس إن أنا هادي ورايق، الأم دي أحسن حاجة في الدنيا، لولاها ما كنتش عرفت يعني ايه ضحكة، يعني ايه أتجوز واستقر واعيش ؟


كانت اللحظة أشبه بامتحان صامت، كل طرف فيها يمسك بأنفاسه كمن ينتظر إشارة بدء، الغرفة لا تزال مغمورة بذلك الضوء الناعم، إلا أن الجو صار أكثر جدية، وكأن الكلمات القادمة ستُحدد مصيرًا بأكمله، "فريدة" مالت بجسدها قليلًا إلى الأمام، تحمل في عينيها لهفة ممزوجة بقلق، كأنها تبحث عن طوق نجاة لزوجها ولبيتها معًا، أما "فارس" فقد ظلّ ينظر إلى الطاولة بينه وبين الدكتورة، يتهرّب من عينيها، لكنه في داخله كان يشعر بأن هذه المرأة قد تحمل المفتاح الذي فشل في العثور عليه طويلًا حتى هتفت الدكتورة بعملية: 


ـ يا "فارس" ، اللي إنت هتحكيه دي مش معناه إنك ضعيف، بالعكس، دي معناه إنك شايف اللي بيحصل لك ورايد تفهمَه، إحنا بنتكلَم عن حاجة اسمها اضطراب في الشخصية عنديك، في الحالة داي ساعات بتخلي الشخص يحس إنه شخصين أو أكتر، أو يسمع أفكار جواه كأنها جاية من حد تاني، بس الأهم من كل دي إننا نعرِف إنك مش لوحدك ، 


وأكملت حديثها باهتمام وهي تشير إلى "فريدة" المبتسمة له بحنو :

ـ انت حداك زوجة جَميلة هتحبك جداً ، حداد بنت الله أكبر كيف القمر تبارك الخلاق ، بس قول لي بتشوف والدتك فين؛ هي عايشة معاكم في نفس البيت ولا انت ومَرتك عايشين في بيت منفصل وحديكم ؟


ارتفعت عينا فارس نحوها فجأة، كانت النظرة مشوبة بالدهشة والخوف في نفس الوقت، كأن أحدًا نطق سرًا كان يخفيه عن نفسه، أصابعه تحركت بتوتر على ركبته، وصوته خرج مرتبكًا، متقطّعًا، وهو بجيبها :


ـ لا ماما مش من نوع الحموات اللي بيحب يخـ.ـنق مرات ابنه، هي عايشه لوحدها في شقة وأنا بروح أزورها كل يوم و"فريدة" جات معايا المرة اللي فاتت .


تنفست الدكتورة بعمق، وأخذت لحظة قبل أن تجيب، كأنها تنتقي الكلمات بعناية شديدة حتى لا تجرحه، بل تمنحه الأمل، جلست أكثر استقامة، ويدها لامست القلم فوق الدفتر، ثم ابتسمت ابتسامة مطمئنة وهي تطلب منه:


ـ طب ممكن تجيبها معاك الزيارة الجاية؟ بجد عايزة أتعرف على الشخصية الجَميلة اللي ما فيش منيها دلوك ،يا ريت تقول لها ان الداكتورة "منال" حابه تشوفك صدقني هتنبسط قوي من الجلسة الأسرية داي .


تهللت أساريره من طلب الدكتورة ثم حرك رأسه مبتسماً بأريحية:

ـ حاضر يا دكتورة أنا نفسي أصلا إن هي تيجي معانا المرة الجاية، وخصوصاً إن هي و"فريدة" ما يعرفوش بعض قوي لأن "فريدة" زي ما انتِ عارفة دكتورة والبنت والبيت فمش بتفضى تقعد معاها ولا تشوفها فاحنا عايزين نحل المشكلة دي ما بينهم ،


واسترسل حديثه وقد تبدلت معالمه السعيدة إلى أخرى مضطربة وهو يسألها عن مرض الاضطراب النفسي الذي اكتشفته به وقالت عنه منذ قليل فأجابته باستفاضة:


ـ المرض دي ليه مراحل وليه طرق علاج واضحة، أهم خطوة إنك تبقى موجود اهنه في كل المواعيد اللي بحددها،بيكون على شكل جلسات علاج نفسي منتظمة، ومعاه أحيانًا علاج دوائي بسيطر على الأعراض اللي بتضايقك زي التوتر أو التفكير اللي بياجي لك على هيئة شخصيتين الجلسات داي هتخليك تعرف تفرّق بين صوتك الحقيقي وبين الأفكار اللي بتاجي في دماغك كأنها من شخص تاني، 


وأكملت بأسلوب عملي كي لا تستدعي التوتر عنده أو يشك في الأمر :


ـ كلنا على فكرة اكده ساعات بنحس أننا شخصيتين واحدة بتتكلم جوانا من غير ما حد يسمع لها صوت باللي هي رايداه يوحصل في حياتها ولكن بيتكتم جواها والشخصية التانية اللي بتتكلم بلساننا وغالباً داي الأقوى والمتحكمة فينا، لذلك لما يُحصل موقف والشخصية الهادية اللي جوانا تقعد تقول في موقف ما؛ أني هعمل كذا وهقول كذا ودي اللي المفروض يُحصل وناجي ساعة الجد؛ الشخصية اللي بتتكلَم بلساننا تقول كلام غير اللي جوانا نهائي، واللي جوانا ما راضيش يطلع، فنحس وقتها بالاحباط، لكن اللي بيحكمنا في الوقت دي إن الإنسان لازمن يكون قوي وما يخليش الشخصية الدخيلة تتحكَم على الشخصية اللي بتتكلَم باللسان وبتتحاور لازم الشخصيه اللي بتتكلم، و هي تمسك موازين الأمور عند الشخص.


كانت "فريدة" تتابع الحوار بعينين دامعتين، قلبها يخفق بقوة وهي تشعر أن الكلمات تنسج خيط أمل لمستقبل جديد، مدت يدها وضغطت على يد "فارس" كأنها تقول له دون كلام؛ أنا هنا، أنا معك ولن اتركك أبدا "فارسي" ثم استجمعت شجاعتها وتحدثت، بصوت خافت لكنه مشبع بالحنان:


ـ طب يا داكتورة، أني أقدر أساعدني أني وهو إزاي؟ يعني، أني عايزة أكون جزء من العلاج لينا احنا الاتنين علشان نفسيتنا ونفسية البنت متتأثرش بالاضطراب اللي هياجلنا دي ؟


رفعت الدكتورة عينيها نحو "فريدة" بابتسامة تقدير،. لتحدثها بصيغة الجمع كي لا يشعر "فارس" بأن تلك الجلسة متسلطة عليه ثم أمالت رأسها قليلًا وهي تشرح، وصوتها اتسم بالوضوح والعملية، كمن يرسم خريطةالإنقاذ :


ـ إنتِ دورك مهم جدًا يا "فريدة" لازمن تحاولي تهيئي لكم بيئة هادية، وتخليه يحس إنك بتسمعيه من غير ما تحكمي عليه، وهو كمان يسمعك بهدوء ، كمان مهم تشغلي حالكم بأنشطة جديدة مع بتكم، لأن الوقت الفاضي بيخلي الأفكار السلبية تزيد بيناتكم، والأهم من دي كلاته، إنكم تحسو إن العلاج دي خطوة مشتركة بينكم، عشان اكده قلت لك إن داي هتوبقى جلسة استشارة أسرية علشان تجدد الحياة الزوجية المستقيمة بيناتكم.


كانت هي الأخرى تتحدث بصيغة الجمع في التوجيهات التي ألقتها عليهم كي لا يشعر "فارس" بشئ غريب أو غامض ، فـأغمض عينيه للحظة، كأنه يستوعب كل كلمة سمعها، بينما صدره ارتفع وهبط بأنفاس متقطعة، فتح عينيه من جديد، وفيهما خليط من الخوف والرجاء، كان صوته حين خرج أضعف مما مضى، لكنه حمل صدقًا لم يعهده في نفسه من قبل: 


ـ يعني لو التزمنا بالجلسات دي ممكن أرجع أعيش طبيعي بدون خناق مابيننا عمال على بطال ؟


لم تتأخر الدكتورة في الرد، فقد أرادت أن تحسم خوفه قبل أن يتفاقم، رفعت حاجبيها قليلًا وأومأت برأسها بثقة، وصوتها اكتسب قوة مطمئنة، كأنها تلقي حبل إنقاذ لشخص على وشك الغرق: 


ـ طبعًا ،في ناس كَتير زيكم بيتحسنوا جدًا مع العلاج، لكن السر في الانتظام وعدم الاستسلام، العلاج مش هيغيرك لإنسان تاني، بالعكس، هيساعدك توبقى أنت الحقيقي من غير التشوش اللي بيضايقك.


في تلك اللحظة، "فريدة" لم تتمالك نفسها، نظرت إلى "فارس" بعيون يملؤها الأمل، واقتربت أكثر منه حتى شعرت بأنفاسه، ضغطت على يده بحرارة، وهمست بصدق يفيض من قلبها: 

ـ اطمَنى يا داكتورة هننتظم بإذن الله ، وبعدين انتي كلامك كيف البلسم اللي هينزل على الجرح يداويه ويوبقى عال العال . 


ترددت شفتا "فارس" قبل أن تنطق، لكنه سمح لنفسه أخيرًا أن يبتسم ابتسامة صغيرة، مترددة، لكنها صادقة، نظر إلى الدكتورة، ثم إلى "فريدة" ، وكأن داخله بدأ يستسلم لفكرة أن هذا الطريق، رغم خوفه منه، قد يكون بداية حياة جديدة.


             ******


كان الليل قد انقشع في سماء المدينة بعدما أسلم النور للظلال، وبقي الطريق إلى بيتٍ صغيرٍ في منطقة غير مشهورة يقطعه هتافُ الذكريات وحفيفُ الترقب والهمسُ الذي لا يخفى على قلبٍ منتبهٍ لموجات الشر الكامنة خلف الضحكات المصطنعة كان "آدم" يجلس أمام شاشة الكمبيوتر وقد تآكلت منه هدوءاته القديمة واهتزت قناعاته، ثم أتاه خبرٌ يقطر عليه من فمِ حليفٍ موثوقٍ لدى القناة فارتفعت دقات قلبه كأنما هي طبولُ حربٍ متربصة

فأبلغه المساعد الخاص به وهذه المعلومة تحلو له كأنها انتصارٌ تأجل طويلاً :


ـ لقيت البنت يا "آدم"اللي كانت راكبة معاك الطيارة وعملت عملتها، وطلعت ساكنة لوحدها وده عنوانها بالتفصيل. 


وقف "آدم" من على الكرسي وكأنه انقضّ من فراشه إذ به يستجيب جسداً قبل فكره لنبأٍ يبرق في الليل، إذ كيف وجدوا عنوانها بسرعة؟ 

ثم قال "آدم" وهو يلمح على شفتيه مزيج الذهول والغضب الذي يشتعل داخله:


ـ انت بتتكلم جد عرفته ازاي؟ يعني العنوان ده صحيح فعلاً ولا هنروح نلاقي حد تاني؟


لم تلبث الكلمات أن تشق طريقها في صدر الرجل الذي جاء بخبرها، إذ تكشفت التفاصيل التي جمعها بدقةٍ كما يجمع صيادٌ شباكه من بحرٍ هائج، روى كيف استطاع عبر صفحاتٍ قديمةٍ وحساباتٍ مهجورةٍ أن يربط خيطاً بخيطٍ حتى يصل إلى مسكنها وقد بدا بين طيات حديثه استعلاءٌ ما لنجاحه في ذلك التسلسل وكأنما هو يرفع قبعة الخسة قبل أن يبيعها على الملأ، فأجابه بثقةٍ تماثل فخرَ من يملك مفاتيح الأسرار :

ـ أكيد ابني العنوان مظبوط، البنت سايبة بيت أهلها وعايشه في شقة لوحدها تعمل اللي على كيفها، وبعدت عن أهلها خالص، تقريبا كده هم اتبروا منها ورجعت الشقة بتاعتها في الحي ده وهي أصلاً مش محجبة ولا حاجة ودي معلوماتي كلها عنها جمعتها بعد ما راقبتها يومين تلاتة علشان أتأكد.


قَفَز قلب "آدم" في صدره قفزة سريعةٍ مخلوطةٍ برغبةٍ مريبةٍ في معرفةٍ أقسى من الحقيقة نفسها، لقد تملكه شعورٌ كالهباء يصعد من جوفه يُوقِده الذهول ثم يذوي ليصير ناراً لا تُطفأ سأل عن الذي يقف وراء التشويهِ؟ 

حتى قال بصوتٍ صارمٍ يخـ.ـتنق فيه الغضب وتبرق الكلمة كالنصل :


ـ يا بنت الأبالسة! ده انا هعمل فيها اللي ما اتعملش في بني آدم على وجه الأرض، علشان أعرف مين اللي وراها، ومين اللي ممشيها ومين اللي بيحركها ضدي؟

في الحملة السافلة اللي ما زالت مستمرة منها دي لازم نروح لها دلوقتي حالا .


كانت عيون مساعده تتلمع ببعض التلذذ الذي يخص من شهد على سقوط خصمه، وأكد له مراراً تفاصيل السكن، وعن بعدها عن عائلتها وعن انتماءاتها الاجتماعية وسماتٍ في مظهرها لا تتوافق مع الصورة التي ركبها في الفيديو المُزوّر،

فتدفقت في صدر "آدم" موجةٌ من الاستنكار 

لم ينتظر "آدم" وقد ارتسم على وجهه قرارٌ يشبه البرق وهو يحمل مفاتيحه وتحرك سريعاً:


ـ يلا بينا دلوقتي ودينا على العنوان مش لازم نتأخر ولا ثانية واحدة بعد ما عرفناها حاكم انا عارف اللي زي دول ما بيثبتوش في مكان يلا يا ابني بسرعة.


تحركو بالسيارة دون أن يعلم زوجته بشي وحينما وقفوا أمام العمارة ارتعدت مشاعر "آدم" بين ذهولٍ يعضّ على أنامله وبين رغبةٍ تضيق صدره من فرط انتقامها، ثم صعدوا إلى الأعلى وضربو زر الجرس فخرجت إليهم تلك السافرة وهي ترتدي ملابس تكشف أكثر مما تستر وحينما وجدت "آدم" يقف أمامها حتى ارتعبت أوصالها وعلى الفور كادت أن تغلق الباب حتى قرأ "آدم" نيتها فصدها سريعاً بيده وفعها ناحية الداخل بينما كان مساعده يراقب المكان حوله ويمشطه بعينيه ويتطلع إلى الجدران بعينين كالصقر كي يرى ما إذا كانت توجد كاميرات مراقبة أم لا ، 


دخل "آدم" وهو يقف أمامها وينظر إليها بشر واندفع لسانه هادراً بها مما جعلها ارتعبت وتبدل لون وجهها :


ـ انطقي يا قذرة يا لمامة ،قولي لي مين اللي كان باعتك ورايا وطلب منك تعملي اللي انتِ عملتيه معايا وانتِ عارفة ان ده ما حصلش؟ انطقي؛ مين اللي سلطك عليا وخلاكِ تعملي فيا اللي انتِ عملتيه، ده انا هوديكي ورا الشمس وهسجنك وهخلي الدنيا كلها تتفرج عليكِ يا قذرة ، قسما بالله لو ما تكلمتيش دلوقتي واعترفتي مين اللي وراكي لا هتشوفي وش عمرك ما شفتيه. 


كادت أن تهرب من أمامه وهي تشعر بالرعب الشديد منه ولكنه تمسك بذراعها بشدة آلامتها ولم تستطيع الإفلات من قبضتيه المتمسكة بها حتى فكرت سريعاً وبدهاء أنثوى هتفت ببكاء مصطنع وهي تردد بمكر :


ـ بصراحة بقى ما حدش مسلطني ولا حد طلب مني أعمل كده أنا بحبك من زمان يا "آدم" وانت عمرك ما حسيت بيا، كنت دايما بحضر حفلاتك وبتمنى بس نظرة من عينيك، ولما عرفت إن انت حبيت وارتبطت واتجوزت دخلت في اكتئاب وما بقتش عارفة أعيش حياتي وبقيت براقبك في كل مكان وبعرف بتروح فين وبتيجي منين، لحد ما عرفت ان انت مسافر بمحض الصدفة لما كنت براقبك فقررت إني أسافر معاك في نفس الطيارة واللي أنا عملته كان بدافع الغيرة وان مراتك تسيبك ووقتها تبقى ليا، 


ثم اقتربت منه وكادت أن تحتضن وجنتاه بكفاي يديها كي تستطيع التأثير عليه بطريقتها الملتوية ولكنه دفع يدها بعيداً عنه وكأنها رث ثم لوى ذراعها خلف ظهرها وهو يشدد عليهم بعـ.ـنف لم يعهده لشعوره بالافتراء منها والكذب والتشهير بسمعته مما آلامها بشدة تمسكه بقبضتها الصغيرتين فأكملت بنفس المكر :

ـ انا بحبك يا "آدم" صدقني أنا اللي استحقك أكتر من مراتك، ولعلمك أنا مش ندمانة على اللي انا عملته معاك اللي بيحب يعمل اكتر من كده صدقني هو ده كل اللي حصل ، كل اللي أنا عملته بدافع الغيرة والحب. 


جز على أسنانه غاضباً وصاح بها وهو يديرها ناحية وجهه :


ـ ـ إنت إيه يا بت، كمّية القذارة والكذب اللي فيك دي؟ على أساس إنّ أنا هصدّق لؤمك ده؟ وعلى أساس إنّ أنا جاي لك دلوقتي مش عارف تاريخك المهبّب؟ وعلى أساس إنّك مش واحده هربانـة من أهلك وقرفاهم في عيشتهم واتّخذتي "آداب" قبل كده؟ يعني مش معقول هاجي لك لحدّ هنا وأنا أهبل ومختوم على قفايّا ومش عارف عنك حاجة!

إيه هي علاقتك بـ"سيف" المنسي وأخوه؟ وأكيد هم اللي حرّضوكي إنّك تعملي معايا كده، يا إمّا تعترفي باللي إنت عملتيـه، يا إمّا مش هخلّي حد يسمّي عليكِ ولا على عيلتك ولا على إخواتك اللي إنت بتبعتي لهم فلوس من ورا أبوكِ، فتعالي معايا بقى كده سِكّة ودغري من الآخر، واحكي لي الحوار كلّه من أوّله لآخره علشان أطلّعك منه وأفوق للي وراكِ.


نفضت يدها من قبضته بحدة بالغة لتنطق بشر اكتسبته ممن تعمل معهم :

ـ ولما إنت ناصح كده وعرفت تجيب تاريخي كله، وعامل نفسك ابن بارم ديله، جاي تستقوى عليّ أنا ليه؟ وإنت عارف إنّ ابن عمّك قلبه جامد وجاحد وما حدّش يقدر يقف قدّامه، هاجي أنا أقف قدّامه؟ ماتروح تخلّص معاه اللي بينكم، واطلعوني من الحوار ده؛ علشان أنا زيّ ما بتقول عالمة، وربّنا يكفيك شرّ العوالم.


اقترب منها وهتف بفحيح وهو يشعر بالاشمئزاز منها :

ـ اقفي عوج واتكلّمي عدل يا لمّامة وإنتِ بتتكلمي معايا، أما هما حسابي معاهم، بس إنتِ اللي طلعتي في الفيديو معايا بحركاتك القذرة، وزي ما طلعتي وعملتي الفيديو ده بدون ما تختشي ولا تخافي من ربّ، هتطلعي برضه وتعترفي باللي إنتِ عملتيه؛ علشان مش هسيبك إلا لما تعملي الفيديو وتعترفي بمين اللي مسلّطِك تعملي فيا كده، وحسابه معايا،

هو إنتِ عندكم تشويه سمعة الناس بالسهولة دي يا قذرة؟ وتقولي ما ليش دعوة!


نظرت له نظرات مستفزة وهي ترفع حاجبها لأعلى ثم جلست على الأريكة ووضعت قدماً فوق الأخرى وهي تراهنه:

ـ طب بَطّل كلمة "قذرة" دي علشان إنت مش عارف اللي مستنيك إيه، أنا بنصحك لوجه الله تروح تتكلم مع "سيف باشا" وتخلص معايا الحوار علشان هو مدكّن لك على حوار جامد قوي هيطلع من نفوخك. أنا قلت أنصحك لوجه الله، أنا يا دوب حتة سمكة صغيرة في بحر كبير، فيه حيتان بتبلع، فما تسيبش الحمار وتمسك في البردعة لو إنت بتفهم يعني.

وقف "آدم" مذهولًا، لا يكاد يستوعب ما يسمعه منها، أهو تهديدٌ أم حقيقةٌ تُلقى في وجهه؟ اشتعل الغضب في صدره حتى أعماه، فلم يعد يرى أمامه شيئًا، ولا يدري ما يفعل ولا كيف يتصرّف؟ فـاقترب منها بغليانٍ وهو يمسك شعرها بعـ.ـنف، يلوّيه بين يديه كأنّه يفرغ في قبضته نار ظلمه ثم هدر بصوته فحيحًا كالأفعى المزمجرة والغضب بدا كعاصفةٍ عاتيةٍ تسحق ما أمامها دون رحمةٍ ولا وعي :

ـ أه يا ولاد الك... إنتو عايزين مني إيه؟ انطقي يا بت، إيه اللي إنت بتتكلمي عنه ده وعملتي إيه تاني غير اللي حصل؟ والكلاب دول عايزين يعملوا فيها إيه تاني؟ قَسَمًا بالله، لو ما نطقتي لا هطلع روحك في إيدي النهارده، ولا هيهمّني كلبة وغارت، وما حدّش هيعرف لك طريق.


ـ ارتجفت الفتاة من شدّة قسوته، وارتعبت من صوته الزاعق، وصارت تبتلع ريقها بصعوبةٍ كأنّ الخوف قد كبّل أنفاسها،فـلم تكن تتوقّع أن ينفـ.ـجر بهذا الشكل المخيف، وأنّ الموت قد يصير مصيرها على يديه في لحظةٍ واحدة،

وما زاد رعبها أنّها رأت الرجل المرافق له، شامخًا كالحيطة الصمّاء، وأيقنت أنّ الحراس لا بدّ يملؤون المكان من حولها بأسفل العمارة ،

فـتسلّل إلى عقلها كل ما حدث، فبدأت تبوح بما تعرف، والنظرك المرتعبة تُخاتل عينيها،

ولكن ما إن سمع "آدم" كلماتها حتى وقف مذهولًا، غير قادرٍ على استيعاب ما نطق به لسانها، وكيف جرى كل هذا معه دون أن يشعر ؟

وفجأة جلس على الأريكة، يسند وجهه بين يديه كمن أثقلته الجبال على كتفيه، فقد رأى بعينيه ما جعله يرتعب من القادم، ووجد نفسه في موقفٍ لا يُحسد عليه،

كان كمن سقط في دوامةٍ عاتيةٍ تبتلعه دون رحمة، أو كغريقٍ يحاول النجاة في بحرٍ هائج لا يعرف له قرارًا، ولكن ترى ماذا حدث مع ذاك الآدم وجعله يرتعب ؟


               ********

كان "عمران" ممدّدًا على الأريكة، واضعًا رأسه على ساق أمّه "زينب"، يستشعر دفء حنانها وهي تمرّر أصابعها على شعره برفق حتى سألته بصوتٍ يغلفه الحنو:


ـ كيف حالك يا ولدي طمَني عليك، بقى لي كَتير مشغولة مع بوك ومهفتهوش لجل مرضه اللي تَقل عليه ومعرفاش أحوالك ايه في شغلك ومع عيالك ومرتك ؟


ابتسم "عمران" وهو مسند رأسه على ساقي أمّه، يتذوّق دفءَ الحنان المفقود، ويعانق رجليها كما يعانق الطفلُ الصغير أحضان أمّه التي اشتاق إليها طويلاً،

ثم شدّ يديها بكل لهفة، وطبَع قبلة حنونة على كفّيها، مطمئنًا إيّاها بحفاوةٍ تنضح من أعماق قلبه فبدا كزهرةٍ عطشى وجدت أخيرًا نبع الماء، أو كطائرٍ تائه عاد إلى عشه بعد طول اغتراب :

ـ اطمَني يا أم العمران ولدك بخير وزين وعال العال الحمد لله ربك رب قلوب هيجبر القلوب التعبانة والحيرانة بعد الصبر، وهيسقيهم شهدهم اللي هيتمنوه، وعيالي زين الحمد لله أمهم هتهتم بيهم والدنيا ماشية، طَمنيني انتِ عنك الحاج "سلطان" من ساعة ما تاه عن الدنيا وبقاش عارف اللي قدامه وانتِ خسيتي النص عاد ؟ 


ثم اعتدل في جلسته وسألها وهو ينظر داخل عينيها بمشاغبة :

ـ كد اكده هتحبي "سلطان المهدي" يا فرسة جامحة وقوية بعد كل اللي مر بيناتكم يا حاجة وشايف الحزن عليه والبكا طول الليل وأني هسمعك وهحس بيكي وانتِ جاره، هتبكي عليه ولا على سنين العمر اللي راحت وهو مدريانش بيكِ دلوك ؟


لمعت دمعة في عيني "زينب" وهي تستعيد بذاكرتها يوم أن خطَت أولى خطواتها داخل هذا البيت، لم تكن قد بلغت العشرين بعد، طفلةً تحمل على كتفيها أحلامًا أكبر منها، عاشت بين جدرانه عمرًا طويلًا، ذاقت فيه خليطًا من الحنان والشقاء، ومن القسوة والحب، ومن الوجع والرجاء، حتى صارت جدرانه دفتر حياتها ومحراب ذكرياتها، كانت عيناها تجولان في أركان المكان، وكأنها تقرأ في كل زاوية فصلًا من حياتها، قبل أن تستقر النظرات على أثمن ما خرجت به من هذه الرحلة كلها ؛"عمران"، ابنها البكر، ونور قلبها وسندها الوحيد، اقتربت منه بقلبٍ يفيض حنينًا، وشدّته إلى صدرها كأنها تضم الحياة كلّها بين ذراعيها، فبادلها العناق بلهفةٍ أرهقتها السنين، أجابها عن كل أسئلتها، وهي تجيبه بدفءٍ يملأ روحه، كأن حضنه هو الحصن الأخير، والأمان الأصدق، والملاذ الذي لا يعرف الحقد، لقد أيقنت في تلك اللحظة أن الدنيا، بما حملته لها من قسوة ولين، لم تمنحها حبًا أنقى من حب "عمران"، ولا سندًا أصدق من ذراعيه :


ـ تعرِف يا ولدي حبيت كد ما حبيت وربيتك انت وخواتك كلياتكم زي بعضكم ومفرقتش بيناتكم واصل طول عمري ، لكن انت ليك في قلبي مكانة وحب لو اتوزعوا على الدِنيا بحالها يكفي ويفيض ، قسيت في البيت دي كَتير قوي وشقيت مع بوك وفي عز شقاي ووجعي كانت الطلة في وشك يتحيبني وبتبدل الوجع المر لشهد مجرد ما هبص لك بس ، هحس في وجودك جاري بالأمان ، ريحتك ونَفسك في البيت حوالي بالدنيا واللي فيها ، حتى لما بوك اتجوَز علي وجرحني كنت بستقوى بيك بعد ربنا ، عارف ليه يا ولدي ؟


وتابعت وهي تحسس برفق وحنان على خديه:

ـ علشان انت حداك حنية يا ولدي مشفتهاش في بني آدم على وش الدنيا بحالها ، والله ويمين هتحَاسب عليه قدام ربنا إنك مش علشان وادي همجدك وهمدح فيك لكن داي الحقيقة ، بس ومع دي كلاته ووجودك جاري إلا إن بوك هو العمر كلاته وأيامه وسنينه وشبابي وصغري وكبري ، اني منيه وهو مني ، اني وعيت على الدنيا وشبيت حيلي شوي مشفتش غيره يعني بالنسبة لي وجوده كيف ضلي بالظبط ، هو ينفع الإنسان يعيش ويتكيف ويمشي من غير ضله ؟

علشان اكده قلبي هيتقطع من جواته على رقدتَه داي وبكاي عليه قهر خارج من جوة قلبي عليه ومهتحملش بعاده عني واصل .


اقترب "عمران" من أمه، وقلبه يخفق بدقاتٍ تحمل محبةً لا تنتهي، وبرًّا يزداد في صدره يومًا بعد يوم كأنه نهر يتجدد مجراه. احتضن وجهها بين كفّيه بحنانٍ غامر، كأنما يخشى أن تفلت من بين يديه لحظة دفءٍ واحدة، وعيناه تلمعان بامتنانٍ لا يُحصى. سألها بصوتٍ مبحوحٍ بالإعجاب، وقد غلب عليه العاطفة:


ـ وه! يا حاجة "زينب" طلعتي عاشقة قديمة قووي ، لاه دي كمان وصل عشقك لسلطانك لأبعد الحدود! أني اكده عرفت ولدك طالع لمين إياك ؟ وصفك لعشق ابوي وارتباطك بيه جميل قوي يا حاجة مشفتش زيه ومسمعتش زيه قبل سابق ،

طب قولي لي بقى اتحملتي كيف جوازه عليكِ وأنتي هتعشقيه العشق دي كلاته ، عديتي من التجربة الصعبة داي كيف وقدرتي ترجعي له السنين داي كلاتها بعد ما عميلها احكي لي رايد اسمع واتعلَم منيكي واصل ؟


ابتسمت بوجع وهي تتذكر تلك الأيام ثم أجابته بثقل وألم نفسي لتلك الفترة التي لم يستطيع قلبها ولا عقلها نسيانها :


ـ مش هتصدِق يا ولدي اني لحد دلوك منسيتش ومقدرتش أنسى وان الأيام داي كانت أسوا ايام في عمري ، حسيت فيها اني ست ناقصة علشان جوزها شاف غيرها وعايز يتجَوَز عليها ، حسيت إني معيوبة واتجرحت جرح عمري اللي لساته هينزف لحد دلوك كل لما افتكر بس اللي قواني ورجعني ونساني وخلاني أكمَل هو انت يا ولدي ، ايه والله هو انت يا "عمران" كنت مشتاقة لاني اشوفك وانت هتبني بيتك ويا مرتك ، اشوف أحفادي منيك وهما هيملوا علي حياتي ، افرح وياك واشيل معاك همك و علشان اكده انكسرت واتقطم ضهري صوح لما خرجت من البيت وهملتني ورحت انت ومرَتك عيشتو في بيت تاني وقتها كان الحزن اللي بجد وقطمة الضهر اللي بحق وحقاني وانقهرت قهر ربنا ما يوريه لك يا ولدي ، يالا الحمدلله مرت الأيام الصعبة داي وشفت عوضك وجبر ربنا ليك ،


وأكملت بمحبة صادقة نابعة من عينيها وهي تحيط وجنتاي ذاك الابن البار والعطوف بها :

ـ وربنا يبارك لك في ولادك ويرزقك برهم ، ويبقوا ليك سند وعزوة وبر كيف ماكنت معاي يا ولدي ، يشهد الله على كلامي دي ويعلم اني راضية عنيك يا "عمران" دنيا وآخرة ، ربنا يطعمك من الخير والرزق والسكنة مابينك وبين مرتك ما يقر عينك ، ويرزقك في بيتك راحة البال رزق هنئ يتعجب له أهل السما والارض ويهدي لك العاصي يا ابن عمري .


ارتمى "عمران" في أحضانها وهو يشعر بالراحة والسكينة والأمان :


ـ ويبارك لي فيكِ يا ام الـ"عمران" وإذا كان فيا حاجة زينة فمنيكي انتِ يا أمي ، يا ست الكل ، ربنا يخليكي ليا إنتي وبوي وخواتي يارب .


انتهت جلستهم المريحة والمطمئنة لقلبهم ثم قبلها من جبينها ويديها بمحبة ووقار وذهب لوالده جلس بجانبه وقتا ليس بالقليل وهو يحنو عليه هو الآخر ويدعو له من قلبه بالشفاء ثم قبله من جبينه ويده وصعد إلى شقته فهو قد سهر معهم الليلة لأن "سكون" اليوم مبيتها مع أبنائها وليس معه ، 


دخل إلى شقته وجد المكان هادئاً على غير العادة فالأطفال لاينامون قبل العاشرة كل يوم والساعة الآن لم تدق التاسعة بعد فانتابه القلق عليهم فذهب إلى غرفتهم كي يطمئن عليهم ووجدهم بالفعل نائمون في سبات عميق ، فارتاح قلبه وذهب إليهم واقترب من تخت الصغيرين وقبلهم بمحبة ودثرهم جيداً ، 


ثم ذهب إلى تخت الصغيرة التي تحتضن والدتها وكأنها ستخـ.ـنقها من شدة تعلقها برقبتها فسحبها بعيداً عنها برفق وهو يبتسم ويقبلها من وجنتيها بحب ، ثم هتف برفق وهو يخلل يده بين خصلات شعرها الذهبي اللامع الهابط على عينيها :


ـ انتِ بقى يا صغنن يا شقي اللي هتخـ.ـطفي حضن سكوني مني ، اه منك يا بنت "عمران" كيف عمتك "رحمة" الخالق الناطق هتوبقى فرسة جامحة وقوية يا بت أبوكِ الجميلة المدللة.


ثم قبلها مرة أخرى وسحبها داخل أحضانه الحانية مما جعل الطفلة تشعر بأحضانه الدافئة فتعلقت برقبته وهي تردد بعين مشوشة وتمتلئ بالنوم :

ـ وأني كمان هحبك قوي يا ابوي .


قالت كلماتها وهبطت يديها تلقائياً وعادت إلى نومها مطمئنة بعدما شعرت بالحنان الدافى الذي ملأ قلبها من والدها الحنون ، 


ثم ساقته قدماه إلى سكونه وهبط لمستواها وأزاح خصلاتها السوداء الناعمة من على جبينها وقبلها هي الأخرى ولكن قبلة مختلفة ، بجانب شفتيها بقبلة هائمة جعلتها أمسك باطن يديها وقبلها بوله مرة أخرى حتى تأثر باقترابها ولكنه تمسك بحاله وكاد أن يقوم من أمامها إلا أنه تفاجأ بها تتمسك برقبته بكلتا يديها وهي تهمس بصوت ناعم رقيق مثلها متأثرا بنومها :


ـ قفشتك ياللي هتـ.ـسرق بوسات مني وهتستغل اني نايمة يا مكار ، اعترف كنت جاي تقرب مني واني نايمة وتبوسني ليه يا "أبو سَليم" انت مشتاق ؟


هبط لمستواها واقترب من وجنتيها مقبلاً إياهم لينطق هو الآخر بهمس أجش وبصوت يكاد يُسمع من شدة خفضه له حتى لا يستيقظ الصغار وكأنه مراهق يقف تحت أعتاب حبيبته يتمنى قربها :


ـ قلت قبل ما انام أمسي على سكوني بحاجة خفيفة اكده علشان ازورك في أحلامك وتلاقيني براودك في كل وقت وحتى نومك .


داعبت أرنبة أنفه وقد راق لها مشهدهم ذاك وهو يغازلها بتلك الرقة :

ـ امممم... أحلامي كمان ! هيقولوا الراجل في سن الأربعين بيوبقى في عز شبابه ومراهق كَبير وشكل اكده كلامهم صوح عاد ؟


مرر سبابته على وجنتيها وهو يتحدث بنفس نغمة صوته الهامسة وهو يشاغبها :


ـ وهيقولو برده الست في سن التلاتين هتوبقى في عز شبابها ودايما هتحب تقرب من حضن جوزها وهتشتاقه ، انتِ كمان مهتشتاقيش لحضن جوزك يا "أم سَليم" ؟


اعتدلت في نومها حتى ارتفعت قليلاً لمستواه وأسندت جبهتها بجبهته وهمست باشتياق ورقة ، وقد تفكك جسدها من اقترابه وهمساته الروجولية ولمساته الناعمة التي تجعلها تذوب هياماً به وهي تتنفس أنفاسه الساكنة التي لفحت عنقها و أهلكت روحها :


ـ مكار انت يا عمراني؛ بقيت بتلعب على وتر حساس بيني وبينك وتر الاشتياق وبقيت تخليني عايزة أدوب جواك ، انت فعلا مختلف وعشقك مختلف ، واول خاطرة كتبتها في حبك وأني معرفكش وقتها لايقة عليك فعلاً وكاني كنت حافظاك وفهماك زين يا عشق عمري .


حرك رأسه بين يديها باستمتاع وقبلها من عينيها وهو يسألها بتشوق ولهفة :

ـ امممم... خاطرة ! حبيبي شاعر كمان وطول السنين داي كلاتها مكنتش أعرِف ؟ 

في داي أني غلطان ومفيش مانع نصلح الخطأ ، تعالي وياي نسمع الخاطرة واقيمك عليها وتسهري ويا عمرانك وتطفي اشتياقك اللي طالع من عيونك دي ومخلي دقات قلبك اللي سامع نغماتها دلوك داي تهدى شوي .


وجدها تقترب من أذنه وتهمس بخاطرتها الاولى له برقة جعلته هام عشقاً بها وزلزلزت كيانه وجعلت جسده تفكك هو الآخر بترنيمتها الساحرة في أذنه:

عشِقتُ أَميراً في الحُسْنِ جانْ وفي الجَاهِ ابنِ سلطانْ واسمُه عمرانْ ،

ذو طلَّةٍ رجوليةٍ وجمالُه آية يُحكَى عنْهُ في جميعِ الأزمانْ ، خطـ.ـفنِى عشقْهُ وأسرنِي صوتُه وصارتْ عيناي تبحثُ عنْه في كل مكانْ ،أخبرو ذاك العُمْران أنِّي في انْتظَارِه ليخطَفُنِى على مهرتهِ ونعيشُ في أمانْ ،

فأنا أُعِدُّ لهُ رحلةً في العشقِ والغرامِ كي يشربَ منها ويسكرُ من نهرِي الريَّانْ


تأثر بخاطرتها بشدة بل وذاب بها فوجد حاله يحملها بين يديه من همسها الرقيق في أذنه جعلته يلهث لاقترابها وخرج بها من غرفة أبنائهم دون أن تعارض أو تمانع أو حتى تشعر بأي شي في الكون غير نظرات عمرانها الساحرة وهمساته الحالمة وحركاته الهائمة بها وأجلسها على الأريكة الموجودة بغرفتهم وخلع عنها ذاك الرداء الثقيل المغطي لأكتافها ثم جلس أمامها وجذبها برفق وهدوء دون تسرع او افتعال وأرجع خصلاتها الثائرة وراء أذنها وهمس بهم هو الآخر بنفس الغرام ما جعل جسدها تصنم من أعذوبة همسه الرقيق:

ـ يا من ملكتِ الروح بلمسـة وجـدان، أضيئي ليالـي العمر بنورك الفتان،

فقد أشعلتِ في الفؤاد نار الهوى وحرقة الأشجان، فصرتُ أسيراً لا أبتغي فكاكاً ولا نسيان، وهمسكِ لحنٌ يسكرني، ونظركِ وعدٌ بالوصل والأمان،فـكل لحظة بقربكِ جنّة، وكل بُعدٍ عنكِ صحراء وهجران،فكوني لي حياةً وخلوداً، وكوني لقلبي نبضاً مدى الأزمان، واروى ظمئي المتيم بكِ أنهارا ووديان وحينها ايضاً لم يكتفي العمران من وصالك الفتان.


ولم يكن الصمت من كليهما في تلك اللحظة إلا قناعًا يُخفي وراءه عاصفةً من الاشتياق، عاصفةً تنبض في دمه كما تنبض الأرواح حين تعانق حلمها الجميل ،شعر أن أنفاسها قريبة، تتسلل إلى صدره فتشعله ان يقترب بهوجاء،

اقتربت منه أكثر، وإذا بالحنين ينهض في داخله كطائرٍ تحرر من قفصٍ ضاق عليه العمر، رأى في قربها امتدادًا لحلمه، ورأى في لمسها أمانًا يبدّد وحشة لياليه الطويلة، كان يودّ لو يجمع كل المسافات التي مضت بينهما، ويذيبها في لحظةٍ واحدة، لحظةٍ تتلاشى فيها الحدود فلا يبقى إلا صوته وهو يتهدج بالاشتياق، وعينه التي تتوسّد دفء حضورها،

اشتعلت في أعماقه رغبة أن يبقى هذا القرب خالدًا، أن لا ينقضي، أن يتحول إلى زمنٍ لا يعرف الفناء، كان قلبه يركض نحوها، كطفلٍ يبحث عن صدر أمّه، وكعاشقٍ يكتشف أن العالم كلّه يضيق إلا إذا كانت هي بجانبه، أراد أن يقول الكثير، أن يعترف بشوقٍ لم يهدأ لحظة، لكن الكلمات خجلت من فيض المشاعر، فاكتفى بلمحةٍ في عينيه تُغني عن ألف قصيدة،

وهكذا تحوّل السكون الذي أحاطه في البدء إلى موسيقى مكتومة، تنساب بينهما بغير لحنٍ ولا عزف، إنما بإيقاع القلوب حين تتلاقى، كانت لحظةً حالمة، لم تعد تحتمل تفسيرًا أو وصفًا، لأن الاشتياق فيها كان أكبر من اللغة، وأعمق من الحروف، وأصدق من أي تعبيرٍ يُقال يكفي انها عاصفة اقتراب عشق العمران وسكونه .


               *********


في الصباح الباكر بعدما تنعَّم عاشقين باقترابهم الشغوف نظرا لحرمانهم كثيراً من أحضانهم لفترات مبتعدة كما المسافرين، 

دخل "عمران" إلى الحمّام ليتناول حمّامًا سريعًا استعدادًا لعمله، فيما كانت "سكون" تتمدّد على السرير بنعومةٍ وارتخاء، يكسوها شعورٌ غامر بالسعادة وهي تستعيد بذاكرتها ليلتها معه، ليلةً اختلفت عن كل ما سبقها؛ إذ تفتّحت فيها مشاعر غريبة وجديدة لم تختبرها من قبل، كما اكتشف هو فيها عاطفةً لم يعهدها، وبينما كانت ابتسامتها مرسومة على محياها، إذ برسالةٍ تومض على هاتف "عمران" مدّت يدها تلقائيًّا، وقرأت اسم المرسلة؛ "نور" التي تعمل معه، تغيّرت ملامحها في لحظة، وتحوّل وجهها إلى لوحاتٍ متشابكة من الألوان، فيما قلبها أخذ يخفق بعـ.ـنفٍ يكاد يخلع أضلُعها، دفعها فضولها وغَيرتها إلى سحب الشاشة لقراءة فحوى الرسالة، وحين اطّلعت عليها، اشتعلت نـ.ـار الغيرة في صدرها حتى شعرت أن أنفاسها تضيق، ولم تعد قادرةً على تمالك نفسها،


سمعت وقع خطوات "عمران" وهو يخرج من الحمّام، فألقت الهاتف بجانبها على عجل، وأخفت ارتباكها، خرج "عمران" ووجهه يفيض بالرضا والسرور، اقترب منها وهو يبتسم بحنان، وقبّلها من جانب شفتيها برقةٍ كأنها نسمةُ صيفٍ دافئة،


كانت "سكون" كمن يحـ.ـترق بنارٍ لا تُرى، ابتسامتها ذابلة، وقلبها يشتعل غيرةً كجمرةٍ تحت الرماد، فيما عقلها أسيرٌ لصوتٍ داخليّ ينهشها بالشك والظنون حتى أبعدته بعـ.ـنف والغيرة سيطرت على كلها وصوتها يملؤه الغضب :


ـ بعد يدك داي عني ومليكش صالح بيا عاد يا "عمران" مطيقاش حالي ولا قربك ولا طايقة الدنيا كلاتها.


الفصل الواحد والعشرون من هنا

غير معرف
غير معرف
تعليقات