رواية مع وقف التنفيذ الفصل التاسع عشر
انتشت روحه ابتهاجاً وسعادة ما بعد سعادة ودوت دقات قلبه بين جنبته في أصرار لترسم خطوطها على قسمات وجهه البسام وعينيه المشعتان أملا وانتصار وهو يعانق الزملاء والمحبين والمهنئين له وقد اقترن اسمه يلقب الدكتور ... وأصبح يدعى الدكتور فارس سيف الدين جائزته التي طالما انتظرها لفترة بعد جهد وعناء ومشقة وسنوات دراسة وبذل وسهر وتعب وأهاق مضاعف، كم هي مذاقها طيب لذة الانتصار وكم هو مرهق مشوار النجاحوتحقيق الأهداف بحث بعينيه كثيراً عنها بين المهنئين فلمجدها، كيف ذلك وقد وعدته بالحضور لتشاركه احلامه وسعادته تلك اللحظة شعرها وظواهرها هل ربما قد تكون أسنانها مكروه يخرج هاتفه الحلوى وهاتفها سمع صوتها فرد بلهفة
- أنت كويسة ؟
انتفضت دنيا من فراشها هاتفة:
ايه ده هي الساعة كام دلوقتي
أطاحت المرارة بابتسامة تقره، وضعت مرارتها على شفتيه واحتلتها محتلاً وهو يقول:
أنت كنت نعيمة ؟! .. معلش صحيتك روحي كملي نوم ... سلام
أمسكت الهاتف بكلتاقيدا وقالت بلعوة:
والله يا حبيبي راحت عليا نومة مش عارفة ازاى .... أصلى نعيمة بعد الفجر ... بس أنت غلطان مكلمنيش ليه قبل ما تنزل الصبح
قال بضيق :
خلاص خلاص محصلش حاجة يلا سلام
أغلق الهاتف وهو يشعر أن مرارة ابتسامتة قد استعمرت قلبه ورفعت رايتها معلنة أحكامها وبعثرت غصتها في حلقه تباعا لتجبره على الانصياع لها بلا مقاومة... ولم يكن ليفعل .. لم يكن ليقاوم ذاك الشعور المرير بأهمالها الدائم له وعده حرصها عليه وتفكيرها الأبدي في شخصها وفقط ... كيف يكون ذلك حياً ..
عاد إلى بيته وهو يحاول التخلص من تلك المشاعر التي احتلته فلا يريد أن يزعج أحداً بما يعانيه كل ما كان يفكر به هو أسعاد تلك المرأة الطيبة التي بذلت عمرها لأجله ولم تعد لنفسها عافية إلا وقدمتها يحب وارتياح وهي تراه يحقق الأنجازات يوماً بعد يوم فكأنها هي التي تفكروهي التي تتقدم وهي التي تخطو نحو المستقبل بخطى ثابتة.
يح لها معه بعض الأشياء التي تحبها وترسم ابتسامة سعيدة على محياه ليدخل البهجة على قلبها .. قابلته .. وجدها تقف في الشرفة تنتظره على أحر من الجمر فابتسم لها وخطى خطوات واسعة نحو المنزل، صعد درجات السلم في سرعة كبيرة فوجدها قد سبقته ونزلته هي إليه. عانقته وهي تضحك بين دموعها وتحسست وجهها بيديها الواهنتين وهي تقول ببكاء:
- مبروك يا حبيبي.. ألف مبروك يا ما انت كريم يارب .. الحمد لله يابني
أنها دموعها قد سمحت الدموعه بالإفلات أخيراً من محبسهم وبغزارة وهو يقول :
ايه يا ست الكل ... أنت تفرحى تعیطی تز على تعیطی
قبلت كتفه وأحاطها بذراعه وهي تقول:
دي دموع الفرح يا دكتور
جاءهم صوت مهرة من خلفهم وهي تقول بصوت يشبه البكاء:
كده خلتولى اعيط ؟
التقنا فوجداها تقف أعلى الدرج وعيناها تلمع بعبراتها السعيدة التي هطلت بغزارة على جنتيها وهي تنظر اليهما بابتسامة كبيرة فأعطت مظهراً يرسم له لوحة فنية بكل تلك المشاعر المتناقضة على وجهها الدموع المنهمرة بلا توقف والابتسامة الكبيرة السعيدة وتلك الملامحالبريئة التي لا تخطئها عين.
هبطت درجتين من السلم حتى اقتربت, ثم توقفت وأخرجت من جيب تنورتها ميدالية مرصعة بفصوص من الفضة مكتوب وسطها وبخط فضى صغير د فارس سيف الدين، وقدمتها له وهي
تقول ببراءة :
مبروك يا دكتور.. ممكن تقبل منى الهدية دى
أخذها فارس وهو ينظر لها ويقلبها بين يديه متأملاً وقد تملكته الدهشة وقال:
الله يبارك فيكي يا مهرة... بس جيتيها أمنى دي وعملتيها ازاي
رفعت كتفيها وقالت بتلقائية:
من سنة كده وانا عند أيله عبير شفت واحد جنبهم بيعمل حاجات فضة... طلعت في دماغي
ووصيته عليها ولسه مستلماها منه من أسبوع بس
رفع حاجبيه وقد الدمج مع عباراتها التلقائية ولم يكن حال والدته ياقل من حالته وهما ينصتان
الكلماتها العفوية وقال متسائلاً:
من سنة 15 .. ولسه مستلماها من أسبوع
ابتسمت في خجل وهي تطرق برأسها وقالت:
أصل أنا كنت بحوض تمنها ولما خلصت أدهالي
اتسعت ابتسامته وهو يتبادل النظرات مع والدته التي شعرت كأنها تراها لأول مرة، أما هو فقد
شعر بمتعة وهو يتسائل مرة أخرى ويقول :
وانت بقى عرفتي منين المعاد بتاع مناقشة الرسالة علشان تظبطيها كده وتخلصي تمنها قبلها بأسبوع
استندت بذراعها إلى سور الدرج ولوحت بيدها الأخرى بعفوية وهي القول:
مرة سمعتك وانت بتتكلم مع طنط
رفع حاجبية مندهشاً وقال :
سمعتى المعاد مرة ... ومن سنة !!
أومات يخجل ثم عقدت جبينها ونظرت لأم فارس ثم نظرت إليه وقالت:
هي معجبتكش ولا أيه
اجاب بدون وعي وبدون تفكير
بالعكس .. دى جميلة جدا
نظرت له والدته فوجدته شارداً أو حائراً وهو ينظر إلى الميدالية في يده ويقول في وجوم:
شكلك كنت متأكدة ألى هاخد الدكتوراه حتى من قبل ما أكون أنا متأكد
صعدت والدته درجتين وريتت على كتف مهرة ثم مسحت على ذراعها في حنان وقالت :
طول عمرك جمعة يا شهرة وفاكره الناس اللي حواليكي
ثم نظرت لملابسها وقالت متسائلة:
أنت كنت خارجة دلوقتي ولا ايه ؟
نظرت ظهرة لملابسها ومطت شفتاها وهي تقول بحزن
انا صحیت بدرى علشان اروح أتفرج على فارس وهو بياخد الدكتوراه بس ماما مرضيتش وقعدت تتخانق معايا ... ومن ساعتها بقى وأنا مغيرتش هدومى وقاعدة في البلكونة علشان لما
فارس يرجع اشوفه واديله الهدية.
شعر فارس بكلمات مهرة تطيح بالمرارة التي كانت قد احتلت قلبه من قبل وتنزع رايتها وتحرر قلبه من القسوة التي كانت تحاول فرض سيطرتها عليه بالقوة وثميت عواطفه وتكاد
تدفنها في أعماقه فلا تظهر مرة أخرى على السطح، جانت في الوقت المناسب لتعيد تشغيله وإعادته إلى الحياة مرة ثانية، قبض على هدية مهرة في راحته ولا يعلم لماذا شعر في هذه اللحظة بالذات انه يجب أن يغض بصره عنها لأنها .... لأنها قد كبرت .... كبرت إلى هذه الدرجة. كبرت النبتة التي زرعها بيديه وزرع ما بها من معانى جميلة وعواطف نبيلة مخاصة لتصبحوارفة الظلال التظله هو أيضا يبعض ظلالها حينما تسحقه رمضاء الحياة
ومرت الأيام الخمس ووقف فارس يرتدى سترته الأنيقة السوداء أمام المرآة وهو يستعد لحفل زفافه لم يكن متحمساً كما كان يظن في ذلك اليوم مشط شعره في عناية ووقف ينظر للمرأة ويتمم على الاقته حينها سمع صوت بلال وعمرو في الخارج, ابتسم وهو يفتح باب غرفته
وسمع عمرو يصيح بمرح
وأنا هاخد وقت في اللبس ليه.. أنا حلو من غير حاجة
خرج فارس ورد عليه قائلاً:
ده ايه التواضع ده كله
ضحك بلال وهو يضرب على كتف فارس قائلاً:
نحن السابقون و انتم اللاحقون
نظر بلال إلى فارس وقال متسائلاً:
أنتوا مسافرين بعد الفرح فعلا يا فارس
أوما فارس برأسه وقال:
الدكتور حمدي عزمنا نقضى أسبوع في شفته اللي في اسكندرية .. هنقضي ساعة كده في
الفرح وتسافر على طول
وضع عمرو يديه في خصره وهو يتصنع الحقد وقال:
ماشيه معاك يا عم مين قدك
بقولك ايه يا عمرو ما بدل الحقد اللي مإلى قلبك ده.. يومين ثلاثة كده وتعالوا قضوا معانا يومين في اسكندرية
حك عمرو رأسه وهو يقول:
مهم هفكر واخد رأى الحكومة
ضحك ثلاثتهم بينما قال عمرو :
بالا يا سيدنا العرايس في الكوافير مستنينا على نااار
نظر فارس حوله وهو يقول متسائلاً:
هي ماما راحت فين
قال بلال وهو يضع يديه في جيب بنطاله:
طلعت تودي الولاد عند مهرة ونازله على طول ان شاء الله
عقد فارس بين حاجبيه وقال متسائلاً يقلق:
ليه هما مش جايين معانا
جذبه عمرو من ذراعه وهو يتجه به صوب باب الشقة ويقول :
- يا عمنا بالا بقى هنستناهم تحت الستات دول يومهم بسنة
خرج ثلاثتهم وأغلق فارس الباب خلفة ونزل الدرج خلفهم في توتر وقلق وهو ينظر للأعلى ثم
ينظر أمامه ويكمل طريقه في الهبوط
وقف الجميع أسفل بنايتهم وتبادلوا العناق والتهنئة مع الجيران والأحبة والمدعوين منهم للحفل
تأخرت والدته قليلاً فقال عمرو:
- ما تطلع تشوف الحجة يا فارس ... عزة عماله تتصل شكلنا بقى وحش أوى
نظر فارس إلى هاتفه فوجد مكالمتين من دنيا لم ينتبه إليهم, كان على وشك أن يهاتفها ليخبرها أنهم في طريقهم ولكنه وجد يحيى يهبط الدرج بسرعة ويتجه إلى بلال مباشرة وهو يقول :
لو سمحت با دكتور ممكن تطلع معانا .. أصل مهرة تعبانة أوى
لم يتحدث فارس كثيرا, بل لم يسأله من الأصل، توجه للأعلى مباشرة وطرق الباب فتحت له أم يحيى الباب وفي عينيها أثر البكاء معلنا عن نفسه بوضوح فقال بلوعة:
- في أيه مهرة مانها
كان بلال ويحيى قد لحظا به غض بلال نظره وهو يقول :
- خير يا جماعة مالها
أفسحت لهم أم يحيى الطريق وهي تقول:
مش عارفة يا دكتور ... سخنه اوي وبتترعش والكمادات مش جايبة نتيجة .. خايفة تكون حتى
قال بلال بسرعة دون أن ينظر إليها:
طب غطيها وحطى حاجة على شعرها
دخلت أم يحيى سريعاً إلى غرفة شهرة وخرجت بعد ثوان وهي تقول بلهفة:
خلاص يا دكتور اتفضل
هم بلال بالدخول ولكنه تفاجأ بفارس يمسك بذراعه يوقفه فنظر بلال إلى يد فارس الممسكة به ثم نظر إليه في تسائل ودهشة ، فقال فارس بصوت كأنه خرج من شخص آخر غيره ومن حلق آخر غير حلقه وكانه أتى من بدر عميق وبعيد :
هو انت بتكشف على بنات ؟
شيئاً ما في عيني فارس جعل بلال ينظر إليه بعمق وهو حائراً من أمره ثم قال:
انا مش هكشف عليها .. أنا هشوفها بس حمى ولا لاء .. وده مش محتاج كشف زي ما انت فاهم
علشان لو حمى مش هينفع تستنى أكثر من كده
تم أشار بلال إلى أم يحيى أن تتبعه، دخلت معه والدتها لغرفتها فوجد أم فارس تجلس بجوارها وتبكى على حالها وما أصابها ومهرة نائمة والكمادات تغطى حبيتها.
وقف فارس حائراً في الخارج يريد الدخول ولكن لا يستطيع بعد دقائق خرج بلال وهو يحادث زوجته على الهاتف ويقول:
خلاص نازلين اهو . . لا الحمد لله كويسة .. اه طبعا مجيب الولاد معايا
لم يستطع الانتظار أكثر, أمسك بلال من يده التي يحمل بها الهاتف وقال :
- علمتی با بلال
أنهى بلال مكالمته مع عبير ووضع الهاتف في جيبه وقال لـ فارس وهو يتقرص في ملامحه:
متقلقش دي حرارة عادية ... كويس أن والدتها بتعرف تدى حقن انا كتبتلها على حقنة لما
تاخدها هتبقى كويسة بأذن الله
مر يحيى من جوارهما سريعاً في طريقة للخروج ليحضر الحقنة التي طلبها بلال وخرجت على أثره أم فارس من الغرفة وتوجهت إلى فارس وهي تقول:
انت لسه هنا يابني ... يالا انت اتوكل على الله علشان تلحق عروستك في الكوافير مش عاوزين مشاكل في ليلة لي دي
جاء صوت رئين هاتف فارس في هذه اللحظة, فنظر في الهاتف ليوجده عمرو الذي تكلم بسرعة قائلا:
انتوا هتباتوا عندكوا يا فارس
قال فارس بدون تردد:
أمتى انت يا عمرو... روح خدهم من الكوافير ووديهم القاعة وماما وبلال هيحصلوك
هتف عمرو مستنكراً
هما مين اللي أخدهم دول ... أروح اقول لمراتك تعالى معايا وجوزك جاي ورانا .. في أيه يا فارس
صاح فارس بغضب:
اعمل اللي بقولك عليه يا عمرو ... ماما هتنزل دلوقتي وهتاخدها معاك من الكوافير وتروحوا على القاعة .. وانا هبقى احصنكوا .. وبعدين كده ولا كده قاعة الرجالة مفصولة عن قاعة الستات
یعنی محدش هياخد باله الى متأخر
انتزعت أم فارس الهاتف من يده وهي تنظر له يحدة وقالت لـ عمرو:
فارس نازلك با عمرو دلوقتی
أغلقت الهاتف ونظرت إليه بصرامة وقالت:
- بالا روح خد عروستك من الكوافير.. وانا مقعد معاها لحد ما تتحسن
زفر فارس بضيق وهو يشعر أن حفل زفافه تحول إلى جبل على صدره يريد التخلص منه .
لاحظ بلال الحيرة في عينيه ونفس الشيء الغامض الذي استشعره سابقاً وهو لا يريده أن
يدخل للكشف عليها فتدخل لحل المشكلة قائلاً:
بص يا فارس السخونية دي حاجة عادية.. بتيجى وتروح ومتقلقش في متاخد الحقنة
وهتبقي زي الحصان
عاد يحيى سريعاً بالحقنة ودخل غرفة اخته مسرعاً، كانت أم يحيى واقفة تستمع للحوار بجوار باب غرفة ابنتها وقد حقدتها منذ توان حسمت أمرها ورسمت ابتسامة على شفتيها وخرجت مبتسمة وهي تقول:
الحمد لله الحرارة نزلت شوية وابتدت تتحسن
التفت بلال إليها دون النظر لها مباشرة وقد استشعر خدعتها فهو كطبيب يعلم أن الحرارة تحتاج لوقت أكبر من هذا لتعود لطبيعتها.
انهالت المكالمات على هاتف فارس وبلال واحتالت أم يحيى كثيرا عليهم حتى لا يتأخروا أكثر من هذا على زفافهم بسبب مرض ابنتها, فهم لا ذنب لهم فيما يحدث لها
وبعد مداولات كثيرة استقل فارس السيارة ويكاد يكون في عالم آخر، بأكله القلق والتوتر والأضطراب وتكاد ان تفتك به أناتها التي كانت تخرج منها عالية فتصل إلى أذنيه وتنهش صدره عن بعد, وهو ينظر خلفه يكاد أن يراها من خلف الأبواب المغلقة والجدران، والسيارة تبتعد به وتفصله عن عالمه الذي طالما أحبه .
واصوات أبواق السيارات حتى وصلوا إلى قاعة الأفراح.
خرجت كل منهما إلى زوجها وتأبطت ذراعه إلى السيارة وانطلق الجميع وسط الزغاريد
كانت قاعة الرجال في الطابق الأرضى كالعادة بينما قاعة النساء في الطابق الأول, صعدت النساء للأعلى بينما تلف الرجال إلى القاعة الارضية مرت عزة بين صفى الدفوف بينما مرت دنيا بين صفى المشاعل, كانت استقباليه حافلة بين ضرب الدف والإنشاد وبين أنوار المشاعل الملونة, جلست كل منهما في مقعدها المخصص لها والمزين بالتل والورود والقلوب الحمراء . وبدات الفرقة في أداء فقراتها المدربة عليها ولكن كل هذا لم يعجب دنيا وكانت تشاهد ما يحدث بيمثل وكأنهم نساء من كوكب آخر وتنظر إلى عزة بدهشة وتتعجب كيف يبدو عليها السعادة والبهجه بل وتشاركهم الرقص على ضرب الدف هل هذه حفلة زفاف |
أما في الأسفل عند الرجال وقف عمرو يتضاحك مع أصدقائه ومحبيه ويتبادلون النكات ووقف فارس بجوراه يصافح المهنئين له ويبتسم لهم ولكن عقله كان في مكان آخر فيتجه إلى ركن ما في القاعة ويخرج هاتفه ويتصل على هاتف منزلها فيجيبه يحيى و يطمئنه ببعض الكلمات المطمئنة التي لقنته أياها والدته ..
ترك عمرو أصدقائه واتجه إلى ركن هادي بالقاعة واتصل على والدته وقال وهو يتلفت حوله : يقولك ايه يا ست الكل... مش كفاية كده بقالنا ساعتين مش هنروح بالي ولا ايه
ضحكت والدته ثم قالت :
طيب خلاص ربع ساعة كده وتنزل
أنهى عمرو الأتصال ووقف يفرك كفيه ما بين توتر وعجلة وحانت منه التفاته إلى فارس الذي يقف شارداً يضغط أزرار هاتفه في انفعال ما بين الحين والآخر فاتجه إليه ووضع ذراعه على
كتفه وقال مداعباً :
أنت كمان مستعجل ولا أيه
رسم فارس ابتسامة على شفتيه ولم يجيبه, فقال عمرو :
مالك يا فارس شكلك مش طبيعي خالص من ساعة ما وصلنا فارس:
مفيش يا عمرو.. مفيش
انتهى حفل الزفاف واستقل عمر و سيارة بجوار عزة في طريقهما لعش الزوجية بينما لاحظت أم فارس قلقه وعدم رغبته في السفر فاقتربت منه وربطت على كتفه وقالت وكانها ترى ما يدور بعقله :
يابني اطمن هي خلاص بقت كويسه يلا توكل انت على الله وحد عروستك وسافر
أنحدت دنيا وهي داخل السيارة وأطلت برأسها من زجاجها وقالت بانفعال:
انا هفضل مقطوعة كده كثير
أضطر فارس إلى استقلال السيارة تحت الألحاح الشديد من والدته وبلال وكلمات دنيا اللاذعة وانطلق بها إلى الأسكندرية
ظلت طوال الطريق تونيه وتويخه على تأخره عليها في الكوافير وفي السيارة أمام القاعة ولكنه
لم برد. كاد أن يستشيط غضباً وهو يحاول أرضائها ويقدم أعذاره ولكنها لم تقبل بل وازدادت حدة كلماتها القاسية التي تتهمه فيها بالاهمال والتقصير, والبداية الغير المبشرة بحياة سعيدة .
وفجأة صمتت ويكت بقوة وانهيار.
فتحت والدة عزة باب الشقة ودلفت وهي تطلق الزغاريد المتواصلة وتبعتها عبير وعزة وعمرو .
قبلت عبير اختها وعانقتها وهي تتمنى لهما حياة سعيدة وأيام مباركة وانصرفت بسرعة كما أمرها بلال من قبل, بينما ظلت والدة عزة تطلق الزغاريد المتواصلة حتى مال عمرو على عزة
وقال هامساً:
- هو النهاردة الزغاريد وبكره الفرح ولا أيه |
ابتسمت عزة خجلاً ولم تجيبه وإنما تمنت أن تبقى والدتها ولا تنصرف أبدا من كثرة خوفها من عمرو الذي كان يتوعدها بهذه الليلة مراراً وتكراراً وهو يداعيها بكلماته عبر الهاتف
صعدت والدة عمرو وجذبت أم عزة من يدها وقالت بمرح:
يالا بقى أحنا هنبات هنا ولا ايه
فرت دمعتين من عينيي والدة عزة وهي تحتضنها وتقبلها بينما لمعت عينيي عزة بالدموع وهي تودع والدتها على الباب بينما أسرع عمرو وأغلق الباب خلف الجميع وهو يزفر بارتياح قائلا:
الحمد لله .. أخيرا .. أيه رايك نقفل بالمفتاح والترياس لحسن يرجعوا تاني 115
اطرقت عزة برأسها ولم تجيبه وشعرت أن الدنيا تعيد بها وتكاد أن يغشى عليها، لاحظ عمرو العلامات الجلية على وجهها وشحوبه خوفاً فقال بلامبالاة :
يلا بقى انا هموت من الجوع أدخلى غيري واطلعي بسرعة قبل ما اخلص العشا لوحدى
لم تصدق نفسها، هرولت للداخل أغلقت الباب عليها وبدلت ملابسها سريعاً بعد أن تعدرت قليلا وهي ترتديها وتتمتم بصوت خفيض:
پلیس ازای دی !
بعد قليل خرجت إليه وجدته يأكل بنهم شديد فنظرت إليه باستغراب وقد تناست خوفها قليلاً
وهي تسمعه يقول لها دون أن ينظر إليها :
الأكله دي خلتني عامل زى اللى واحدين بنج .. شكلى كده مكسف أهلى وانام على روحي
أبتسمت وقد تلاشى أي شعور داخلها بالخوف وجلست على مقعدها تتناول بعض الطعام وتصنعت أن الأمر لا يعنيها وهي تقول:
كل وادخل حد دش علشان تسترخي و نام... وأنا هابقى اصحيك الفجر علشان نصلى سوا على فكرة شكلك مرهق أوي أوي
نظر إليها بطرف عينيه وهو يلعق أصبعه من بقايا الطعام وقال :
أسكتي يا بت انت وكلى عيش في البيت ده وانت ساكته احسنلك
أنهى طعامه وذلك إلى الحمام، اغتسل وخرج ليجدها قد استغرقت في نوم عميق على الأريكة
أمام التلفاز
حاول أيقاظها ولكنها لم تستجب ، حاول مراراً ولكنها تعمدت الاستغراق أكثر في النوم، فاتحه إلى الثلاجة وأخرج زجاجة عصير واتجه إليها ووقف بجوارها وهو يفتح الزجاجة بصوت مرتفع وقال:
باتری نوع العصير ده لما بيتكب على الشعر بيطلع ثاني ولا لاء
انتفضت عزة واقفة وهي تقول برجاء:
لالالا لالا بلاش ... أنا صاحبة أهو
أشار لها لتسير أمامه الداخل وهو يعقد جبينه قائلا بجدية مصطنعة:
قدامی .... ناس مبتجيش غير بالعين الحمرا صحيح
وأما هناك وفي الاسكندرية وقبل الفجر بدقائق كانت هناك دوى صفعة قوية على وجهها هوت
على أثرها أرضاً وهي تصرخ قائلة:
متظلمتیش با فارس مکنش بایدي ....اسمعتي طيب
قبض على ساعديها بقوة وعينيه تشعان غضباً وكأن الشيطان قد سكنهما وأطلق منها قذائف نیرانه فتطايرت في وجهها ولفحتها وهو يجذبها لتقف مرة أخرى على قدميها وهي تهتز خوفا
وهلعا وهو يقول يصوت يشبه الفحيح
- مين اللي عمل كده .. أتكلمى ولا هقتلك وادفتك هنا دلوقتي حالاً
قال كلمته الأخيرة وهو يصفعها مرة أخرى لترتطم بالفراش وتسقط عليه بنقلها، وضعت يدها
على وجنتها وهي ترتعش وتقول متوسلة له:
متكلم... هحكيلك على كل حاجة بس اسمعنى .. والله مظلمومة يا فارس
بدأت تتعثر في كلماتها وتتلعثم وهي تقول :
في يوم بعد ما ركبتني التاكسى ومشيت .. فضل ماشي بيا في الطريق عادي وقبل ما يدخل على بيتنا دخل في الشارع الضلمة اللى قصاده اللى كله عمارات فاضية ولسه يتتبنى ... ما انت عارفه و... و بعدين طلع مطوه وهددني ومقدرتش افتح بوی خفت یا فارس خفت و بعدين أغمى عليا ولما فوقت لقيت نفسي في الشارع .. قمت جريت ودخلت بيتنا وماما كانت نايمة
ومشفتليش
قبض على شعرها بقوة وصرخ بها:
كداااية ... أنا عمري ما ركتبتك تاكسي لوحدك أبدا
صرخت وهي تحاول الفكاك منه ومن قبضته حتى شعرت أن روحها تفرقت في جسدها وهربت
من كثرة الألم وقالت وهي تنتفض:
ابوا .. ابوا .. انت عمرك ما ركبتني تاكسي لوحدى بس في اليوم ده الميني باص اللي ركبتهولى.
اتعطل والناس نزلت كلها واضطريت أخد تاكسي وحصل اللي حصل
صرح بها وهو مازال قابضاً على شعرها بقوة :
و مقولتليش ليه ... ومبلغتيش ليه .. وأمتى كل ده حصل
بكت بشدة وهي تصرخ من الألم وقالت :
- حصل من سنة تقريبا ... و خفت با فارس خفت اقولك وخفت ابلغ
دفعها على الفراش بقوة فارتطم رأسها به وأخذت تبكي وترتعش بقوة, نظر اليها تسلط عليه
الشيطان في تلك اللحظة فأقدم على قتلها ولكنه تراجع .
كلماتها تفوح منها رائحة الكذب ولكنه لا دليل لديه على شيء آخر، ابتعد عنها ودخل الشرفة فلفحه الهواء بقوة وشعر أنه كان تحت سطح البحر لا يكاد يتنفس وخرج فجأة إلى الهواء العليل فكادت أن تنفجر رئتيه وشعر بدمائه تغلى بداخل عروقه لتلهيها وتحرقها ورأى الماء يتدفع بجنون ويرتطم بأمواج عقله فتطحن رجولته وتبعثرها وتنترها على الشاطيء، شعر أنه سيفقد عقله ورشده ... جلس على الأرض واضعاً وجهه بين كفيه وهو يشعر أن قلبة قد ظعن طعنة غدر من أقرب الناس إليه, لا يصدقها وليس لديه حل اخر هل يعرضها على طبيبة, هل يفضحها ويقول لوالدتها ويطلقها أم يستر عليها ... صبح صوت اذان الفجر ليتسلل اقلية المكلوم الممزق . نهض بتتاقل وتوجه للحمام اغتسل وصلى الفجر وقد انهمرت عبراته الساخنة التي كانت تقفز على الأرض من عينيه لتروى مكان سجوده بماء دموعه ... أنكفا لونه وارتجفت أوصاله .
عاد الفارس من معركته خاسراً, ولكنه لم يفقد روحه وأنما فقد حكمته وشرفه، ولكن الفارس النبيل مازال بداخله يستصرخه أن يظل نبيلاً حتى آخر رمق، وإن زهقت روحه تحت راية لبلة
وتذكر حديث النبي صل الله عليه وسلم :
من ستر مؤمنا في الدنيا ستره الله يوم القيامة )
ولكن هل يستطيع ذلك ؟!!