رواية ظلي لم يغادر المكان الفصل التاسع عشر 19 بقلم سلمى ابو ضيف


 رواية ظلي لم يغادر المكان الفصل التاسع عشر 


بدأوا يتحركوا داخل أروقة القصر، خطواتهم بطيئة كأنها تسير فوق صدورهم، وكل جدار يلتف حولهم يزيد من ثقل المكان. كانوا يحاولون تذكّر طريق العودة إلى النقطة التي انطلقوا منها… أمام المرآة.

وأثناء سيرهم، توقفت إهداء فجأة، تنظر إلى باب حجري مسدود يكاد يندمج مع الحائط:
– "الغرفة دي… أول مرة أشوفها، أكيد فيها حاجة."

اقترب خالد منها، يتفحص المقبض الغريب المحفور في الصخر. حاول أن يفتحه، لكن الباب ظل ثابتًا كأنه جزء من القصر ذاته. تنهد بعد أن فقد شغفه، ثم التفت إليهم قائلاً بجدية:
– "أكيد في سر ورا الأوضة دي."

نظر إلى مازن مباشرة:
– "إنت شايف إيه؟"

أجاب مازن بصوت متعب، كأن الجدران تستنزف قواه:
– "مش عارف… بس حاسس—"

قاطعت كلامه نور وهي تحدق في يده المرتجفة:
– "صباعك يا مازن… الجلد حواليه مسوّد … دا مش جرح طبيعي!"

اقترب خالد سريعًا، أمسك بإصبع مازن بين يديه، وعيناه تتسعان بدهشة:
– "في حاجة غريبة… الرمز بيحاول يمتد في صباعك."

صرخ مازن فجأة صرخة مدوية، ارتد صداها في جدران القصر، كأنها توقظ شيئًا نائمًا منذ قرون. الدم الغامق بدأ ينساب بغزارة، يخط خطوطًا على الأرض.

وفجأة… ارتج الباب الحجري بعنف، قبل أن ينفتح ببطء شديد، محدثًا صريرًا يشبه أنينًا طويلاً. تبادل الأربعة نظرات مذهولة، وقد فهموا أن جرح مازن لم يكن مجرد نزيف… بل مفتاح يفتح لهم المجهول.

بعد لحظات من التردد، دخلوا الغرفة بخطوات حذرة.

كانت أشبه بمقبرة منسية: جدرانها باردة رطبة، تتدلى منها خيوط سوداء كالعروق النازفة. وفي منتصفها صفوف من توابيت حجرية، كل تابوت منقوش عليه نفس الرمز المرعب: دائرة ملتفة من أسلاك، وفي قلبها عين وحيدة تحدق فيهم بصمت ثقيل.

الظلال تلعب على الجدران، وبين التوابيت انتشرت رموز غريبة محفورة بشكل عشوائي… أكثرها لفت انتباههم كان:
A S A 9 0 91

وبينما أنفاسهم تتلاحق، بدأت الجدران نفسها تكتب لهم كلمة واحدة… حروفها متوهجة كأنها محفورة بنور الدم:
"المرآة"

دونت نور كل الرموز بسرعة في دفترها المرتجف، وقد فهمت أنهم سيحتاجون إليها لاحقًا. ثم بدأوا جميعًا الذهاب الي صالة القصر وقفوا أمام المرآة يتفحصونها باهتمام. كانت كما هي، لم يظهر لهم جديد.

لكن… خالد تراجع خطوة للخلف وهو يحدق:
– "استنوا… في حاجة غلط."

اقتربت نور لتتأكد، وعيناها تتسعان:
– "إزاي… إزاي ماخدناش بالنا؟"

فالمرآة لم تكن مثبتة على الجدار كما ظنوا طوال الوقت… بل خلفها ظلّ غامق يتحرك، كأنها حجاب يخفي شيئًا وراءه.
ولوهلة، شعروا جميعًا أن المرآة لم تكن أبدًا تعكس صورهم… بل تراقبهم.

اقتربوا من المرآة بحذر، وعيونهم متعلقة بالظلّ الملتف خلفها. مدّ خالد يده، وضغط ببطء على أطرافها، حتى تحركت كأنها باب خفيّ، وانكشفت لهم فجوة ضيقة مظلمة.

لكن المفاجأة أن النفق لم يكن مفتوحًا، بل أغلقه قفل غريب الشكل، معدني أسود .
تقدمت نور، عيناها لا تفارقان القفل:
– "أكيد الرموز اللي شفناها… هي مفتاح القفل دا."

أمسك خالد بالقفل، وبدأ يجرب كتابة الرموز بأكثر من طريقة

لكن كل محاولة كانت تنتهي بالفشل، والقفل يزداد صلابة كأن القصر نفسه يرفض فتحه.

حتى رفع مازن رأسه فجأة وقال بثقة مرتجفة:
– "استنى… جرّب كده: AAS1990."

ضغط خالد الحروف والأرقام على التوالي… وفجأة دوّى صوت معدني مكتوم، قبل أن ينفتح القفل ببطء، ويسقط على الأرض كأنه تلاشى من ثقل الزمن.

ارتجفوا جميعًا من هول اللحظة، ثم تبادلوا النظرات في صمت.

كان النفق خلف المرآة صغيرًا للغاية، بالكاد يسمح بمرور شخص واحد. درجات سلالم حجرية ملتوية تهبط إلى أسفل، والظلام يبتلع نهايتها.
ومع أول نفس… خرجت من الداخل رائحة عفن شنيعة، ثقيلة حتى إن صدورهم انقبضت ولم يستطيعوا التنفس بسهولة.

وضعت نور يدها على فمها بامتعاض، وقالت بغضب وهي تشعل كشاف هاتفها:
– "مستحيل ننزل...!"

لكن خالد أصرّ، وصوته ثابت رغم الخوف:
– "لازم ننزل… مفيش طريق غيره."

بدأ النزول بحذر، كان أولهم خالد، وخلفه إهداء، ثم نور، بينما كان مازن آخر الصف، يضغط على إصبعه الغارق بالدم محاولًا التحمل.

كلما هبطوا أكثر، ازدادت الرائحة ثقلًا حتى شعروا أن الهواء نفسه يتعفن في صدورهم. جدران السلم كانت ملساء رطبة، والماء يقطر من الشقوق كأن المكان ينزف.

وفجأة… توقفت خطواتهم، وتجمدت أنفاسهم.

أمامهم مباشرة… ظهرت جثة إنسان ملقاة على الأرض، ملامحها باهتة، جسدها متيبس كأنها محبوسة هنا منذ زمن بعيد.

وقع في قلوبهم جميعًا شعور واحد… صاعق، لا يحتمل الشك:
إنها جثة ريم.

تسمرت عيونهم، ولم يتحملوا المشهد. اندفعت دموع نور وإهداء بلا توقف، وأصوات بكائهما اختلطت بصدى النفق الكئيب.

لكن بينما كانتا غارقتين في الحزن، التفت خالد بنظرة حادة، وكأن شيئًا آخر لفت انتباهه.
تبعته عين مازن… وهناك، بجوار الجثة مباشرة، كان يرقد دفتر قديم، مغطى بطبقة من التراب والعفن، لكنه ما زال متماسكًا.

تردّدنا لحظة، ثم مد خالد يده وأمسكه.
وبمجرد أن فتح الصفحة الأولى… تجمدنا جميعًا.

فالاسم الوحيد المكتوب بخط واضح في البداية كان اسمًا نعرفه جيدًا…

"عمرو."
__________________________________________
*فلاش باك *

الغرفة غارقة في صمت ثقيل. ريم جلست على طرف السرير، كتفيها منحنيان، والهاتف في يدها يرتجف كأن وزن العالم كله بداخله.
رفعت السماعة بخوف، همست بصوت منخفض يكاد لا يُسمع
–  "ألو… عمرو"

لم يأتِ الردّ بهدوء. صوت عمرو اخترق السكون كحد السكين، ممتزجًا بنبرة غضب مكبوت قال بحدة مكتومة: "ريم… إنتي خرجت النهارده؟"

تلعثمت الكلمات على لسانها، كأنها طفلة تُمسك بخطأ لم تُرد ارتكابه أجابته بخجل: "أيوه… بابا بعتني أجيب شوية طلبات. ما طولتش… ورجعت بسرعة."

ساد صمت قصير من طرفه، لكنه لم يكن صمتًا عاديًا؛ كان صمتًا مشحونًا، تسمع فيه أنفاسه المتوترة، كأن كل ثانية يبتلع فيها غضبًا أكبر مما يحتمل.
ثم جاء صوته أبطأ… لكن أعمق، مثقل بثقل لا يقبل نقاشًا:
 "ريم… من النهارده مفيش خروج. أي حاجة محتاجاها… هتبقى عندك من غير ما حد يعرف."

تسمرت عيناها على الأرض، قبضت أصابعها على الهاتف بقوة، صوتها خرج مترددًا، باحثًا عن مبرر
"بس… وبابا؟ أقوله إيه لو سألني؟"

ارتفع صوته قليلًا، لم يكن صراخًا… لكنه مليء بإصرار لا يقبل جدالًا: "قلتلك أنا هتصرف. إنتي ما تقلقيش من حاجة."

صمت مرة أخرى، لكنها شعرت بالغضب يتدفق من كلماته رغم قلة حروفها.
ثم انقطع الخط فجأة، تاركًا خلفه طنينًا جافًا يملأ أذنها.

بقيت ريم ممسكة بالهاتف لثوانٍ، أصابعها لا تزال مرتجفة.
رفعت رأسها ببطء نحو المراية المعلقة على الحائط.

انعكس وجهها أمامها… ملامح هشة متعبة، عيون واسعة يغمرها القلق، شعرها الأسود منسدل بعشوائية على كتفيها كأنه فقد ترتيبه منذ زمن.
اقتربت أكثر، كأنها تواجه خصمًا لا تعرفه.
مدّت يدها تتحسس خدها البارد، ثم خطّت بأطراف أصابعها على الشفاه المرتجفة، وسألت نفسها بصوت بالكاد يخرج: "هو… فعلًا بيحبني؟ ولا أنا بس بضحك على نفسي؟"

الدمعة التي سالت على خدها لم تكن مجرد بكاء… كانت إعلان هزيمة داخلية، شعورًا بأنها مهما حاولت، ستبقى أقل مما يجب.

ابتسمت ابتسامة مشوهة، كأنها تختبر ملامحها في المرآة، لكن كل ما ارتد إليها كان صورة لفتاة عادية جدًا… لا تشبه أبدًا البطلة التي يراها عمرو في خياله.

ومع كل يوم كان يمر، كانت علاقتها بعمرو تكبر في صمتٍ خفيّ. كلمات مقتضبة، مكالمات قصيرة، لكنها كافية لتغذي قلبها بالوهم. كانت تشعر أن الحبال التي تربطها به تزداد متانة، وأنها مهما حاولت إخفاء الأمر، لم تعد قادرة على الهروب من ذلك التعلق.

لكن الرياح دائمًا تأتي بما لا تشتهي السفن…

صباح باهت، وبينما كانت تقلب الصحف بلامبالاة، ارتعشت يدها عند رؤية الخبر. صورة واضحة، عنوان صارخ: "خطوبة عمرو …".

لم تستوعب الكلمة أول الأمر، كأن عقلها رفض التصديق. ثم تسللت الحقيقة ببطء، ثقيلة كحجر يسقط في قلبها.

شعرت أنها انكمشت فجأة… أنها لم تكن يومًا كافية. كل تلك الليالي التي خبأت فيها صوتها، كل التنازلات التي قدّمتها باسم الحب، كل مبادئها التي سمحت لها أن تتآكل… لأجل ماذا؟
لأجل رجل، تركها ببساطة، وكأنه لم يكن يومًا يملك مفاتيح قلبها.

نظرت إلى نفسها في المرآة، بعينين مثقلتين بالخذلان. همست بمرارة: "متعلمتش… من ساعة ما قابلت مازن وأنا بكرر نفس الغلط. عمري ما عرفت أحتفظ بكرامتي قدّام حد."

ثم تساقطت الكلمات في داخلها، كأنها اعتراف متأخر:

"الإنسان لا يعجز عن إدراك أخطائه… بل يعجز عن كبح قلبه.
فهو يمد يده للنار، رغم أن الندوب القديمة ما زالت شاهدة.
ربما نحن لا نُخلق لنتعلم… بل لنكرر، حتى نتحطم بالكامل."

تجمدت الدموع في عينيها حتى تحولت لشرر.
لم يعد الحزن وحده كافيًا ليمثل ما بداخلها؛ 
كان هناك شيء جديد يتخلّق…

 شيء حارق ينهش قلبها: الرغبة في الانتقام.

لم تعد تفكر كيف تحافظ على قلبه، بل كيف تمزقه كما مزقها

تعليقات