رواية غرام الذئاب الفصل العشرون 20 بقلم ولاء رفعت


 رواية غرام الذئاب الفصل العشرون 


قد أخطئ، وقد أتهور، وربما أبدو ضعيفة في أعينهم، لكنني لم أبتغِ يومًا إلا صون زواجي من الانهيار.
كل ما فعلته مهما أثقلني بالوجع، كان غايته أن أحمي بيتي من الخراب، وأحفظ حلمي من التبعثر.

~ رودينا البحيري ~

 جلس رحيم قبالة أمه، وقد انعكس دفء البيت على ملامحهما؛ يلوك طعامه داخل فمه، بينما هيتراقب تفاصيله بعين أم خبيرة، ترتب في ذهنها ما لا يعلمه.

السكينة في يدها والشوكة في اليد الأخرى، سألته بصوت لا يخلو من حزم
"إنت ناوي تاخد أجازة إمتى من شغلك؟" 

رفع رأسه، وبلع ما في فمه على عَجل، ثم مال قليلًا وسألها بنبرة قصيرة

"ليه؟"

تأهبت كمن يُزاح عن صدره ستر أخفى خبر جميل، قطعت قطعة اللحم بالشوكة والسكين، واستقامت في جلستها، ثم قالت وهي تُشير إشارة الواثق الذي انتهى إلى رأيه
"عشان أعرف أرتب لك ميعاد مع ناهد المعداوي وبنتها هدير"

ظهر على وجهه التعجب أكثر، واكفهر حاجباه دهشة، فقال هازًا رأسه
"وأنا مالي ومال صاحبتك وبنتها؟"

وضعت الشوكة والسكين برفق محسوب، وحدقت فيه بنظرة أمومية نافذة، رمقته بابتسامة تُخفي استعجالًا وتفضحه في آن
"ودي محتاجة شرح يا دكتور؟، ده أنا قولت هتفهمها وهي طايرة، هرتب لكم ميعاد في النادي، تقعد إنت وهدير تتكلموا مع بعض، وبعدها نروحلهم  البيت وتطلب إيدها من باباها ونقرا الفاتحة"

في لحظة واحدة، ترك كل ما في يده، وأمسك المحرمة فمسح فمه من أثر الطعام، ثم نظر لأمه بعينين هادئتين ونبرة تقطر سخرية 
"ولما حضرتك قررتي إن أنا خلاص وافقت على هدير، وها روح أقرا الفاتحة مع باباها، لازمتها إيه تاخدي رأيي؟!"

أجابت بثقة مطمئنة، كأنها تلقي حجتها الأخيرة ولا حجة بعدها
"لإنها عروسة ما تترفضش، البنت زي القمر، طول، وعودها فرنساوي، وشعرها أسود زي الحرير، وعيونها عيون غزلان، جمال رباني مش هتلاقي زيه اليومين دول، أحسن من اللي نافخين شفايفهم وخدودهم ووشهم شبه كوتش العربيات، وقال إيه عمليات تجميل، أومال لو العكس كان هيبقى شكلهم عامل إزاي؟!، دول بقوا شبه الأشكيف المخيف"

أطلقت كلماتها فانتزعت من رحيم ضحكة خرجت رغمًا عنه؛ ضحكة قصيرة انطفأت بسرعة، إذ بدا له أن اللحظة مواتية ليُلقي حجراً في ماء يحسبه ساكن. 
 أسند ظهره إلى الكرسي، وبشيء من الجدية يكسو صوته وهو يخبرها
"بما إن حضرتك فاتحتيني في موضوع الجواز، أنا كنت ناوي أكلمك فعلًا وأقولك أنا هاتجوز، بس مش هدير بنت صاحبتك" 

تهللت أساريرها ومالت للأمام بلهفة لا تُخفى، سألته
"مين دي يا حبيبي وأنا أقوم حالًا ألبس وأروح أطلب لك إيدها، دكتورة زيك؟، ولا بنت مين؟، ولا من أنهي عيلة؟"

ابتلع ريقه، وتمهل لحظة ثم قال باقتضاب لا يخلو من الحسم
"هاتجوز أميرة يا ماما"

 سمعت الاسم وظلت البسمة ترافق شفتيها، لكنها أرادت أن تعلم المزيد، فسألت وهي تلوح بيدها في فضاء الطاولة
"أميرة مين يا حبيبي؟، أخت واحد من زمايلك الدكاترة؟" 

نظر إليها ابنها نظرة تفيض هدوء وسلام داخلي، كمن يضع النقطة الأخيرة في سطر طال كتابته
"أميرة، البنت اللي عرفتها في إسكندرية، وقعدتها في فيلا كفر عبده" 

عندها سكن كل شئ من حولهما، 
ارتجف قلب والدته حينما انسكبت الكلمات من فمه علي رأسها كالصاعقة الكهربائية، اخترقت أعصابها وأحرقت هدوءها، فانتفض صوتها فجأة، مدوياً يهز جدران البيت ويبلغ القاصي والداني
"قولت إيه يا حبيب أمك؟!، عايز تتجوز مين؟!، يا لهوي عليا، يا ميلة بختك في ابنك يا رجاء، ابنك عايز يتجوز واحدة من الشارع، لا ليها أصل ولا فصل، ليه كده يا بني؟!، عملتلك إيه عشان تعمل فيا كده؟!"

مد يديه نحوها يستعطفها، محاولاً أن يكبح انفعالها
"ماما، ممكن تقعدي ونتفاهم بس، اللي بتعمليه ده ما ينفعش خالص"

لكنها صاحت بحدة، تسقط فوق رأسه حمم من نار
"واللي قولته هو ده اللي ينفع؟!، يا دكتور يا ابن الأكابر، يا اللي سمعة أبوك والعيلة زي الألماظ، تيجي إنت تحط سمعتنا في الوحل، لما تروح تتجوز وتدي اسمك لواحدة من الشارع؟!"

ضاق به الأمر ذرعاً، فنهض بغتة وصاح بنبرة غضب متأجج
"و ده مش أسلوب ولا طريقة نتناقش بيها خالص!"

رمقته بعيون تتطاير شرراً، ثم تابعت باحتقان
"هو أنا لسه قولت حاجة، إنت خلاص دماغك لاسعت، نخلص من حكايتك مع بنت خالتك الملعونة، تطلعلي بمصيبة أكبر، إنت عايز تموتن بس مش عارف تعملها إزاي؟!"
و إذا به يضرب بقبضته على مائدة الطعام بكل ما أوتي من قوة، فارتجت الأواني وساد السكون، صرخ صرخة هزت أركان المنزل
"ماما!"

تجمدت في مكانها، بصرها يشتعل غضب، وصدرها يعلو ويهبط كما لو كان في سباق مع الريح. 
  تسلل صوته إليها وقد خفت حدته، لكنه ظل مفعم بالصلابة
"أنا مش باخد رأيك، أنا مقرر أصلاً، دي حياتي، وأنا حر هاعيشها إزاي ومع مين"

اتسعت عيناها من الصدمة، وانكسرت نبرته، تعقب بملامح يعتصرها الألم
"طالما إنت واخد القرار ومرتب لكل حاجة، جاي عايز مني إيه؟!"

اقترب منها، فتلطف صوته وهو يزيح عن كاهله ثقل الجدال
"عايز منك تيجي معايا بكرة تطلبي إيدها ليا، وتعامليها أحسن معاملة، لأنها هاتبقي مراتي، وفترة الخطوبة مش هتطول، أسبوع ولا عشرة أيام بالكتير، وبعدها هاتجوزها ونسافر إنجلترا عشان عندي مؤتمر طبي، وممكن نقعد هناك فترة"

قهقهت بتهكم لاذع، وكأنها تسخر من قدرها
"كمان؟!، كتر خيرك يا بني"

تنهد بعمق واقترب منها، أمسك بيدها كما يتمسك الغريق بخشبة نجاة، وقال برجاء يتخلله الحب
"بالله عليكي مش عايز منك غير تكوني راضية عني، وأظن كل همك تشوفيني مبسوط وسعيد، وسعادتي هاتبقي مع أميرة، إنتي لو اتعاملتي معاها هاتحبيها أوي، وهاتعتبريها بنتك اللي ما خلفتيهاش"

تأملته بعينين مغرورقتين بالعاطفة، ثم سألت بصوت مخنوق بدموع لم تنسكب بعد
"إنت حبتها يا رحيم؟"

ظل يحدق في عينيها شارداً، كأنه يستدعي من أعماق قلبه حقيقة لم يبح بها من قبل، ثم نطق ببطء ممزوج باليقين
"أنا حسيتها العوض اللي جالي في وقت كنت فقدت فيه كل أمل، لما بقعد وأكلمها بيجيلي شعور مش عارف أوصفه، كإني عارفها من زمان، بحس براحة وفرحة قلبي ما عشتهاش قبل كده"

هزت رأسها بدهشة مشوبة باللوم
"يبقى حبيتها، ولحقت بالسرعة دي تنسى حبك لبنت خالتك؟!"

قطب جبينه كمن طعنته ذكرى أليمة، وأجاب بصوت متهدج بالمرارة
"ماما، مشاعري القديمة لرودينا كانت صفحة وقفلتها، هي دلوقتي بنت خالتي المتجوزة وعلى ذمة راجل تاني، وأنا مش هوقف حياتي علي ماضي و انتهي"

تسرب الهدوء إلى قسماتها، فمدت يديها لتسحب يديها من قبضته، ثم أحاطت وجهه بكفيها كما اعتادت أن تفعل وهو طفل صغير، قالت برقة تتدفق من قلب أم
"وأنا كل اللي يهمني راحتك وسعادتك يا حبيبي، وعشان خاطرك هاقبل أي حاجة، طالما إنت بخير ومبسوط كمان"

ابتسم رحيم ابتسامة واسعة، تناثرت أنوار الفرح على محياه، وارتجف قلبه كطفل صغير ظفر أخيراً برضا والدته، عانقها بقوة وقال بامتنان يغمر نبرته
"حبيبتي يا أم، ربنا يخليكي ليا ويباركلي فيكي"

ثم انحنى يقبِّل رأسها ويديها، وأردف وهو يتهامس في أذنها بنشوة فرح
"لما أكلمها أفرحها"

وقف جانباً في زاوية معزولة، أخرج هاتفه مسرعاً، وضغط على رقم أميرة، لكن الصمت أجابه.  
 أعاد الاتصال ثانية، فجاءه الفراغ ذاته، حاول مرة ثالثة، ثم رابعة، حتى بلغت محاولاته عشر مرات متتالية، وكلها باءت بالفشل، كأن هاتفها غاب في صحراء لا صدى فيها ولا رجع.

حينها، تسلل القلق إلى صدره كأفعى لزجة، يعتصر قلبه خوفاً، فحالتها يعلمها جيداً، وصحتها واهنة، فمن المؤكد فقدت الوعي وهي وحيدة بين جدران شقة والده الخالية.

بلهفة متوترة، أجرى اتصال أخر سريعاً بحارس العقار، وما إن جاءه الرد حتى انحبس صوته 
"ألو يا دكتور رحيم، أنا كنت لسه هاتصل على حضرتك دلوقتي"

تسارع نبضه، وانفلت صوته برجفة في قلبه
"أميرة حصلها حاجة؟"

أجاب الحارس بنبرة زادت من قلق الأخر
"المدام عندي طلعتلها من بدري تديها الطلبات ما فتحت، اتصلت عليها ما بتردش، قولنا نستنى شوية يمكن تكون مشغولة ولا نايمة، لسه من شوية طلعت خبطت عليها تاني، برضه ما بتفتحش ولا سامعين أي صوت جوا"

صرخ دون تفكير، كأن قلبه اندفع قبل لسانه
"أنا جاي حالاً"

أنهى المكالمة بسرعة، وارتسمت على وجهه ملامح ذعر لم يستطع إخفائها، لم تتركه أمه لحيرته، فبادرت تسأله وقد رأت الاضطراب ينهش قسماته
"كنت بتكلم مين؟ وأميرة حصلها إيه؟"

ابتلع ريقه، وأجاب بصوت متوتر يحاول أن يخفي ما فاض في صدره من عاصفة
"أنا لازم أمشي دلوقتي يا ماما، وهابقى أتصل عليكي أطمنك"

                        ❈-❈-❈
وصل للتو بعد أن انتهي من أعماله، وما إن خطا عتبة القصر حتى ألقى عن كاهله كل ما حمله من أعباء وهموم، كان شوقه يسبق خطواته نحو زوجته التي لطالما عاندته بعذوبة، وتدللت كطفلة صغيرة تعرف كيف تُرهقه ثم تُسكره بحبها.
 ارتسمت ابتسامة على شفتيه حين استحضر ملامحها وهي تجادل وتتبرم، فيغدو عنادها وقودً لعاطفة لا تنطفئ.

ارتقى الدرج بخطوات هادئة، وقد بلغه من زينات قبل عودته أن زوجته غارقة في سبات عميق داخل مخدعها، وأنها أوصت بألا يجرؤ أحد على إيقاظها.  
 وقف أمام الباب برهة، وضع يده على المقبض ليفتح، غير أنه فوجئ بالباب موصداً من الداخل.  
 ضاق صدره لحظة، ثم ما لبث أن انفرجت أساريره حين خطرت له فكرة أضفت على ملامحه ابتسامة ماكرة.

 وفي غرفة أخرى، انبعث من خلف الباب بخار دافئ؛ إذ خرج من الحمام مرتدياً بنطال قطني، تتساقط قطرات الماء من شعره فيجففها بالمنشفة، ثم جلس أمام مرآة الزينة يصفف خصلاته بعناية.  
 أخرج حاسوبه المحمول من حقيبته، حمله متكئاً على ساعديه، ثم مضى بخطوات ثابتة إلى الشرفة، وجلس على الكرسي، واضع الحاسوب فوق الطاولة وقد تهيأ لوقت من الصفاء.

وفي الغرفة المجاورة، كانت هي تتقلب فوق الفراش بضيق، يعبث الملل بجفونها المثقلة.  
 فتحت عينيها على كسل، ثم أغمضتهما مجدداً، غير أن هناك لحن نافذ تسلل إلى مسامعها، يشق سكون الغرفة

«مستخسر ضحكة ليا... وحلال فيا القطيعة...
حالف أيمان ما تصفى... قضتها خصام وبيعة...
إيه ما وحشتكش يعني... زعلك نساك حبيبك...
ليه بينا البعد طول... من طبع العند سيبك...»

تكرر المقطع بإلحاح، فدب في أوصالها الضجر، فنهضت متأففة، جذبت معطف منامتها وارتدته، ثم خرجت تبحث عن مصدر الصوت. 
  تقدمت بخطوات متثاقلة حتى انتهى بها المسير إلى الشرفة، حيث تطل على الحديقة الغناء.  
 هناك على يسارها، انتبهت إلي الشرفة المجاورة، وإذا به يستند إلى حافة السور، لفافة تبغ تتوهج بين أصابعه، والدخان يتلوى أمام وجهه كالضباب.

التفت إليها، فأسرع بخفض الصوت، ثم عاد بنظره إليها، يبتسم ابتسامة ماكرة ويغمز بعينه، قبل أن يسألها بنبرة خفيفة
"إيه؟"

رمقته بحدة مصطنعة، تُخفي خلفها ابتسامة تختبئ عنوة خلف جدار من التمنع
"ممكن تقفل الأغاني لو سمحت؟، أنا عايزة أنام"

ضحك بخفة وهو يرد، سكب سخرية عذبة في كلماته
"ما تنامي حد ماسكك؟!"

رفعت حاجبها الأيمن، تحدق فيه بجدية يكسوها الدلال، وقالت بنبرة محذرة
"قصي، بلاش استهبال"
ظل يرمقها بعينين ثابتتين وهو يضع سيجارته بين شفتيه، ثم أطلق سحب الدخان في الهواء يتعمد استفزازها.
 رفعت حاجبيها بصرامة وقالت بصوت آمر
"وياريت تطفي السجاير، عشان غلط عليا وعلى اللي في بطني"

ارتبك للحظة، ثم أمال رأسه بإقرار هادئ
"في دي عندك حق، و أدي السيجارة"

مد يده ليطفئ السيجار في المنفضة الزجاجية، نظر إليها بعينيه ذات لون ثمار الزيتون، يسألها
"كده تمام؟"

أجابت بجفاف وهي ترفع أنفها بتعالي
"و اطفي الأغاني"

وبنصف ابتسام ردّ بخضوع متلاعب
"عينيا"

وأغلق الموسيقى كما أمرته، فارتسمت على ملامحها نظرة نصر متعجرفة،  أدارت ظهرها ودلفت إلى الداخل. 
 
 تمددت على السرير تحاول استعادة النوم، غير أن صدى الأغنية عاد يتردد فجأة، لكن هذه المرة بصوت أعلى من سابقه، يخترق الجدران كخنجر.  
 تنهدت بضيق نافذ الصبر، وقالت غاضبة
"لاء بقي، أنت كده قاصد تحرق دمي"

وثبت من فراشها، واندفعت إلى الغرفة المجاورة، حيث خرجت إلى الشرفة. هناك، كان واقفاً ينتظرها وعلي وجهه ابتسامة نصر باردة، يشي بارتياح المنتصر.  
 نظرت إليه باشمئزاز مكتوم، ثم استدارت لتغلق الحاسوب المحمول كي توقف تلك الجلبة المزعجة. 
  وما إن همّت بالعودة أدراجها، حتى باغتها بحركة حاسمة، إذ أغلق باب الشرفة الزجاجي خلفها ووقف أمامه كجدار منيع، يقطع عليها سبل الخروج.

قالت بحدة، تكاد تشتعل من الغيظ
"أوعي من وشي الساعة دي"

لم يتزحزح، وظلت ابتسامته الاستفزازية معلقة على شفتيه، وهي نقيض ما اعتاد أن يظهره من غضب سريع الانفجار لأهون سبب، ردّ بهدوء يقطر سخرية
"تؤ"

أشارت بإصبعها السبابة نحو وجهه، عيناها تقدحان شرراً، وقالت محذرة
 "عديني يا قصي، ما تخلنيش أعلي صوتي أكتر من كده"

ضحك بخفّة متعمدة، وسألها متصنعاً الاستفهام
"أعتبره تحذير ولا تهديد؟"

ارتجف جفنها بغضب كامن، وقالت بصرامة قاطعة
"اعتبره أي حاجة... بس ابعد عن وشي وبلاش تستفزني أكتر من كده"

أطرق للحظة، ثم رفع بصره إليها بخبث ظاهر، وقال بهدوء يُحسد عليه
"تمام هعديكي، بشرط"

زفرت بملل غاضب وهي تلوح بيدها كأنها تستعجل الخلاص
"الله يطولك يا روح... شرط إيه؟"

ابتسم ابتسامة خبيثة وقد ازداد بريق التحدي في عينيه، وقال بلهجة ساخرة تفيض بالمشاكسة:
"شخللي عشان تعدي"

رمقته بنظرة تكاد تقتلع روحه، وكأنها على وشك أن تسدد لكمة إلى وجهه، وقالت بغيظ لا يخلو من سخرية:
"إنت بتهزر... صح؟!"

أجابها ببرود متعمد، وكأنه يزيد النار اشتعالاً
 "شخللي يعني ادفعي عشان تعدي... بس أنا مش قصدي فلوس"

رفعت كفيها إلى السماء تتوسل الصبر، وقالت بلهجة يشوبها الضجر
"الصبر من عندك يا رب، عايز مني إيه يا قصي؟"

ابتسم ابتسامة ماكرة وهو يطيل النظر إليها
"مش إنتي عايزة تعدي؟!، قولتلك ادفعي... وأنا مش عايز فلوس.... خليكي لماحة وذكية"

ضيقت عينيها حتى كاد الغضب يتفجر من ملامحها، ثم عقدت ساعديها أمام صدرها بحزم وقالت
"مش هايحصل... لأن أصلاً لسه ما نستش اللي فات"

اقترب منها بخطوات بطيئة، وصوته ينضح بالسخرية
"وإنتي ليه فسرتي طلبي كده؟"

ثم مال نحوها قليلاً، وهمس في أذنها
"عشان تعرفي دماغك شمال يا حبيبتي"

انتفضت، ورمقته بحدة محذرة كأنها تطلق رصاصة من عينيها
"اتلم"

ضحك بخفة مستفزة 
"إنتي على فكرة اللي معطلة نفسك... أنا كنت هقول كل اللي عايزه واحدة هنا... وواحدة زيها هنا"
وأشار بإصبعه إلى خده الأيمن ثم إلى الأيسر، قبل أن يضيف بابتسامة عابثة
"براحتك... مش هاجبرك على حاجة، وأحسن برضه، على الأقل هاتفضلي مونساني في قعدة البلكونة الجميلة دي"

قالت ساخرة، تحاول كبح غضبها
"إنت فايق ورايق أوي"

أجابها دون أن يرف له جفن، وهو يزداد ثقة بنفسه
 "جداً جداً يا حبيبتي"

أطبقت شفتيها معاً بقوة، وحدجته بنظرة تحمل وعيد، ثم تقدمت نحوه بخطوات مترددة، كأنها تسلم نفسها مرغمة لتنفيذ شرطه.  
 اقتربت منه وطبعت قبلة سريعة على خده الأيمن، وما إن همّت بتكرارها على خده الآخر، حتى قاطعها ببرود متعمد
"مش عاجباني وماحستهاش"

زفرت بضيقٍ بيّن، ثم وضعت قبلة أثقل على خده الأيسر، وكأنها تدفعه دفعاً.  
 غير أن قربها منه أغراه، فاستغل اللحظة وأحاط خصرها بذراعيه كقيد ناعم.

انتفضت بين يديه، وضربته بكفيها على صدره العاري وهي تقول بغضب مكبوت
"إنت بتعمل إيه؟!، ابعد عني أنا لسه مخصماك ومش طايقاك"

لم يزده تمردها إلا ثبات، فأمال رأسه إليها، وقال بنبرة هادئة مشبعة بسلطته التي تخترق جدار كبريائها
"اهدي بس... هقولك حاجة"

سكنت حركتها على غير إرادة، ثم التقت عيناهما في نظرة طويلة، وكأن عينيه جذبتاها إلى بئر سحر لا خلاص منه.

ابتسم ابتسامة واثقة وهمس في أذنها
"أنا كنت عايزاها منك كده"

ثم هبط بشفتيه إلى خدها، وطبع قبلة جعلت جسدها ينتفض بين ذراعيه، وأردف ببطء مقصود
"وكده"

وانحنى مرة أخرى على خدها الآخر، يترك قبلة ثانية أثقل وقعاً من الأولى
"وكده"

ذهب بأنفاسه المتقدة إلى عنقها، يترك ظله بقبلاته صعوداً وهبوطاً على امتداد رقبتها، حتى بلغ تخوم فكها وجانب شفتيها، ثم توقف لحظة كأنما يخشى أن يذوب في وهج اللحظة، وعاد ينظر في عينيها فوجدهما تفيض بالشوق والحنين، تبرقان كنجمتين أسكرتا روحه، ورآها تمرر لسانها من بين شفتيها كظمآن يتلهف إلى رشفة ماء تنقذه من عطش العمر.

قال لها بنبرة خرجت من دقات قلبه الذائب عشقاً
"لسه زعلانة؟"

أدارت وجهها بعيداً عن ناظريه، كأنها تهرب من قوة سحره، فقال لها برجاء ولطف
"بصي في عينيا و جاوبيني، مهما كانت الإجابة مش هتضايق"

عادت تحدق فيه بنظرات تختلط فيها الشكوى بالحنين، والعتاب بالعشق، والهيام باللوعة؛ عيناه كانتا مرآة لروحها المضطربة. 
 همست بنبرة متهدجة
"أنا كنت زعلانة، بس دلوقتي خايفة"

سألها بقلق يتسرب من صوته
"خايفة من إيه يا حبيبتي؟"

اخبرته وهي تسدل بصرها نحو الأرض كأنها تبحث عن طمأنينة مفقودة
"خايفة منك، خايفة من قسوتك، أكيد في يوم من الأيام هايحصل بينا خلاف، وساعتها هاترجع زي الأول ويمكن أسوأ"

ثم أردفت بحزن يقطر أسى
"زي ما عملت معايا آخر مرة"

مد يده برفق، أمسك بذقنها ورفع وجهها نحو عينيه، فرأت فيهما ندم يتفجر من أعماقه، وقال بثقة تكسوها الرجاء
"وبحق اللي زرع حبك في قلبي ورزقني منك بأجمل هديتين، والتالتة بإذن الله، عمري ما هعمل فيكي كده تان، عمري ما هقسى عليكي مهما حصل"

سألته بصوت يطلب العهد أكثر مما يطلب الجواب
"وعد؟"

أجاب بكلمة واحدة، لكنها خرجت كقسم مقدس
"وعد"
 همس بها من بين شفتيه، قبل أن يلثم خاصتها بقبلة تذيب كل الجليد المتراكم، عانقته بحرارة عاصفة، كأنها تريد أن تستقر بين ضلوعه فلا يفرقها عنه فاصل، وهو بدوره ضمها بعناق يغلفه العشق والتيام، كأنما الدنيا كلها قد اختزلت في تلك اللحظة.

وإذا فجأة وجدت ظهرها مستنداً إلى الباب الزجاجي، كادت أن تضع يدها على المقبض لتفتحه ويدلفا معاً إلى الغرفة، لكنه أسرع بوضع يده على يدها ومنعها. سحبت شفتيها بصعوبة من على شفتيه، تلهث بصوت خافت
"تعالي نروح أوضتنا"

أجابها والعشق والرغبة يتوهجان في عينيه
"خلينا هنا في الهواء الطلق، الجو حلو أوي، والفيو جميل، و أنتي أجمل من كل ده"

ضحكت بخجل غير مصدقة أفكاره الجنونية
"لاء يا قصي ما تهزرش، عايزنا هنا في البالكونة إزاي؟"

أجابها بمكر ودفء
"حبيبتي بالكونات القصر كلها برايفيت وزيادة أمان"

ثم تناول جهاز تحكم صغير، ضغط على زر فانحدرت الستائر تغلق المكان عن العيون، فترك الجهاز جانباً وجذبها بين ذراعيه، غاص في عينيها وهو يعلم أنها تشتاق إليه كما يشتاق هو إليها، تطوق إلى لمساته وهمساته التي يعزف بها على أوتار قلبها. 
 سألها بنبرة مشتعلة
"إيه، موحشتكيش؟"

اجابت بصوت مبحوح باللوعة
"واحشني دي كلمة قليلة أوي، طب و إنت؟"

ابتسم بخبث محبب واخبرها
"الكلام حلو… بس الفعل مفيش أحسن ولا أحلى منه"

ثم غمرها بذراعيه، يغدق عليها بعناق يفيض بالعاطفة، ويطرز جسدها بقبلاته، حتى غابا معاً في بحر من العسل، لا تفصل بينهما المسافات ولا تعيق وصالهما الحواجز، فالعيون صارت لغة عشق، والشفاه عقدت عهداً لا ينقطع، واتحد الجسدان كما تتحد الروح بالجسد.

                       ❈-❈-❈

وصل رحيم أمام شقة والده القديمة، يداه ترتجفان وهو يفتح قفل الباب بالمفتاح، كأن القلق والخوف ينهشان قلبه نهشاً. دلف إلى الداخل، وأغلق الباب خلفه في عجل، ينادي بصوت متوتر يخالطه رجاء
"أميرة؟، أميرة؟"

لم يأته جواب، جاب المطبخ بخطى متسارعة، طرق باب الحمام وفتحه بعد أن ظل الصمت يخيم بلا رد. 
 بحث في الغرف، غرفة غرفة حتى بلغ الحجرة التي اعتادت أن تنام فيها. 
 فتح الباب، وألقى ببصره إلى الأرض في حذر واستحياء، لكن عيناه وقعتا على مشهد صعقه، كوب زجاجي ملقي على الأرض، وذراعها ممدودة في الهواء فوق حافة الفراش، كأنها كانت تهم برفع الكوب إلى شفتيها فسقط منها، جسدها يتلوى برعشة محمومة، وشفتاها تهذيان بكلمات مبعثرة لا تُفهم.

أسرع نحوها، أمسك بذراعها المرتجف، وأعاده إلى الفراش، ليتفاجأ بحرارتها المرتفعة كأنها جمر يشتعل في يده.
 جسدها يرتعش بعنف، فتملكه الفزع بلا أدنى التفات لهيئتها، حملها بين ذراعيه، لم يبال بعباءتها القطنية القصيرة التي تصل إلى الركبة، ولا بأكمامها النصفية، ولا بشعرها المنسدل بلا حجاب؛ كل ما شغله في تلك اللحظة هو إنقاذها.

اندفع بها إلى الحمام، فتح صنبور الاستحمام، وبينما ينتظر امتلاء حوض الاستحمام، أسرع إلى الحوض يملأ كفيه ماء بارد يرشه على وجهها، فتزداد رجفتها وتزداد مخاوفه.

هتف بصوت متهدج يتخلله الرجاء
"أميرة، سمعاني؟!، إيه اللي حصلك يا حبيبتي؟!، أغيب يوم عنك أرجع ألاقيكي متبهدلة كده؟!"

ارتفع الماء في حوض الاستحمام، فأغلق الصنبور، ووضعها برفق داخله، كأنه يخشى أن تنكسر بين يديه. 
 شهقت فجأة، تعلقت بذراعيها حول رقبته كالغريق إذا ما تشبث بلوح نجاة، وبدأت تستعيد وعيها رويداً رويداً. 
  وحين فتحت عينيها، كان أول ما أبصرته أنها في حضنه، هتفت باسمه بصوت خافت متهالك
"رحيم"

رفع رأسه إليها بلهفة مشوبة بالخوف، وعيناه تجول في ملامحها المرتجفة
"حاسة بإيه؟"

كانت بين اليقظة والإغماء، جفونها تترنح كزهرة ذابلة بين انفتاح وانطباق، تناضل لتستعيد وعيها، ثم تذوب من جديد في غشاوة الوهن.  
 اقترب منها، أزاح خصلات شعرها الملتصقة بجبينها، فاستجابت كطفلة مذعورة وألقت بنفسهامرة أخرى في حضنه، فتسارع أنفاسه وضمها برفق وهو يهمس في أذنها
"معلشي يا حبيبتي، لازم ننزل الحرارة الأول، وبعد كده ناخد العلاج"

أبعد ذراعيها الضعيفتين عنه، فنهض مسرعاً. 
  امسك هاتفه وأجرى اتصالاً قصير بحارس العقار، يطلب منه أن يجلب طعام وبعض الأدوية.

وبعد لحظات، عاد نحوها وحملها من حوض الاستحمام وقد التصقت عباءتها القطنية المبللة بجسدها التصاقاً يشي بالحرج، فحاول جاهدًا أن يغض بصره عنها، وراح يبحث بعينيه عن غطاء.  
 لمح معطف قطني معلق على المشجب خلف باب الحمام، التقطه بسرعة ووضعه عليها في حنو.

ثم عاد بها إلى الغرفة، ووضعها على الفراش برفق قبل أن يسمع صوت الجرس يدوي في أرجاء الشقة، فانطلق يفتح الباب على عجل.

في تلك الأثناء، بدأت الغشاوة تنقشع عن بصرها، فرؤيتها تتضح شيئاً فشيئاً. حاولت أن تنهض باستقامة، غير أن جسدها خذلها فبقيت عاجزة عن الحركة. شعرت برطوبة باردة تتسرب إلى جسدها، رفعت ذراعيها بتثاقل، لتجد أنها ترتدي معطف قطني. 
  تساءلت في ذهول من ألبسها إياه؟، ولماذا ملابسها مبتلة؟
 حاولت الاستناد على الفراش، فوقع بصرها على المرآة المقابلة لترى انعكاسها، عباءتها مبتلة ومتلاصقة بجسدها.
 ارتجفت، وهتفت بدهشة ممزوجة بالخجل
"إيه اللي بل هدومي كلها كده؟!، والبورنص ده لبسته إمتى وإزاي؟"

وبينما تكلم نفسها، فُتح باب الغرفة فجأة، وإذا برحيم يدخل وهو يحمل صينية طعام وشنطة صغيرة مطبوع عليها اسم صيدلية وشعارها.  

 شهقت من هول الموقف، وجذبت الدثار تغطي به جسدها حتى أخفته بالكامل.

تقدم هو ووضع الصينية على الكمود بجوارها قائلاً
"آسف… ما خبطتش قبل ما أدخل، كنت فاكرك نايمة، بس كويس إنك فوقتي الحمدلله"

قالت بصوت منخفض يقطر حرج
"لو سمحت، ناولني الحجاب بتاعي، متعلق على الشماعة"

استدار، والتقط حجابها من المشجب المتفرع خلفه، ومده إليها قائلاً برفق
"اتفضلي"

أخذته على عجل، ثم قالت بخجل واضح
"غمض عينيك"

فعل ما أمرته به، وأطبق جفنيه مبتسماً كطفل مطيع، قبل أن يهمس في رقة مازحة
"على فكرة… شعرك حلو أوي، شبه خيوط الحرير اللي لونها دهبي"

ارتدت حجابها بسرعة وهي في غاية التوتر والخجل، ثم سألته بعينين متوترتين
"وإنت بتبص على شعري ليه؟"

ابتسم في صمت، ثم سألها بهدوء
"أفتح عينيا خلاص؟"

أجابته بلهجة مترددة
"افتحها"

فتح عينيه فتأملها بعمق، رآها وقد ازدادت جمالاً بالحجاب، جمال يفيض وقاراً فوق أنوثتها المتألقة.  
 جذب كرسي وجلس إلى جوار فراشها، وقال بنبرة عتابٍ ممزوجة بحنان
"كده تخضيني عليكي؟!، أفضل أتصل كتير وما ترديش… خليتيني أسوق زي المجنون وأنا مرعوب ليكون جرالك حاجة، جيت لاقيت حرارتك مولعة، كان لازم أخدك وأحطك في البانيو عشان أنزلك السخونية قبل ما أديلك الحقنة"

أطرقت برأسها تستمع إلى كلماته، بينما خيالها يرسم كيف كانت حالها بين يديه وهي فاقدة الوعي، بملابسها المبللة وشعرها المسدول بلا حجاب.
  اجتاحها شعور بالخجل الممزوج بالارتباك،رفعت عينيها فجأة وسألته في دهشة مشوبة بالاعتراض
"حقنة؟!، حقنة إيه؟!"

اعتلت ثغره ابتسامة عملية، واجاب ببرود الطبيب الذي يحدث مريضه
"حقنة مسكنة و خافض للحرارة"

أخرج رحيم الإبرة والأنبول من الكيس، أخذ يعد أدواته بعناية، وصوت أنفاسه متسارع كأن قلبه يخشى أن يرتجف أكثر من يداه. 
  ملأ وعاء الإبرة بالجرعة المطلوبة حتى أصبح جاهزاً، بينما كانت نظراتها مشوبة بالوجل، يكسوها توجسٌ لم تستطع إخفاءه.  
 سألته بصوت مرتعش يتأرجح بين الخوف والاستفهام
"بغض النظر عن إن أنا بخاف من الحقن أصلاً، بس هي حقنة الخافض المفروض بتتاخد في العضل؟"

أجابها بعملية هادئة، كأنه يقطع الشك باليقين
"بالظبط"

رفعت حاجبيها بدهشة أشد 
"والمفروض إنت اللي هتديهالي؟"

ابتسم باقتضاب وهو يضغط على الحقنة ليُخرج فقاعات الهواء الأخيرة
"آه، ويلا عشان أديهالك"

لكنها فجأة صاحت
"لاء"

نظر إليها في تعجب شديد، وكاد يستفهم عن سبب رفضها، غير أنها لم تجد حلاً سوى أن تشرح له الأمر بتردد متقطع
"قصد مش هاينفع، أنا بعرف آخد الحقنة بنفسي"

عندها أدرك مغزاها أخيراً، فأطرق رأسه في حرج واضح، يمرر أصابعه بين خصلات شعره وهو ينهض 
"طيب أنا هاخرج وأستناكي بره، ولما تخلصي نادي عليا"

أومأت له في صمت، فغادر الغرفة وأغلق الباب خلفه، جلست وحدها تستجمع بقايا قوتها، أمسكت بالإبرة المرتعشة بين يديها، وحاولت بصعوبة أن تحقن نفسها.
 رغم الألم الذي تسلل إلى جسدها، فإن ذلك بدا أهون عليها من أن تكشف جزءاً من جسدها أمامه، يكفي ما رآه اليوم! 

في الخارج،  رحيم يتكئ على الجدار، شارداً في ملامحها البريئة بمخيلته متذكراً كيف خطف جمالها الساحر عقله وقلبه معاً في لحظة واحدة.  
 انتبه إلى صوتها الخافت تناديه، فطرق الباب بخفة ثم ولج إلى الداخل.

رآها وقد ارتدت ثوباً طويلاً بأكمام ساترة، وعدلت وضع حجابها حتى غطى شعرها بالكامل، فبدت في وقار أنيق يزيدها بهاء.

 جلس على الكرسي جوار فراشها وسألها بلهجة حانية
"عاملة إيه دلوقتي؟"

أجابت بوهن
"حاسة بدوخة… وعنيا وجعاني… وصداع"

قال وهو يراقبها بعين الطبيب والراعي معاً
"كلها أعراض بسبب حرارتك العالية، والدوخة عشان شكلك ماكلتيش حاجة من امبارح، أنا خليت مرات عم ربيع تعملك شوربة ورز والفرخة دي، لازم تخلصي كل ده"

رمقت الطعام بعين نصف مغلقة، لكن الجوع أخذ يقرع أحشاءها فاعترفت قائلة
"هاكل… بس على شرط، تاكل معايا"

ابتسم، ولم يرد طلبها
"عينيا"

أمسك بالشوكة والسكين، وبدأ يقطع الدجاجة إلى قطع صغيرة، ثم غرز شوكة في قطعة ومدها أمام شفتيها
"مين اللي هاياكل الحتة دي؟"

أشاحت وجهها ضاحكة، وقالت بمر خجول
"إنت بتعمل إيه؟!، إنت شايفني طفلة صغيرة؟"

أجابها بابتسامة دافئة
"آه… شايف أحلى طفلة قدامي، افتحي بوقك يلا وكُلي، عشان بعد ما نخلص أكل، عايز أقولك على خبر حلو"

استسلمت لمشاعره الحانية، ففتحت فمها وتناولت الطعام من يده، قطعة بعد أخرى، ملعقة تليها ملعقة، حتى شعرت بالشبع يتسلل إلى جسدها المتعب.  
 ارتشفت بعض الماء ثم تناولت الأدوية، وحين وضعت الكوب على الكمود كاد أن ينفلت من يدها المرتعشة، فأمسكه هو بسرعة قبل أن يقع وينكسر.

نظرت إليه بخجل وهمست
"آسفة… إيدي بتترعش غصب عني"

جلس جوارها على طرف الفراش، أمسك بيدها المرتجفة وربت عليها بحنان يفيض دفئً
"بتتأسفي ليه بس؟!، فداكي مليون كباية، معلش هي الرعشة دي مؤقتة، شوية و هتروح"

حاولت أن تنهض وتجلس باستقامة، فلم تستطع، بينما هو أسرع بمساعدتها، لتجد نفسه بين يديه، يحاول أن يجعلها تنعم بالجلوس المريح، لكن هنت الزمن قد تجمد حولهما، وساد لحظة صمت ثقيلة، تتبادل فيها الأعين النظرات الحارة، شعر كليهما بأنفاس الآخر.
نظراته كانت تغمرها بالكثير، تنطق عن مشاعر كانت قد ولدت منذ أول لقاء بينهما، مشاعر دفينة لم يعلن عنها بعد، لكنها كانت حاضرة في كل خفقة قلب، في كل شاردة فكر.
أما هي، فكانت كالتائهة في بحر عينيه السوداوين، ضائعة بين تيارات من العاطفة والغموض، وفي لحظة خاطفة، لم تشعر بها إلا وجدت نفسها كالمسحورة في عالمه، حتى اقتنص شفاها في أول قبلة له، حرك ذراعيه ليحتويها بينهما، وظل يقبلها كما لو كان يتذوق ثمرة من جنة بعيدة، كمن يرتشف عسل الحياة لأول مرة، وكل رشفة تزيده شغفًا، وكل لحظة قرب تجعله يريد المزيد.
لم يشعر بنفسه إلا حين دفعته برفق، ابتعد عنها بصعوبة بينما صدره يرتفع وينخفض في توتر وقلق، وصوته الداخلي يهتف بندم. 
  نظرت له بلوم وعتاب واضح، وقبل أن ينطق بحرف، صدح رنين الجرس ككائن غريب يقتحم سكون اللحظة.

ذهب ليفتح الباب، رتب ثيابه وأخفى توتره قدر الإمكان، ثم وجدها زوجة حارس العقار، واقفة بابتسامة خجولة
"عايز مني أي خدمة يا دكتور رحيم؟"

ابتسم ابتسامة محتشمة
"لا، قصدي آه، عايز، عايز واحدة تكون أمينة تقعد تراعي أميرة في غيابي، تاخد بالها منها لأنها بتتعب على طول"

"والله يا دكتور، كان نفسي أقعد معاها أنا ومن غير فلوس كمان، بس حضرتك زي ما أنت عارف، السكان هنا كل واحد فيهم يطلب حاجة طول النهار ومش بلاحق عليهم، بس عندي طلبك، ست جدعة وأمينة جداً، وهايعجبك شغلها إن شاء الله، أي نعم رغاية شوية، بس ست زي العسل"

"مش مشكلة، المهم تاخد بالها منها"

"من بكرة هاتكون عندكم يا دكتور"

"تمام، وأنا مستني"

"عن إذن حضرتك"

"اتفضلي"

أغلقت الباب خلفها، وعاد إلى الداخل، جلس في الردهة الفسيحة ذات الجدران الشاهقة، أغمض عينيه، يسرح في ذكريات ما حدث منذ قليل، كيف انجذب إليها دون إرادة، كيف فعل شيئًا لم يكن من حقه حالياً، شعور بالضيق والندم يتسلل إلى أعماقه، وكلما تذكر نظرتها له، رغب في صفع نفسه لعنف تصرفه.

نهض وقرر أن يذهب إليها ليعتذر، لكنه تردد، وفي النهاية قرر أن يفعل شيئًا يخفف الحرج، فأمسك هاتفه وكتب لها رسالة

«آسف... مش عارف إزاي أنا عملت كده... بس كانت فيه حاجة بتشدني ليكي جامد ومقدرتش أقاوم... ياريت تتقبلي اعتذاري... مش هكررها تاني... كلها أيام وهتبقي مراتي حلالي... بحبك أوي ❤🌹»

تقرأ الرسالة، وخديها على وشك الانفجار من حمرة الخجل، تتلمس شفتيها الوردية برقة، وتتذكر ما حدث منذ دقائق، أطفأت إضاءة الغرفة، وارتمت أسفل الدثار، لتقرأ اعتذاره الذي انتهى باعتراف جعل قلبها يرفرف بشدة، ليس أقل تأثراً من شفتيها التي احتضنها بخاصته منذ قليل.

                       ❈-❈-❈

أوقف طه سيارته بجانب الرصيف في المكان المعتاد أمام المبنى السكني الذي يقيم به. 
  نزل من السيارة، غارقًا في أفكاره، ولم يلحظ شيماء المنتظرة في الشرفة، تراقب حركته بهدوء وابتسامة خفيفة على شفتيها.

دخل العمارة، فرأى روميساء  تغادر المصعد، تجر حقيبة سفر ثقيلة، فتقدم حارس العقار بسرعة نحوها
"عنك يا هانم"

مدت يدها بمفتاح سيارتها للحارس وقالت بثقة
"حطهالي في شنطة العربية"

وبمجرد أن خرج الحارس، اقترب طه منها، وأخذ ينظر حوله، ثم سألها بفضول
"مش قولتي إنك هتسافري الأسبوع الجاي؟، رايحة بدري ليه؟"

ابتسمت بروح مرحة وأجابت
"جالي تصوير إعلانات مع شركة تانية في نفس المكان اللي هاعمل فيه تصوير الإعلان التاني"

"ربنا يوفقك"
اقترب منها أكثر، ونظراته ملؤها الإعجاب، بينما هي بنظرات يغري بها، همست
"ممكن تيجي معايا، على فكرة هتتبسط أوي، أنا وتيم التصوير هنخرج ونسهر ونتفسح في أماكن أراهنك عمرك ما شوفتها في حياتك، ويا سلام لو معاك حد بتحبه وبيحبك، قولت إيه؟"

ابتلع ريقه، وكأنه أحمق أبله أمامها، قال بصوت متلعثم
"أقول إيه؟"

أطلقت ضحكة صاخبة دوى صداها في الفناء، ثم سألت بخفة
"بقولك احجزلك الأوضة اللي جمبي ولا هتنزل معايا في أوضتي؟!"

حك ذقنه، وظل يفكر لثوان ثم أجاب مترددًا
"سيبيني أظبط أموري كده في الشغل عندي"

غمزت بعينها، وقالت مازحة
"الشغل برضه ولا البيت يا تيتو؟!"

تضايق من سخريتها، فرد بجدية
"رحلة سعيدة، عن إذنك"

ابتعد، بينما بقيت روميساء تراقبه بابتسامة ماكرة، والفناء يعج بأصوات الحياة اليومية، والهواء يحمل معه رائحة المغامرة القادمة.

كاد أن يتركها ويذهب نحو المصعد، فإذا بروميساء توقفه، بابتسامة مشاغبة تزين وجهها
"مش قصدي أزعلك والله، كنت بهزر معاك، ما أنا فاهمة اللي فيها، المدام شكلها قافشة معاك من وقت ما شافتنا في البلكونة بنكلم بعض، ومش بعيد معيشاك في نكد ليل ونهار، أوف بجد التخيل لوحده يخنق، أومال انت تعمل إيه يا مسكين؟"

تنهد طه، و رد بصوت جاد، يحمل في طياته الحزم
"خلاص يا روميساء، ياريت ما تجبيش سيرة المدام، دي مراتي وأم ولادي وما أستحملش عليها كلمة"

ابتسمت بروح مرحة، وتابعت مازحة
"حاضر يا سيدي، حقك عليا رغم إن المفروض ليا حق عندك، اسألك في الشات إيه رأيك في آخر أوت فيت ليا ماتردش عليا؟"

ابتسم فورًا كأنما لم ينزعج لحظة، فأجابها
"معلش، كنت مشغول شوية، وبعدين انتي محتاجة رأيي في إيه؟، الحلو حلو… لو لبس أيه، جمالك بيتكلم عن نفسه"

غمز لها بعينه، فاطلقت ضحكة رقيعة تخترق أجواء المكان، وملأت قلبه بهجة.

شعر باهتزاز هاتفه في جيبه، أخرجه فوجد المتصل زوجته، شعر بالتوتر وحاول إخفاء شعوره أمام روميساء، لكنها لاحظت وقالت 
"مضطرة أسيبك بقي عشان ما أتأخرش، هستناك، باي باي"

لوحت بيدها، وأرسلت له قُبلة في الهواء، فجعلته يعض على شفته السفلى من الإعجاب والرغبة. 

ركض نحو المصعد بسرعة، وما أن وصل إلى الطابق الذي تقع فيه شقته، حتى وجد شيماء قد فتحت الباب، ممسكة بهاتفها وعيناها تلمعان بالتعجب
"بقالك ساعة واقف بتعمل إيه تحت في مدخل العمارة؟"

أجابها بسرعة محاولاً التهرب
"كان البواب بيكلمني في شوية حاجات تبع اتحاد الملاك"

ارتفع صوتها بلهجة مزعجة، لكنها تخفيه بابتسامة
"وست روميساء كانت بتبلغك هي كمان يا حبيبي؟!"

اقترب منها بحدة، وصاح بغضب زائف
"جرى إيه يا شيماء!، هانرجع لنفس الموال تاني؟!، مش قولتلك الموضوع قفلنا عليه بضبة ومفتاح، ولا انتي واحشك النكد والخناق؟!"

اقتربت منه بندم صادق
"خلاص حقك عليا… ما تزعلش، أنا بس كنت مستنياك عشان نتغدى مع بعض، العيال رجعوا من برة، اتغدوا  من بدري وخلصوا مذاكرتهم وناموا، وأنا فضلت مستنياك"

اتجه نحو الغرفة، وهو يلفت نظرها قائلاً
"اتغدى انتي، أنا مش جعان"

وقفت بجانبه وهي تراقبه وهو يفك أزرار قميصه، وقالت بعتاب
"يعني أنا أفضل جعانة ومستنياك عشان ناكل مع بعض، تقولي اتغدى انتي، ماشي براحتك يا طه"

شعر بالذنب يغمر قلبه، إذ يعلم أن ذنبه ليس مجرد رفض تناول الطعام معها، بل لخيانته المتكررة لها رغم وعده الواهي. تنهد وأمرها
"روحي يا شيماء حضري السفرة عقبال ما آخدلي دش"

ابتسمت بمكر، وقالت بابتسامة فطنة
"أجي أحميك زي المرة اللي فاتت؟"

تذكر فورًا ما فعلته به، اتسعت عيناه، وهز رأسه قائلاً
"لا، شكراً مش عايز، الله يسامحك أنا من وقتها وجسمي ملتهب من الميه المولعة اللي ملتيلي بيها البانيو ووقعتني فيه، المرة دي ناوية تعملي فيا إيه تاني يا شيماء؟!"

تنهدت وهي تبرر فعلتها المقصودة
"يا حبيبي مكنش قصدي، أنا فعلاً شغلت السخن، بس ظبطت الميه وما خدتش بالي إن السخان كان شغال على درجة حرارة عالية"

ارتسم على وجهه مزيج من السخرية والجدية
"انتي مش هترتاحي غير لما تجيبي أجلي يا شيخة"

دفعها بلطف من أمامه ودخل الحمام، وقفل الباب بإحكام، وأغلق القفل من الداخل.

وقفت خلف الباب، وقالت بصوت خفيض لكنه مملوء بالمودة
"بعد الشر عليك يا حبيبي، ده أنا مليش غيرك يا روحي"
بينما كانت روحُها داخل الحمام، يمسك هاتفه بيده الأخرى، وبدأ يكتب رسالة قصيرة لروميساء
«خدي بالك من نفسك، ولما توصلي الفندق طمنيني عليكي»

                        ❈-❈-❈

جلسا على مائدة الغداء، تتخللها أشعة الشمس من زجاج باب الشرفة، فتتلألأ على أطباق الطعام وكأنها تنثر وهجها الذهبي على كل شيء.  
 كان هو يلتهم لقيمات طعامه بهدوء، بينما شيماء كانت تضع قطعة الطعام في فمه، بعفوية طفولية تثير ضحكه الداخلي.

"مش لقوا كارين ورجعت بالسلامة لولادها" 

ابتلع لقيماته و رد قائلاً
"أه، عرفت من آدم النهاردة"

"بيقولوا الواد اللي خاطفها بعيد عنك مجنون… ده قتل الدكتور اللي كان جايبه ليها وقطع جثته حتت، ورمى كل حتة في مكان مختلف، بس الحمد لله قصي راح وأنقذها"

أخذت شيماء نفس عميق من الصمت، لتكمل بعينيها المتلألئتين بالإعجاب "تصدق، قصي طلع جدع جدًا، يمكن أجدع واحد في ولاد عمك كلهم، يا بخت صبا بيه بجد، فيه كل مواصفات الراجل المثالي، يلا ناس ليها قصي وناس ليها طه"

لم تدرِ أنها تتحدث أمام زوجها، فعندما التفتت إليه، وجدت نظراته كالسيف، يغلي من فرط الغضب.
  قبض على ذراعها بعنف، وصوته يخرجه من مكامن الصبر
"وهو فيه واحدة ست محترمة تقعد تتغزل في راجل قدام جوزها يا هانم؟!"

ابتلعت ريقها وانقبضت ملامحها بالألم والندم
"والله ما أقصد أعاكسه يا سي طه… أنا قصدي إنه جدع وكده، معقول عينيا تبص لواحد غيرك؟، لا تربيتي ولا أخلاقي يسمحولي بكده"

زاد حدة صوته
"خدي بالك من كلامك، المرة دي هعديهالك بمزاجي، لكن المرة الجاية هيبقى فيه رد فعل مش هيعجبك خالص، اتلمي يا شيماء"

ارتعشت شيماء بفزع، وأومأت برأسها "حاضر… حاضر"

نهضت واقتربت منه، أحاطت ظهره بحنان، وقبلت رأسه وهمست
"حقك عليا يا حبيبي… مش هكررها تاني"

تذكر هو الآن الفرصة المناسبة ليخبرها بما يهمه
"شوفتي نستيني… كنت هقولك حاجة مهمة"

ابتسمت واخبرته
 "قول يا حبيبي… سمعاك"

"عندي سفرية تلات أيام، ويمكن أكتر… شغل خارجي، مصلحة يعني، ربنا يرزقنا منها بقرشين حلوين"

"هتسافر فين؟، وإيه السفرية اللي جت فجأة؟"

  "ده شغل يا شيماء… ورزق جاي لحد عندي، عايزاني أقول للرزق لأ؟، ده حتى يبقى بطران"

أجابته شيماء بحنان
  "تروح وتيجي بالسلامة يا أبو سالم، هاقوم أشيل الأكل وأروح أحضرلك شنطتك، وتعالى معايا عشان تقولي محتاج إيه"

تركته مع نفسه وضميره يئن من ما يفعله من وراءها، وهو يعلم أن قلبه قد يغلي لو لحظة شعر أن عينيها تتغزل في رجل آخر، بينما هو سيذهب ليلهو مع تلك الحسناء، وربما يصل إلى هدفه منها، كما تتحرك غرائز أي رجل نحو امرأة سهلة المنال، محاطًا بشبكة من الرغبات المظلمة والتناقضات الداخلية.

                       ❈-❈-❈

جلس ياسين في غرفة المعيشة، غارق في عالمه المهني، هاتفه في يده وكلماته تتناثر بين الحزم والصرامة وهو يتابع سير العمل مع أحد موظفيه.
قال بنبرة حازمة
"قوله مش هانقبل غير بالسعر اللي إحنا منزلينه، غير كده معندناش وحدات للبيع"

توقف قليلًا، وأعاد التأكيد بلهجة تكاد تشبه الأمر المباشر، عيناه تلمعان بالتركيز
"يا بني افهم بالله عليك، أنا صاحي عندي صداع، اسمع اللي بقولك عليه و اعمله، و أراهنك إنه لو موافقش خمس دقايق هايتصل بيك تاني عشان يشتري، أنا فاهم دماغ الناس دي، اسمع مني وهستني منك تليفون تقولي علي اللي حصل"

ثم أنهى المكالمة بكلمة قصيرة لكن محملة بالإرهاق
"يلا سلام"

ألقي الهاتف فوق الأريكة، وزفر زفرة عميقة تنم عن توتر يومه الطويل.  
 وفي تلك اللحظة انتبه إلى قدومها، تحمل صينية يعلوها فنجان من القهوة وطبق صغير يحتوي على قطع الشوكولاتة الفاخرة.

ابتسمت له، فارتفع عبق القهوة في الهواء ليصنع جو دافئ. 
 اخبرته بمرح
"الصداع اللي عندك محتاج كوباية قهوة سادة ومعاها شيكولاتة سويسرية هاتعجبك"

اقترب منها، أمسك يدها وربت عليها بلطف
"تسلم إيدك يا رودينا على القهوة قبل ما أشربها"

أجابته بنبرة دافئة مليئة بالحب
"اطلب أي حاجة وعينيا ليك، بس يارب تفضل حنين معايا على طول وما ترجعش تقلب تاني"

تزحزح من مكانه حتى أصبح ملتصق بجوارها، احاط ظهرها بذراعه، وقال بصوت خافت
"آسف إن اتنرفزت عليكي آخر مرة، وإنتي ملكيش ذنب"

مال برأسه لتقبيل رأسها، فاستسلمت له، وأغمضت عينيها مستمتعة بدفء صدره، غير مصدقة أن بنفسه يحتضنها ويعتذر ويقبل رأسها.

ردت برقة وعذوبة
"أنا عذراك يا حبيبي، الحالة اللي بتمر بيها مش سهلة على أي حد إنه يتحملها"

رفعت رأسها عن صدره، ونظرت في عينيه بهيام
"أنا بحبك وعمري ما بزعل منك، ما أنكرش إني بخاف من قلبتك كتير، بس مستعدة استحملك في كل حالاتك، المهم راحتك وسعادتك عندي بالدنيا"

مدت يدها بفنجان القهوة له، وأمسكت بقطعة من الشوكولاتة
"اتفضل اشرب القهوة قبل ما تبرد، والشوكليت دي كولها وانت بتشربها هتوديلك طعم القهوة في حتة تانية خالص"

ارتشف قليلًا من القهوة، وقضم قطعة الشوكولاتة، واستغرق في الاستمتاع بالمذاق الذي امتزج بين المرارة والحلاوة، 
قالت له بابتسامة
"القهوة هتضيعلك الصداع، والشيكولاتة هترفع عندك الدوبامين، هرمون السعادة اللي هيخليك ريلاكس خالص"

مد يده ببقية قطعة الشيكولاتة نحوها، وقال بابتسامة دافئة
"كوليها"

لم تصدق نفسها، فهو يشاركها شيئًا يخصه، فقالت بدهشة وحب
"بالهنا والشفا، فيه في الطبق كتير ولسه واكلة واحدة في المطبخ"

ابتسم لها، وأجابها بخفة ظل 
"وإيه يعني أنا بديهالك، اعتبريها عربون محبة"

اقتربت منه بدلال وتسأله بترقب
"حيث كدة بقي، ممكن تأكلهالي بإيدك؟"

فعل النقيض هذه المرة، مد قطعة الشيكولاتة بأطراف أصابعه الإبهام والسبابة والوسطى، فامسكت بمعصمه، وأخذت القطعة وهي تتعمد لحس أطراف أنامله بشفتيها، ونظرت إليه في آن واحد.

 لم ينكر ما تفعله، فانتابت جسده قشعريرة خفيفة.
ومع انتهاء هذه اللحظة، اندلعت نيران داخله، شعور بالحرارة لم يعرف مصدره، هل من القهوة والشيكولاتة، أم من تلك المرأة التي أمامه وما تفعله به.

أشار لها بعينيه نحو شفتيها الملطختين بالشيكولاتة، وأخرج صوته بصعوبة
"فيه شوكليت على شفايفك"

عانقت رقبته بذراعيها واقتربت بشفتيها منه
"ممكن تمسحهالي بنفسك"

ابتسم، وأدرك اللعبة التي توقعه بها بطريقة غير مباشرة، وسألها بمكر
"ياسمينا نامت؟"

"و في سابع نومة، مش هاتقوم دلوقتي لإنها مانمتش كويس امبارح"

عقد حاجبيه بجدية، واستفسر
"ما نمتش ليه امبارح؟"

"يا حبيبي ما تقلقش، هي حلمت بكابوس مش حلو، أنا كنت صاحية ودخلت نمت جمبها وقعدت أحكيلها حواديت لحد ما نامت"

ابتسم واخبرها بإمتنان
"مش عارف أشكرك على إيه ولا إيه، بنتي ربنا رزقها بأم تانية حنينة عليها"

لكن فجأة، وكأنه سكب ماء مثلج فوق رأسها، تذكرت أمر زوجته التي تخفيه، فخففت توترها بابتسامة زائفة
"قولتلك مفيش بينا شكر يا حبيبي، وأنا بقي زي ماما لياسمينا، أومال أنا بالنسبة لك إيه؟"

نهض ووقف أمامها، متردد بين شعوره للأخرى وواجباته تجاهها، يحاول أن يتعايش مع الواقع الذي لا مفر منه، فيتعامل معها كزوج حنون يحسن معاشرتها، ويحاول ألا يظلمها مرة أخرى.

لاحظ نظرتها، تنتظر بفارغ الصبر، فجذب يدها وقال
"تعالي جوه الأوضة وهقولك"

 و بداخل غرفتهما، دفع الباب بقدمه ليغلقه خلفهما، أخذ يقبلها بنهم فبادلته قبلاته، وأخذت تفك أزرار قميصه.  
 حملها من خصرها، فلفت ساقيها حول خصره، وذراعها تمسك بكتفه، وأخرى تغرز أنامل يدها بين خصلات شعره، و مازالت تقبله بنهم جامح.
 فإذا بالباب يفتح فجأة، وتدخل ابنته، تبكي وترتجف، وتردد بصوت مخنوق
"عايزة ماما، عايزة ماما"

انتفض كليهما في لحظة مليئة بالتوتر، نزلت رودينا واقفة، كادت أن تتعثر وتسقط على الأرض، لكن ياسين اعتدل، وحاول إغلاق أزرار قميصه بعشوائية، ثم جلس على الكرسي، محتضنًا ابنته الباكية بين ذراعيه.

قال لها بصوت دافئ وملؤه الحنان
"مالك يا ياسمينا، بتعيطي ليه يا حبيبتي؟"

أخذت تمسح في دموع عينيها، وعبرت بما يملأ قلبها الصغير
"شوفت ماما في الحلم، قعدت أجري وراها وهي تبعد، لحد ما وصلت ليها، وجيت أحضنها وأقولها واحشاني أوي، قالتلي معرفكيش وسابتني ومشيت"

كانت زوجة أبيها تتابع سرد الصغيرة، ترمقها بنظرة تحمل الغيظ والامتعاض، بينما ياسين عانق ابنته وأخذ يربت على ظهرها، محاولًا أن يخفف عنها شعور الخوف والحزن
"ما تزعليش يا روحي، ده حلم يعني مش حقيقي، ماما في مكان أحلى من هنا بكتير، وبتشوفك وبتيجي لي في الحلم أنا كمان، وقالتلي أخدك إنتي و طنط رودينا أوديكم الملاهي، ها مبسوطة؟"

كفت عن البكاء، ونظرت إلى رودينا ثم إلى والدها، متعلقة بذراعيها الصغيرتين حول عنقه، وصوتها يختلط بالدهشة والفرحة
"الملاهي اللي كنت بتاخدني أنا ومامي فيها زمان؟"

ابتسم ياسين بحب
"أه يا حبيبتي، يلا روحي اغسلي وشك وخلي طنط رودينا تساعدك تلبسي طقم جميل وهانروح دلوقتي"

نظر ياسين إلى زوجته، التي سرعان ما ابتسمت، لكن ما تشعر به كان نقيض ما تظهره. 
 تمنت أن تجذب الصغيرة من خصلاتها لسببين، الأول لقطعها لحظة من أجمل اللحظات التي كانت تحلم بها بعد عناء، والثاني لتكرار سيرة والدتها التي تحاول نسيان وجودها. 
  فأمر ظهور ياسمين بالنسبة لها و معرفة ياسين إنها علي قيد الحياة، يعني تدمير حياتها معه، أو أن تصبح شيئًا مهملًا، و الاسم زوجته فقط! 
                    ❈-❈-❈

داخل فيلا آسر وهاجر، وقد استعدت أركانها لاستقبال الاحتفال بعيد ميلاد ابنهما وابنتهما، فكان المكان يعج بالزينة الملونة، والبالونات المرفوعة على الأعمدة، وأضواء خافتة تتراقص على الجدران البيضاء. 
  ووقف آسر على سلم صغير، يعلق الزينة بعناية، ثم نادى بصوت يملؤه الحماس
"جوجو، هاتيلي اللزق اللي عندك عشان اللي معايا خلص"

أجابت هاجر، وهي منشغلة بترتيب الحلويات على الطاولة
"تعالي خدوا من على الرخامة، أنا مش فاضية، برص الحلويات ومفيش حد بيساعدني فيكم غير ماما حبيبتي، ربنا يخليها ليا"

ردت والدتها بابتسامة حانية، وكأنها تواسيها على التعب
"روحي شوفي جوزك عايز إيه يا هاجر، وأنا هرصلك باقي الحلويات"

في تلك اللحظة، رن جرس الباب، فابتسمت هاجر متوقعة الضيوف
"أكيد دي لولو ويوسف"

فتحت الباب، فإذا بعلياء تقف ممسكة بحقائب هدايا فاخرة، ارتسمت على وجهها البشاشة والترحيب
"أهلاً وسهلاً، نورتونا"

بادلت هاجر العناق والسلام،  قالت علياء 
"حبيبتي يا جوجو، منور بيكم"

وألقت نظرة نحو المطبخ المفتوح على البهو، ثم نادت
"إزيك يا خالتو؟"

ردت خالتها وقد علت الابتسامة وجهها
"إزيك يا حبيبة خالتو، عاش من شافك، هو لازم ما نتجمعش غير في المناسبات عشان نشوفك يا ست علياء"

تقدمت علياء وعانقت خالتها بحرارة
"أنا أقدر يا ست الكل، ده أنا كنت معظم الوقت قاعدة عندك يا خالتو لحد ما اتخرجت"

ضحكت واردفت، وذكريات الأيام الطيبة تعود بها
"والله يا خالتو كانت أحلى أيام، الواحد كان باله رايق، لا مسئولية ولا شغل ولا أي حاجة تانية"

في تلك اللحظة، تدخل آسر مازحًا وهو ينزل من على السلم بعد أن أنهى تعليق الزينة
"قصدك إيه بالحاجة التانية يا دكتورة علياء؟"

ابتسمت هاجر وأجابت بدلًا منها
"هايكون قصدها على مين يعني؟، قصدها عليكم يا معشر الرجال، بتدخلوا حياتنا من هنا وبتتقلب كلها رأسًا على عقب"

ضحكت علياء بحرارة
"لأ يا جوجو، معندكيش حق، دكتور آسر جدع وابن أصول"

رد آسر بابتسامة
"الله يخليكي يا دكتور"

لكزته هاجر في كتفه بغيظ
"ما هي ما تعرفش حاجة، ولو تعرف بالمقلب اللي عملته فيا الصبح كنت هتقطعلي الخلف، الله يسامحك"

تدخلت والدة هاجر مبتسمة، وكأنها اعتادت على هذه المقالب
"مش جديد عليكم، انتوا على طول تعملوا مقالب، وزي العيال تناقرتوا في بعض"

"لأ يا ماما، المرة دي بجد كنت هاروح فيها، يرضيكي يا لولو جيت أصحي وأدخل الحمام ألاقي البانيو مليان دم، وجيت أتأكد ده إيه بالضبط ألاقي الباشا قايم من البانيو لابس قناع شكله شبه الزومبي قوليلي لو مكاني هاتعملي إيه؟"

نظرت علياء لآسر بعتاب
"لاء يا آسر، أنت غلطان، ممكن لا قدر الله قلبها يوقف من الصدمة، أومال لو مكنتش دكتور وعارف اللي ممكن يحصل، كنت عملت فيها إيه تاني؟"

ابتسم آسر وهو يقترب من زوجته، يضع ذراعه على كتفها بحنان
"جوجو دي حبيبتي، مقدرش أؤذيها، هي بس لما تنكد عليا شوية بعملها ريستارت عشان ترجع فرفوشة"

قالت هاجر بسخرية
"قصدك ارجعلك جثة"

فضحك الجميع، لكن آسر لاحظ وجود علياء وابنها الصغير الذي خرج يلعب في الحديقة مع أبنائه
"أومال فين يوسف ولوچي ماجوش ليه؟"

أجابت علياء بابتسامة خفيفة
"لوچي كان عندها مذاكرة كتير ونامت من الإرهاق، ويوسف معرفش جاي ولا لأ، بس أنا بلغته بالعيد الميلاد"

لحظة من الصمت، ثم تذكر آسر أمرًا أراد إخباره بها منذ فترة
"تعالي يا علياء نتمشى شوية في الجنينة"

بينما هاجر قالت
"روحوا، عقبال ما أخلص التحضيرات وأناديكم لما نخلص أنا وماما"

وفي الحديقة، كانت علياء تسير بجوار آسر، والنسيم العليل يداعب أوراق الأشجار، سألها بلهجة تموج بالسخرية الخافتة
"يوسف عامل إيه؟"

تنهدت ببطء، وكأن سؤال واحد أثقل كاهلها
"بخير… بس مش غريبة بتسألني عليه وأنتم مع بعض ليل ونهار في المستشفى؟"

ابتسم الآخر بسخرية باردة
"تقريباً ما بروحش، غير إن أنا عرضت نسبتي للبيع في المستشفي"

توقفت علياء فجأة، وعقدت ما بين حاجبيها مستغربة
"ليه؟"

"أنا مش عارف أقولك إيه يا علياء، جوزك بقاله فترة مش طبيعي"

"وإيه تاني يا دكتور آسر؟"
كان سؤال يوسف الذي حضر للتو ونظراته المشتعلة لا تبشر بالخير

"ما تكمل كلامك سكت ليه؟، قولها جوزك مش طبيعي، ومجنون، وشكاك وبيتخيل حاجات للأسف هي بتحصل، والدليل واقفة الحبييبة اللي واقفينها في الجنينة"

صاحت علياء بغضب
"إيه اللي بتقوله ده، انت اتجننت؟!"

ثار يوسف، وكاد يهجم عليها فتدخل آسر ليمنعه، حامياً إياها
"لاء يا يوسف، انت في بيتي ولولا كده كان هيبقى ليا معاك تصرف تاني"

رد يوسف بنبرة احتقان واضحة، ونظراته مملوءة بالاشمئزاز
"إيه؟، هتخلص عليا عشان يخلالك الجو أنت والدكتورة؟!"

صاحت علياء برفض، ودموعها تكاد تنهمر
"لاء… مش هاستحمل أسمع أي قرف منك تاني، أقولك أنا هاروح أخد ابني ورايحة اقعد عند ماما"

أوقفها آسر 
"اهدي يا علياء… انتي في بيت أخوكي وهو اللي مالوش مكان هنا طالما ما بيحترمش حد"

نظر يوسف إليه بازدراء شديد
"ومين قالك إن جاي لك ولا داخلك بيتك، أنا جاي أخد مراتي"

صاحت علياء برفض وحزم
"وأنا مش هاروح معاك، واللي عندك اعمله"

ركضت إلى الداخل، تمنع دموعها، ممسكة بيد ابنها الصغير
"يلا يا عز يا حبيبي احنا ماشين"

سألها الصغير ببراءة
"يا مامي… لسه العيد الميلاد مبدأش، أمجد وكارما هيزعلوا"

ربتت علياء على رأسه الصغير بحنان، محاولة تهدئته
"معلش يا حبيبي… أنا تعبت وعايزة أروح… وهاجي أجيبك هنا يوم تاني"

أطاع الصغير والدته، وصعد إلى داخل سيارتها، وما أن انطلقت حتى لمح والده يقف بجوار آسر
"إيه ده… بابي جه وواقف مع عمو آسر؟"

تجاهلت والدته الصغير، واجهشت بالبكاء، فسألها
"مالك يا مامي… بتعيطي ليه؟"

نظرت إليه، وربتت على رأسه مرة أخرى 
"مفيش حاجة يا حبيبي… مفيش"

بينما يوسف وآسر، فلم يلحظ الأول مغادرة زوجته وابنه، وتفاقمت الأمور بينه وبين الأخر الذي وبخه بصرامة
"عمرك ما هاتتغير… ولو فضلت على وضعك هاتخسر كل اللي حواليك"

سمع صوت ابنته الصغيرة ينادي
"بابي… بابي"

قال لها والدها برقة
"روحي ألعبي يا حبيبتي مع أخوكي وعز الدين"

أخبرته الصغيرة ببراءة
"عز الدين خدته خالتو علياء وركبوا العربية ومشيوا"

انتبه يوسف لهذه الكلمات، ونظر إلى آسر شزراً
"حسابك معايا بعدين"

تركه وانطلق إلى سيارته، فتح هاتفه وتوجه لتطبيق التجسس، يتتبع زوجته أينما ذهبت، بينما يزيد من سرعة سيارته بلا مبالاة، حتى صادف سيارة أخرى قادمة في الاتجاه المعاكس.

صوت التنبيه يصدح من السيارة المقابلة، فانتبه قبل اللحظة الأخيرة، فانحنى فجأة عن الطريق، واصطدمت سيارته بقوة بجذع شجرة ضخمة على الرصيف، فتهدمت مقدمة السيارة وانبعثت سحابة من الدخان والغبار.

                      ❈-❈-❈

وفي الملهى الليلي الخاص بعلية القوم، حيث يلتف أبناؤهم المدللون حول أضواء الأناقة والصخب، كانت لوچي ترقص على أنغام موسيقى صاخبة، ممسكة بكأس تلمع في يديها، ترتشف منه بمرح وتمرد.

وجدت يد تجذبها من وسط هذا الصخب، وابتعدت بها إلى مكان أقل ضوضاء، حيث وقف أمامها قائلاً
"مش كفاية شرب بقي؟، إحنا جايين نغير جو ولا نسكر؟"

أجابت وقد بدأ أثر الخمر يتغلغل في وعيها، وصوتها يموج بالتثمل
"إيه يا عموري، ما تسيبني أعمل اللي نفسي فيه، هاتبقى أنت وبابي وعلياء كلكم عليا؟!"

ابتسم لها عمر وهو يحاول السيطرة على الموقف
"وأنا عايزك تنبسطي، بس من غير ما تأذي نفسك، وهاتي البتاع ده من إيدك"

أجابت بتحدي
"كاس واحد بس يا عمر، عشان خاطري"

ردّ عليها بصرامة، وأشار إلى أن لا مجال للتفاوض
"ولا واحد ولا تاني"

ألقت بالكأس على الأرض فانكسر، فاجهشت بالبكاء، اقترب منها عمر، وعانقها بحنان، يربت على كتفها
"ما تعيطيش عشان خاطري يا لوچي… أنا بحبك وبخاف عليكي"

رفعت رأسها من صدره، وأومأت له بالسلب
"محدش بيحبني خالص"

حاوط عمر وجهها بكفيه، وهو يهمس
"أنا يا حبيبتي… بحبك"

سألته بتحد
"وإيه اللي يثبتلي إنك بتحبني؟"

دنا منها، كاد أن يقبل شفتيها، فقاطعه صوت أنثوي
"هاي؟"

التفت إلي صاحبة الصوت، فأشارت لعمر بيدها،بينما هو أمر لوچي قائلاً
"خليكي هنا وما تتحركيش، جاي علي طول"

قالت الفتاة بصوت خافت
"مش تعرفها عليا يا مازن… أوبس قصدي يا عمر"

مدت يدها نحو الأخرى
"أنا تيكا، وأنتي لوچي البحيري، صح؟"

بادلتها لوچي المصافحة، ونظرت إلى عمر 
"عموري بيحكيلي عنك كتير… شايفة الغيرة في عينيكي؟، ما تقلقيش… هو بالنسبة لي البيست فريند مش أكتر من كدة"

دفعها عمر إلى مكان يبعد قليلًا عن لوچي التي تتأمل المشهد بدهشة، وسأل تيكا بغضب يكاد يتسرب من بين أسنانه
"إيه اللي جابك وجاية تعرفيها على نفسك ليه؟"

أجابت بحزم
"جيت عشان أبلغك البوص بيقولك آخر فرصة ليك الليلة دي، وإلا هتخلينا نضطر نعمل حاجة مش هاتعجبك خالص"

توتر عمر، وارتفع صوته
"لو قصدك على الفيديوهات اللي ماسكينها عليا… هاروح أبلغ عنكم، وأقول إنكم خلتوني أتصور غصب عني تحت التهديد… وابقوا وروني هاتعملوا إيه"

سألته تيكا بحدة ووعيد
"أنت قد كلامك؟!"

اجاب عمر بغضب 
"عايزين مني إيه؟، ما بتشبعوش عمليات نصب وابتزاز وقذارة؟!، خرجوني من حساباتكم، خلاص مش هاشتغل ليكم تاني… وابقوا دوروا على واحد غيري أهبل تعرفوا تهددوه"

نظرت له تيكا بوعيد مختلط بالتهديد، وقالت بصوت هادئ
"أوك… أنا جيت أبلغك رسالة البوص، ورسالتك ليه هتوصل له، بس بليز ياريت ما تلومش غير نفسك… imiss you too"

عاد عمر إلى لوچي فلم يجدها، فتجهم وجهه، وتوجه إلى حلبة الرقص ليجد شابًا يحاول التحرش بها، فانطلق غضبه العارم، سدد له عدة لكمات وألقي عليه سبات بذيئة.

صاحت لوچي وهي تمسكه
"عمر، بليز خلاص، عمر كفاية"

رمقها بضيق وغضب
"يلا نمشي من هنا، لو قعدنا دقيقة كمان هرتكب جريمة"

توجه إلى السيارة التي ركنها في ساحة الانتظار خارج الملهي، ففتح لها الباب لتجلس، وجلس خلف المقود.

سألته لوچي بعينين ثقيلتين من النوم
"عمر… هي تيكا دي فعلاً انت وهي أصدقاء بس و لا حاجة تانية؟"

تنهد وهو يحاول التركيز على الطريق
"لوچي بالله عليكي… مش قادر أتكلم… أنا هوصلك لحد القصر عندكم وهامشي"

أغمضت عينيها قليلاً، والنوم يداهمها، بينما يقود عمر سيارته في طريق نائي مظلم، قلبه يخفق بخوف، يخشي رد فعل أفراد العصابة على رسالته لهم واستهانته بهم.

وإذا به وهو يقود، يرى شاحنة تخرج من جانب الطريق، تقف بعرض الطريق فجأة، فتوقف أمام هذا المشهد السخيف والخطر.

أمر تلك المغيبة
"أوعي تتحركي ولا تنزلي من العربية، لما أنزل أشوف مين الغبي ده اللي واقف في نص الطريق"

نزل من السيارة، متجهًا نحو الشاحنة التي تعترض طريقه، وإذا بمجموعة من الملثمين يظهرون فجأة، أحدهم قيد ذراعيه خلف ظهره، وآخر يمسك بإبرة مخدرة وإذا به يغرزها في رقبته، بينما تتعرض لوچي لنفس المصير، كأنها دمية بين أيديهم، لتواجه مصيرها المرعب جنبًا إلى جنب مع عمر.... 

تعليقات