رواية غرام الذئاب الفصل الواحد والعشرون
وقف في قلب القاعة المزدحمة، تحيطه وجوه كثيرة لا يراها، إذ كان بصره غارقاً في انتظارها، وصوت الموسيقى الصاخبة يتردد في الأرجاء كطبول تُعلن استقبال العروس.
قلبه يخفق بإيقاع يتماهى مع اللحن، متسارعاً كجواد جامح يتهيأ لانطلاقه.
كل جوارحه معلقة بباب القاعة، ذلك الباب الذي بدا كأبواب القصور المهيبة.
وما هي إلا لحظات حتى بدأ الضباب يتصاعد كستار مسرحي يمهد لدخول الملكات، ثم تلاشى تدريجياً، فإذا بملاكه الموعود يشق الحُجب ويطل عليه كأمنية تحققت بعد طول غياب.
ها هي أميرة أحلامه، في ثوبها الأبيض الناصع، يشبه بياضه أجنحة السحاب، وقد انحدرت خصلات شعرها الذهبية على كتفيها انحدار الضوء على صفحة بحر هادئ، وفوق رأسها تاج يزيدها مهابة، كملكات العصور الوسطى المرسومة في الأساطير.
بيدها باقة من الزهور البيضاء، تكاد ملامحها النقية تنعكس في أريجها، فيغدو وجهها الملائكي مرآة للنقاء نفسه.
ظل مأخوذاً بجمالها، تمني لو اختصرت تلك المسافة الموصلة بينهما، منتظرً خطواتها التي كانت تطرق على قلبه قبل أن تلامس أذنيه.
خطوة بعد خطوة، حتى وقفت أمامه، فمد يده إليها مترقباً لحظة العناق الأبدي، غير أن ابتسامتها الوضيئة تلاشت على حين غرة، لتتحول إلى ارتجافة خوف، وسقطت باقة الزهور من يدها كإعلان فاجع.
نظرت حولها بوجل، ثم صوبه بعينين تفيض بالذعر.
عندها سألها بصوت متهدج
"أميرة، أنتي كويسة؟"
أدارت عينيها في القاعة بخوف ورجفة، هزت رأسها بالنفي، وبدت كمن يستشعر خطر خفي لا يراه سواها.
وفجأة قبضت على ثوبها بيديها المرتجفتين، وانطلقت مسرعة نحو باب القاعة كمن يفر من قدرٍ داهم.
تسمر للحظة، ثم اندفع وراءها، صاح من أعماق قلبه
"أميرة... أميرة؟"
لكن كلما حاول أن يخطو خطوة، وجد قدميه أثقل من الصخور، كأن قوة غامضة تشده إلى الأرض.
ارتفع صوته بالصراخ، مبحوحاً، يردد اسمها حتى تلاشى ظلها واختفت عن ناظريه...
أفاق من سباته مفزوعً، ليجد نفسه ملقى على الأرض وقد تدحرج من فوق الكنبة في الردهة.
جلس متكئاً على حافتها، يلتقط أنفاسه المتقطعة، ثم أدرك أنه لم يكن سوى حلم ثقيل يطارده.
مسح العرق عن جبينه، ثم ابتسم في مرارة وهو يهمس في سره وحمد ربه أن ما رآه لم يتجاوز حدود الكابوس.
نهض مسرعاً، كأن القلق يجره جرً إلى باب الغرفة حيث هي.
الباب ما يزال مغلقاً، فاقترب يطرق برفق وينادي باسمها بصوت خفيض متردد
"أميرة؟ أنتي صاحية؟"
أعاد طرق البال مرة أخرى، لكن سكون الغرفة أجاب وحده.
تسلل الخوف إلى قلبه، وظن أن مكروهاً قد ألمّ بها، فتشجع وأدار المقبض ببطء، ثم فتح الباب على استحياء.
لم تلبث عيناه أن وقعتا عليها، واقفة في الزاوية، تعلوها مهابة المصلين، فوق سجادة الصلاة.
كان الحجاب يزين رأسها، وثوبها الطويل يجللها كجناح نور، ويديها مرفوعتان في هيئة التكبير، يخرج من بين شفتيها صوت خافت كترتيل ملائكي يتردد في أرجاء الغرفة
"الله أكبر"
تراجع خطوتين إلى الوراء، مبهورً بالمشهد، ثم ترك الباب موارباً حتى لا يقطع عليها خشوعها.
نظر في ساعته، فإذا بها تشير إلى التاسعة مساءً.
اتجه صوب المطبخ، أمسك بالركوة وأعدّها على الموقد ليصنع لنفسه فنجان قهوة يعيد له اتزانه.
أشعل عين الغاز وترك النار خافتة، التفت ليعد الفنجان، فإذا بها واقفة خلفه، تبتسم في سكون، كأنها أطلت من فراغ.
انخلع قلبه بفزع وسمّى الله في سره، فضحكت هي برقة
"خوفت ولا إيه يا دكتور؟"
ابتسم وهو يحاول استعادة هدوئه
"أنا اتخضيت، أصل لسه كنت شايفك بتصلي"
أجابت بخفة
"فعلاً كنت بصلي وقبلها خرجت أتوضى، افتكرتك مشيت، ولما لاقيتك نايم على الكنبة مارضتش أزعجك"
تنهد ثم أخبرها قائلاً
"أنا المفروض أمشي، بس خوفت تتعبي"
ثم أردف بصوت مبحوح فيه أثر الحزن
"ياريتك فعلاً كنتي صحتيني، على الأقل مكنتش حلمت بكابوس وحش"
نظرت إليه بدهشة مستفهمة
"حلمت بإيه؟"
ظلّ صامتً لحظة، يحدّق في عينيها وهو يستعيد ملامح الكابوس، فتمتم
"ما تاخديش في بالك... أنا أصلاً لما بنام في مكان غير سريري بفضل أحلم بكوابيس"
ابتسمت بهدوء واخبرته بثقة
"لو نمت على وضوء وقرأت دعاء قبل النوم، عمرك ما هتحلم بأي كابوس"
لمعت عيناه بنظرة ماكرة، واقترب منها
"خلاص، ابقي فكريني بعد ما نتجوز نقولوا مع بعض قبل ما ننام، وما اظنش طول ما انتي هتبقي نايمة جنبي وفي حضني إن ممكن أحلم بكوابيس تاني، لأني هاكون نايم جنب ملاك"
اشتعلت وجنتاها بحمرة الخجل، وانكست عيناها إلى الأرض من شدة الحياء.
لكن اللحظة الحالمة انقطعت فجأة بصوت فوران القهوة التي فاضت على الموقد وأطفأت النار.
التفت رحيم مسرعاً وهو يتمتم
"الظاهر ماليش نصيب أشرب قهوة"
أسرعت هي وأمسكت الركوة، فتحت عليها صنبور الماء وقالت له بصوتها العذب
"أنا هعملك بدالها، روح استريح وأنا هجيبها لك"
❈-❈-❈
في قصر آل البحيري... عاد آدم مثقلاً بالهموم، يكسو وجهه قتام الحزن، غير أنّه ما إن وطئت قدماه عتبة غرفة النوم حتى ارتدى قناع الجمود، قناعاً من خشب لا يكشف شيئاً مما يختلج صدره.
بين يديه ظرف ورقي كبير، دخل غرفة تبديل الملابس بخطى متثاقلة، وضع كفه على البصمة الإلكترونية ففُتح باب الخزنة الخاصة به.
ألقي بداخلها الظرف على عجل، وأغلقها بسرعة، قبل أن يلتقط سمعه صوت باب الحمام يُفتح.
خرجت خديجة بمعطفها القطني، و تمسح خصلات شعرها بمنشفة بيضاء، ووجهها يفيض دفءً وحنانً، قائلة بعذوبة
"حمدالله على السلامة يا حبيبي، جيت إمتى؟"
رمقها بنظرة عابسة، وقد ظهر على قسماته أنه ضائق الصدر لا يطيق نفسه، فأجاب بفتور
"من شوية"
سألته برقة، محاولة كسر حدّة الجو
"أقولهم يحضرولك العشا؟"
أخذ يفك أزرار قميصه زراً إثر زر، و ينفث الهواء من صدره بضيق
"مليش نفس"
وقفت أمامه متعجبة من حاله، ثم وضعت المنشفة جانباً وساعدته على خلع قميصه، وسألت بحذر ممزوج بقلق
"مالك يا حبيبي، في حاجة حصلت في الشركة عندك؟"
أطلق زفرة طويلة ولم يُجب، فتقدمت نحوه وعانقت جذعه من الخلف، هامسة بعاطفة صادقة
"أنا عارفة الأيام اللي فاتت مرينا بظروف صعبة وسببتلك ضغط نفسي، بس عايزاك تحاول تخرج كل ده من دماغك"
بدّل ثيابه بأخرى قطنية مريحة، فأقبلت خديجة تلتف حوله بخطواتها، ووقفت أمامه تتعلّق في عنقه بابتسامة وادعة، وقالت محاولة انتشاله من حزنه
"تعالي نركز مع نفسنا وحياتنا شوية، نغيّر جو، أو نركز إننا نجيب نونو صغير"
لكنه أبعد ذراعيها عنه بعنف، وصرخ كمن يقتلع الكلمات اقتلاعاً
"وأنا قولتلك مش عايز عيال تاني، أنتي إيه ما بتفهميش؟!"
جمدت في مكانها، لا تصدق رده القاسي، صدمتها انعكست في عينيها نظرات لوم جارح، جعلته غير قادر على الاستمرار أمامها، فاستدار مغادراً الغرفة ورزع الباب خلفه بقوة، بينما هي انخرطت في بكاء مرير، تخفي وجهها بين كفيها، عاجزة عن فهم سر تحوله عليها، وعناد قلبه معها.
هبط إلى حديقة القصر، محاولاً اتقاء نظراتها التي تطارده، وهناك لمح أخاه يوسف يدخل من البوابة.
يتكئ على ساقه بصعوبة، وذراعه اليسرى محاطة بجبيرة، وفي جبهته لاصقة طبية، وعلى أنفه أثر جرح حديث.
تقلصت ملامح آدم في دهشة مشوبة بالقلق، وتقدم نحوه يسأله بصوت يتناوب فيه الاستفهام والحنان
"إيه يا يوسف... حصلك إيه؟"
أجابه يوسف وهو يشيح ببصره
"حادثة بسيطة، الحمدلله... ما تقلقش"
بادره آدم بقلق أكبر
"وعلياء وابنك فين؟"
رد سريعاً، متجنب النظر في عينيه
"راحوا لحماتي يطمنوا عليها ويقعدوا معاها يومين"
كان صوته يشي بتوتر خفي، فاستوقفه آدم وقد ارتاب في أمره
"هو إنت وعلياء اتخانقتوا؟"
لم يستطع يوسف أن يواصل التظاهر بالتماسك، فانفجر بنفاد صبر
"ما قولتلك راحت عند مامتها تطمن عليها، ولا هو تحقيق وخلاص؟!"
ارتد آدم إلى الوراء من صدمة رده العنيف، بينما تركه يوسف ومضى بخطوات سريعة إلى الداخل، دون أن يلتفت إليه.
وما إن دخل يوسف غرفته وأغلق الباب بإحكام حتى هوت عليه السماء بكل ثقلها، يشعر بالخنقة، كأن جدران الغرفة تطبق على صدره، وانهمرت في ذهنه كلمات زوجته كالطعنات، حين وبّخته ذات ليلة
«أنت مريض نفسي... أنت مريض نفسي»
ظل الصوت يتردد داخل رأسه كصدى لا ينقطع، حتى غدا أشبه بجحيم داخلي لا يُطاق.
ضغط كفيه على أذنيه، ثم انفجر بصياح وجنون
"كفاية!، كفاية بقى!"
ظل يكررها وهو يركل كل ما أمامه ويدفع الأشياء بعنف، يتخبط في الغرفة كمن تاه عقله.
و حين استنفد صراخه كل طاقته، انهار على الأرض جالساً، يلهث أنفاس متقطعة، كغريق يصارع للنجاة، لكن دون أن تمتد نحوه يد الرحمة.
❈-❈-❈
جلس رحيم أمام شاشة التلفاز، يقلب القنوات بعين شاردة وذهن غائب، فإذا بها تدخل بهدوء، حاملة صينية يعلوها فنجان قهوة تتصاعد منه الرائحة الزكية تبعث في الأجواء نسيم السكينة.
مدت يديها إليه
"اتفضل القهوة"
تناول الفنجان مبتسماً باقتضاب
"تسلم إيديكي"
جلست على كرسي بعيد قليلاً عنه، وبصوت خافت ردت
"بالهنا والشفا"
رمقها بعينين متسائلتين، ورأى أنها اختارت مقعداً يجعل بينهما مسافة باردة، فسألها باستفهام مشوب بالعطف
"قاعدة بعيد كده ليه؟"
ارتبكت وأطرقت برأسها في حرج، ففهم دون أن تُفصح أنها ما زالت مأخوذة بما حدث في الغرفة حين بادرها بقبلة عبرت لها عن مشاعره نحوها، مما جعلها تخجل وتتهيب القرب منه.
عدل جلسته، وتهرب من نظراتها، محاولاً تغيير دفة الحديث
"آه صح... كنت عايز أقولك بكرة إن شاء الله رايح مشوار بدري، وهارجع أخدك عشان عاملك مفاجأة هتعجبك أوي"
رفعت رأسها بلهفة، وفي عينيها فضول لذيذ
"مفاجأة إيه؟"
أجاب بدهاء الطبيب المتمكن، مبتسمً بخفة ظل
"لو أنا قولتلك... هتبقى مفاجأة إزاي؟!"
ضحكت بخفة
"ماشي... كلها ساعات وهعرف"
تحرك من مقعده، وجلس قريباً منها، متأمل ملامحها الناعمة، ثم بادرها بصوت دافئ
"مبسوطة يا مرمر؟"
فتحت عينيها بدهشة
"مرمر!"
ابتسم وهو يفسر لها قوله
"دلع اسمك... ولو مش حباه خلاص، مش هاقوله تاني"
ارتسم الخجل على محياها، فابتسمت برفق، فتابع هو يتأمل حمرة وجنتيها
"من ضمن الحاجات اللي شدتني ليكي، كسوفك، خصوصاً لما تبصي في الأرض وخدودك تحمر زي الطماطم أو التفاح ولا نقول الفراولة"
انتفضت من مكانها، وصوتها يخرج متقطعاً من فرط الحياء
"عن إذنك... نسيت حاجة في المطبخ"
لكنه عاجلها بسؤال باغتها كالسهم
"إنتي بتحبيني يا أميرة؟"
تجمدت في مكانها كتمثال من رخام، تتلاطم في صدرها مشاعر متناقضة، انجذاب عميق يكتنفه ارتباك وحيرة.
لم تعرف بأي لفظ تجيب، وإن كان قلبها يبوح بما عجز عنه لسانها.
وقبل أن تنطق، رن جرس الباب فجأة، قاطعاً لحظة الوجد.
تبادلا النظرات طويلاً، بينما الجرس يرن بإلحاح.
نهض قائلاً بحزم
"ادخلي جوه... وأنا هاشوف مين اللي بيرن الجرس"
انسحبت إلى الداخل، واختبأت خلف باب الغرفة الموارب تتابع ما سيحدث.
فتح رحيم الباب فوجد أمامه زوجة حارس العقار، تبتسم بحرج وتقول
"معلش يا دكتور رحيم، عملنا لحضرتك إزعاج، بس أنا مش لوحدي، أم بدوي لما كلمتها وقولتلها طلبات حضرتك، مكدبتش خبر وقالتلي جاية على طول، تعالي يا أم بدوي ياختي"
ومن خلفها ظهرت أم بدوي، امرأة خمسينية، ترتدي جلباباً أسود فضفاضاً، ورأسها مغطى بحجاب قاتم، ووجهها المليء بالتجاعيد يشهد على سنوات مثقلة بالعناء.
نظرت إلى رحيم نظرة فاحصة من قدميه حتى رأسه.
قاطعت لحظة تأملها زوجة الحارس حينما قالت
"ده يا ستي بقى الدكتور رحيم اللي حكيتلك عنه"
لكن أم بدوي وضعت يدها عند أذنها وسألتها
"ها؟ بتقولي إيه؟"
رفعت الأخرى صوتها
"بقولك ده يبقى الدكتور رحيم اللي حكيتلك عنه"
اتسعت عينا رحيم دهشة إذ أدرك أن أم بدوي ضعيفة السمع.
فضحكت زوجة الحارس لتخفف الموقف
"ما تقلقش يا دكتور... هي لهلوبة وشاطرة جداً، بس عندها ضعف سمع ومركبة سماعات... شكلها شالتها"
التفتت نحو أم بدوي وأشارت إلى أذنها قائلة بصوت مرتفع
"سماعتك فين؟، ألبسيها"
ردت أم بدوي بخفة ظل صادقة
"السماعة؟، آه معايا... معلش نسيت... أصلي قلعتها وأنا راكبة التوكتوك، السواق كان مشغل أغاني صوتها عالي أوي، والسماعة بتزن في ودني... ومش ناقصة حبة السمع اللي عندي يروحوا هما كمان"
رمق رحيم زوجة الحارس بنظرة وعيد، فهذا آخر ما ينقصه أن تأتيه بامرأة لرعاية أميرة، والمرأة نفسها تحتاج من يراعيها!
لكنها تملصت بسرعة
"عن إذنك بقى يا دكتور، أهي أم بدوي عندك أهي، وأنا مضطرة أنزل هعشي العيال وأبوهم اللي هايموت من الجوع تصبح على خير"
وهربت على السلم تحت نظرات رحيم الغاضبة.
أشار لتلك المنتظرة
"اتفضلي يا أم بدوي"
دخلت وهي تضع سماعتها في أذنها، وبدأت تتأمل المكان قائلة بانبهار
"يا ما شاء الله... يا ما شاء الله... بيت ده ولا سرايا!... بس العفش تحسه من أيام الملك الفاروق"
ابتسم رحيم واخبرها
"دي شقة جدي الله يرحمه، وبابا ورثها عنه، تعالي أوريكي الأوضة اللي هتنامي فيها"
قالت بعفوية
"أهم حاجة يكون هواها بحري، أنا مريضة حساسية وما بطقش الحر ولا الرطوبة"
طمأنها قائلاً
"ما تقلقيش يا أم بدوي، مديكي أحلى أوضة في الشقة، وبلكونتها مليانة زرع هايعجبك"
"إن شاء الله يخليك يا بني ويباركلك"
فتح لها باب الغرفة، فدخلت ووضعت حقيبتها على الأرض، ثم التفتت إليه تسأله بفضول
"معلش يا دكتور، ما تفهمنيش غلط... ألا فين قريبة حضرتك؟"
ابتسم بعد أن تفهم قلقها
"اديني خمس دقايق، هاروح أبلغها بوجودك"
ظنّت أنه ذهب فبدأت تتمتم لنفسها بروح كوميدية
"يا خوفي ليكون بيضحك عليا ومشي قريبته عشان يستفرد بيا، بس باين عليه دكتور محترم وابن ناس، وأنا قد أمه برضه"
ذهب رحيم ويكتم ضحكته من تعليقها الطريف، وذهب إلى أميرة.
وقبل أن يطرق الباب، فتحته وسألته في فضول
"مين الست دي؟"
اجاب بهدوء
"دي تبقى أم بدوي... جبتها عشان تراعيكي وتاخد بالك منك، وتبقى...
ثم صمت قليلاً وحك ذقنه بحرج قبل أن يكمل
"وتبقى محرم طول ما أنا موجود هنا"
نظرت إليه أميرة بإعجاب صادق
"فيه محرم أو مفيش... أنا واثقة فيك جداً، وعمري ما حسيت بالأمان غير وأنا معاك"
غمرته كلماتها بفيض من المشاعر، حتى شعر أنه يطير في فضاء لا تحده حدود، هيهات واللحظة لم تكتمل، إذ دوّى صراخ أم بدوي من الغرفة
"ألحقونااااي!"
وما إن ارتفع صوتها حتى انقطع التيار الكهربائي عن الشقة كلها، فغرق المكان في ظلام دامس.
❈-❈-❈
وقف أدهم على عتبة باب المطبخ كأنه يحمل بين جنبيه سراً أثقل من قدرته على الكتمان.
ظل يراقب والدته وهي ترتب بعض الأكواب، استجمع شجاعته وقال بصوت متردد
"ماما… أنا قررت أتجوز"
رفعت الأم عينيها نحوه، وارتسمت على محياها دهشة مشوبة بفرح فسألته
"الله!، طب شوفت العروسة ولا عايزني أنا أشوفلك؟"
ابتسم الأخرابتسامة مترددة، وحاول أن يشيع الثقة في نبرة صوته
" هي موجودة… بنت زي القمر، وشاطرة جدًا... أول ما شوفتها اتشديت ليها من أول نظرة… رغم إني عمري ما كنت مؤمن بحاجة اسمها حب من أول نظرة"
اقتربت منه وسألته بلهفة
"يا سلام!، طب يا حبيبي هي منين؟، وبنت مين؟"
توقف للحظة، بدا وكأنه يبتلع تردده قبل أن ينطق
"هي مطلقة… بس بنت"
انعقد حاجباها بدهشة لم تخفها، وسألته بحدة
"يعني إيه مطلقة وبنت في نفس الوقت؟"
تنفس ببطء، ثم أجاب متلعثماً
"أصل جوازها كان له ظروف… كان جواز على ورق… وجوزها ده كان صاحبي"
تراجعت والدته إلي الوراء، وارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة
"يعني حضرتك عايز تتجوز طليقة صاحبك؟"
ارتفع صوته قليلًا وهو يلوح بيده
"حضرتك فاهمة الموضوع غلط… خليني أحكيلك... منار مكنتش متجوزة بجد… ده قصي اتجوزها على ورق عشان ظروف معينة... والموضوع كله كان شكلي... مفيش بينهم أي حاجة… حتي هو حكالي بنفسه"
صمتت الأخرى وأطبقت شفتيها كأنها تحاول قراءة ما وراء كلماته، ألقى عليها نظرة مترقّبة
"ها يا ماما؟ قولتي إيه؟"
ابتسمت ابتسامة غامضة وقالت بهدوء
"سيبلي اسم منار بالكامل وعنوانها"
قطّب أدهم حاجبيه في ضيق
"الموضوع مش مستاهل تسألي عليها… أنا عارف عنها كل حاجة"
مدّت يدها تربت على كفه برفق
"يا حبيبي… أنا عارفة بعمل إيه... ما تقلقش… في ظرف أيام هتعرف كل حاجة"
ثم نهضت بوقار متعمّد، واستعدت للذهاب إلى غرفتها
"تصبح على خير"
غابت خطواتها في الممر، تاركة خلفها فراغ يثقل صدره، فجلس بمفرده، أخرج سيجارة من علبته وأشعلها ، يزفر دخانها كأنما يفرغ شيئًا من حيرته.
لم ينتبه إلى هاتفه المهتز في غرفته ظل يرن بلا صوت ويضيء بلا مجيب.
❈-❈-❈
تمشي في الشارع بخطوات متسارعة تحمل في يدها كيسً مكدس بطلبات المنزل، بينما اليد الأخرى مشغولة بالهاتف، تلح في الاتصال، وزفرة الضيق تتردد من صدرها
"يا تري ما بتردش ليه يا أدهم؟!"
وإذ بحصاة غادرة تعترض طريقها، كادت أن تتعثر وتسقط علي الأرض، فتماسكت بأعجوبة، غير أن الهاتف أفلت من يدها وسقط علي الرصيف.
شهقت، وقلبها انقبض خشية أن يتحطم، انحنت تلتقطه، لكن يد خشنة سبقتها إليه، يد رجولية تتسم بالثقة.
رفعت عينيها تنوي أن توبخ صاحبها، لكن سرعان ملامحها تجمدت، فاها انفتح دهشة، والصدمة أثقلت أوصالها.
أمامها وقف رجل في منتصف الأربعينيات، وجهه خريطة ماكرة رسمت عليها أخاديد الخبث والدهاء، وعيناه تقدحان شرً صريح، يتفحصها كما لو كان يجردها من كل ستر.
قال بضحكة ثعلب ساخر
"إيه يا موني؟!، مش تقوليلي كفارة يا اللي كنتي جوزي وأول ما وقعت في مصيبة ما صدقتي خلعتِ مني؟!"
ارتعشت في داخلها كقصبة في مهب ريح، لكنها تماسكت بحدة ظاهرة تخفي جبل من خوفها ، سألته
"أنت عايز مني إيه يا رامي؟!"
قهقه وضحكته تنزف تهكم واستهزاء
"هو من ناحية عايز، فأنا عايز كتير، ولا نسيتي اللي أخدتيه مني زمان!، أول ما خلصت مصلحتك، قطعتي الورقتين اللي كانوا بينا واختفيتي، ولا حتى وقفتي جنبي تدوريلي على محامي، أقول إيه؟ الخسّة ما بتطلعش غير من ولاد الـ…
قاطعته بغضب
"كلمة كمان وربنا لأصوت وألم الناس عليك، وأقولهم أنت سرقتني والتليفون في إيدك، وساعتها ترجع للسجن تاني"
مد يده إلى جيب بنطاله وأخرج هاتفه وقال باستهزاء
"وأنا هاقول للظابط، كدابة يا باشا، دي مراتي، و كنا متجوزين عرفي من ورا أهلها، ولما أنا اتسجنت هي قطعت عقود الجواز"
ّ جزت على أسنانه بحنق
"وأنا هاقوله إنك كداب وجاي ترمي بلاك عليا"
ابتسم بخبث ورفع شاشة هاتفه أمام وجهها
"كداب إزاي، واللي كان بيحصل بيني وبينك متسجل صوت وصورة؟!"
شهقت بصدمة، وعيناها تائهتان في شاشة الهاتف، فإذا بفيديو فاضح، يوثق لحظات سابقة كانت تظنها قد دُفنت مع الماضي.
لطمت خدها بصدمة هادرة
"يا نهار أسود!، كنت بتصورنا؟!، هات الزفت ده"
مدت يدها تخطف الهاتف، لكنه بخفة أغلقة وأعاده إلى جيبه
"إيدك يا قطة، وعلى فكرة… معايا نسخ كتير"
ارتجف قلبها كطير مذعور في قفص، وسألت بصوت متهدج
"أنت عايز مني إيه؟"
ابتسم ابتسامة ثعبان
"عايزك يا موني"
واجهته بشجاعة زائفة
"ده على جثتي، والفيديوهات اللي بتهددني بيها هاتكون دليل إدانتك، وأنا هاروح أبلغ البوليس"
قهقه عاليًا، ضحكته تشق سكون الشارع، حتى اغرورقت عيناه من شدة الضحك، ثم قال لها
"يا حلوة قبل ما توصلي القسم، الفيديو هيكون عند أبوكي وأخوكي والحاجة أمك، وكمان على المواقع السيكي ميكي، وتبقي تريند يا موني، وأشهر من البت البلوجر إياها"
انهارت ملامحها، من حدة التحدي إلى ضعف يائس، وهو يتابع ببرود متشفٍ
"إيه يا قطتي؟!، مش سامعلك حس!، ما أنا كنت بكلمك بالحسنى، إنتي اللي خلتيني أوريكي وشي اللي ما بحبش أوريه إلا للي بكرههم"
ابتلعت ريقها بصعوبة وقالت برجفة
"اللي بيني وبينك انتهى من سنين، لو عايز فلوس، قولي عايز كام وتديني الفيديو والنسخ كلها"
اقترب خطوة، فتراجعت خطوتين، نظر إليها نظرة مشبعة بالشر
"أنا برضو قلبي حنين، وما بنساش اللي بيني وبين أي حد كان ليه مَعزة في قلبي
جالت ببصرها حولها، الشارع بدا خالي من المارة، لكن الخوف من الفضيحة أثقل كاهلها
"انجز يا رامي، رجوع ليك مش راجعة، منار بتاعت زمان ماتت، الظروف والحوجة بس اللي عرفتني على شكلك"
"مقبولة منك يا قطتي، عموماً هاخد رقمك الجديد واستني مني تليفون في أي وقت، هاكلمك وأظبط ميعاد نتقابل فيه، عايزك في مصلحة"
نظرت إليه باشمئزاز، فزاد في ابتسامته
"ما تخافيش، مش اللي في بالك، عايزك في شغل، بس خلي بالك، لو دماغك سوّحتك إنك تنفضيلي، هتلاقيني في قلب بيتكم بشرب شاي مع أخوكي والحجة و بفرجهم علي فيديوهاتك الثقافية"
مد إليها هاتفها
"اتفضلي خدي تليفونك"
انتزعته من يده بعنف، واستدارت تغادر بخطوات سريعة، لكن قبل أن تبتعد رمقته بوعيد
"ماشي يا رامي"
واصلت سيرها، الدموع تسابقها، تمسحها سريعًا حتى لا يلمحها أحد.
في داخلها نار تضطرم ، فشبح الماضي الذي حسبته اندثر في غياهب النسيان عاد، ينهض من الرماد، فاتحًا أبواب الجحيم عليها.
❈-❈-❈
في الصباح الباكر، وقفت علا أمام منزل عائلة زوجها، تنتظر سيارة الأجرة التي تواصلت مع سائقها علي التطبيق الشهير، وقد ارتسم على ملامحها خليط من الترقب والقلق.
ما إن توقف السائق أمامها حتى أسرعت بخطوات يعتريها التوجس، ولجت السيارة، وانطلقت بها على جناح الطريق. أمالت رأسها نحو النافذة، تتأمل المشهد الممتد أمام عينيها بوجوم، وكأنها تسترجع شريط قديم من ذكرياتها.
لقد تذكرت تلك الليالي حين انتظرت عودة زوجها من الخارج ولم يأت، وظل هاتفه مغلق كقلب انطفأ فيه الأمل.
حاولت مراراً التواصل معه بلا جدوى، حتى خطرت ببالها شقته الخاصة، فقررت أن تتوجه إليها؛ علّها تراه وتزيح عنه ما يثقله من هموم وأحزان.
قطع شرودها صوت السائق
"مدام علا… إحنا وصلنا"
نظرت إليه عبر المرآة الأمامية، ثم مدت يدها بأجرة الطريق بابتسامة شاحبة
"تسلم يا كابتن"
هبطت من السيارة بخطوات مترددة، لتجد نفسها أمام المبنى الذي يحمل بصماته.
هناك على الرصيف، كانت سيارته مركونة بغير اكتراث، فأيقنت أنه في الأعلى.
اندفعت إلى الداخل، واستقلت المصعد، أغمضت عينيها ويدها متشبثة بالمسند المعدني كمن يتمسك بخيط نجاة، حتى توقف المصعد، ففتحت عينيها، وخرجت بخطى مثقلة نحو باب الشقة.
وفي الداخل، كان هو غارقً في نوم مضطرب فوق الأريكة، والتلفاز أمامه يبعثر ضوءه بلا معنى.
الطاولة الصغيرة بجواره تعج ببقايا طعام، وأطباق نصف فارغة، وزجاجات مياه معدنية، بعضها شاغر وآخر لا يزال ممتلئ.
صدح رنين جرس الباب، فتقلب في مكانه بضيق، و رنّ مرة ثانية، فتنهد بتأفف، ونهض وهو يجر جسده بملل.
تمتم وهو يتثاءب
"حاضر… حاضر"
اقترب من الباب، فتحه دون أن يرفع رأسه، وقد غلبه النعاس، وظنه حارس العقار جاء يحمل ما طلبه منه بالأمس.
قال بصوت مبحوح، ونصف عينيه ما زالت مطبقة
ــ "ادخل جوه، حطهم على الرخامة، وخد الباب في إيدك وإنت ماشي"
لكنها فجأة دفعت الباب بخفة ودلفت، لتلقي كلماتها التي اخترقت غفوته كالسهم النافذ
"مكنتش أعرف إنك قاسي أوي كده"
انتفض واقفاً كأن مساً أصابه، فرك عينيه بيديه المرتجفتين، وحدّق بها بذهول.
هنا عند العتبة، كانت تقف هي؛ ماثلة أمامه، تتقدم نحوه بنظرات تفيض عتاب ولوم.
تلاقت العيون، لكن عينيه لم تكن عيون رجل ذو قلب بارد، بل عيون طفل يتوق إلى ععناق لم يعرف سواه يوماً.
لم يكن أمامها إلا أن تفتح ذراعيها له، فبدا أمامها كالتائه الذي اهتدى فجأة إلى الطريق.
وفي لحظة خاطفة، كان بين ذراعيها، يلتصق بها بشدة، وكأنه يخشى أن تفلت منه مرة أخرى، يعانقها حتى شعرت أن ذراعيه تكاد تعصرها.
"حقك عليا"
قالها بصوت متهدج، كأنه اعتراف مذنب يطلب الصفح.
فأجابته هي، بصوت يقطر حنانً يذيب الصخر
"أنا مش زعلانة منك… بس إنت وعدتني إننا نكون مع بعض على الحلوة والمرة... وأول موقف حصلك بعدت وقفلت تليفونك"
انسحب من بين ذراعيها ببطء، كمن يخشى أن يقطع خيط الأمان الذي التف حوله لحظة العناق.
قبض على يديها بيديه ثم رفعهما إلى شفتيه، يقبّل كل يد على حدة، وكأنّه يستجدي الغفران من بين أناملها.
قال بصوت متهدج
"آسف يا حبيبتي"
وضعت كفها برفق على وجنته، تتلمس خشونة شعيرات ذقنه كمن تواسي قلبه قبل أن تواسي ملامحه، وهمست بحنان غادق
"أنا عارفة الحالة اللي بتمر بيها، وإنك في صراع مع نفسك، وما بين نارين، نار شيريهان هانم، ونار إنك تكون معايا، وطبعاً حاسس بالذنب للي حصل لها، رغم إني متأكدة إنها بتكرهني، بس بدعي لها ربنا يشفيها ويعافيها وتقوم بالسلامة"
ارتسمت على ثغره ابتسامة ساخرة، فيما دوى صوته الداخلي يتهكم
«مش لو كانت تعبانة أصلاً؟!، والله إنتي طيبة أوي يا علا»
ثم عاد إليها، ووضع يده على يدها، ورفعها إلى فمه، يطبع على راحتها قبلة طويلة، وقال بصوت يغمره الامتنان
"إنتي أحن قلب شوفته في حياتي"
وسرعان ما استدرك، معلقاً على حديثها
"وبعدين حبنا عمره ما كان نار… بالعكس، ده الجنة اللي كنت بحلم بيها لحد ما إنتي ظهرتي في حياتي... ما تعرفيش أنا كنت عايش إزاي... ولا حتى أنا مين"
استدار عنها، وأدار ظهره متأملاً جدار الغرفة كأنه يقرأ ماضيه على مسامه، ثم تابع بنبرة يغلفها الأسى
"داليا على فكرة ما غلطتش لما كانت بتقولي إنت ابن شيريهان، أو بالأصح ابن أمك، شيري هانم اللي ربتني وعلمتني أعيش بقلب حجر، علمتني إن لما أؤمر لازم كلامي يتنفذ حتى لو على حساب غيري، علمتني أحب نفسي وبس، وأنا ثم أنا ثم أنا، ومن بعدي الطوفان، كنت خلاص على وشك أبقى نسخة تانية منها، لحد ما إنتي جيتي"
التفتت نحوه، و وقفت أمامه مباشرة، أمسكت بيديه بقوة، وقالت بعينين تموجان يقين
"وإنت عمرك ما كنت زي والدتك، في بداية معرفتنا حاولت تبينلي إنك زيها، بس اللي شوفته في عينيك عكس اللي كنت بتحاول تظهره ليا"
تنهدت بعمق، ثم أردفت
"شوفت في عينيك حنية الدنيا كلها... ومع الأيام شوفت منك شهامة ورجولة ما يطلعوش غير من ولاد الأصول… واللي بقوا عملة نادرة"
نظر إليها، وارتسمت على شفتيه ابتسامة دافئة ممزوجة بالدهشة، يسألها بمزاح
"أعتبر كلامك ده مدح ولا مجاملة؟!"
أجابته بابتسامة صادقة
"أنا لو بجاملك، كان زماني أنا وابني بره مصر يا أحمد بيه"
أجابها بحدة يغلفها حب يختفي خلف التهديد
"وفكرك لو كنتي عملتيها من ورايا مش هعرف أوصلك؟!، كنت هاجيبك برضه، حتى لو استخبيتي في سابع أرض"
ابتسمت بدلال، ولكزته بخفة في صدره
"ليه يعني… سوبر مان؟"
قهقه وهو يرد بعفوية
"لاء… أحمد الشريف"
تطلعت إليه بعينين لامعتين، وسألته بدلع أضرم في صدره نيران العشق المتأججة
"ويطلع مين أحمد الشريف؟"
فجأة حملها بين ذراعيه، فشهقت بفزع وضحكة ممزوجة بالخوف
"بتعمل إيه؟!"
اقترب من أذنها، وقال بنبرة مليئة بالشوق والولع
"هاخدك جوه أوضتنا… وأقولك مين هو أحمد الشريف"
انطلقت ضحكاتها العذبة وهي تحرك ساقيها في الهواء، وصرخت بمرح
"نزلني بقى… خلاص أنا عارفاه وحافظاه!"
ابتسم بمكر، وقال وهو يزداد التصاقاً بها
"ما أنا واخدك أسمعلك اللي حفظتيه"
❈-❈-❈
دخل الغرفة وهو يحملها بين ذراعيه برفق وحنان العاشق الذي يخشى على محبوبته من نسمة هواء، ثم أنزلها على الأرض في هدوء مهيب، وكأنه يضع أثمن ما يملك في موضع الأمان.
وقف يحدّق حوله بدهشة، عيناه تتيهان بين الجدران كأنهما تبحثان عن سر خفي، فارتسم التعجب على ملامحها من تلك النظرات الغامضة التي أثارت فضولها.
"مالك يا حبيبي بتبص حواليك كده ليه؟"
أجابها وهو يشيح بعينيه هنا وهناك
"شايفة اللي أنا شايفه؟!"
رمقت المكان بنظرة سريعة، قبل أن تبتسم بسذاجة بريئة ممزوجة بالخشية
"شايفة إننا في أوضة النوم، ولا إنت شايف حاجة تانية؟!، أوعي يكون قصدك على اللهم احفظنا ويجعل كلامنا خفيف عليهم"
قهقه على عفويتها، وابتسم لبراءة خوفها، ثم فجأة مال نحوها وصاح بجنون بالقرب من أذنها
"إحنا أخيراً بقينا لوحدنا يا لولو"
ارتجفت كالعصفورة في قبضة ريح، وأخذت تلتقط أنفاسها بتسارع، ثم عاتبته
"على فكرة إنت خضتني، قلبي كان هايوقف، لا وكمان بتصرخ في ودني؟!، يعني كنت هاسمع بودن واحدة بسببك"
اقترب منها بحنان، وعانقها بقوة وهو يهمس
"حبيبتي سلامتك، مكنتش أقصد، ده أنا مقدرش أستحمل عليكي أي حاجة أبداً يا لولو"
ثم أردف بصوت هادئ تغشاه الرغبة
"تعرفي أنا نفسي في إيه؟"
"قول وعينيا ليك"
ابتعد قليلاً عن العناق، وأمسك وجهها بكفيه، يحدّق في عينيها كمن يبحث عن الخلاص
"نفسي تاخديني في حضنك… وتلعبيلي في شعري… وتحكيلي حدوتة زي اللي كنت بسمعك بتحكيها لحمزة عشان ينام"
كتمت ضحكتها، فقد رأت أمامها طفلاً يتجسّد في هيئة رجل شاب، فأمسكت بيديه وجذبته نحو الفراش، وقالت مداعبة
"بس كده؟، من عيوني وقلبي وروحي، أحلى حضن من ماما لحبيبها ميدو، وهاغنيلك كمان"
نظر إليها متفاجئاً، وأدرك أنها تمازحه فرفع حاجبيه يسألها
"إنتي بتتريئي صح؟"
ضحكت بخفة، وأجابته
"وهتريئ ليه يا حبيبي؟!، أنا بتكلم جد بس طريقتك هي اللي بتضحكني"
"تمام… استحملي بقى"
صعد على الفراش بخفة صبيانية، وانقض عليها يدغدغها بلا رحمة
"بقى إنتي بتضحكي عليا؟!، خدي… وخدي"
انفجرت ضحكاتها العالية، وهي تحاول الإفلات
"خلاص يا أحمد… كفاية ههههه… بالله عليك ههههه مش قادرة بجد… مش قادرة آخد نفسي من الضحك"
توقف أخيراً، وألقى جسده بجوارها يضحك على ما سببه لها، بينما هي استقامت تجلس، ويدها تخلع حجابها الذي تبعثر من الحركة.
ما لبث أن مد يده نحو مشبك شعرها، التقطه بخفة وألقاه جانباً، فانسدل شعرها كجدول من حرير على ظهرها.
"شعرك حلو أوي يا علا"
أخذ يمرر أصابعه بين خصلاتها الناعمة، ثم اعتدل ليجلس جوارها، يرفع الخصلات بين يديه كمن يلمس كنز ثمين، ويستنشقه بمتعة
"وريحته حلوة جداً"
انبلجت ابتسامة خجل على شفتيها، فحديثه ونبرته يجعلانها كفتاة صغيرة تسمع الغزل لأول مرة، فيرتجف قلبها وتضطرب مشاعرها.
سألته بصوت عذب متردد
"عاجبك شعري أوي كده؟"
استنشق عطره مرة أخرى بعمق، ثم قال وهو يغلق عينيه
"هو مش عاجبني وبس… ده أنا بحبه وبعشقه… وبعشق صاحبته... وكل حاجة فيها بعشقها"
واختتم كلماته بأن التقط شفتيها بين شفتيه في قبلة لم تكن مجرد التقاء فم بفم، بل نغمة عزفها قلبه على أوتار فؤادها.
تتابعت القبلات فتعانق الجسد بالجسد، عناق شوق وهيام، ولع ونار تيام.
نار أشعلت الحب في أفئدة العاشقين، حتى تلاشى العالم من حولهما.
كم أسعدها أنها وجدته بخير وأمان، وكم اطمأنت على حاله بعد عذاب الانتظار.
لقد أزالت عنه أثقال الهم كما يزيل عنها الآن كل جدار يفصلها عن دفء بشرته.
كان حبه يفيض غامراً روحها، حبً غامر يزداد رسوخاً مع مرور الأيام، حبً لا ينطفئ بل يتقد كلما ازدادت اللحظات قربً.
❈-❈-❈
في مكان مجهول... داخل غرفة يلفها صمت ثقيل، غير أن خيوط الشمس تسللت من خلال زجاج النافذة، وانسكبت على صفحة وجه تلك المراهقة الطائشة، فأزعجتها أشعتها المشرقة.
تململت بضيق وزفرت بملل، قالت بكسل دون أن تكلف جفنيها عناء الانفتاح
"اقفلي الستارة يا داده"
لكنها لم تلقَ استجابة، نفخت بحنق ومازالت أشعة الضوء تخترق عينيها حتى أجبرتها على فتحهما بصعوبة.
وما إن فعلت حتى اجتاح رأسها ألم مفاجئ، كأنه سياط تضرب صدغها بلا رحمة، وكان ذلك نتيجة ما ابتلعته بالأمس من كؤوس الخمر، وما دُس في جسدها من جرعة مخدر أُخذت عنوة.
هيهات! ، باغت ذاكرتها طوفان مشوش من صور الليلة الماضية؛ فمشاهد الملهى الليلي تتقطع وتعود، وصورة أفراد العصابة وهم يهاجمونهم تلوح في عقلها كسحابة مشروخة.
حاولت أن تنهض، لكن جمودها انعقد حين أدركت أنها عارية تماماً، لا يستر جسدها سوى دثار صيفي واهن.
وما كادت تستوعب صدمتها حتى وقعت عيناها على عمر الممدد بجوارها، عاري الجذع، تغطي بقية جسده نفس الغطاء.
صرخة حادة شقت السكون، فهزت أركان الغرفة، وأفزعته حتى فتح عينيه على ملامحها المذعورة.
حدّقت فيه برعب وذهول، كأنما تكتشف جريمة نكراء اقترفها بحقها، بينما الحقيقة أنّه لم يجنِ إلا على نفسه.
ارتبك، ونهض بفزع وتوتر، يمسك بالدثار محاولاً أن يدرك الموقف.
ابتلع ريقه وقال بصوتٍ مرتجف
"ممكن تهدي... أنا زيي زيك والله، بحاول أجمع إيه اللي حصل معانا إمبارح"
توقف لبرهة وهو يستحضر شظايا الأمس، فيما توقفت هي عن الصراخ، غير أن وجوده قربها بهذا الحال كان طعنة في كرامتها، بل مصيبة كبرى، كارثة تسقط فوق رأسها ورأس عائلتها.
بينما هو، فقد أدرك أن مأساة قد وقعت، و هذا المشهد قد اعتاده مراراً مع ضحاياه، فإنها ليست واحدة منهن؛ فهي الفتاة الوحيدة التي أحبها بصدق، ولم تطأ يده جسدها بأذى.
ارتجفت يداه وهو يحاول الاقتراب منها، لكنها انسحبت مذعورة، كأنها تحاكمه قبل أن يملك الدفاع عن نفسه.
بدا في عينيها متهماً بلا براءة، صرخت وصوتها يشق صدره كالخناجر
"ليه كده؟!، عملت فيا كده ليه؟!، إنت الوحيد اللي أمنتلك وحبيتك عن أي حد، حتى عن أهلي اللي ماحدش فيهم بيحبني، و إنت طلعت زيهم"
كانت كلماتها سكاكين تمزق قلبه، ولم يجرؤ أن يصارحها بحقيقته، أو أن يعترف بتورطه مع عصابة الاحتيال والابتزاز.
قال متوسلاً
"ممكن تديني فرصة أحكيلك، أنا والله ما لمستك...
قاطعته بعاصفة من الصراخ
"اخرس يا كداب، مش عايزة أسمع حاجة، اطلع بره... اطلع بره وإلا...
نهضت وهي تشد الدثار على جسدها، وتقدمت نحو النافذة مهددة
"وإلا هرمي نفسي من الشباك"
قال مستسلماً وهو يرفع يديه
"حاضر إهدي... أنا خارج و هاخد هدومي وهاطلع بره"
انحنى وجمع ثيابه المبعثرة على الأرض وهاتفه المطروح جوار السرير، وقبل أن يخطو خارج الغرفة التفت إليها قائلاً برجاء
"ممكن تلبسي هدومك بسرعة وتعالي نخرج من هنا... نقعد في أي مكان، وأنا هافهمك كل حاجة"
صرخت في وجهه بعنف
"اطلع بره... بره"
خرج مسرعاً لكنها لحقت به، دفعت الباب خلفه وأوصدته بإحكام.
ارتدت ثيابها على عجل، وهي تبكي بندم يفتت قلبها، تبحث بين أشيائها حتى وجدت حقيبتها وبداخلها هاتفها.
فتحت الباب بحذر، فوجدته في الردهة ينتظرها، رمقته بعينين تقدحان شرراً وقالت متوعدة
"إنت فاكر إني هصدق حوار البلطجية اللي طلعوا لنا في الطريق؟!، جايبلي ناس يمثلوا إنهم خطفونا عشان تجيبني هنا وتعمل اللي عملته فيا؟!"
اتسعت عيناه، وهز رأسه نافياً
"إنتي فاهمة غلط، أنا عمري ما كنت هعمل فيكي كده أبداً"
"مش عايزة أسمع ولا كلمة، أنا هانزل أروح أقدم فيك وفيهم بلاغ، وهاتصل ببابي يخليه يتصرف معاك بمعرفته"
وما إن مدت يدها إلى حقيبتها حتى جذبها من ذراعها، فصرخت وهي تنتزع يدها منه
"سيب شنطتي يا حيوان"
ركلته بكل ما تملك من قوة بين ساقيه، خشيت بعدها أن ينتقم منها، فركضت نحو باب الشقة لتجده موصداً من الخارج.
ارتجفت بخوف، فعادت إلى الغرفة وأغلقت بابها من الداخل.
بينما هو يتلوى من الألم، لكنه ظل يطرق الباب بقبضتيه صارخاً
"افتحي يا لوچي... ما تخافيش مش هأذيكي"
كان صوته الجهوري يزيد خوفها، فأخرجت هاتفها على عجل واتصلت بوالدها، لكن الخط كان مشغولاً، فهو لم يكلّ منذ الأمس من الاتصال بزوجته التي تمكث في بيت والدتها.
زفرت بصوت خافت
"بابي مشغول... أتصل بمين؟!"
ولم يخطر ببالها سوى شخص واحد، ضغطت رقمه وهي ترتجف، تنتظر رده بلهفة
"ألو، أونكل آسر، إلحقني بسرعة أنا مخطوفة"
كان آسر يتناول فطوره، فترك المائدة بغتة
"لوچي... بتتكلمي بجد ولا عاملة مقلب من مقالبك السخيفة؟!"
انفجرت في بكاء متقطع، فشعر بصدقها.
قالت متلعثمة بين شهقاتها
"أنا مخطوفة بجد، أنا خايفة و مستخبية منه، ألحقني يا أونكل هايكسر الباب عليا"
تدفقت الكلمات من فمها مسرعة، تتعثر مع أنفاسها المرتجفة.
فأجابها آسر بحزم
"خليكي مكانك، وحاولي تفتحي الداتا وتبعتيلي اللوكيشن اللي إنتي فيه، وأوعي تخرجي لحد ما أوصلك، خلي بالك من نفسك"
وقف طه أمام المرآة يُصلح من هيئته، يعدّل ربطة عنقه ويهندم سترته، كأنه فارس يستعد لمغادرة حصنه نحو معركة غامضة.
وبينما هو مأخوذ بانعكاس صورته، أتت زوجته من خلفه بخطوات هادئة، وقالت بصوت مفعم بالحنان
"كده شنطتك جاهزة يا حبيبي"
التفت إليها، وفي عينيه بريق امتنان، ثم أمسك يدها برفق وقبّلها قائلاً
"تسلم إيدك يا أحلى شوشو في الدنيا"
ارتسمت على شفتيها ابتسامة وسألته بنبرة مترددة
"معرفتش هتقعد قد إيه برضه؟"
أجابها وهو يشد على يدها بحنو
"قولتلك يا حبيبتي على حسب الشغل... وأنا هاكون على تواصل معاكي طول الوقت... عشان أطمن عليكي إنتي والولاد... ألا صح هم فين ماشفتهمش من وقت ما صحيت"
اجابت مبتسمة
"راحوا تمرين السباحة"
تنهد بأسى وهو يتمتم
"هايوحشوني حبايبي... سلميلي عليهم وقوليلهم هاجيب لهم هدايا... وأنتي كمان يا شوشو... هاجيبلك هدية"
هزّت رأسها بحب قائلة
"يا حبيبي، إنت عندي أغلى هدية... روح إنت وارجعلنا بالسلامة وخد بالك من نفسك"
ربّت على يدها بمحبة، لكنه فجأة توقف متأملاً مظهرها، وتعجب فسألها
"إيه ده يا شوشو؟"
ردت بسؤال مماثل
"فيه إيه يا حبيبي؟"
"لابسة روب ليه؟، ده الجو حر حتى"
ابتسمت بخفة وهي تشرح
"أصل بعيد عنك يا سي طه... لما قومت الفجر وصليت حسيت ببرد في عضم جسمي... أخدت دش ميه فاترة ولبست الروب... وشربت ينسون قولت شكله دور برد... وأنت عارف برد الصيف أرخم منه مفيش"
رمقها بقلقٍ شفيف وقال بتوجس
"ألف سلامة عليكي يا حبيبتي، خدي بالك من صحتك"
أجابته بضحكة عذبة تكاد تلامس أطراف أذنيها
"واخدة بالي منها أوي أوي... خد بالك إنت من نفسك الأول"
نظر إلى ساعته بجدية وقال
"طيب يا شوشو... مضطر أمشي عشان ما اتأخرش"
وعند باب الشقة، وقف لحظة يسترق النظر إليها كمن يودّع قطعة من روح
"هتوحشيني يا شوشو... هاتي تصبيرة عقبال ما أرجعلك"
اقترب ليقبّلها، لكنها أوقفت اندفاعه بلطف
"بلاش يا قلب شوشو... لتتعدي مني... بقولك عندي دور برد... خاف على نفسك وصحتك لتتعدي... وإنت محتاج صحتك للشغل"
ابتسم وهو يحك ذقنه بخفة
"عندك حق، يلا مع السلامة"
ردت وهي تودّعه بلهفة مكبوتة
"الله يسلمك"
خرج من الباب، فأغلقته خلفه برفق، ثم هرولت إلى الشرفة، وقفت تلوّح له بيدها حتى لمحته يركب سيارته وينطلق بعيداً، يذوب من مرآها شيئاً فشيئاً.
وما إن غاب عن ناظريها، حتى تحررت من قناعها؛ أسرعت إلى غرفتها، نزعت المعطف الثقيل الذي كانت تختبئ خلفه، لتكشف عن ثوب أنيق تحت سترته.
تناولت حجابها من فوق المشجب وارتدته على عجل، ثم أمسكت حقيبة صغيرة أعدّتها مسبقاً، وجمعت متعلقاتها.
دون تردد، غادرت المنزل بخطوات متسارعة، كمن يُلقي بنفسه في مغامرة لا رجعة فيها.
❈-❈-❈
وما إن خطت قدماها إلى الشارع، حتى لمحت سيارة أجرة متوقفة تنتظرها بصبر صامت، كأنها كانت تعلم موعد قدومها.
دخلت السيارة بسرعة، وأمرت السائق بلهجة حادة مختلطة بالارتباك
"اطلع يا سطا"
أخرجت هاتفها من حقيبة اليد الصغيرة، وأمعنت النظر في صورة كانت قد التقطتها من هاتف آخر قبل ساعات، فاسترجعت المشهد برجفة قلبية.
تذكرت حينها كيف استيقظت لصلاة الفجر وأدت فرضها بخشوع، ثم عادت إلى فراشها، لكن ضوء هاتف زوجها لفت انتباهها.
كان الضوء صامت بلا رنين، لكن صدى الخطر بدا واضحاً.
أمسكت الهاتف ووجدت رسائل مرسلة من اسم غامض يدعى «الشغل»، تلعثمت يداها حين ظهرت أمامها كلمات من الرسالة
«تيتو مش مصدقة نفسي إننا أخيراً هنبقى مع....»
حاولت فتح الهاتف عن طريق الرقم السري، لكن دون جدوى، فأمسكت باصبعه السبابة على موضع البصمة، فانفتح الهاتف على الفور.
تقلبت على جانبها في المقعد، وانخلع قلبها وجلاً، أعطت ظهرها لزوجها، وخفضت إضاءة الشاشة، ثم بدأت تقرأ رسائل الدردشة بين زوجها وبين الجارة الحسناء.
عودة إلى الحاضر... كانت الكلمات كالسهام، تخترق قلبها، تذكرها بخيانة لم تبدأ فعلياً لكنها بدأت بالنبض في قلبه، بالكلمات والهمسات.
لم تستطع منع دموعها، تبكي بحرقة على الثقة التي منحتها له بلا حدود، وهي تكتشف أنّه ليس أهلًا لهذه الثقة.
تذكرت ماضيه المؤلم، وما كان يمر به من صراعاته الداخلية، وكيف ترك نفسه لشهوات النفس والهوى، دون رادع.
لم يكتفِ بالنظر أو التفكير في أخرى، بل تجاوز حدود الخيانة إلى تبادل الأحاديث، والآن يخطو خطوة أخرى، يذهب إليها ليصبح الخيانة قولاً وفعلاً، وما كان خفياً أعظم وأعظم، يغلفه السر والخيبة في آن واحد.
❈-❈-❈
وصل آسر ومعه ثلاثة رجال ذوي بنية جسدية قوية، إلى المكان الذي حددته خريطة الموقع بدقة.
أخرج هاتفه واتصل، محاولاً التأكد من رقم العمارة والطابق.
"لوچي، أنا وصلت تقريبًا تحت البيت، بس معرفش أي عمارة بالظبط، كل العماير شبه بعضها.
، لو فيه بلكونة أو شباك في أوضتك بيطل على الشارع، شاوريلي منها"
أجابت بخفوت، حتى لا يسمعها عمر الذي يصرخ خارج الغرفة، ما زال يلح عليها
"اه فيه"
صوتها كان يختنق بالخوف، لكنها لم تهتم له، ورفعت يدها مُلوحة إلى أسفل، حيث وقف آسر، يترقب كل حركة منها.
"أنا هنا يا أونكل، بسرعة بالله عليك… أنا خايفة أوي"
أمرها بحزم
"خليكي زي ما إنتي، أنا طالع وأوعي تفتحي باب الأوضة غير لما أقولك، يلا بينا"
أنهى المكالمة، وأشار للرجال الثلاثة الذين كانوا خلفه
"خدوا بالكم أنا عايز الواد سليم من غير أي إصابات، وحرسوا ما يفلتش منكم، ورايا يا رجالة"
ردوا جميعًا بطاعة
"أمرك يا دكتور، اعتبره حصل"
وفي الأعلى، ما زال عمر يطرق الباب بعنف، غير مدرك أن المخدر الذي تم حقنه به بدأ يؤثر على قواه تدريجيًا.
"افتحي يا لوچي عشان خاطري، افتكري كل لحظة حلوة كانت بينا، لوچي"
توقف عن الطرق حين سمع صوت فتح باب الشقة من الخارج، ارتجف من الخوف، ليس على نفسه بل عليها، ظن أن أفراد العصابة عادوا من جديد
"أوعي تفتحي يا لوچي"
انفتح الباب على مصراعيه، فظهر آسر من بين الرجال الثلاثة، وارتسم على وجه عمر مزيج من الخوف والقلق.
"انتم مين؟"
اقترب آسر منه، تأمل ملامحه، ثم سأل بهدوء وقوة
"انت الواد اللي كنت معاها في العربية يوم فرح عمها؟"
ابتلع عمر ريقه، وأدرك أنه وقع في الفخ لا محالة
"حضرتك تبقي مين؟"
لكمه آسر على غفلة، لكمة أفقدته وعيه على الفور، فأشار إلى الرجال
"خدوه على المكان اللي قولتلكم عليه، وزي ما اتفقنا"
نفذوا أمره بسرعة وبدقة، وعندما تأكد من مغادرتهم، طرق الباب مرة أخرى
"لوچي افتحي، أنا آسر"
فتحت القفل، وما إن رأته، ارتمت على صدره، وانهارت بالبكاء.
تردد آسر في وضع يده عليها، غاضبًا منها، فقد أدرك جزء كبير من الأحداث لكنه لم يعلم بعد عن مؤامرة العصابة.
غلب شعور الأبوة داخله؛ اعتبرها كابنته وتخيل لو كانت كارما ابنته، فكيف سيكون شعوره في مثل هذا الموقف!
ربت عليها قائلاً
"ما تخافيش… أنا موجود معاكي، يلا نمشي من هنا"
وفي السيارة، قاد آسر وهو عاقد بين حاجبيه، سائلًا بجدية
"إيه اللي حصل وإزاي الواد ده خطفك؟"
حاولت تهدئة أنفاسها، وبدأت تحكي له كل ما جرى منذ أن ذهبت إلى الملهى الليلي برفقة عمر حتى اختطافهم، وصولًا إلى المشهد الذي استيقظت عليه وهي مفزوعة.
بعد أن أنهت سردها، أمسك آسر هاتفه قائلاً
"لازم باباكي يعرف اللي حصل ويقرر هنعمل إيه… نبلغ البوليس ولا نفهم إيه علاقة عمر بالعصابة وإيه اللي عملوه فيكي؟"
نظرت له بخوف، وأمسكت يده متوسلة
"بليز يا أونكل، ما تقولش لبابي حاجة… بابي ممكن يقتلني أو يعمل فيا زي ما عمل في مامي… أرجوك ما تقولهوش، أنا كنت هاكلمه و لاقيته مشغول و حمدت ربنا ماردش عليا"
تردد في الرد، فهي مسؤولية كبيرة، وكان لابد من التصرف بحكمة.
وجد لا حل سوى إرسال رسالة عاجلة إلى علياء، ليقررا معًا الخطوة التالية بحذر.
❈-❈-❈
انتهت لتوها من أداء صلاة الظهر، وهمّت بخلع حجابها، إذ بصوت جرس المنزل يرن بتقطع.
رفعت صوتها منادية مساعدتها
"معلشي يا أم بدوي افتحي الباب"
لكن لم تلتفت الأخرى، وما زال الجرس يزأر بإلحاح. خرجت أميرة، ووجهها يحمل مزيجًا من الفضول والتوتر، لتفتح الباب فوجدت أم بدوي جالسة أمام التلفاز، منكبة على نشرة أخبار بالفرنسية، عيونها تتبع كلمات الترجمة بلا اكتراث.
هزت رأسها بسأم، وفتحت الباب على مصراعيه، وإذا برحيم يقف أمامها في أبهى حُله، مرتديًا بدلة سوداء أنيقة، تناسبه وحده دون غيره.
في يده باقة من الورود الحمراء القانية، وفي الأخرى حقائب كبيرة.
ابتسم لها، وصوته ينساب كنسيم دافئ
"اتأخرت عليكي؟"
بادلته أميرة ابتسامة رقيقة، مليئة بالدفء
"مواعيدك مظبوطة يا دكتور"
دخل بخطوات واثقة، ومد يده محملاً بالحقائب
"خدي الحاجات دي… وقدامك نص ساعة تجهزي"
رفعت حاجبها، ساخرة قليلًا
"مش هاتقولي إحنا خارجين فين؟"
أجابها بلا تردد، وابتسامة مرحة ترتسم على وجهه
"هخطفك"
ضحكت بحرارة، تنساب كلماتها كأغنية فرحة
"ما أنت خاطفني من يوم ما شوفنا بعض في إسكندرية"
مد يده للإشارة على الوقت، صارمًا وودودًا معًا
"طب بطلي لماضة وروحي اجهزي، عشان ما نتأخرش"
أومأت برأسها، ثم نظرت صوب أم بدوي بحذر
"حاضر، هجهز عقبال ما تتفرج على النشرة الفرنسية اللي بتتفرج عليها أم بدوي، بس خد بالك منها، لتعملنا قفلة في الكهربا زي إمبارح، ويحصلها حاجة المرة دي"
ضحك متذكرً ما حدث الأمس بسخرية دافئة.
دخلت أميرة غرفتها لتجهز نفسها، بينما لوح رحيم للسيدة بيده مودعًا
"منورة يا أم بدوي"
انتبهت إليه، وأجابت بابتسامة هادئة
"بنورك يا دكتور"
وفي الداخل، أفرغت أميرة محتويات الحقائب على السرير، وعيناها تتسعان بانبهار، قلبها يرفرف أمام جمال ما تراه، غير مصدقة تفاصيل الروعة أمامها.
وفي الخارج، توجه رحيم إلى غرفة أخرى، مسك هاتفه، وبدأ في إجراء اتصال، صوته هادئ لكنه حازم، كمن يخطط لأمر بالغ الأهمية.
❈-❈-❈
وفي مكان آخر، كانت تجلس أمام حاسوبها، عيناها متسعتان على الشاشة، وأعصابها متوترة منذ زمن.
كل محاولة منها لنسيان أمر ضرتها، وسر بقائها على قيد الحياة، كانت تصطدم بما يذكرها بهذا الأمر بلا هوادة.
اهتز هاتفها بجوار الحاسوب، وارتسم على الشاشة اسم شخص لم تكن تتمنى رؤيته في هذه اللحظة.
نهضت متسلّحة بفضول خفي، وسحبت نفسها إلى الغرفة الصغيرة، فإذا بها تجد ابنة زوجها تلعب وتلهو بالأشياء الجديدة التي اشتراها لها والدها في نزهة الأمس، عيونها تلمع بالفرح البريء.
عادت إلى هاتفها، أمسكت به بإحكام، وقلم في يدها تضغط عليه لتبدد التوتر الذي تشعر به
"ألو، إزيك يا رحيم؟"
"الحمدلله، أخبارك إيه؟"
لاحظت نبرته الرسمية، فردت ببرود يحاول التغطية على خوفها
"الحمدلله بخير… فيه حاجة؟"
"أه… معلش لو عملتلك إزعاج، بس كنت بتصل عشان أقولك لو فاضية بعد ساعة، ابعتلك عنوان مكان خطوبتي أنا وأميرة"
وقع القلم من يدها، قلبها يخفق بعنف، والأمر أصبح حقيقة لا يمكن إنكارها.
حاولت المزاح لتخفف من صدمة قلبها
"بالسرعة دي؟"
"والفرح بعد أسبوع… هنتجوز وهاخدها ونسافر إنجلترا"
"ألف مبروك!"
همست، والفرحة الممزوجة بالصدمة تتصارع في صدرها.
"ألف مبروك دي تيجوا أنتي وأستاذ ياسين تقولوا ليا ولأميرة… ومعلش لو تديني رقمه أعزمه بنفسي"
انتفضت من حديثه، وكأن الكلمات صاعقة
"لاء... قصدي أنا هقوله… وبعدين أنا وهو مش محتاجين عزومة… إحنا أهل في الأول والأخر"
"أه طبعًا… تمام هابعتلكم دعوة الفرح… وهستناكم النهاردة تحضروا الخطوبة"
"إن شاء الله"
بعد تبادل السلامات، أنهت المكالمة وزفرت بقوة، يدق ضميرها ناقوس الخطر في رأسها، وصوت يتردد في مسامعها
«لازم تقولي لياسين ياسمين عايشة… لازم تقوليله إنها عايشة… عايشة»
صرخت، وهي تلقي بكل ما أمامها
"خلاص بقي… كفاية!"
وقفت تلتقط أنفاسها، فإذا باب الغرفة يفتح، وتخرج ابنة زوجها ممسكة بمربع أُحجية، اقتربت منها بكل براءة
"ممكن تركبي معايا قطع البازل دي؟، مش عارفة أعملها لوحدي"
نظرت لها زوجة أباها لثوان، تأملت ملامح الفتاة الصغيرة، فشعرت وكأنها ترى ياسمين أمامها، لا ابنتها.
زفرت بنفاد صبر، وأمرت الصغيرة بحدة
"ادخلي دلوقت ألعبي بأي حاجة تانية، أنا مش رايقة لك خالص"
رمقتها الصغيرة بانزعاج، والحزن يلمع في عينيها
"أنتي وبابي على طول مش فاضيين ليا… مامي لو كانت موجودة كانت زمانها لعبت معايا"
وفي هذه اللحظة، نفذ صبر زوجة الأب بالكامل، جذبت الصغيرة من ذراعها بعنف وصاحت في وجهها
"مش أنا قولتلك قبل كده تبطلي تجيبي سيرة مامتك قدامي!، كل شوية مامي، أنا عايزة مامي، قرفتوني أنتي وأبوكي بسيرتها، ما تنسوها بقي"
وحين أدركت قبضتها على ذراع الصغيرة، تركته سريعًا، وحاولت أن تتصنع نقيض ما كانت عليه للتو بصوت أخف
"سوري يا ياسمينا، أعصابي تعبانة، روحي كملي لعب، وأنا شوية كده و هاجي أركب معاكي البازل"
حدقتها الصغيرة بامتعاض وسخط، ثم ذهبت إلى غرفتها دون أن تتفوه بكلمة، وعينها وحدها كانت تحكي كل ما تشعر به من قهر وخذلان.
❈-❈-❈
انتهت للتو من فحص السيدة الحامل، وأصدرت تعليماتها لمساعدتها بصوت واثق
"خليهم يعملولي قهوة مظبوط ويجيبوهالي على مكتبي"
"تمام يا دكتور"
توجهت إلى غرفة الاستراحة، وجلست خلف مكتبها، أخرجت الهاتف وإذا بسيل من إشعارات المكالمات الواردة من زوجها يغمر الشاشة.
نظرت بضيق، وابتسمت ابتسامة مُرهقة ثم قالت في نفسها
"أنا بقي هريحك خالص مني يا يوسف… وأدي. البلوك... وريني هاتتصل عليا تاني إزاي!"
لم يهدأ قلبها طويلاً، إذ لاحظت إشعار رسالة واردة من آسر، محتواها كالسهم المخترق للهدوء
«علياء… تعالي على العنوان اللي هابعتهولك ضروري… لوچي في مصيبة ولازم تكوني موجودة»
أسفل الرسالة، كان العنوان مكتوب.
دون تردد، قامت بالاتصال به على الفور، بينما آسر عيونه تراقب ابنة صديقه، التي كانت في حالة صمت، غارقة في دهشة خفية.
أجاب علي الإتصال، وصوته ينضح بالإلحاح
"مش هعرف أحكيلك كل حاجة دلوقتي… معلشي تعالي على العنوان اللي بعتهولك ضروري… لوچي معايا… اطمني"
أومأت برأسها على الرغم من أنه لم يرها، وقالت بسرعة
"تمام… أنا جاية"
أنهت المكالمة، ودخلت الممرضة لتبلغها بأمر الحالات المنتظرة، فأجابتها علياء على عجل
"ألغي أي مواعيد النهارده، واعتذري لهم بالنيابة عني"
"حاضر يا دكتور"
أمسكت حقيبتها، وتحركت بخطوات واثقة نحو الباب، واندفعت سيارتها في الطريق، متجهة بسرعة نحو العنوان الذي أرسله لها آسر، قلبها يخفق بتوتر وحذر.
وفي المقابل في مكان آخر، كان زوجها يحتسي قهوته في هدوء، حتى لمحت عيناه إشعارًا على هاتفه.
ارتسمت على وجهه صدمة عندما أخبره الإشعار بأنها تحركت وغادرت مسارها المعتاد، لا عائدة إلى منزل والدتها ولا إلى القصر، بل اتجهت إلى مكان آخر مجهول.
فكر مليًا، محاولًا استيعاب السبب الذي جعلها تترك عملها فجأة، وتسلك هذا الطريق غير المتوقع.
ترك القدح، وانطلق مغادرًا القصر على الفور، عزم على اللحاق بها، مهما كلفه ذلك من جهد ووقت، حيثما تذهب.
❈-❈-❈
فتح آسر باب الشقة، وأشار للُوچي بحركة هادئة
"اتفضلي"
كانت واقفة بصعوبة، جسمها يرتجف كغصن رطب تهزه الرياح.
اقترب منها، مسك ذراعها برفق، ووضعه على رقبته لتتكئ عليه، كي لا تقع في غمرة ضعفها.
سألته بصوت وهن
"إحنا فين؟"
أجابها بهدوء وحزم، وهو ينظر إلى وجهها المتيبس بالتوتر
"في شقة أختي… هاتقعدي هنا لحد ما تيجي علياء، ونشوف هانعمل إيه"
حدّقت فيه بعينين متسعتين، قلبها يخفق بالقلق
"قولتلها ليه؟"
رد عليها متضايقًا، وكأن ضيق صدره لم يُخفيه
"لأنها أكتر واحدة بتحبك وبتخاف عليكي"
شهقت، وكأن الكلمات تقطعها، وقالت بصوت خافت محمّل بالمرارة
"أنا محدش بيحبني… محدش بيـ…
توقفت بسبب حالة الغثيان.التي داهمت معدتها، فافرغت كل ما في جوفها.
أخذها على الحمام، بينما هو توجه إلى حمام آخر، ليغسل قميصه الذي اتسخ خلال الأحداث المضطربة.
خرجت من الحمام بعد أن انتهت من غسل وجهها وفمها، استندت على الحائط، وارتجفت مرة أخرى حتى كادت أن تسقط.
ركض نحوها آسر، حملها برفق، وأدخلها إحدى الغرف، وضعها على الفراش بحذر، وتركها تهدأ، بينما انتظر في الخارج، حيث الردهة لحين وصول علياء.
❈-❈-❈
"مش هوصيكي يا أم بدوي… طول ما إحنا بره أوعي تيجي جمب الكهربا"
قالها رحيم، فرفعت الأخرى وجهها إليه، ووضعت يدها على أذنها مستفسرة
"بتقول إيه يا بني؟"
اقترب منها بالقرب من أذنها
"بقولك… أوعي تلعبي تاني في الكهربا"
نظرت إليه، وصوتها يمزج الجد بالمرح
"وإيه اللي هيخليني أتنطط على المصطبة؟، ده أنا صحتي على قدي، ورُكبي شايلاني بالعافية"
رفع رحيم بصره إلى الأعلى، وتنهد قائلاً
"صبرني يا رب"
ثم عاد إليها بالنظر إليها بنصف عين، وكأنها لا تسمعه
"شكلك بتسمعي أحسن مني وعمالة تمثلي علينا"
ردّت عليه بدهاء
"إن بعد الظن إثم يا دكتور"
"اديكي وقعتي بلسانك يا أم بدوي… طلعتي مش سهلة أنتي"
ردّت بخفة
"أنا يا بني؟!، ده أنا غلبانة وعيانة وصاحبة مرض"
كاد يرد بمزاح، لكنه تفاجأ بصوت فتح باب الغرفة، ورأي التي آسرت حواسه بالكامل.
خرجت أميرة، مرتدية ثوبًا من الدانتيل الأحمر القاني، مطابقًا للون باقة الأزهار، ينساب برقة على جسدها، يجعلها تبدو كالملكة.
حجابها بلون حبات السكر يضيف إلى طلتها صفاء ورقة.
شفتيها تزينهما حمرة وردية خفيفة، ولم تحتاج إلى أي مستحضرات أخرى، فجمالها الخلاب كان من صنع الخالق البديع.
انتابها خجل خفي وهي تراه متأملاً في ملامحها، نظراته تخترق قلبها، وتجعل نبضه يتسارع في صدرها.
تفوهت بصوت رقيق وعذب
"أنا جاهزة"
اقتربت أم بدوي منها، وعيناها تفيض بالفرح والدعاء
"اللهم صل وسلم عليك يا نبي… عيني عليكي باردة... ربنا يحميكي ويحفظك يا بنتي"
نظرت إليها أميرة بفرح وامتنان
"تسلمي يا أم بدوي"
ابتسمت الأخرى، مؤكدة
"أنتم الاتنين... اللهم بارك… ربنا يحرصكم… خدوا بالكم من نفسكم وخدوا معاكم المفتاح عشان لما ترجعوا ابقوا افتحوا… لأني ما بسمعش وأنا نايمة"
رد الاثنان بصوت واحد مازح
"ولا حتى وإنتي صاحية"
ابتسم رحيم لأميرة وضحكا الاثنان معًا، ثم فتح باب الشقة، حاملاً باقة الزهور
"اتفضلي"
مد يدَه لها، وقالها بود ونعومة
"سيدتي الجميلة"
وضعت يدها على ساعده، وانطلقا معًا خارج المنزل.
قلبها يتراقص من الفضول والحماس، ربما استنتجت المفاجأة، لكنها اختارت أن تستمتع بكل لحظة.
❈-❈-❈
وصلت علياء إلى العنوان المرسل إليها، وصعدت الدرج بخطوات متثاقلة، والقلق يعتصر قلبها كأنفاس عاصفة في ليلة شتوية باردة.
عند وصولها إلى الطابق المنشود، استقبلها آسر بنظرة متوترة، وما أن لمحته حتى ارتجفت أعصابها، سألته والهلع يختلط بقلق الأمومة في صوتها
"حصل إيه يا آسر؟، وفين لوچي؟"
أجاب محاولًا أن يطوّق التوتر بهدوء مصطنع
"تعالي اقعدي خدي نفسك الأول، واهدي خالص، لوچي بخير ومريحة جوه الأوضة، بس قبل ما تدخلي تشوفيها، لازم تعرفي كل اللي أنا عرفته… لأن فيه لعبة كبيرة حصلت وبتحصل وربنا يستر ما يكونش اللي في بالي صح"
همست علياء، وقد استقرت على مقعدها لكنها لم تستطع تهدئة دقات قلبها
"سمعاك"
بدأ يسرد لها أحداث سابقة، منذ اللحظة التي شاهد فيها عمر بصحبة لوچي في مرآب السيارات التابع للفندق الذي أُقيم فيه حفل زفاف شقيق زوجها، مرورًا بالاتصال الذي تلقاه من ابنة صديقه لإنقاذها، وانتهاء بكل ما كشف له عن مصير الأمس وما يحيط به من أسرار ومؤامرات.
نهضت علياء فجأة، وبدت على وجهها صدمة غائرة، وقالت بصوت يكاد يختنق من الندم
"أنا مش مستوعبة اللي أنت بتحكيهولي… بس دي غلطتي... ياريتني فضلت قريبة منها... وكنت لحقتها من قبل ما يحصل كل ده"
أخبرها الأخر بنبرة ملؤها التعاطف والحزم معًا
"بالعكس، أنتي كنتي بتحاولي على قد ما تقدري تعلميها الصح من الغلط، اللوم على يوسف نفسه، الأستاذ عمره ما قرب من بنته ولا فهم دماغها، هو مش عارف أصلاً يفهم نفسه، وشاطر يقعد يشك في اللي حواليه، لأ ومش لاقي حد يشك فيه غير أعز صاحب ليه، ومراته أكتر واحدة استحملته"
كانت علياء تائهة في وادي آخر من التفكير، والأفكار تتصارع في رأسها، حتى انتبهت فجأة إلى حديث آسر، وسألته بصوت خافت
"هي فين؟"
"دخلتها تاني أوضة على إيدك الشمال، قولتلها ترتاح لأنها كانت تعبانه جدًا وجابت كل اللي في بطنها… اللي خطفوهم أدولها حقنة مخدر غير كمية الخمرة اللي شربتها"
"معلش يا آسر، هطلب منك شوية حاجات تجيبها لي من الصيدلية وأنا داخلة أطمن عليها وهاتكلم معاها"
تركته وذهبت بخطوات سريعة، حتى فتحت باب الغرفة فوجدتها ممددة على الفراش في حالة يرثى لها، جسدها يرتعش كما لو أن الرياح الباردة قد غطت قلبها، وركضت نحوها واحتضنتها بقلب أم تتألم من أجل ابنتها.
فهي لم تلدها، لكنها ربَّتها منذ الصغر، حتى صارت فتاة مراهقة، هشة من الداخل، ضحية أفكار والدتها التي غرستها في عقلها، لتزرع شعورًا بأن والدها وزوجة أبيها لم يحبونها ولم يهتموا بها أبدًا.
❈-❈-❈
صف رحيم سيارته أمام بوابة النادي المطل على النيل، حيث زُيّنت البوابة بالزينة والبالونات، ووقف رجلان في استقبال العريس والعروس، يلوحان بابتسامة ودية تعكس بهجة المناسبة.
فتح رحيم لها باب السيارة، ومد يده برفق، فأمسكت بيده ونزلت، عيناها تتأملان هذا الاستقبال البهيّ، قلبها يرفرف بين رهبة المكان وبهجته.
رمقها رحيم بعينين مشرقَتين
"ألف مبروك يا حبيبتي"
ثم بسط يده لتقبيل يدها برقة، ووضعها على ساعده، وسارا معًا إلى الداخل.
عبرا جسر صغير يؤدي إلى داخل مركب فاخر، أُعد مسبقًا خصيصًا لهذا الحفل، حيث يزخر الفضاء بالألوان والأضواء الذهبية التي تعكس ضوء الشمس على مياه النيل الهادئة.
صعد كليهما الدرج المكسو بالسجاد الأحمر، تشعر بالرهبة والانبهار من هذا المشهد الرائع، وكل خطوة تكتنزها لحظة من السعادة المتوهجة.
وعندما وصلا إلى أعلى المركب، حيث منصة الحفل والطاولات المزدانة، ارتفعت الموسيقى تلقائيًا بمجرد حضورهما، معلنة بدء الاحتفال.
استقبلتهما السيدة رجاء بابتسامة مشرقة وعناق دافئ لابنها، قالت له بفرح يغمر قلبها
"ربنا يحميك ويحفظك، ألف مبروك يا حبيبي"
رد رحيم وهو يبتسم بحب وامتنان
"حبيبتي يا ماما، الله يبارك فيكي"
ثم نظرت رجاء إلي أميرة وقالت
"أنا عارفة أنك واخدة موقف مني، بس أنا في النهاية أم، وكل اللي يهمني سعادة ابني، وطول ما شايفاه مبسوط معاك عندي بالدنيا كلها… عشان كده يشرفني تكوني له زوجة على سنة الله ورسوله، وربنا يتمم لكم على خير يا حبيبتي"
اقتربت منها وقبّلت خدي أميرة وعانقتها بسعادة، نظرت أميرة إلى رحيم الذي غمز لها بمرح، فبادلت حماتها العناق قائلة
"الله يبارك في حضرتك"
"ناخد بقى اللقطة الحلوة دي للعروسة ومامت العريس"
كان صوت المصور الفوتوغرافي قطع اللحظة،
ألتقط عدة صور، صورة لأميرة ورجاء معًا، صورة لرجاء مع العروس، ثم صورة للثلاثة حيث وقفت رجاء بينهما.
وبعدها التقط صورًا للعروسين معًا، في أجواء مشحونة بالبهجة والفرح.
ثم أمسكت رجاء بيد أميرة وقالت لها
"تعالي لما أعرفك على خالة رحيم وجوزها وبنتها"
كانت شقيقتها تجلس حول الطاولة برفقة زوجها وابنتها، لتجنب أي شكوك تجاهها.
أشارت رجاء نحو شقيقتها لأميرة
أختي شاهيناز"
ردت أميرة بترحاب
"أهلاً وسهلاً بحضرتك"
مدت أميرة يدها لشقيقة حماتها، التي تردت أولاً في تقييمها بالنظر، ثم صافحتها بتكبر، ولاحظت أميرة ذلك.
ثم أضافت رجاء
"و مهاب بيه جوز أختي"
مد مهاب يده لأميرة قائلاً
"ألف مبروك يا آنسة أميرة"
ردت أميرة بابتسامة راقية
"الله يبارك في حضرتك"
أشارت رجاء إلى ابنة شقيقتها
"و بنت أختي رودينا"
ابتسمت أميرة وقالت
"دكتورة رودينا، طبعًا عارفاها اتقابلنا قبل كده أنا وهي ورحيم"
ابتسمت رودينا ابتسامة صفراء، وقالت ببرود
"ألف مبروك يا عروسة"
شعرت أميرة بإحساس غريب يتخلل صدرها، لكنها ردت بنقاء وصفاء نية
"الله يبارك فيكي"
جاء رحيم من خلفها، أمسك بيدها وسأل رودينا بمرح
"أومال أستاذ ياسين مجاش معاكي ليه؟"
ابتلعت رودينا ريقها بتوتر، وأخفَت شعورها خلف ابتسامة باهتة، وقالت
"معرفش يجي… بنته تعبانة واضطر يقعد معاها"
ردت أميرة بابتسامة رقيقة
"ألف سلامة عليها"
أجابتها رودينا
"الله يسلمك"
ابتعد رحيم قليلًا عن الطاولة، وقال لأميرة ممسكًا يدها
"عن إذنكم، ممكن أخد خطيبتي عشان ألبسها الشبكة؟"
تقدم رجل حاملاً صينية مزينة، عليها علبة مخملية سوداء مفتوحة، يظهر منها عقد رقيق من الألماس، وسوار، وخاتم الخطبة.
وضع رحيم العقد حول عنق أميرة المغطى بالحجاب، ثم السوار حول معصمها، وأخيرًا الخاتم في إصبعها، وسط أجواء من الفرح والسعادة التي ملأت المكان نورًا وبهجة.
❈-❈-❈
لاحظت رجاء رد فعل رودينا، وظنت أنها تشعر بالغيرة من خطيبة ابنها، و لا تعلم الكارثة الكبري التي تخفيها عن الجميع.
ابتسمت بفخر وقالت
"شوفتي يا شاهيناز، خطيبة ابني زي القمر وقمة الأدب والاحترام، ابني ابن حلال وربنا رزقه ببنت الحلال اللي تستاهله"
رمقت شاهيناز ابنتها من طرف عينيها، فيما شعرت رودينا بالاختناق والضيق، فاصطفت نفسها بعيدًا عن هذا الموقف، وجلست في ركن منعزل، كأنها غريبة في حضرة الحفل.
سألت شاهيناز شقيقتها بحذر
"و بنت الحلال فين أهلها؟، من وقت ما جينا، مفيش غيرنا إحنا أهل العريس"
أجابت رجاء بابتسامة دافئة، وذكاء يختلط بالحكمة و حيلة كاذبة
"ما هي وحيدة أهلها، وباباها كان رجل أعمال، ومامتها سيدة أعمال، كانوا عايشين بره وتوفوا، هي عايشة لوحدها، واتعرف عليها رحيم في إنجلترا، والتعارف قلب لحب، وأنتي عارفاني من نظرة واحدة بفهم اللي قدامي، واديكي شايفة الله أكبر عليهم، لايقين على بعض أوي"
لوت شاهيناز شفتيها جانبًا، وأخذت تبحث بعينيها عن ابنتها، بين طاولات الحفل وأضواء الزينة، بينما ارتفعت الموسيقى في أرجاء المكان، تعلن بداية مرحلة جديدة من الفرح والابتهاج.
أمسك رحيم يدين أميرة، التي وقفت بخجل، وطلبت منه برجاء
"بلاش رقص بالله عليك"
ضحك رحيم واخبرها
"وأنا كمان ما بعرفش أرقص، بس أنا فرحان أوي وعايز اتنطط… اتنططي معايا"
لم يمهلها التفكير طويلاً، فأخذ يرقص معها بحركات عشوائية وأضحكتها، رقصت معه علي الموسيقي، بينما المصور يوثق تلك اللحظات المضيئة، في صورة من السعادة والبهجة الصافية.
لاحظت أميرة ابتعاد رودينا عن دائرة الاحتفال، فتركت يد رحيم وذهبت إليها برقة
"قاعدة لوحدك ليه؟، تعالي شاركينا في جنان ابن خالتك"
ابتسمت رودينا رغماً عنها، فأمسكت أميرة بيدها وجذبتها إلى الساحة، فبدأ الثلاثة يرقصن معًا، كأن هذه اللحظة جاءت لتخفف عن رودينا همومها، ولتوقف ذهنها عن التشويش وضميرها عن التأنيب.
رقص الجميع تحت أضواء الحفل المتلألئة، وأضواء آلة التصوير التي التقطت لحظات الفرح الصافية، لتزين السعادة وجوه الحاضرين.
رغم هذا البهاء، ظل قلب أحدهم يحمل أسرارًا دفينة، لا يريد البوح بها، رغم تعدد الفرص أمامها، و مازالت لم تتعظ.
❈-❈-❈
كانت علياء تمسك يد لوجي بحنان وعطف، تداعب رأسها بحنو عميق، وتهمس في أذنها بصوت متردد يحمل بين ثناياه القلق والشفقة
"برضه مش عايزة تقولي مين عمر، وعمل فيكي إيه؟"
أجابتها لوجي بنظرة مثقلة بالألم والندم، وكأن قلبها يئن تحت وطأة ذنب اقترفته تجاه زوجة أبيها، وذاك عندما أقنعت والدها مرارًا بأن هناك علاقة بين آسر وعلياء.
"لو مش قادرة تتكلمي خلاص، بس عايزة أعرف منك حاجة بصراحة، وماتخافيش أنا جنبك ومش هاسيبك"
تنهدت بحرج واردفت، كأن كل كلماتها حُشرت في حلقها، ثم سألت بخجل خافت
"أنتي وعمر حصل ما بينكم حاجة؟"
لفت لوچي وجهها بعيدًا، ودموعها تلمع كحبات الندى على أوراق الصبح، ثم همست أخيرًا بصوت خافت، مليء بالحيرة والخوف
"معرفش… أنا صحيت ولاقيته جمبي، ولاقيت نفسي…
لم تتمكن من إكمال حديثها، فانفجرت بالبكاء الهستيري، إذ تسللت دموعها كجداول مياه جارية، حين دخل آسر الغرفة حاملاً كيس مليئ بمحتويات من الصيدلية.
عانقتها علياء على الفور، وصاحت بخوف
"آسر… جهزلي حقنة المهدأ بسرعة"
لم يتردد في تنفيذ ما طلبته، وأمرها
"امسكي دراعها كويس، وأنا هديهلها"
ثم غرز الإبرة، فبدأ بكاء لوجي يخفت تدريجيًا، حتى استقر على همسات متقطعة، فوضعتها علياء برفق على الفراش، وارتجف قلبها أمام حالتها المؤلمة.
"التواليت فين؟"
سألته وهي تحاول كتم دموعها، فأجابها
"في آخر الطرقة"
ركضت سريعًا إلى الحمام، وغرقت وجهها بمياه الصنبور، مسحت دموعها بيد مرتجفة، واضعة كفها على فمها حتى لا يسمع أحد أنينها.
وفي الوقت نفسه، دخل آسر الغرفة الخاصة بشقيقته وزوجها المتوفي، وبدأ يبحث في الخزانة عن قميص نظيف ليبدله عن القميص المتسخ من قيء ابنة صديقه.
وجد قميص مناسب، وهمّ بإغلاق أول زر، فإذا بصوت جرس المنزل يرن بعنف.
خرج على عجلة من أمره
"ده مين اللي بيخبط بالغباء ده؟!"
وما إن فتح الباب، حتى وجد يوسف ذاته واقفً أمامه، رمقه آسر بصدمة وهو يدرك عقلية صديقه المتهورة جيدًا.
"إيه يا صاحبي مالك مصدوم لما شوفتني؟!، مكنتش متوقع إن هاعرف بتتقابلوا امتي وفين؟!، مش دي برضه شقة أختك؟، المفروض هي سيبالك الشقة أمانة لحد ما ترجع من السفر، ماتعرفش إنك هتقلبها وكر لتقابل فيه عشيقتك الخاينة"
وفي نفس لحظة الحدث، ظهرت علياء وهي تجفف وجهها بالمنشفة، مرتدية قميصًا مفتوح أزراره العليا، بينما سترة البدلة النسائية التي كانت ترتديها ملقاة على الأريكة.
وقف آسر بقميص مفتوح أزراره أيضًا!
جالت عين يوسف في تلك التفاصيل، وضحك بسخرية
"أهلاً أهلاً… سبحان الله، طلعتي على سيرتك"
وبخه آسر بغضب
"وطي صوتك يا يوسف وعيب اللي بتقوله، أنت مش فاهم حاجة، ادخل وأنا هافهمك كل حاجة"
"هتفهمني إيه؟!، كل حاجة واضحة، الهانم ما صدقت تعملها خناقة معايا وتغضب، وبكدة تبقى خدت حريتها وتقدروا تتقابلوا براحتكم"
صاحت علياء، وقد امتلأ صدرها بالغضب والصدمة من اتهاماته الباطلة
"أنت أغبى واحد شوفته في حياتي، وندمانة على اليوم اللي رجعتلك فيه بعد ما كنت بتتحايل عليا عشان أسامحك وأوافق تتجوزني"
اقترب يوسف منها بعينيه التي تقذف الشر كالشرر المتطاير
"ما أنا فعلاً غبي، ها… أنا غبي!"
وفجأة، وجه لها صفعة قوية أطاحت بها على الأرض.
لم يستطع آسر تحمل ما فعله صديقه، فاندفع نحوه ولكمه قائلاً
"ماتمدش إيدك عليها يا حيوان"
وبالرغم من إصابة يوسف والخدش الذي في وجهه، لم يُظهر ألمًا، و رد الضرب لصديقه
"وأنت مالك يا و…، ولا عشان الو… تبقى عشيقتك؟!"
زمجر آسر بغضب، وسدد العديد من الضربات ليوسف حتى ساد التفوق لآسر.
ابتعد يوسف فجأة، وأخرج مسدسه من خلف ظهره، وأطلق رصاصة في الهواء.
صرخت علياء، واضعة كفيها على أذنيها، تهز رأسها باستنكار، وكأن عينيها ترفضان تصديق ما تراه.
صاح آسر وهو يلتقط أنفاسه
"نزل المسدس يا غبي… والله لهتندم على كل كلمة وفعل قولته وعملته يا يوسف"
رمقه الأخر بازدراء، وحدق علياء بنفس نظرات الازدراء و الاشمئزاز قائلاً
"وأنا مش هلوث إيدي بدمكم القذر، ومش هودي نفسي في داهية عشان واحد و… زيك، ولا واحدة و… وقذرة زيها، ولا حتى هي تستاهل تكون على ذمتي ثانية واحدة"
ثم نظر لها بازدراء من أسفل إلي أعلي، وألقي عليها قوله الذي كان كالرصاص القاتل
"أنتي طالق"