رواية للهوى رأي اخر الفصل العشرون
طوال الطريق لم يكن هناك الكثير من الأحاديث، مسدت على فستانها الأزرق الذي يصل لبعد ركبتها، ومن أسفله جوارب سوداء ثقيلة، وتركّت شعرها منسدلًا للخلف، وقد أبدى موسى استحسانه لها.
التفتت إليه وكان تركيزه منصبًا على الطريق أمامه، تخلى عن ملابسه الرسمية اليوم، فقط قميص وبنطال مما أعطاه مظهرًا أقل سنًا من عمره، رغم بعض الشعيرات الفضية على جانبيه إلا أنها تزيد من جاذبيته، وعينيه القاتمتان اللتان تشعان ذكاءً ودفئًا، أصدرت منها تنهيدة خافتة، انتبه إليها موسى وألقى عليها نظرة ثم عاد للطريق قائلاً:
_ متشكر يا دهب
أولت اهتمامها متسائلة:
_ على إيه؟
_ إنك وافقتي، والدتي كانت متحمسة جدًا العزومة دي، رغم أنها كانت مترددة تقبلها، لكن سفر أخوها اضطرها تقبل، خصوصًا أنهم حابين يتعرفوا عليكي، وبصراحة ماكنتش عارف أقولها إيه لما رفضتي
_ كنت هاتجبرني أروح؟؟
_ عمري ما هاجبرك على حاجة يا دهب
قالت بخفوت: وانا فعلا ماكنتش عايزة أروح، بس ماحبتش أحـرج والدتك
أومأ برأسه دون أن يجيبها، وقد أصبح على مشارف المنزل.
فتح لها باب السيارة ومد لها يده، وضعت يدها في كفه وسارت بجانبه للداخل.
.....................
وضعت هاتفها جانبًا، واتجهت للنافذة وبحرص ألا يشاهدها، رأت ياسين مستندًا على سيارته قبالة شرفتها، منتظر خروجها كعادتها بعدما تلقت رسالة منه أنه بالأسفل، فكانت ستجري إليه متناسية كل شيء خلف ظهرها.
لكنها الآن لم تفعل، ولا رغبة لها في ذلك، رغم أن قلبها يحثها على الاستماع إليه، لكن عقلها يأبى أن تعود وتستمر في ذلك الدور الضعيف والمذل.
عينيه لا تنزل من على شرفتها وهي تراه من شق موارب خلف الستار، تنهدت مبتعدة للخلف، أحاطت وسادتها بين ذراعيها تستمد منها بعض الدفء، لعله يصل إلى روحها الخاوية ويمدها ببعض الحياة.
لكن النوم جافاها حتى طلوع الصباح، وبمكوثها بالمنزل ستسوء حالتها النفسية أكثر، لذلك قررت الذهاب للشركة، ارتدت أسيل ملابسها وكادت تلمم شعرها من الخلف لكنها تذكرت أنه قال لها يومًا إنه يحبه مربوطًا من الخلف، لذلك وعكس ما كانت تفعل تركته حرًا طليقًا منسابًا على ظهرها، أخذت حقيبتها ومرت من البوابة متجهة لسيارتها المصطفة أمام القصر من الأمس، توقفت مكانها وتخشبت عندما وجدته في مكانه منذ أمس، قررت تجاوزه لكنه وقف أمامها قائلاً ياسين:
_ أسيل ممكن نتكلم
_ عندي شغل
قالتها أسيل وهي تفتح باب سيارته الذي أغلقه قبل أن تدخل، فأضاف هو بصوت أقرب للتوسل:
_ أنا عارف إني غلطان، لكن محتاج بس تسمعيني
واجهته بجمود وقالت:
_ ها تقول إيه يا ياسين، عندك تبرير الخيانة؟
بحزن وندم حقيقي قال:
_ ماعنديش ومش عايز أبرر لأني فعلاً غلطان، لكن
_ من غير "لكن" يا ياسين، موضوعنا صفحته قفلتها
وضع يده على باب السيارة مانعًا إياها من الصعود هاتفا بقوة:
_ أنا مقدر زعلك وخدي كل الوقت اللي عايزاه، وأنا مش هبطل أطلب السماح، لكن الفراق لا يا أسيل
ابتسمت بمرارة ويأس:
_ النهاية انت اللي كنت بتكتبها كل مرة بقلم رصاص، وأنا علشان غبية أمسحها وأقول أديه كمان فرصة، ممكن يتغير، لكنك مش بتتغير، لحد ما خلاص اللي شوفته صعب وده طبع فيك مش هاستني أدخل بيتنا ألاقيك مع واحدة في سريري، أنا مابقاش عندي ثقة في أي حاجة
التلمعت عينيه، بينما بدأ حصونها في الانهيار وتقـاوم ألا يتغلب قلبها الخائن الآن.
_ أنا مش هاقدر أعيش من غيرك
_ هاتعيش، الشلة هاتلاقيم زي ما هما، مع إنهم كلهم مش صحاب، ومنهم اللي كان بيحذرني منك قال عامل خايف عليك وعايز مصلحتي، لكنه بيكرهك شوف الكره في عينيه كل ما تيجي سيرتك، دول مستنقع وكتير حذرتك منهم، لكن انت كان عاجبك الجو بتاعهم، روحلهم هاتلاقيهم زي ما هما
عيناه ترجوها فخفضت عينها عنه بهروب وأزاحت يده عن الباب، لكنه تمسك بها كطفل بأمه، سحبت يدها منه ببطء ودخلت سيارتها، ثم نظر قليلاً ليده الخالية من يدها، وفعل هو الآخر وتحرك بسيارته لفعل شيء ما لو كان فعله من البداية لما وصل لهنا.
ولأن سهراتهم تستمر لوقت طويل حتى ساعات الصباح الأولى، كانوا غارقين في سكرهم، تائهين في جنونهم وغيابهم عن الواقع.
تلقى آسر لكمة مفاجئة، وقبل أن يستدير ليعرف هوية صاحبها، تلقى الأخرى، صرخ آسر شاتمًا بانفعال، وتعالت الهمهمات من حولهم بين مهتم ولا مبالي، دفع آسر ياسين من صدره بعنف، بينما مسكه ياسين من قميصه هادرًا به:
_ عجبك اللي حصل، استفادت إيه، عمرها ما هاتبص لواحد زيك
مسح آسر الدم من شفتيه النازفة مقابل ياسين الغاضب والتي برزت عروق رقبته من شدته:
_ إنها مابقاتش مع واحد زيك، هو انت فاكر انت أحسن مني بالعكس أنا اللي أحسن منك وانت اللي خايب
دفعه ياسين بعيدًا، بينما أكمل آسر بلهجة ساخرة متشفية:
_ كانت معاك واحدة عمرك ما هاتلاقي زيها، كنت بتسيبها وتيجي تسهر وسط بنات &&، أنا اللي كلمتها تيجي تشوفك وانت مع دلال، تشوف وشك الحقيقي، كنت فرحان لمّت البنات حواليك وهي
كانت خسارة فيك
أدرك ياسين حجم سواد آسر منه، فتساءل بترقب:
_ دلال كانت مقصده؟
_ دلال كانت طعم وانت أكلته مش ذنبي إنك رمرام
احتقن ياسين وجهه غضبًا وغيظًا، فهتف آسر بسخرية:
_ كان ممكن ترفضها وتبعدها، لكن كان عاجبك اللي بتعمله
_ كنت شارب وماكنتش بعمل حاجة
_ وده كان الوقت المناسب إنك تكون شارب، ودلال قامت بالواجب، أسيل عارفة نزواتك لكن تشوفك بعنيها حاجة تانية
ثم أرسل له قبلة في الهواء وبشماتة هتف:
_ تعيش وتاخد غيرها
هجم عليه ياسين وتوالى عليه بالصفعات واللكمات مع السباب المستمر، وجنونه من فخ وقع به، وعلى إثره خسر أسيل ربما للأبد، وحاول آسر أيضًا الدفاع عن نفسه رغم ترنحه أثر الشرب، فأخذ كوب زجاجي على الطاولة وبقوة ضربه في رأس ياسين الذي ترنح في وقته وشعر بالسائل الساخن على عينيه وكانت دماؤه، فمال الأمام بينما الدوار يزداد حتى غاب عن الوعي.
......
انتبهت فيروز لطرق الباب ودخول الخادمة، وبيدها حقيبة كبيرة وضعتها على طرف الفراش بحرص، أمام عيني فيروز، فقالت الخادمة:
_ قاسم باشا بعت الشنطة دي، وبيقول لحضرتك البسي اللي يعجبك منها ومسموح لك تخرجي بره الغرفة لو تحبي
ارتفع حاجبها باستغراب، ثم تابعت الخادمة وهي تغادر الغرفة وتغلق الباب خلفها بهدوء، ثم عادت بنظرها للحقيبة. هل ستمكث هنا للأبد تحت رحمته ومزاجه المتقلب؟ وحيرتها من تغير أسلوبه معها عما كان في بداية علاقتهم، هل ندم؟ هل أدرك حقيقة الافتراء؟
لكن متى وكيف ومن أرسل له تلك الصور وورقة الزواج؟
ربما تكون نازلي بسبب وقوف كمال وأسيل معها، أو مروة، ولكن كيف ستصل إلى قاسم؟ وهل سيصل بها حقدها لهذه الدرجة؟
وماذا تفعل هي معه؟ تخضع له وتنسى إهانته وضربه لها وكلماته التي سقطت على قلبها بقوة، لكن الأمان، فهي لم تعد تشعر معه بالأمان وخائفة طوال الوقت من ردة فعله غير المتوقعة، أم تتحرر لأول مرة من ثوب الضعف والخوف وتطلب أن تحيا بكرامة مصانة؟
لم تتعاف بعد من صدمتها به وهو يطلب منها أن تعيش معه وتقبل وجوده كأمر مسلم به. جنون كل ما يحدث ضرب من الجنون: أن تحيا هنا معه وكأن لم يحدث شيء يُذكر.
خرجت من الغرفة مندفعه، ووقفت في الممر الطويل تتلفت باحثة عن الدرج، ترى لأول مرة سجنها خارج حدود الغرفة، نزلت السلالم الرخامية المغطاة بالسجاد الأحمر المخملي، وقفت في وسط البهو الواسع، والكثير من الصور والإطارات والنجف الكريستال المتدلي بفخامة، في تناسق مع الأثاث الثمين والسجاد الفخم. تاهت فيروز وسط كل ذلك الثراء الذي تشاهده لأول مرة، والذي جعله إنسانًا صاحب سطوة على الناس بجبروت.
بحيرة نظرت إلى الأبواب من حولها بتيه، وجدت الخادمة فسألتها:
_ فين قاسم؟
أجابتها الخادمة مشيرة إلى إحدى الغرف:
_ قاسم باشا في مكتبه، الغرفة اللي هناك دي يا هانم، لكنه أمر ماحدش يخبط عليه دلوقتي
تجاهلتها فيروز واتجهت لغرفة المكتب دون أن تطرق الباب، فتحته على مصراعيه ووقفت مكانها تنظر لمكانه خلف المكتب الأنيق. رفع عينيه إليها قاضبًا جبينه لأول مرة، لكنه لم يبصرها، انتظر بهدوء ما أتت لأجله والذي يظهر من ملامحها أنها غاضبة.
كان يشبه الملوك بجلسته، وكأن كلمات السيطرة والتحكم والكبرياء خلقت ليكون هو، كأن هيئته الرجولية وعينيه بلون الزمرد الجذابة، كالنور يجذب الفراشات إليها، فا تدرك الفراشة أنها نيران لكن بعد أن تحرقها.
_ انت عايز توصل لإيه يا قاسم؟
باستغراب تساءلت:
_ يعني إيه؟
مسكت رأسها بانفعال وهدفت:
_ باعتلي شنطة هدوم ليه، قصدك إيه بكده؟ إني هافضل في سجنك طول عمري على ذنب أنا ماعملتوش؟
_ أنا عارف إنك ماعملتوش
أومأت برأسها بإدراك معذب:
_ ولما انت عارف إنك ظلمتني، سبني لحالي
استقام قاسم واتجه إليها، حتى صار أمامها وبخفوت قال:
_ ماقدرش أسيبك يا فيروز
صرخت به وقد شعرت بأنها على حافة الجنون:
_ يعني إيه، انت مجنون؟
مسكها من ذراعيها ويصرخ قبالتها:
_ لو مجنون فانا مجنون بيكي، مش هتخرجي من هنا لأني عارف لو خرجتي مش راجعة
_ أيوة مش راجعة، ازاي أرجع لقسوتك وحبروتك تاني؟ لو جاتلي فرصة الهروب مش هاتردد لحظة إني أعملها
_ ده لو جاتلك
تأوهت بعذاب وحزن واختناق:
_ عايز مني إيه؟
_ سامحيني
أغمضت عينيها ومازال ممسكًا بذراعيه بكفيه:
_ قولي إزاي وانت بتعمل فيا كده؟
_ مش قدامي حل تاني
_ لو كنت لسه في نظرك خاينة كنت هاتفضل تعذب وتجرح فيا
انحنى حاجباه بألم وبصوت مختنق قال:
_ أنا كنت بتعذب أكتر منك، أنا كنت مدبوح، انتي البنت الوحيدة اللي دخلت قلبي، انتي اللي لأول مرة أرسم مستقبل ليا كان معاها، أنا كنت مستني أرجع من سفري بسرعة وأكلم كمال ونتجوز علشان ما تبعديش عني أبدًا، أنا هدّيت الدنيا على دماغهم ووكل أذي سببوه ليكي هاخدك حقك منهم
باستغراب وخيرة تساءلت فيروز:
_ هما مين؟
_ جوز أمك وعياله، هما اللي وراه اللي حصل وبعتولي الصور
أغمضت عينيها بألم وهمست له بتعب:
_ أنا اتعودت على أذاهم ومش فارق معايا بيعملوا إيه، أذاك انت اللي واجعني يا قاسم، قلبي واجعني منك أوي ولسه بيوجعني
ضم قاسم شفتيه بأسف على ما وصلها إليه، حررها ببطء من يده، فركضت من أمامه ثم تنهد بثقل على قلبه كل ما يزداد.