رواية للهوى رأي اخر الفصل الواحد والعشرون 21 بقلم سارة حسن


 رواية للهوى رأي اخر الفصل الواحد والعشرون

علي مائدة طويلة تحتوي علي ما لذّ وطاب، كانوا عليها شقيق رقية وزوجته والسيدة رقية ودهب وبجانبها موسى.
الأجواء باردة وخانقة، وتلك المرأة زوجة شقيق رقية، تنظر لها بتفحص مستفز وابتسامتها غير مألوفة، عكس زوجها الذي رحب بها بود واحترام، انتبهت لصوت السيد عبد العزيز يقول:
_ نورت يا موسى، أخيرًا شوفناك، يعني لو ماكنتش العزومة علي شرف زواجك المفاجئ ماكنتش جيت وشوفت خالك
أجابه موسى بهدوء:
_ أنت عارف الشغل اللي ما بيخلصش
قال بابتسامة وتطلع إلي دهب:
_ موسى ده عليه ذكاء، صبر صبر وفي الآخر أخذ الجمال كله لوحده
ابتسمت له دهب شاكرة، بينما قال موسى محذرًا بأدب:
_ إيه يا خالي وأنا شفاف ولا حاجة

ضحكت رقية قائلة:
_ مش معقول يا موسى، هاتغير من خالك

قال عبد العزيز بضحك:
_ سبّيه يا ستي، تلاقيه خايف أغطي عليه

كان صوت زوجة عبد العزيز بعد أن مرت بعينيها علي دهب كليًا:
_ بلاش أوفرة يا موسى، عرفنا إن دهب كانت بتشتغل وأكيد كان في تعاملاتها بتقابل رجالة كتير

نظرت لها دهب باستغراب ثم إلي موسى بنظراته الحادة إليها، لفت سوزان وجهها عنه، فتدخلت رقية مغيرة الحديث:
_ أمال فين لميس يا سوزان
أجابتها وهي تنظر إلي دهب بعداء:
_ في أوضتها، اعتذرت عن الحضور، أصلها مش بتحب الاختلاط مع الأغراب ما انتي عارفة

ارتفع أحدي حاجبي دهب، وظهر علي جانب شفتيها بسمة ساخرة، التفتت إلي موسى الذي ترك طعامه واستند به الاثنين علي المائدة وظهرت أمارات الضيق عليه، تغيرت الأجواء فجأة، أصبحت خانقة لها وباردة.

بدد عبد العزيز الصمت وقال بلطف:
_ عايزين نشيل ولادك يا موسى، عايز أبقي أجدد، أنت عارف أنت ابني مش ابن أختي

ارتبكت دهب ولم تظهر ذلك، خصوصًا أمام عينين سوزان المرتكزة عليها، لكن ما جعلها تنتفض داخليًا صوت موسى الواثق:
_ قريب إن شاء الله يا خالي
كادت بسمة تخونها بالظهور، لكن صوت كامليا المستفز:
_ بلاش الاستعجال يا موسى، الأحسن تشوفوا هاتكملوا ولا لا، فيه اختلافات كتير مش بتظهر غير بعد الجواز، خصوصًا إن الاختلاف ظاهر للأعمى

حدجها عبد العزيز بنظرة تحذيرية، كاد أن يهتف بها موسى معنفها، لكن استبقته دهب وهي تضغط علي يده وعينيها اتجاه سوزان، تتطلع لها بقوة وكبرياء وصوتًا خرج كالناقوس:
_ سوزان هانم، ملاحظة نبرتك العدائية لي من أول ما جيت، وما تفكرش إن فيه سابق معرفة بينا للعداء ده، لكن أكيد مش صح إنك تظهريه لي في أول مقابلة مع امتناع بنتك أنها تحضر، واللي سبق وعرفت خبر انفصالها من لحظات، فتلَيقائيًا حضر تفكيري إنك حابة تعوضي جوازاتها الخاسرة بموسى، وشايفة جوازه مني خطوة ما عملتيش حسابها، وتتمني إنها ما تكملش، خسارة ما فكرتيش إنك قبل ما تهنيني إنك بتهيني نفسك

حديثها صدم الجميع بحقيقته، وحتى قبل زواجها كان موسى في موضع العريس المناسب، لكن عندما رأت أن انتظارها بغير فائدة، تزوجت ولم تستمر الزيجة كثيرًا وأثمرت عن فشلها.
هبّت سوزان واقفة بعنف هاتفة بها:
_ إزاي تسمحي لنفسك تكلمين كده، أنتي فاكرة نفسك إيه
_ سوزان هانم
هدر بها موسى بصوت أصدر صداه من قوته قائلاً: بحذرك تتطاولي علي مراتي
لوحت سوزان بيدها حارة:
_ إزاي تتجرأ و

قاطعها وهو يجذب دهب من يدها بكفه وبعينين حادتين وصوتًا لا يقبل الجدال:
_ كرامة مراتي من كرامتي، واللي حصل من بداية القاعدة كنت بحاول أتخطاه، لكن كرامة حرم موسى رشيد لا تمس
نظرت له دهب، قابضه جبينها، تكتشفه للمرة التي لا تعرف عددها، تلك الملامح الوسيمة منفعلة الآن لأجلها، لم تجد من يدافع عنها يومًا، حتى إنها اليوم تصرفت كعادتها، أن ترد الإساءة ولا تصمت، وحتى هذه لم يدعها تقوم بها بمفردها.
انتبهت علي تحركه ويدها ما زالت بيده خارجين من الفيلا، ومن خلفهم صوت السيدة رقية المعاتب لهم مع اعتذار أخيها، ولم يقف موسى ليستمع لأحد، وصل لسيارته وركبت دهب، ومن بعدها موسى عائدين للقصر.
.......
هواء الفجر البارد المنعش يضرب وجهها، بعد ما أدت صلاتها فتحت الشرفة الواسعة على الحديقة الأكثر من رائعة والتي تراها لأول مرة، أخذت نفسًا عميقًا من تلك النسمات المحملة برائحة الزهور المختلفة، استندت فيروز بيديها على السور، ثم ببطء تسلقت وجلست عليه بحذر، كان السور عريضًا فكانت جالسة متمسكة بالعمود بجانبها، وتؤرجح قدميها لأسفل مستمتعة بلحظات فريدة مع نفسها، تشعرها بقليل من الحرية.
على غير عادته رغم أن قاسم يستيقظ مبكرًا إلا أنه كان يخرج دون أن يتلقي بها، لكنه قرر رؤيتها قبل ذهابه، توقف أمام غرفتها ولم يستمع لأي صوت، لا يريد أي مواجهة أو مشاحنات بينهما، فقط يريد رؤيتها ويذهب.
فتح بابها وقابل فراشها الخالي منها، اتجه للمرحاض واستمع لأي صوت يصدر منه ولم يجد، ففتحها ببطء فوجدها خالية، توجس وتسلل القلق إليه، ثم انتبه لأبواب الشرفة المفتوحتين والستائر تتطاير من حولها، وخيال فيروز الجالسة على السور، تجمد مكانه وهربت الدماء من عروقه، حتى أن عقله توقف عن العمل.

هل تنوي فيروز الانتحار؟
لو سقطت ستموت على الفور، السلالم الرخامية الداخلية للقصر من أسفلها مباشرة، ابتلع ريقه بصعوبة وببطء وبحذر اقترب منها ثم بلحظة أو أقل كانت فيروز محاطة بين ذراعيه مع صرخة خائفة صدرت منها من رؤيته المفاجأة، كان متشبثًا بها بقوة رغم أنها دخلت الشرفة وأصبحت بأمان بين يديه، وهي متخشبة مكانها لم تستوعب فعلته بعد، فحاولت أن تبعده عنها ونجحت عندما خرجت من صدره وقابلها وجهه العاصف بغضب، توحست خيفة وعادت للوراء وانتفضت لصرخته بها:
_ فاكرة نفسك بتعملي إيه
تلعثمت الحروف على لسانها ولم تجد ما تقوله أمام وجهه المرعب، فصاح قاسم بصوت جهوري مرة أخرى:

_ لو بتعملي كده علشان أسيبك خوف منك، فأنتي غلطانة، اللي بتضريني أعمالك كأنك في سجن
ثم جذبها من يدها بقوة الداخل، وأغلق باب الشرفة بقوة حتى كاد يحطم زجاجها، ثم دفعها الحائط بقوة شديدة فأتوهت فيروز وكتمت ألمها بخوف، ثم أشار لها محذرًا:
_ البلكونة دي هاتتقفل بقفل ومش هاتفتحيها تاني
اتسعت عينيها وشحب وجهها أكثر وبخفوت شديد وهي تمسح بيدها السليمة على كتفها الذي يؤلمها:
_ أنا ماكنتش ها نتحر
_ مش هاسمحلك يا فيروز
انسابت عبراتها وبكت بقهر:
_ ماكنتش ها نتحر والله، بلاش تقفلها أنا كده فعلا هاموت
أحاطها من ذراعيه ضاغطًا على كتفها بانفعال مازال مسيطرًا عليه:
_ حتى الموت مش هاسمحلك بيه
بكت بألم ويأس، فارفع يده ومسّ على كتفها فأغمضت عينيها بوجع، بحذر أزاح جزء من كتفها فقابلته تلك الكدمة الحمراء والتي على وشك أن تصبح كدمة زرقاء، قبض جبينها ومسح على وجهه بيديه الاثنين، وكل الأمور تتسرب من يده، وتزداد سوء أكثر بينهما.
برفق جذبها وجلست على الأريكة باستسلام، غاب عنها للحظات وعاد جالسًا بجانبها، ثم شعرت ببرودة على كتفها وبطرف عينيها رأت قطعة قماش باردة ثم سحبها وبِلطف كان يضع إحدى المرطبات، عادت برأسها للخلف مستندة على الحائط من خلفها وبهمس التقطته أذنيه:
_ ماكنتش ها نتحر
رفع عينيه إليها بتشدّد وقال:
_ أنا مش هاسمحلك
أغمضت عينيها للحظات وبيأس همست:
_ كده مش هانستريح أبدًا
_ عايزة تبعدي عني
_ شوفت منك إيه يخليني أتمسك بيك، سجنك اللي كل شوبة بتزوده عليا، كبرك وجبروتك، كدبك ولا إهانتك، أنت اللي خنتني يا قاسم، خنتني لما وعدتني تبقي سندي ودايمًا الدافع عني، خنتني لما صدقت إني خاينة
كان يتابعها بألم، رغم حديثها المؤلم إلا أنه أراد أن تخرج كل ما بداخلها، فكانت مسترسلة:
_ أنا شوفت كتير أوي، اتعاملت في بيت أمي أسوأ معاملة بعد ما سرق جوزها، كنت خدامة وسكت بس علشان ما ترميش أنا وأمي في الشارع، استحملت الإهانة والدونية والعقاب على حاجات ما عملتهاش بس علشان مروة شايفة كده، كانت بتسرق هدومي الجديدة قبل ما ألبسها، في كل شغل كانت تشوه صورتي قدام صاحب الشغل لحد ما يطردني، كنت بسكت في كل كده
كانت تبكي دون أن تشعر، والمشاهد كأنها أمام عينيها تعايشها مرة أخرى، وثلقل على قلبها يخنقها.
_ حتى أخوها، أخوها حاول يغتصبني وده اللي بسببه هربت في نص الليل، ماقدرتش أقول لأسيل وعمي كده، حسيت بذل وإهانة كسرة ماحدش يتحملها، إني بقيت لوحدي لدرجة إن أي حد يحاول يخسرني شرفني لأنه عارف إني لوحدي من غير حد.

نار كلماتها تكويه، يشعر بالدماء تشتعل في عروقه، ورأسه يكاد ينفجر، وهي وكأنها تحدث نفسها بهمسها الذي يقتله، حتى رفعت عينيها قبالة عينيه، كانت قاتمة وغاضبة وجبينها عابسًا، ومشاعره تحاكي مشاعر لأول مرة تحكيها بصوت عالٍ دون أن تخاف أن يسمعها أحد.
_ لحد ما قابلتك
توسلها بعينيه ألا تفعل، لكنها فعلت:
_ مشاعر لأول مرة أعرف أنها موجودة، خوفت في الأول يمكن، لكن لحظة الأمان اللي عشتها معاك وأنت بتدافع عني قدام نازلي، لأول مرة أحسها، كانت غريبة ووقتها قولت أنا مش هخاف تاني، قاسم موجود، وما خوفتش، أنا أترعبت
_ فيروز
همس باسمها بتوسل أن تسكت، فتسائلت من بين بكائها:
_ قولتلي انتي سلعة مستهلكة، أنا فعلا مستهلكة من جوايا، مابقاش فيا حاجة تنفع لحد
رفع يده ولمس جانب وجنتها، لمسة رقيقة تكاد لا تشعر بها، ولو يستطيع أن يمحو عبراتها وقبلها ألم قلبها، يا إلهي ماذا فعل وإلى أين وصل قاسم بهم، أغمض عينيه واستند برأسه على كتفها، للغرابة لم تبعده، بل سكنت ثم تنهدت بتعب وعم الصمت على كلاهما لفترة، حتى رفع رأسه إليها وقد غفت، ودموعها ما زالت نديّة على وجنتيها، مسح على شعرها برفق وبهدوء شديد استقام وحملها بين ذراعيه حتى اقترب من الفراش، وقف بها مستمتعًا في لحظات نادرة بقربها المستكين بين ذراعيه، دون أن تصرخ أو تبكي أو تظهر نفورها، يقربها من صدره أكثر وأكثر ولو أدخلها في قلبه، الطريق طويل حدًّا، فيروز مشوهة من الداخل وكانت تحاول أن تقف وتبدأ من جديد، لكن على حين غرة فسد كل شيء كان قد بدأ في بناءه معها ثم تهدم دون إنذار، وضعها على الفراش برفق ودثرها جيدًا.
ثم تحولت عيناه لكتلة مشتعلة وغضب أسود يحرق من تسبب به، من تسبب بها، ارتسمت بسمة قاسية مخيفة على جانب وجهه ويا ويل من يغضب قاسم عمران في حبيبته.


تعليقات