رواية غرام الذئاب الفصل الثاني والعشرون
ما أقسى أن يُطعن القلب لا بسيف، بل بابتسامة خبيثة كانت تُخفي وراءها خنجر الغدر.
في مدينة الغردقة، حيث البحر الأحمر يسطع كبساط أزرق يزدان بلمعان الشمس المتكسرة على صفحته، وحيث الطبيعة تفرض هيمنتها بجلال وسحر على كل ما تطاله العيون من مناظر فاتنة آسرة، كان طه واقفاً في قلب الزورق الترفيهي، مرتدياً سروال البحر القصير لا غير، كتمثال من نحت الموج والريح.
وخلفه تقف روميساء في أبهى زينة البحر؛ ترتدي ثياب السباحة ذات القطعتين، و يعلوها وشاح شفاف يتدلى على جسدها كغلالة من الضوء، سرعان ما ألقته عنها دون أن يلاحظ ذلك.
اقتربت حتى التصقت به، عانقته من ظهره، وهي تصرخ بمرح مبحوح يختلط بصفير الريح.
كان الزورق يشق عباب الماء بعنفوان هادر، كأنه يطارد الأفق أو ينازع الريح سرعتها.
قالت بصوتها المندفع كأمواج المد
"أنا فرحانة أوي يا تيتو"
بينما هو غارق في عالم آخر، مسلوب الإرادة بين ذراعيها، يتردد بين أن ينسحب من هذا الحضن الجريء أو يستسلم لما أشعل جسده من رجفة حارقة توقد في أعماقه ناراً خفية.
اخبرها بصياح بسبب صوت المحرك الهادر
"طب خدي بالك عشان هنلف ونرجع، امسكي جامد لتقعي"
تشبثت ذراعيها عليه بقوة أكبر، وأجابته بمرح واطمئنان
"أنا مكلبشة فيك جامد… ما تقلقش"
ثم فاجأته بقبلة خاطفة على عنقه، فابتلع ريقه بتوتر، وإذا به يخفف من سرعة الزورق شيئاً فشيئاً حتى أوقف المحرك.
التفت إليها، فابتسمت بخبث ودلال
"وقفت اللانش ليه؟"
أخذ يحدق فيها، مأخوذاً بمشهدها الطافح أنوثة، وما يطل من جسدها أمامه بسخاء لا يحتمل.
لم يملك زمام رغبته التي استعرت كاللهب، فاجتذبها إلى ذراعيه، يقبّلها بشغف محموم، ومن بين قبلاته المتلاحقة تمتم
"إنتي حلوة أوي يا روميساء… حلوة أوي"
قهقهت بدلال خفيف، وهي تبتعد عنه بلمحة ماكرة
"خلاص كفاية يا تيتو، لو حد شافنا ممكن يصورنا… وهانبقى تريند يا بيبي"
حاول أن يستعيد سيطرته، فأبعدها بلطف متردد، والتقط الوشاح من أرضية الزورق وقدمه إليها قائلاً بلهجة آمرٍ إياها
"خدي… ألبسي البتاع ده"
ابتسمت بمكر أنثوي، متوهمة أنّه يطلب منها ارتداءه غيرة وحرص منه عليها، قامت بلف الوشاح حول جسدها برشاقة، ثم جمعت خصلات شعرها في طوق مطاطي كانت ترتديه حول معصمها.
نظرت إليه بعينين لامعتين وسألته بدلال سافر
"كده حلو؟"
رمقها بنظرة ثاقبة وعضّ على شفته، مبحرً في سحرها
"إنتي تجنني في كل حالاتك"
اقتربت منه، تطوق ذراعاها حول عنقه، وهمست بجرأة لا تخفى
"بعد ما نرجع للفندق هستناك نقضي وقت جميل مع بعض، وبعدها نخرج نسهر في نايت قريب من هنا"
صمت وقد شعر بتوتر قلبه أمام دعوتها الصريحة التي تسللت إلى مسامعه كتيار مباغت.
لم ينبس بكلمة، ربّما عجز أو تردد، ثم التفت نحو المقود وأدار المحرك من جديد.
انطلق والزورق يشق الماء بسرعة متجددة، بينما هي تشبثت به روميساء أكثر، وصاحت بمرح صاخب يذوب في أصداء البحر والريح.
❈-❈-❈
في بهو قصر البحيري، حيث الفخامة تُحاكي الصمت المهيب، جلس آسر على مقعد وثير، تتقافز في عينيه شرارات القلق، كأنّ قلبه جُرد من سكينته وأُلقي في أتون مستعر.
لم تزل حادثة الأمس تطنّ في أذنه كجرس لا يهدأ؛ إذ ألقى يوسف يمين الطلاق على علياء، ثم ترك الشقة مهرولاً كمن يفر من ظلال الحقيقة، دون أن يمنح نفسه أو غيره فرصة لفهم ما التبس عليه.
وفجأة،د انبجس من السكون وقع خطوات متسارعة على الدرج، فالتفت ليبصر يوسف مندفعاً نحوه، وجهه يقطر حنق، وعيناه تفيض لظى الغضب.
فما إن رآه حتى زمجر بصوت يقدح الشرر
ـ"وليك عين وجاي لحد عندي يا حيوان، أنت جيت لقضاك برجليك"
اندفع يوسف نحوه، قابضاً على تلابيبه كمن يوشك أن يخنق خصمه، غير أن آسر صرخ في وجهه بثبات ممزوج بالمرارة
"مش بقولك هتفضل طول عمرك غبي!، افهم يا بني آدم لو لمرة واحدة، مراتك شريفة و محترمة، وبنت ناس"
لكن يوسف لم يترك له متنفساً للشرح، فقط قاطعه بحدة جارحة
"أيوه، بدليل إنها كانت معاك في شقة أختك!"
دفعه آسر عن صدره بقوة كسرت قيود المواجهة، وصاح بصوت تتنازعه الغصة واليقين
"ما تديني فرصة أشرحلك!، رغم إنك ما تستاهلش، بس بنتك مالهاش ذنب، أو يمكن ذنبها الوحيد إنك أبوها"
ارتعشت شفتا يوسف عند سماع ذكر ابنته، فتلقف آسر اللحظة واسترسل، صوته يقطر حزناً وصرامة
"بنتك كانت مصاحبة واحد فاهمها إنه دكتور نفسي، اتضح إنه مجرد عيل صايع شغال مع عصابة واطية، العصابة دي بتبعت الواد يقرب من البنات، يوقعهم، يصورهم، وبعدها يبتزوهم بالصور والفيديوهات، وعلى حسها بيشفطوا من أهاليهم فلوس، يا إما يفضحوهم ويشهروا بيهم"
شعر يوسف كأن دماءه تجمدت في عروقه، أطرافه ترتجف، ولسانه انعقد عن الكلام.
بينما أكمل آسر بوجع لا يخلو من قسوة
"للأسف، بنتك طلعت واحدة من البنات دي، بس على كلام الواد، هو ماكنش ناوي يعمل فيها حاجة، العصابة قلبت عليه ونفذت الخطة بنفسها، خدروهم وخدوهم شقة مهجورة، الله أعلم عملوا فيهم إيه، و بنتك لما فاقت، حاولت تكلمك عشان تيجي تنقذها، لقت تليفونك مشغول، ما لقتش قدامها غير إنها تتصل بيا، أنا روحتلها برجالة، خدنا الواد ورميناه في جراچ الفيلا عندي، والبنت كانت منهارة، فاخدتها على شقة أختي، كانت خايفة تيجي القصر وهي متبهدلة، وخوفت أنا عليها تعمل في نفسها مصيبة، كلمت علياء لأنها أكتر واحدة بتعرف تحتويها، ما هي علياء اللي ربتها، جت فوراً وفضلت جمبها لحد ما أنا إدّيت لبنتك إبرة مهدئ عشان كانت داخلة في هستيريا صريخ وعياط"
هنا توقف آسر ليلتقط أنفاسه، بينما كان يوسف يترنح كجبل تصدّع أمام ريح الحقيقة، وجهه يذوب كالشمع المذاب، يتمتم بارتباك أشبه بهذيان
"مستحيل… مستحيل"
فعاد آسر يواجهه بالكلمة الفصل، صوته أشبه بطعنة تُسقط الوهم
"لما جيت ولاقيت قميصي مفتوح… ده عشان كنت مغير هدومي بعد ما اتبهدلت وأنا شايل بنتك اللي خدت جرعة مخدر قلبت بطنها، يعني مش اللي حضرتك فهمته خالص، علياء في مقام أختي، غير إنها بنت خالة مراتي، يعني برضه زي أختي بالظبط، وعمري ما كنت رخيص عشان أخون صاحبي أو أخون مراتي"
في تلك اللحظة، انحدر آدم بخطوات متسارعة على الدرج، وصدى وقع حذائه يتردد في أرجاء القصر، ثم توقف عند منتصف السلم، وشخص ببصره نحو الجمع في الأسفل، ملامحه متصلبة كالصخر، وصوته ينفجر كالرعد القاصف
"إيه اللي أنا بسمعه ده؟"
ارتجف يوسف فجأة كأن صاعقة أصابته، وحدق في صديقه بعينين محذرتين، محاولاً أن يكبته بالصمت، لكن الآخر تمرد على نظراته وأفلت زمام الكتمان.
قال بجرأة نافرة، كمن يلقي بحجر في بحيرة راكدة
"أخوك الدكتور المحترم طلق مراته عشان كان فاكر إنها بتخونه معايا، وإحنا كنا في مصيبة تانية بسبب إهماله"
اهتز الهواء من وقع العبارة، فشهق آدم في دهشة غاضبة، وصاح بصوت ارتعدت له الجدران
"أنت اتجننت يا يوسف؟!"
رمقه يوسف بنظرة دامية متقدة، وعض على شفتيه كمن يكتم بركان، ثم انفجر محتدً
"خليك في حالك يا آدم وملكش دعوة بيا"
هنا تقدم آسر بخطوة ثابتة، كأنه فارس وسط معركة محتدمة، وقال بحزم عميق
"أظن سمعت كلامي يا آدم، أنا جيت هنا مش عشان أبرر موقفي، أنا جيت عشان خاطر أفهمه إنه ظلم مراته، وبنته بتضيع"
رمقه آدم بعين فاحصة، صوته انخفض شيئاً لكنه ظل حاد النبرات، وسأله
"وهما فين؟"
أجاب آسر، وقد ارتسم على محياه قلق ثقيل
"علياء خدت البنت وروحت عند بيت أهلها، والواد مربوط في الجراچ عندي، قولت أجي أبلغكم هاتتصرفوا معاه إزاي، ولازم تتاخذوا إجراء قانوني عشان حوار الصور والفيديوهات"
انتصب آدم واقفاً، وجهه يكتسي بصرامة تشبه سيف مُشرع، وقال بلهجة قاطعة لا تحتمل جدالاً
"هانيجي معاك ناخد الولد ونروح على القسم، ونتكلم مع علياء تجيب لوچي وتقابلنا هناك، وأنا هكلم مدحت صاحبي، هاحكيله كل حاجة وهو هيتصرف، ويجيب المجرمين اللي عملوا كده"
❈-❈-❈
منذ الأمس «فلاش باك»
بعد رحلة سفر أنهكته فيها الساعات المتطاولة، وصل أخيراً إلى الفندق الكبير، فأنجز إجراءات الحجز ودفع المستحقات. وما إن انتهى، حتى استقبلته الحسناء ذات القوام الممشوق، وقد ارتسمت على محياها ابتسامة ترحاب خالطها دفء خفي، ثم مدت يدها لتصافحه
"حمدالله على السلامة يا تيتو"
مد يده ملبياً، لكن المفاجأة باغتته حين جذبته في عناق حميمي، هامسة بجوار أذنه
"لو مكنتش جيت كنت زعلت منك أوي"
انسحب عنها ببطء، وارتسمت على شفتيه ابتسامة حرجة، قبل أن يتمتم
"ما أنا قولتلك أنا جاي… واديني جيتلك"
وفي الخارج، وصلت زوجته بعد دقائق قليلة، تقدمت إلى مكتب الاستقبال لتسجل حجزها، لكن الموظف أجابها ببرود رسمي
"للأسف يا فندم، مفيش أي غرفة فاضية حالياً، كله كومبليت"
فانفجرت شيماء غاضبة، كأن صبرها نفد
"يعني إيه فندق طويل عريض زي ده مفيهوش غرفة فاضية؟!، أبات أنا في الشارع يعني؟!"
تدخلت موظفة أخرى محاولة تهدئتها
"هو مكدبش على حضرتك، فعلاً العدد مكتمل، المفروض كنتي تواصلتي مع خدمة العملاء عندنا الأول عشان تتأكدي فيه مكان ولا لأ، ممكن حضرتك تلاقي مكان في الفندق اللي قبلنا بشوية"
لكن شيماء أصرت، وصوتها يزداد حدة ووقارها يذوب أمام انفعالها
"وأنا مش هاروح أي فندق تاني، هدفعلكوا اللي إنتوا عايزينه"
وأخرجت بطاقتها الائتمانية بعزم لا يقبل النقاش.
كادت الموظفة ترد عليها، فإذا بأحد النزلاء يغادر المصعد يجر حقيبته، وزوجته تتبعه بخطوات متثاقلة.
اقترب الرجل من المكتب قائلاً
"عايز أعمل تشيك آوت لو سمحت"
ابتسمت الموظفة فوراً
"تمام يا فندم"
ثم التفتت نحو شيماء قائلة
"حظك حلو، فيه غرفة فضيت حالاً"
ارتسمت بسمة ساخرة على فم شيماء، ورفعت شفتها العليا بازدراء خفيف وهي تتمتم
"أنا طول عمري فيا شئ لله"
عودة إلى الحاضر...
أفاقت من سبات ثقيل استغرقها ساعات طوال، بعدما أنهكها البحث العقيم عن زوجها وتلك الحية اللعينة روميساء.
لم تجد لهما أثراً، حتى استسلمت للإرهاق وانطرحت للنوم، والآن فتحت عينيها وقد أثقل الدمع جفنيها، وألقت نظرة إلى هاتفها؛ فإذا بالساعة الثالثة عصراً.
فانتفضت كمن لدغته بعوضة، وغادرت الغرفة بعد لحظات، متخفية بنظارة سوداء وقبعة، كأنها تتوارى عن أنظار الخيانة حتى تضبط زوجها بالجرم المشهود.
سارت بين أروقة الفندق، والفضول يحفر في قلبها حفرً، حتى اخترق أذنها صوت ضحكات أنثوية متمايلة، يتصاعد منها عبق الدلال الفاجر.
فاختبأت خلف زاوية، وأطلت برأسها لترى المشهد؛ فإذا بتلك الحية تجري بخفة مصطنعة، يتبعها طه لاهثاً بين ضحكات متهالكة.
قالت وهي تتمايل بمرح مسموم
"كفاية بقى يا تيتو، أنا تعبت من الجري"
فأجابها وهو يلهث ضاحكاً
"تعبتي إيه؟ إحنا لسه ورانا خروجات وسهر ولعب!"
توقفت أمام باب إحدى الغرف، وأدخلت المفتاح في القفل بيد مرتجفة لكنها مفعمة بالجرأة
"ما تيجي تقعد معايا شوية، ساعتين كده والمفروض هبدأ تصوير الإعلان"
وقف برهة يحك رأسه، وكأن التردد يجاذب رغبته.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة تحمل كل المعاني
"معلش خليها وقت تاني، أنا يا دوب هاروح أخد شاور وأنزل أتغدى، تكوني خلصتي تصوير ونخرج"
رفعت حاجبيها بدهاء
"ليه؟، مش هتيجي تتفرج عليا وأنا بصور الإعلان؟"
هز رأسه مبتسماً
"معلشي يا رومي، أصل بعد الغدا بحب أنام ساعتين وبعدين أصحى أكمل يومي، تعود بقى، وبعدين الليل طويل، نخرج ونعمل أي حاجة إحنا عايزنها، ولا إيه؟!"
غمز بعينه، فأجابت
"أوك… هستناك على الساعة 8، عدي عليا"
"حاضر"
لوحت له بيدها
"باي مؤقتاً"
ثم طبعت قبلة على خده قبل أن تنزلق إلى الداخل وتغلق الباب رويداً رويداً.
بينما هو فظل يلمس أثر القبلة على وجهه بيده كأنه يتذوق لذتها، وكل هذا يجري تحت ناظري زوجته، التي كادت أن تنقض عليهما كالبركان الثائر، فتغرقهما في سيل من التوبيخ واللوم، لكن قلبها خذلها.
رجعت بخطوات متثاقلة إلى غرفتها، والدموع تنهمر رغماً عنها، كالأنهار تجرف ما بقي من صبرها.
جلست منهارة، تنوء بروحها المثقلة بالخذلان، تغلي من القهر وهي ترى خيانة سافرة تلوح أمام عينيها، لا لبس فيها ولا مواربة.
❈-❈-❈
كانت جالسة إلى جوار نافذة غرفتها، تدور في رأسها ذكريات أبت أن تُبارحها، تتأمل فراغ السماء وتستدعي من أعماق ماضيها أطيافاً شجية، فتهب عليها نسائم الأيام الخوالي كأنها صفعات موجعة.
ارتسمت في ذهنها ملامح أيام الجامعة، تلك البدايات المضيئة التي ما لبثت أن أُطفئت على حين غِرة، واستحضرت ذكرى اليوم الذي جاء ليخطبها، لكنها انتظرت عبثاً، إذ غاب عن الموعد، وجاءها بدل الحضور رسالة تحمل صورة حفل زفافه بابنة خاله!
كانت الصدمة أقسى من أن تحتملها الروح، كسيف اخترق صدرها بلا رحمة. والدها الذي كان قلبه معلق بسعادتها، لم يحتمل وقع الفاجعة، فانهار حزينً، وألمّ به مرض مفاجئ كان كالسهم النافذ؛ أزمة قلبية أودت بحياته، فخلفت في فؤادها ندبة لا تمحى.
ومضت السنون، فإذا بالقدر يجمع بينهما من جديد.
وبعد محاولات مضنية بذلتها لتغفر له جراح الماضي، عاشت حرباً ضارية بين عقلها الصارم وقلبها الضعيف أمام ذكراه؛ فمالت الكفة إلى الفؤاد، وقررت أن تغفر، وأضحت زوجته.
أنجبت منه ولدهما عز الدين، ذلك الطفل الذي حمل ملامح أبيه بوضوح، لكنه ورث منها رزانة الفكر ورصانة العقل.
غير أن السنوات تمضي ولا تترك إلا ما تُخفيه من انكسارات.
تهاوت شعارات الحب والهيام شيئاً فشيئاً، حين تغلغل الشك إلى قلبه، وزرع في صدره هواجس كالسم الزعاف.
لم يُحسن التروي، بل انساق وراء أوهام قاتلة، حتى انتهى به المطاف إلى أن يخسرها.
وها هي الآن تبكي بحرقة، لكن دموعها لم تعد تنهمر من أجله، بل على حالها هي. أيقنت أن جرحها الحقيقي ليس خيانته لها بالظنون، بل خيانته لحبها الذي صانته بإخلاص نادر.
كيف له أن يتهمها بذلك الفعل المشين، وهي التي ظلت وفية حتى بعد أن طعنها في ماضيها، وكيف لم يدرك أنّها حين غدت زوجته لم تبخل عليه بصدق المشاعر ودفء الإخلاص، لقد كانت تعلم ما حمله قلبه من ندوب تركتها زوجته الأولى، لكنها لم تظن أن هذا الأثر سيتفاقم ويتحوّل إلى علّة مدمرة، تسوقهما إلى حافة الهاوية.
وبينما كانت دموعها تنحدر كجدول مر على وجهها، ارتج الباب بطرق متلاحق. ثم انفتح لتدخل والدتها بخطوات مترددة، تحمل في ملامحها قلق ممزوج بالعطف، وقالت بصوت متحشرج يحاول التماسك
"يلا يا حبيبتي عشان تتغدي، وتعالي خلي لوچي تاكل، أنتي وهي ما أكلتوش حاجة امبارح، وكل اللي عليكم تعيطوا، وكل ما أسأل واحدة فيكم إيه اللي حصل، تسكتوا"
رفعت ابنتها رأسها المثقل بالحزن، نظرت إلى أمها بعينين غائرتين كأنهما بئران من الأسى، ثم أجابت بصوت واهن لكنه حاسم
"لو سمحتي يا ماما، أنا عايزة أقعد لوحدي، ولو جعانة هاقوم أحط لنفسي، لوچي خليها تاكل عشان تاخد العلاج"
دخلت لوچي بخطوات مترددة كأنها تمشي على شوك ناثر في الطريق، وفي عينيها غيوم من الحزن ووميض من الندم، نظراتها كانت كسهام مرتعشة تبحث عن هدف مأمون.
رمقتها علياء بنظرة فاحصة، ففهمت على الفور أنّها تريد أن تُفضي إليها بسر يثقل صدرها.
وأدركت الأمر أيضاً والدة علياء، التي بادرت بقول حان لكنه يخفي رغبتها في الانسحاب
"هاروح أتغدى أنا وعزالدين، ولما تجوعوا قولولي"
تركت الغرفة وأغلقت الباب خلفها في هدوء، فبقي الصمت يخيّم بين الاثنتين لحظة بدت كالأبد.
قطعت علياء ذلك السكون بنبرة دافئة وهي تشير لها
"تعالي يا حبيبتي اقعدي"
اقتربت الأخرى بخطوات خجولة وجلست على مقعد مقابل لها، كأنها تحاول الاحتماء منه لا الاتكاء عليه، وابتلعت ريقها في تردد يفضح صراعها الداخلي.
فأسرعت علياء تشجعها بكلمات احتواها الدفء والحنان
"قولي اللي انتي عايزاه يا لوچي، أنا سمعاكي يا حبيبتي"
رفعت الفتاة بصرها المثقل بالأسى، وانطلقت كلماتها كاعتراف مرير
"أنا سمعت كل اللي حصل لما بابا جه، بس مكنتش قادرة أتكلم ولا أتحرك من مكاني"
تنهدت علياء تنهيدة عميقة كأنها زفرة قلب مثخن بالجراح، ودموعها تتشبث بأهدابها متمنعة عن السقوط
"باباكي كان القاضي والجلاد من غير ما يسمع كلمة مننا، وكأنه جاي ومتأكد من اللي في دماغه، ولا حتى خلاني أحكيله على المصيبة اللي حصلت، وكنت هاتضيعي مننا لولا ستر ربنا وآسر اتصرف بسرعة، معرفش كان ممكن يحصل معاكي إيه"
توقفت لتستجمع أنفاسها، وهبطت دمعة رغماً عنها كسجين يفر من قيده، ثم تابعت بنبرة ممزوجة بالقهر والخذلان
"بس أنا مش مسامحاه على كل كلمة وإهانة قالها ليا، عمري ما هسامحه أبداً، أبداً"
خفضت لوچي رأسها، تنظر إلى الأرض كأنها تبحث عن مهرب من خزيها، وقالت بصوت منكسر
"آسفة، أنا السبب، أنا اللي دخلت في دماغه الشك من الأول، عملت حاجات عشان يتأكد من شكه فيكي إنتي وأونكل آسر"
تحولت ملامح علياء من الحزن إلى صدمة مباغتة، جحظت عيناها للحظة وهي تستمع، قبل أن تستطرد لوچي، كلماتها تنزف مرارة
"مامي زرعت في دماغي إن لو فرقتكم إنتي وبابي، فممكن يرجعها ونرجع نعيش سوا زي زمان"
ابتسمت الأخرى ابتسامة باهتة ممزوجة بسخرية مُرة، ضحكة خرجت من قلب مثقوب
"واللي نفسك فيه اتحقق.
، باباكي طلقني وطعن في شرفي وأخلاقي بعد ما سامحته على اللي عمله معايا زمان، أنا عمري ما أذيته ولا أذيتك إنتي كمان، أنا ما خطفتوش من مامتك، لما وافقت نرجع كان هو مطلقها، وأظن إنك فاكرة كل اللي حصل وقتها وسبب طلاقهم ليه"
اهتزت ذاكرة لوچي كأمواج هائجة، وعادت بها إلى تلك الليالي الحالكة، حين كانت ترى خيانة والدتها بأم عينها، وتشهد نهايتها المأساوية عندما قتلت والدتها عشيقها أمام عينيها.
صورة محفورة في ذاكرتها، وإن جرى علاجها لسنوات، إلا أن الندبة ما زالت غائرة في وجدانها.
قطعت علياء شرودها بصوت حنون لكن تشوبه المرارة
"أنا يا لوچي عمري ما عملتك إنك مش بنتي، بالعكس أنا حبيتك أوي وحسيت إنك مني، أنا كنت ومازلت أقرب حد ليكي من باباكي ومامتك"
هنا لم تتمالك الصغيرة اليافعة دموعها، فانتفضت واقفة وألقت بنفسها بين أحضان علياء، تبكي بحرقة كمن يطلب الغفران، وظلت تردد بصوت متهدج
"آسفة… أنا آسفة... سامحيني"
أحاطتها علياء بذراعيها، وربتت عليها بحنو أم مجروحة لكنها لا تكف عن العطاء، وقالت في نبرة دامية لكنها مشبعة بالرحمة
"وأنا مش زعلانة منك، إنتي بنتي، إنتي وعزالدين واحد وفي قلبي"
رفعت الأخرى وجهها، ملامحها مغسولة بالدموع، وحدقت في علياء بعينين طفوليتين وقد تعلقت بها بكل براءة، همست بحرارة صادقة
"أنا بحبك أوي يا ماما"
فعانقتها الأخرى بحنان غادق و شاركتها في البكاء وكأنها وجدت أخيراً منفذ لدموعها.
❈-❈-❈
تقف أمام السرير بعد أن تسللت بخفة ودخلت حجرته دون أن يشعر بوجودها. ظلت تحدق في ملامحه الممددة على الوسادة، والوجع يعصف بفؤادها، يهز رأسها بأسى، وتختنق عبراتها بمرارة الغدر.
تتحدث نفسها في صمت مكلوم
«بقى كده يا طه؟!، هونت عليك للدرجة دي؟!، رايح تخوني مع الحرباية اللي كلها نفخ وشد صناعي!، يا خسارة، ما اتعلمتش من الماضي وأنت أكتر واحد عارف إن الخيانة بالذات جرحها لسه محفور جوايا لحد دلوقتي، بس هاقول إيه مشيت ورا شيطانك، إبقى خلي شيطانك ينفعك لما تخسر قلبي اللي بيحبك، قلبي اللي رميته برجلك عشان نزوة رخيصة»
انتبهت فجأة إلى تقلبه على الفراش، فارتبكت واختبأت في الشرفة، تتحسس مكانها خلف الزجاج بحذر كمن يخشى انكشاف سره.
راقبته بعينين متقدتين، فرأته يمسك بهاتفه، وقد حان أوان استعداده للذهاب إلى غريمتها.
كان يقرأ رسالة، ثم شرع في الرد بصوت واثق عبر تسجيل قصير
«قدامي ربع ساعة وهعدي عليكي، تكوني جاهزة»
ضغط زر الإرسال، وارتسمت على وجهه ابتسامة مفعمة بالحماس، ثم نهض يتمطّى بأريحية كمن يستعد للقاء طال انتظاره. ظلت تراقبه، والدماء في عروقها تغلي كالمِرجل، تغلي حتى كادت تنفجر.
قبضت على هاتفها بيد مرتعشة، واتصلت به، تنتظر أن ترى رد فعله.
كان يوشك على دخول الحمام، فتوقف بلهفة ظناً منه أن المتصل روميساء، لكن سرعان ما خاب ظنه، إذ وجد الاسم "أم سالم".
أطلق زفيراً ثقيلاً ممتلئاً بالضجر، وقال بازدراء
" مش وقتك يا شيماء… لما أرجع من بره أبقى أكلمك"
ضغط على زر الرفض ببرود قاتل.
و إذا بها تري بعينيها ذلك، غلت دمائها أكثر، وغاصت أنياب الغيظ في صدرها، فجزّت على أسنانها وقالت بوعيد
«هانت يا طه… كلها دقايق وأفرج عليكم أمة لا إله إلا الله… أنت وهي غير اللي هاعمله فيكم انتم الاتنين… يا واطي يا خاين»
ترك هاتفه جانباً ودخل ليستحم.
أما هي، فعادت بخطوات مترددة إلى الغرفة، التقطت هاتفه بيد مرتعشة، لكنها تذكرت أمر بصمة إصبعه.
زفرت بضيق، وازدحمت برأسها مئات الأفكار المظلمة.
جلست على طرف السرير، تفتش في عقلها عن خيط للانتقام.
فتحت تطبيق الذكاء الاصطناعي، وكتبت متوسلة الصديق الافتراضي الذي اعتادت محاورته
«واد يا شوقي»
فأجابها النص المكتوب كأنه صوت ينبعث من خلف الشاشة
«نعم يا شوشو»
كتبت بعصبية
«لو واحدة عرفت جوزها بيخونها مع واحدة، وشافتهم بعينيها، تنتقم منهم إزاي؟»
جاءها الرد
«هذا موضع حساس وشائك يا شوشو، لكن علشانك، هاقولك كذا اقتراح، وانتي تختاري الحل الأنسب:
١- الانتقام الواقعي (العقلاني):
التجاهل القاتل: ساعات أقسى انتقام، إن الزوج يلاقي مراته ما انهارتش ولا عيّطت، بالعكس… لبست أحلى لبس وعيشة حياتها.
الفضيحة الاجتماعية: من غير مشاكل قانونية، ممكن تكشفي خيانته قدام أهله أو في وسط الناس.
الانسحاب بهدوء: تطلبي الطلاق وتاخدي حقوقك كاملة (مؤخر – نفقة – حضانة). وده في عينه أقوى رسالة إنك أقوى من إنك تتبهدلي عشانه.
٢- الانتقام الدرامي (في الروايات أو الأفلام):
تستدرجيه هو والعشيقة لفخ: مثلاً تخليهم يتقابلوا في مكان، وتفاجئيهم بحاجة صادمة (صور، تسجيل، أو مواجهة قدام الناس).
قلب الطاولة: تخلي العشيقة تكتشف إنه بيلعب بيها برضه، وتسيبيهم ياكلوا في بعض.
اللعب بالنار: تدخلي علاقة ظاهرية أو مزيفة قدامه بس عشان تحرقي قلبه (لكن طبعاً في الواقع ده خطر ومش حكيم).
انتقام رمزي: زي اللي بنقراه في الروايات، ممكن تحرميه من أهم حاجة بيحبها (مكانة، سُمعة، أو حتى ولاده)»
رمقت الكلمات كأنها سهام متناثرة، فأجابت بحدة
«الحل الأولاني حلو، بس مش هيبرد نار قلبي، والتاني لو فضحته قدام أخته وعيلته، يبقى بفضح نفسي والولاد هايعرفوا ويتعذبوا، الحل التالت؟! لأ… كده أسلمه للحرباية على طبق من دهب، أما الرابع والخامس مش هاينفعوا معاهم، خصوصاً الحية دي… دي أصلاً وشها مكشوف، ولا فارق معاها فضايح هاتستغل ده تريند وتزود متابعينها، ويكبسوا لايكات… وبكده تستفيد هي بفلوس، وبجوزي"
قرأت الحل الذي يليه وعقبت
"يالهووووي! عايزني أوهمه إني بخونه؟! يخربيتك يا شوقي… ده يموتني فيها حتى لو تمثيل، لا… مش عايزة مقترحات تانية… أنا عارفة كويس هاعمل إيه وحسبي الله ونعم الوكيل»
سمعت صرير مقبض الباب، ثم صوت انفتاح الحمام، فقفزت كالغزالة المذعورة إلى الشرفة وعادت لتستتر خلف الزجاج، تختبئ في ركنها المتواري، تلتقط أنفاسها المتلاحقة في وجل وترقب.
مكثت ساكنة كالصنم، تتابع بعينيها كل حركة من حركاته.
خرج طه بعد أن بدل ملابسه، وقد بدا كعريس في ليلة زفافه، ينساب من مظهره بريق الغرور وبهاء الاستعداد، شعره مصفوف بعناية، وقميصه يفوح أناقة، ظلت تنظر إليه بعينين متقدتين، تتوعده في سرها وتخاطبه بغيظ بصوت خافت
" والله ما هسيبك يا طه دي نهايتك هتبقي علي إيدي، طلبتها ونولتها"
وما إن فرغ من ترتيب هيئته، حتى قبض على هاتفه، ثم خطا خارج الغرفة وأغلق الباب خلفه.
انتظرت دقيقة أو أكثر، حتى هدأ وقع خطواته في الممر، ثم تسللت وراءه تتبعه بخطوات خافتة كالظل.
رأته يقف أمام غرفة روميساء، يطرق الباب بيده ويضغط جرس الغرفة، ينتظر فلم يأته رد، تريّث برهة ثم كرر الطرق والرنين، لكن الصمت ظل يلف المكان. وبينما يوشك أن ينصرف، لمح المفتاح معلقاً في قفل الباب من الخارج.
ارتسمت على وجهه علامات الحيرة، لكن الفضول تملك زمامه، فأمسك بالمفتاح وأداره، دفع الباب ببطء متوجس.
كانت شيماء تراقب المشهد من بعيد، مذهولة مما ترى، وقد خنقها الذهول حين ولج زوجها إلى داخل الغرفة.
همست من بين أسنانها المطبقة
«وربنا ما هرحمك»
تقدمت بخطوة نحو الغرفة، لكن صوت عجلة تصطك في أرضية الرخام أوقفها، فالتفتت لتجد عاملة النظافة تدفع عربة أدوات التنظيف.
وقفت أمام الباب تضغط على الجرس وهي تنادي
«خدمة الغرف يا فندم»
وعندما لم يجبها أحد، دفعت العربة جانباً ودخلت، لتصطدم بعينين متسمرتين في مشهد صادم.
كان طه واقفاً كتمثال حجري، عيناه شاخصتان نحو الحمام، حيث الأرضية غارقة في بحيرة من الدم القاني، والصدمة قد شلت أطرافه عن الحراك.
اقتربت العاملة بخوف مرتجف، فوقع بصرها على ما رآه.
جسد روميساء مطروح على أرضية الحمام مذبوحة، وقد انحدرت الدماء من عنقها كجدول أسود.
أطلقت العاملة صرخة استغاثة مفزعة اخترقت سكون الممر، فاهتز الفندق من دويّها، وانفتحت أبواب الغرف تباعاً. تجمّع النزلاء في هرج ودهشة، وسرعان ما هرع أمن الفندق إلى المكان.
❈-❈-❈
في أروقة قسم الشرطة التي تنضح برائحة الرطوبة والرهبة، جلس يوسف وآدم وآسر على مقاعد خشبية أمام مكتب الضابط.
كان المكان يعج بهيبة القانون، والجدران العتيقة تصدح بصمت ثقيل كأنها شاهدة على آلاف الاعترافات وصرخات الندم.
وخلف مازن، الذي ارتجف وجهه شاحبًا متجعد الملامح، وقف مساعد الضابط متأهبًا، وكأن ظله لا ينفك يلاحق خطواته. بدا على مازن خليط من خوف متجذر، وندم حارق، واستسلام مخز يثقل كاهله.
رفع الضابط عينيه المتقدتين، بعد أن فرغ من سماع شهادة آسر، وقال بصوت حاد كالسيف المسلول
"إيه ردك على كلام دكتور آسر يا مازن... ولا نقول يا عمر؟"
ابتلع المتهم ريقه كمن ابتلع جمرة، وأجاب بصوت مبحوح متقطع
"أنا حكيت كل حاجة لدكتور آسر ودكتور يوسف قبل ما نيجي على هنا"
فجأة، نهض الضابط بعصبية كزلزال يهز المكان، وصاح بحدة تزلزل أركان الغرفة
"جرى إيه يا لاه؟! وأنا مالي ومال كلامك معاهم!، أنت هنا بيتحقق معاك... ولازم تقول كل كلمة بنفسك"
وما إن أنهى عبارته، حتى عاجل مساعد الضابط بصفعة على مؤخرة رأس مازن، صفعة امتزج فيها الإذلال بالوجع، فارتج رأسه واهتزت كبرياؤه المتهاوية.
تمتم مازن وهو يئن
"هقول على كل حاجة يا باشا"
وانطلق يسرد اعترافاته، كمن يفتح صدر لأشواك الحقيقة، كيف تعرف على أفراد العصابة، وكيف يستدرجون الفتيات من أسر ثرية بعلاقات عاطفية زائفة، ثم يُوقعون بهن في شراك خادعة، فيصوروهن خلسة في أوضاع مخزية، لتبدأ بعدها رحلة الابتزاز مقابل مبالغ مالية طائلة.
أفضى بعلاقته بابنة يوسف، وكيف كان اللقاء الأول صدفة ملغومة، أعقبه لقاء بعد لقاء، حتى انتهى الأمر بليل مظلم في ملهى صاخب، لتتدحرج الأحداث بعده نحو الاختطاف.
ارتعشت كلماته حين قال بانفعال متوسل
"والله العظيم يا باشا ما كنت أعرف إنهم هايعملوا كده خالص... ومكنتش هاسمح لهم يقربوا من لوچي، أنا عمري ما كنت هأذيها... مفيش حد يأذي حد بيحبه"
كأن نارًا اندلعت في صدر يوسف، فانتفض من مكانه بعاصفة غضب، وصاح مكظومًا وهو يوشك أن يهوى بقبضته على وجه مازن
"بتحب مين يا ابن الـ...؟!"
لكن آدم بادره بخطوة سريعة، فأمسك بيده قبل أن يندفع، وقال بصرامة هادئة
"ما ينفعش اللي أنت بتعمله ده خالص إحنا في قسم، وجايين ناخد حق البنت... القانون هو اللي هايتصرف معاه"
التفت آدم نحو الضابط، محاولًا تهدئة الأجواء
"معلش حضرتك... أخويا أعصابه تعبانة شوية"
ابتسم الضابط ابتسامة مقتضبة تحمل في طياتها تفهم، ورد بصوت رزين
"يا آدم بيه من غير ما تعتذر... إحنا مقدرين حالته، ما تقلقوش هنوصل للعيال النصابين دول، وناخد حق بنتكم، وحق كل بنت اتعرضت للاحتيال والابتزاز على إيديهم"
ثم أدار وجهه نحو كاتب التحقيق الذي كان ينهمك في تدوين الاعترافات، وسأله بحزم رسمي
ـ "كتبت كل اللي قاله؟"
فأجاب الكاتب بانضباط عسكري
"كل كلمة يا فندم"
أومأ الضابط برأسه في رضا، ثم قال
"كده فاضل نسمع الآنسة لوچي... عشان نسجل أقوالها في المحضر، زي ما حضراتكم عارفين... دي إجراءات روتينية لابد منها"
فابتسم آسر ابتسامة خفيفة، وقال بثقة واطمئنان
"زمانها على وصول... ومعاها دكتورة علياء، طليقة دكتور يوسف"
رمقه يوسف بنظرات متوحشة، تكاد عروقه تنفجر من الغيظ، وكاد ينهض لينقض عليه بقبضته، لولا أن آسر تعمد إطلاق تلك الكلمات ليمعن في صب الجمر على صدر صديقه ويجعله يتجرع مرارة فداحة ما فعلعه بزوجته.
وفي غمرة التوتر، جاء صوت الضابط آمراً مساعده
"اطلع قولهم بره... أول ما توصل طليقة الدكتور يوسف وبنته، يدخلوا على طول"
أجابه المساعد بانضباطٍ عسكري
"أمرك يا فندم"
ازداد يوسف احتقان، يجزّ على أنيابه كمن يودّ أن يفتك بالجميع دفعة واحدة.
كان الخوف ينهش صدره من مواجهة علياء بعد كل ما اقترفه، والعار يثقل لسانه، كيف سيعتذر؟، وبأي وجه سيقف أمامها وقد انكشفت الحقيقة؟
وما لبثت أن فُتح الباب، فإذا بظل نور يتقدم... إنها لوچي.
دخلت بخطوات مترددة، وما إن التقت عيناها بعيني والدها وعمها، حتى خفضت بصرها خجلاً ورهبة، غير أن علياء التي تبعتها كدرعٍ حان، أمسكت بكفها المرتجف، تبث فيها شيئاً من الطمأنينة وتزرع في قلبها بعض الأمان.
وحين التقت نظرات علياء بعيني يوسف، رمقته ببرود جارح، وكأنه نكرة لا شأن له ولا اعتبار، ثم جلست إلى جوار لوچي تُعرف بنفسها أمام الضابط، وقدمت بطاقة هويتها، فيما فعلت الفتاة الأمر ذاته.
قال الضابط بنبرة حازمة وهو يلتفت إلىآدم
م "لو سمحت يا آدم بيه، ممكن تاخد دكتور يوسف ودكتور آسر وتستنوا بره... عقبال ما نخلص التحقيق"
أدرك آدم فحوى الطلب، فنهض وربّت على كتف شقيقه الذي همّ بالاعتراض، وهمس له في أذنه
"يلا نستنى بره... عشان بنتك تعرف تتكلم"
استجاب يوسف مُكرهاً، فنهض بخطوات متثاقلة، وقبل أن يغادر مكتب الضابط، اقترب من أذن علياء بهمس
"اعملي حسابك... هاتطلعي من القسم معايا على القصر"
لكنها تجاهلته تماماً، كأن صوته لم يصلها، وجلست في صمت جليدي أمام مكتب الضابط، فيما جلست لوچي بجوارها.
أشار الضابط نحو الفتاة بنظرة مشجعة وقال
"ها يا لوچي... اتفضلي احكيلنا كل حاجة، من أول ما اتعرفتي على مازن اللي عرفك بنفسه إنه اسمه عمر لحد ما انقذك دكتور آسر"
رفعت وجهها المرتعش، والتقت عيناها بعيني عمر ــ مازن ــ، فغمرها شعور بالكسرة والخذلان، ثم بدأت تستعيد شريط الأحداث بصوتٍ مختنق
"صحيت من النوم... لاقيت نفسي من غير هدوم، وهو جمبي في نفس الوضع"
تلعثمت وابتلعت ريقها، وحدّقت في علياء تستنجد بها، فأومأت لها الأخيرة برفق لتكمل.
"انهارت أعصابي... وكنت خايفة أوي، اتصلت ببابي لاقيته مشغول... فكلمت أونكل آسر، وهو اللي جه خدني"
ومن دون تمهيد، ألقى الضابط سؤاله المباغت بصوت صارم
"عمل معاكي حاجة؟"
تصلبت الفتاة كأن الأرض سُحبت من تحتها، و ظلت تنظر له بذهول، ثم انهمرت دموعها وهي تنظر إلى عمر، عاجزة عن النطق.
مدت علياء يدها، أمسكت بيده الأخرى المرتجفة وربتت عليها، وقالت بنبرة ثابتة
"هي حكيتلي كل حاجة بعد اللي حصل على طول... قالتلي كانت متخدرة، فطبيعي ماتعرفش إذا كان عمل فيها حاجة ولا لأ"
سارع مازن مدافعاً، وصوته يرتجف كمن يتمسك بخيط واه
"وربنا ما عملتلهاش حاجة يا باشا، كنت زيي زيها... خدرونا إحنا الاتنين"
نظر الضابط إليهم جميعاً، ثم زفر أنفاسه بتأن، ووجه أمره إلى كاتب المحضر بنبرة قانونية صارمة
"اكتب يا بني عندك... قد أمرنا نحن المقدم/ حمدي الششتاوي بعرض المذكورة على مصلحة الطب الشرعي، لتوقيع الكشف الطبي عليها لبيان مدى سلامة عذريتها، وبيان ما إذا كانت قد تعرضت لاعتداء جنسي من عدمه، وذلك لاستجلاء الحقيقة وإثبات الواقعة أو نفيها.
تحرر هذا المحضر وأُثبت بما جاء به، وجار اتخاذ اللازم قانوناً"
شهقت لوچي مصعوقة، وأطبق الصمت على المكان، فيما تجمدت علياء للحظة كأن القرار سيف هُوي على رقبتها.
مدّ الضابط أوراق المحضر نحو الفتاة، وأشار بإصبعه الحازم قائلاً
"امضي هنا"
❈-❈-❈
خرجت لوچي من مكتب العقيد، تتشبث بكف علياء كالغريق الذي يتعلق بخشبة نجاة، وهمست بصوت متهدج مفعم بالخوف
"أنا مش عايزة أروح القصر... أنا هارجع معاكي"
ربّتت علياء على كتفها برفق كنسمة ربيعية تبعث الطمأنينة، وقالت بنبرة حانية
"متخافيش يا حبيبتي... بابا وعمو بيحبوكي وبيخافوا عليكي"
وما إن خطوا جميعاً خارج أسوار القسم، حتى واجههم الليل الصاخب بأضوائه الكابية، ووقفوا أمام سياراتهم وقد أثقل الجو شحنات الغضب المكتوم.
اعترض يوسف طريق علياء، يحدّق فيها بعينين تشتعلان كالجمر، وقال بلهجة آمرة لا تحتمل نقاشًا
"مش قولتلك إنك راجعة معايا على القصر؟"
لكنها تجاهلته، كأن صوته سراب يتلاشى، والتفتت نحو آدم وآسر قائلة
"معلش... مضطرة أروح عن إذنكم يلا يا لوچي"
امتدت يد يوسف في غضب جامح، فأمسك معصمها بقسوة جلية
"هو أنا مش بكلمك؟!"
انتفضت بعزة جريحة، وانتزعت يدها من قبضته وهي تصيح
"ابعد إيدك عني! أنت خلاص بقيت بالنسبة لي غريب"
تقدّم آدم بخطوة حازمة، وصوته يقطر توبيخً
"إنت مش ناوي تجيبها لبر؟، ولا عايز تدخلنا القسم تاني؟!"
أشار يوسف نحوها محتجًّا
"مش شايف عمايلها معايا؟، بقولها نروح القص مطنشاني كأني هوا قدامها!"
رمقته علياء بازدراء، ثم وجهت كلامها لآدم وحده متعمدة تجاهل شقيقه
"خليه يحكيلك يا آدم بيه عمل فيا إيه... غير إنه المفروض طلقني، يعني كل اللي ما بينا انتهى، وما يقربش مني... وأنا مش عايزة منه أي حاجة غير ورقة طلاقي"
حاول آدم أن يُخمد اشتعال الموقف، فقال بنبرة متروية
"اهدي يا علياء إحنا في الشارع... تعالي بس معايا، وهو يروح مع نفسه وفي القصر هنتفاهم، وأنا هاجيبلك حقك منه"
رفعت علياء يدها احتجاجًا، وفي عينيها تصميمٌ لا يتزعزع
"لو سمحت يا آدم... أنا أخدت قراري، مش هرجع للبني آدم ده... ولو على جثتي"
انفجر يوسف صارخًا، وصوته يجلجل في المكان
"سامع بتقول إيه!"
لكن آدم قاطعه بحزم أشد
"اسكت إنت خالص، هي عندها حق في كل كلمة، معلشي يا علياء... عشان خاطري وخاطر ولادكم، عز الدين ابنك... ولوچي برضه بنتك ولا إيه؟"
تأوهت علياء بوجع دفين، وقالت بصوت متهدّج يقطر مرارة
"أرجوك ما تضغطش عليا، ربنا عالم بحالي... ووقفت لحد دلوقتي عشان أجيب حق لوچي وبس، أي حاجة تانية... قراري فيها محسوم، مش راجعة لأخوك... ولو عمل إيه، عايز يشوف ابنه... عينيا الاتنين، ييجي يشوفه في أي وقت في النادي أنا مش هاحرم ابني من أبوه"
نظرت لوچي إلى أمها بعينين دامعتين، وصوتها يرتجف بالرجاء
"و أنا يا ماما؟"
ابتسمت لها علياء رغم الدموع المحبوسة في ، وقالت بحنان لا يخلو من العزم
"إنتي هتيجي معايا"
ارتفع صوت يوسف كالعاصفة المدمّرة، فصاح بغضب جارف
"ولا إنتي... ولا هي هاتروحوا في حتة، فاهمة يا علياء؟!"
أسرع آدم يمسك بذراعه، يمنعه من الاقتراب، بينما فتحت علياء باب سيارتها، رمقته بنظرة تفيض احتقارًا وصرامة، ثم قالت لابنته
"اركبي يا لوچي... يلا بسرعة"
أسرعت الفتاة إلى المقعد الأمامي، والتحقت بها علياء بخطواتٍ واثقة.
وما إن استقرّتا في السيارة حتى أدارت المحرك، وانطلقت تُمزّق صمت الليل بعجلاتها، فيما كان يوسف يصرخ خلفهما، صوته يمزق الأجواء كهدير جامح
"مش هاسيبك يا علياء... مش هاسيبك"
❈-❈-❈
استيقظت من سبات عميق، كأنما أغرقتها بحار النوم في لججها، فهي في هذه الأيام لا تجد راحتها إلا في الغفوة الطويلة؛ إذ يُثقل الحمل جفنيها ويسدل على عينيها ستائر الإرهاق.
وكان زوجها حرصاً على سكينتها يتركها تغفو كيفما شاءت، فلا يجرؤ على مقاطعة نومها خشية أن تتكدّر أجواء الهدوء التي نسجاها معاً بعناء لتظل حياتهما في مأمن من العواصف.
لكنها ما لبثت أن استقامت فجأة، وقد انتفض قلبها كعصفور اصطدم بزجاج نافذة، حين لم ترَ حولها سوى عتمة حالكة.
مدت يدها المرتعشة تتحسس سطح الكومود الصغير بجوارها، تتلمس الأشياء في قلق، حتى عثرت على هاتفها.
انبثق ضوء الكشاف، يخترق سواد المكان، ارتدت معطف طويل يلف جسدها كعباءة، وخرجت من الغرفة منادية بصوت مشوب بالحيرة
"قصي؟!… داده زينات؟!"
كررت النداء، متوجسة أكثر وقد قابلها الصمت الممتد مع الظلام.
خطت خطواتها على مهل، مسترشدة بوميض الهاتف، ثم هبطت على الدرج وقد ارتجف قلبها ارتجاف ورقة في مهب ريح خريفية.
نادت مرة أخرى بصوت مرتعش، يتهدج كوتر مثقوب
"قصي؟!… حد يرد عليا!"
وما إن وقفت في بهو القصر الفسيح، تتلفت بعينيها الواسعتين كظبية مذعورة، حتى انسكب النور فجأة في كل الأرجاء. وإذا بالظلام ينقشع كغمامة متمردة، ويُستبدل بأضواء متلألئة وموسيقى الفرح، ومعها دوى تهليل وتصفيقٌ؟ حار، وصوت واحد انطلق من الحناجر مجتمعة
«Happy Birthday Seba!»
جمدت في مكانها لحظة، تحدّق بذهول وبهجة تتقاسمان ملامحها، فإذا بها ترى زوجها واقفاً وعلى وجهه ابتسامة عريضة، وصغيريها يقفزان من الفرح، ووالدها وزوجته بجواره، وزينات أيضاً تشاركهم الموقف.
ركضت صغيرتها إليها، فاتحة ذراعيها كما تفتح الأزهار بتلاتها عند إشراق الصبح، فأسرعت الأخرى لتبادلها العناق وهي تهتف ببراءة الطفولة
«هابي بيرث داي مامي»
ضحكت صبا، وقد تلألأت الدموع في عينيها كحبات لؤلؤ، وأجابت بفرحٍ غامر
ـ«وإنتي طيبة يا روحي… وحشاني يا زوزو أوي»
ردّت الصغيرة بلغتها الطفولية الممزوجة بالإنجليزية
«I miss you too!»
ثم التفتت صبا نحو صغيرها الذي كان يقف متردداً، يترقب لحظة احتضان تخصه، فأشارت إليه بحنو
«تعالى يا لوكا… واحشني أوي يا حبيبي»
انطلق الطفل إليها مسرعاً، وانغمس بين ذراعيها الدافئتين وهو يهمس بلسان ملائكي
«I miss you too, Mamy!»
ثم رفع رأسه وطبع قبلة على خدها، فما لبثت شقيقته أن هتفت بحماسة
«وأنا كمان»
وهرعت لتقلد أخاها، فارتفعت على أطراف قدميها وطبعت قبلة صغيرة على خد والدتها الآخر، فارتسمت على وجه صبا ابتسامة مشعة، كابتسامة قمر اكتمل بعد ليال من الغياب.
نهضت وأمسكت بيدي صغيريها، كل منهما في يد، كأنها تخشى أن تفلت لحظة من هذا الدفء الأسري.
تقدّمت بخطوات خفيفة نحو والدها، فطوقته بذراعيها بعناق حان، ثم مالت نحو جيهان، فبادلتها العناق ذاته.
عندئذ همست لها الأخيرة بنبرة مازحة
ـ«إحنا مكناش عايزين نخضك… بس جوزك اللي أصر إننا نعمل كده»
التفتت صبا نحو قصي، فإذا به يتصنع البراءة، رافعاً حاجبيه كطفل بريء، وقال مداعباً
«أنا مقولتلهمش يطفوا النور… باباكي هو اللي قال اطفوا النور، وهي هاتصحى على طول»
هزت رأسها مبتسمة، وقالت متوعدة في رفق
«هردهالكم… ما تقلقوش»
وما إن وقع بصرها على زينات، التي كانت تضحك بحرارة، حتى رمقتها بمرح قائلة
«حتى إنتي كمان يا دادة… متفقة معاهم!»
توقفت زينات عن الضحك في حياء، وأجابت بابتسامة رقيقة
«قولنا نعملهالك مفاجأة… ونفرحك»
أطلقت صبا زفرة طويلة مصحوبة بضحكة صغيرة، ثم قالت
«لاء… إنتو رعبتوني بس»
اقترب منها قصي، ووضع ذراعه على ظهرها بحميمية، ثم قال في لهجة دافئة
«طب يلا… نطفي الشمع قبل ما التورتة تسيح»
التفتت صبا نحو المائدة، فإذا بالتورتة تنتظرها كلوحة مضيئة، وقد زُيّنت بعبارة التهنئة بعيد الميلاد، وطُبعت عليها صورتها من يوم افتتاح شركتها.
تأملتها بعينين تتلألآن فرحاً، ثم نظرت إلى قصي متسائلة، فبادرها ق
يسألها
«عاجباكي؟»
أومأت برأسها والابتسامة تعلو ثغرها
«عاجباني أوي… ربنا يخليك ليا يا حبيبي»
ثم التفتت إلى صغيريها، وأبيها وجيهان، وزينات، قالت بصوت متهدّج بالامتنان
«ربنا ما يحرمني منكم أبداً»
بدأ الجميع ينشدون معاً أنشودة عيد الميلاد الشهيرة، وقد اختلطت أصواتهم في نغم واحد، ملأ القصر بهجة وحبور.
وما إن انتهت الأغنية، حتى انحنت صبا وأطفأت الشموع، وسط تصفيق وضحكات.
اقتربت الصغيرة بحماس، تحمل بين يديها هدية ملفوفة بعناية، وقالت
«اتفضلي يا مامي… أنا ولوكا اشتركنا مع بعض، وبابي ساعدنا، وجبنا لك ده… افتحيها»
فتحت صبا الغلاف برفق، لتجد علبة مخملية بلون الزمرد، وما إن رفعت غطائها حتى انبثق منها بريق ذهبي، فإذ هي سلسلة من الذهب الخالص، يتوسطها اسمها منقوش بالإنجليزية.
شهقت من الدهشة، وقالت بسعادة «الله… حلوة جداً»
ابتسم قصي وهو يومئ نحو الصغيرين
«دي فكرتهم هم»
انحنت صبا على ولديها، تطبع قبلة على جبين كل منهما، فتلألأت السعادة في عينيها.
ثم تقدم والدها وقدم لها علبة كبيرة، قائلاً في دفء
«اتفضلي يا حبيبتي… كل سنة وإنتي طيبة وافتحيها بعدين»
وتبعته جيهان وهي تسلمها علبة أخرى بحنو مماثل
«كل سنة وإنتي طيبة»
رفعت صبا العلبتين إلى صدرها، وقالت بعاطفة فياضة
«حبيبي يا بابا أنت وچيچي… مش عارفة أقولكم شكراً على المفاجأة الجميلة ولا الهدايا… ولا إن ده أول عيد ميلاد ليا يتجمع فيه كل الناس اللي بحبهم وأقربهم لقلبي، ناقصنا بس ولاد خالي وتكمل فرحتنا»
ابتسمت جيهان وقالت
«فرحتنا هاتكمل إن شاء الله في الويك إند… كلنا هانتجمع في قصر البحيري»
فصاحت الصغيرة زينب بحماسة
«وهنروح إحنا كمان يا نناه؟»
ربّتت جدتها على شعره
«طبعاً يا قلب نناه… هتيجوا مع بابي ومامي»
عندها تدخل عابد، معترضاً بغيرته الظاهرة
«وإشمعنا في قصر البحيري؟!، ما أنا أعزمهم عندي في القصر بتاعي»
ابتسمت جيهان، وقالت محاولة تهدئته
«عندك أو عندنا واحد يا عابد، مالك مضايق ليه؟»
قطّب حاجبيه وأجاب بنبرة حادة
«شوفي إنتي بتقولي إيه… عندك أو عندنا؟!، إنتي ناسية إن مكانك هو مكان جوزك؟!»
وقف كل من صبا وقصي يتابعان النقاش من بعيد، يتبادلان نظرات ضاحكة، فمال قصي نحوها هامساً
«ألحقي… باباكي شكله غيران»
ضحكت في صمت، وقالت له مداعبة
«إنت كده شوفت حاجة، لما كنت قاعدة معاهم كنت بسمعهم يتناقروا كل شوية، بصراحة بابا مهما كان غيور بس عمره ما هيبقى زيك يا حبيبي»
رفع قصي حاجبه متسائلاً
«ليكون مش عاجبك غيرتي عليكي إن شاء الله؟»
أجابته وهي تتأمل ملامحه بشغف
«أنا أقدر أقول حاجة؟، ده أنا بموت فيك وفي غيرتك اللي كانت هاتودينا في داهية، لما كسرت للراجل التركي مناخيره»
قطّب قصي جبينه وقال محتد في لهجة مرحة
«يستاهل، محدش قاله يعمل فيها مهند ويمسك إيدك، لأء و كمان يبوسها، يحمد ربنا إني سيبتله بوقه سليم»
قهقهت صبا وقالت مازحة
«ييي… مش هنخلص ياريتني ما فتحت السيرة، وبعدين تعالي هنا، الكل جابلي هدايا، وأنا ما شوفتش منك حاجة، ولا إنت عشان مشارك في هدية ولادك؟!»
نظر إليها بمكر، وابتسامة خبيثة ترتسم على شفتيه، ثم قال وهو يحرك يده على ظهرها صعوداً و هبوطاً
«اتفضلي دي هديتك، رغم إني كنت عايز أديهالك فوق عشان عارفك متهورة، وهاتقعدي تبوسي فيا قدامهم»
مدَّ قصي يده نحوها بورقة مطوية بعناية، فتناولتها صبا بشغف يخالطه فضول، فتحتها رويداً رويداً، وأخذت تقلب السطور بعينيها اللامعتين، بينما هو يرمقها بنظرة واثقة، وقال بنبرة تتشح بالفخر
«عقد خط إنتاج دولي لشركتك… تقدري تصدري في أي مكان في العالم براحتك»
وبينما كان صوته ينساب إليها كنسيم دافئ، غمز لها غمزة ماكرة، وأتبعها بتربيتة خفيفة على أسفل ظهرها.
فشهقت في خفوت، وجزّت على شفتها السفلى وهمست بحرج ممزوج بالمرح
«بطل قلة أدب… إحنا مش لوحدنا»
ابتسم بمكر عذب، ورد هامساً
«محدش واخد باله مننا»
أخفضت بصرها إلى الورقة مجدداً، ثم رفعت عينيها إليه في غمرة من الانفعال، وقالت بصوت متهدّج تغلفه السعادة
«مش عارفة أقولك على كم الفرح اللي أنا حاسة بيه… ده أنا مش عايزة أبوسك بس، أنا عايزة…»
قاطعها قبل أن تُكمل، بنظرات خبيثة تحمل أكثر مما تحتمله الكلمات
«وأنا كمان عايز… بس بعد ما الولاد يناموا، وبابا وجيجي يكملوا خناقتهم في بيتهم»
وكزته بخفة مازحة، وقالت في لهجة تحذير رقيقة
«بس بقى ليسمعونا»
انفجر ضاحكاً، ثم سكنت ضحكته وهو يتأمل ملامحها المتوردة، وعينيها المضيئتين، وانحناءات جسدها التي برزت قليلاً بفعل الحمل، فوهبتها مسحة أشد أنوثة.
لم يتمالك نفسه حتى قال، وعيناه تُعلن اعجابه
«ألا قوليلي… مالك بقيتي حلوة أوي كده ليه؟»
فتحت فمها باندهاش مصطنع، وردت مازحة
«يعني أنا كنت وحشة ولا إيه يا سي قيصو؟!»
لوح بيده نافياً، وقال بعاطفة صادقة تكسوها الدعابة
«أنا قصدي… عمالة تحلوي يا روح قلبي، فيه حاجات… قصدي يعني… بصي هفهمك برضه لما نطلع فوق»
ابتسمت ابتسامة عذبة، وقد أدركت المعنى الضمني فيما وراء كلماته؛ فحديثه لم يكن مجرّد مزاح، بل كان يضمر حكاية أخرى ستروى بغير الألسنة.
وعاد كلاهما بعد لحظات مترعة بالدفء يتابعان مشاجرة عابد وجيهان، تلك المشادة ذات الطابع الكوميدي، التي تحولت إلى مشهد مضحك يجذب الضحكات من الحاضرين.
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي، ظلت تنتظر أمام بوابة قسم الشرطة، قلبها يخفق كطبول حرب، والقلق ينهش صدرها.
الهواء كان مثقلاً بصخب المدينة، وضوضاء العابرين تتلاشى أمام صخب أفكارها المشتعلة.
لم يطل وقوفها حتى خرج إليها أحد العاملين بالداخل، بصوت جاف مقتضب
"الظابط المختص في قضية جريمة قتل روميساء وصل من شوية، وبدأ التحقيق مع جوز حضرتك"
تجمدت الدماء في عروقها، واستشعرت أن كل خفقة من قلبها تسير نحو المجهول.
وفي الداخل، كان طه يقف منهك القوى، عيناه غائرتان في محجريهما كمن سُلب النوم والراحة، يواجه الضابط بنبرة يائسة
"و ربنا ما قتلتها"
رفع الضابط حاجبيه وهو يقلب في الأوراق، ونبرته تقطر بالشك
"أومال كنت بتعمل إيه جوه؟، ده البت بتاعت خدمة الغرف مسكتك متلبس، وبصماتك على باب الأوضة والحمام"
تنفس طه بصعوبة وصوته يختنق بين الحروف
"ما أنا قولت لحضرتك... أنا شوفت المفتاح محطوط بره، والمفروض كنت هعدي عليها قبل ما نخرج، ولما دخلت لاقيتها مقتولة"
أطرق الضابط رأسه قليلاً نحو التقرير أمامه، ثم رفع عينيه بنظرة صارمة
"التقرير الجنائي اللي قدامي بيقول إنها اتقتلت قبل ساعتين من دخولك عليها... تقدر تقولي كنت فين في الوقت ده؟"
رد طه بسرعة، محاولاً التشبث بأي خيط نجاة
"كنت نايم... وقبلها كنت بتغدى في مطعم الفندق"
وما إن أنهى عبارته حتى دوّى طرق على الباب، دخل على إثره العسكري وأدى التحية قائلاً
"فيه واحدة يا فندم بتقول إنها جاية تشهد في جريمة قتل البلوجر... دي بطاقتها"
مدّ البطاقة للضابط، الذي ألقى نظرة سريعة عليها، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة مشوبة بالتشفي، التفت نحو طه وقال ببرود لاذع
"خليها تتفضل"
أشار العسكري بيده وهو يفتح الباب
"اتفضلي يا مدام"
دخلت بخطوات ثابتة، غير أن قلبها كان يرتجف بين أضلعها.
وبمجرد أن وقعت عين طه عليها، تجمد في مكانه؛ كانت الصدمة أول رد فعل، تلتها نظرة ندم عميق، نظرة فضحت خيانته التي أدمت قلبها يوماً، وأكدت كل لحظة ضعف هشمت ثقتها فيه.
لكنها اليوم لم تقف كخصم أو عدو، بل كظل للحق، كسند في محنة لا يقدر على مواجهتها وحده. جلست على مقعد الشاهد، ملامحها مشدودة بالعزم، وعينيها تحملان قوة متقدة، غير أن في أعماقها شعاع صامت من الدعم.
في تلك اللحظة، أدرك طه أن ندمه مهما بلغ لن يقارن بقوة حضورها، ولا بعظمة قلبها الذي وقف بجواره رغم انكساراته.
نطقت بصوت حاسم، متماسك
"أنا جاية أقول وأشهد إن طه أبو ولادي بريء، وعمره ما يعمل كده أبداً"
قهقه الضابط ساخرًا، وهو يتكئ للخلف في مقعده
"طب حضرتك ما سألتيش نفسك ليه هو المتهم الوحيد؟، غير إنه كان جوه الأوضة بعد ما اتقتلت؟"
كان سؤاله طعنة أكثر منه استفساراً، كأنه يُسلط السكين على جرح مفتوح، تمالكت نفسها وأجابت بنبرة واثقة
"يا فندم... أنا وجوزي جايين نغير جو، وعرفنا بالصدفة إن مدام روميساء جارتنا هنا... عشان بتصور إعلان"
انحنى الضابط قليلاً للأمام، صوته مشبع بالريبة
"متأكدة؟"
وما إن أومأت برأسها حتى باغتها بقوله، كمن يكشف سر مدفون
"واللي بتسافر مع جوزها... توصل بعده وتاخد أوضة لوحدها، بعد ما تفضل تتخانق مع موظفين الريسيبشن؟!، ولا كنتي جاية تقفشي جوزك مع جارتكم؟!"
تساقطت كلماته كالرصاص، تفضح ما حاولت دفنه في صمتها، وما أرادت أن تنكره أمام الجميع، لكنها تماسكت، متشبثة بالحقيقة التي جاءت من أجلها، حتى ولو تكسّرت روحها تحت ثقل الإهانة.
رمقته شيماء بعينين تلمعان بالقهر و الألم، ثم ألقت نظرة عابرة على طه الذي لم يقوَ على مواجهة عينيها؛ إذ انكفأ بصره أرضاً كمن يختبئ من سوط ضميره، غارقاً في احتقار نفسه.
عادت ببصرها إلى الضابط، وتكلمت بصوت يحمل خليطاً من التماسك والوجع
"وليه حضرتك ما تقولش إني كنت بعمله مفاجأة بمناسبة عيد جوازنا؟!، وهو أساس مجيته هنا كان شغل تبع شركة ولاد عمه"
ارتد الضابط بظهره إلى مقعده، يتفحص هيئتها ويقرأ لغة جسدها، كأنما يسبر أغوار ما تخفيه عيناها
"هاعمل نفسي مصدقك يا مدام شيماء... بس تقدري تقوليلي جوزك كان فين من ساعتين وقت ارتكاب الجريمة؟"
ردت بسرعة بديهة، تقطع الشك بسيف الاستفهام
"وهو حضرتك مفيش كاميرات في المكان توضحلكم مين خرج ومين دخل؟!"
ابتسم الضابط ببرود، قائلاً
"الكاميرات اتعطلت في المكان ده قبل ارتكاب الجريمة بساعتين"
أسرعت بالكلام كأنها تسابق الزمن لتثبت براءته
"جوزي في الوقت ده كان نايم فعلاً، وأنا كنت معاه في الأوضة لحد ما خرج يروح للقتيلة"
وما إن أنهت عبارتها حتى طرق الباب، فدخل مساعد الضابط، يحمل بين يديه هاتف روميساء وأجهزة صغيرة أشبه بأن تكون أدوات تجسس.
"اتفضل يا فندم... دي كاميرا لقيناها مزروعة في التابلوه اللي على الحيطة قدام سرير القتيلة، متوصلة بتطبيق على موبايلها، ومصورة من وقت الجريمة لحد ما اكتشفنا وجودها"
ضغط الضابط زر التشغيل، فإذا بالمقطع يعرض مشهد مرعب.
روميساء تركض في الغرفة بفزع، يتبعها شاب ذو ملامح متجهمة مريبة، يجذبها من شعرها بعنف ويكيل لها اللكمات.
حاولت التشبث بالهاتف الأرضي لتستنجد، غير أن القاتل جرها على الأرض كأنها دمية، ثم دفعها عنوة إلى الحمام.
لحظات وخرج وجهه خائف، يحمل في يده مدية ملطخة بالدماء، دسّها في جيب بنطاله، وفتح الباب ليغادر متسللاً قبل أن يلحظه أحد.
تقدم المساعد قائلاً
"وكمان لقينا عقود جواز عرفي على فترات متقاربة... ودي تقارير بكل حاجة.... وبعد التحريات عرفنا إن القاتل طلع أخوها"
تنفس طه الصعداء كمن بُعث من قبره، وشاركت شيماء زفرة الارتياح، لكن سرعان ما انقبض صدرها مجدداً حين رفع الضابط رأسه من الأوراق، يعلق بلهجة لا تخلو من مرارة السخرية
"الظاهر إن القتيلة ماكنتش بتضيع وقت... والكاميرا المزروعة دي كانت ناوية على ليلة فرفشة مع أستاذ طه، وبعدها تهدده يتجوزها يا إما تبلغ المدام، وبعد ما يرضخ لها، كانت هتاخد اللي وراه وقدامه، شوفت يا طه كنت هاتقع في مصيبة مالهاش آخر إزاي؟"
رفع الأخر رأسه نحو الضابط، لسانه انعقد ولم تسعفه الكلمات، ثم حول نظره نحو شيماء علّه يقتنص منها الغفران، لكنها لم تكلف نفسها حتى نظرة واحدة.
أغلق الضابط الملف بإحكام وهو يتلو قراره بصوت صارم
"وبعد الاطلاع على التقارير والتحريات ومعرفة الجاني، لقد قررنا نحن العقيد سيف العزاوي، الإفراج عن المدعو طه سالم يحيى البحيري"
وبعد أن انتهت الإجراءات وأُطلق سراحه من ذلك الوحل، عادت شيماء بخطى حاسمة إلى الفندق عازمة على المغادرة.
لحق بها طه يتوسل بصوت متهدج
"شيماء... أرجوكي اسمعيني، أنا جيت أتفسح يومين بس، مش زي ما فهمتي من الظابط، ولو كنت عملت معاها حاجة، كانت تسجيلات الكاميرا جابتني، والله يا شيماء...
توقفت فجأة، استدارت نحوه بعينين تقدحان ناراً
"إياك تحلف كدب... عشان ما تنزلش من نظري أكتر من كده... ووقوفي جنبك في القسم ده ماكانش عشانك... كان عشان خاطر ابنك محدش يعايره من أصحابه... ولا أعمله هو وأخته فضايح مالهمش ذنب فيها"
كاد يتكلم، فأوقفته بإشارة صارمة من يدها، ثم أردفت بكلمات كسيوف تخترق صدره
"الخيانة مش مجرد علاقة في سرير... الخيانة إنك تفكر في واحدة تانية... تبص لواحدة غير الست اللي شايلاك جوه عينيها وصاينة بيتك في غيابك قبل وجودك... أنا مش بعاتبك... لأن العتاب للأحباب... وإنت ما بقيتش حبيب... إنت بقيت مجرد أبو عيالي وبس"
ألقت كلماتها كالعاصفة، مزلزلة أركانه، تاركة إياه يغرق في ظلام روحه، بلا سند، بلا غفران، وبلا رجاء.