رواية اشتد قيد الهوي الفصل الواحد والعشرون 21 بقلم دهب عطية


 رواية اشتد قيد الهوي الفصل الواحد والعشرون 

نخشى المختبئ خلف صفحات حياتنا نخشى
تلك الأيام التي نستيقظ فيها على أخبار مفجعة وحقائق صادمة...

من منا لم يعش تلك اللحظة الغادرة حين تعاملك الحياة كطفل رضيع تهدهدك يمينًا ويسارًا مكررة الأيام من حولك وكأنها دائرة تدور بك حتى تسقط فجأة أرضًا بمنتهى القسوة فتقع في دوامة مظلمة موحشة...

فقد عزيز...

ذاك الشعور القاسي اختبرته تلك العائلة مرارًا وفي سنوات متفرقة سقطت أوراق الشجرة واحدة تلو الأخرى حتى لم يتبقَّ منها إلا
أربع أوراق...

واليوم ورقة منها مهددة بالسقوط...

حادث سيارة انقلبت على الطريق ليلًا...

المريض في غرفة العمليات منذ ساعات وعائلته تنتظره في الخارج (الثلاث أوراق)...

تجلس الجدة على المقعد بوجه شاحب شحوب الأموات تفتح المصحف وتقرأ صفحاته بقلب ينتفض هلعًا وعلى صرخة واحدة تردد

"يا رب سلِّم... يا رب سلِّم..."

بينما تجاورها أبرار على المقعد يدها على صدرها محمرة الوجه والدموع تسيل على وجنتيها وعيناها معلقتان بضياع وخوف 
على باب غرفة العمليات...

هذا الخوف الذي يستوطن قلبها والألم الذي يضرب صدرها لم يكن طبيعيًا...

تأكدت للتو أنها لم تكن تحبه كابن عمها أو
كأخٍ أكبر...

إنها تكن له مشاعر خاصة منذ نعومة أظفارها ومن غبائها ظنت أن ما بينهما حالة طبيعية... لكن مشاعرها في تلك اللحظة تحديدًا لم تكن طبيعية...

كل ما تختبره من مشاعر الآن لا تخص أخًا...

إنه حبيبها... حبيبها رغمًا عنه وعن الجميع...

أطلق صالح تنهيدة طويلة مستاءة وهو ينظر إلى ساعته.... الساعات تمر ولا يخرج أحد ليطمئنهما...

قلب مرتعب على ابن أخيه ذلك العنيد المخالف له في كل شيء...

هو سنده في هذه الحياة مهما أنكر ومهما تضاربا في الآراء والأحاديث... يظل ياسين 
ابنه البِكر أول فرحة للعائلة وأول فرحة له ومكانته خاصة لن يصل إليها أحد بعده !...

عاد يتنهد وهو يشعر أن صدره يحترق
ورأسه تكاد تنفجّر من شدة الصداع ورغم
ذلك يعافر حتى يبقى صامدًا أمامهم فلا يجب على الجبل أن يميل مهما حدث...

رفع عينيه الخضراوين نحو الممر ليراها تقترب منهما وفي يديها أكياس تحوي
عصائر وشطائر مغلفة...

تأفف بضيق منها فرغم اعتراضه اتبعتهما إلى المشفى مُصرة على تواجدها ومع ذلك هو لا يمانع... فهو يحتاجها بشدة حتى إن لم يُفصح عن ذلك بينه وبين نفسه !...

وحين طال وقوفهم أمام غرفة العمليات ذهبت لتجلب لهما تلك الأشياء...

عنيدة وقوية لكنها هشة في بعض الأوقات بطريقة جذابة وحنونة حد الإفراط تجعل المرء يذوب ذوبانًا مقبولًا على أعتاب هواها وأمام تلك العينين الشبيهتين بالغزلان...

راقبها وهي ترجُو والدته أن تأخذ القليل من العصير مع قضمة من الشطيرة لكن والدته رفضت بشدة ومع إصرار شروق المتكرر
أخذت العصير فقط دون غيره...

ثم توجهت إلى أبرار تتحايل عليها كطفلة صغيرة محاولة معها وهي تقول لها بحنوّ..

"هيبقى كويس والله يا حبيبتي بس بلاش تعملي كده... اشربي حتى العصير هتقعي من طولك... عشان خاطري يا أبرار بلاش توجعي قلبنا... كفاية ياسين..."

انهمرت العبارات من عيني أبرار وهي ترفض بعناد مبعدة يد شروق عنها...

فعادت شروق تحاول إقناعها بشتى الطرق..

"وغلاوته عندك لتشربي... عشان لما يطلع بالسلامة يلاقيكي جنبه ما يلاقيش في الأوضة اللي جنبه يا هبلة... اسمعي مني... 
كلي لقمة صغيرة وشوية العصير دول
عشان تسندي طولك..."

وبعد محاولات كثيرة من شروق وصبر كبير
منها استجابت لها أبرار وبدأت في شرب العصير والأكل ببطء وبشهية مفقودة لكنها تخشى أن تفقد وعيها فعلًا وتشعر أنها على وشك ذلك لكنها تشدد من عزمها حتى النهاية...

تنهدت شروق بارتياح وهي تنجح أخيرًا في إقناعهما ورفعت عينيها عليه لتراه ينظر إليها بهدوء ويبدو أنه يراقبها منذ البداية...

اقتربت منه وفي يدها الشطيرة والعصير وقبل أن تفتح فمها في محاولة جديدة للإقناع قال بصوت خافت لكن صارم...

"متحاوليش..."

تنهدت بتعب حقيقي وهي تنظر إلى الأعلى ثم عادت إليه وقالت برجاء...

"عشان خاطري يا شيخ صالح... دي حاجة بسيطة يعني مش أكل... تسندك..."

رد صالح بنظرة شاخصة ونبرة مهيبة..

"أنا مسنود والحمد لله... روحي اقعدي مكانك وبلاش تمشي تاني من غير ما تعرفيني... عيب..."

عيب...

وكم كانت صارمة ومهيمنة عليها جعلتها
تلتزم الصمت خانعة مكتفية بإيماءة صغيرة متراجعة للخلف لتجلس بجوار ابنته دون جدال...

وكيف يمكنها أن تجادله...؟! مستعدة أن تجادل العالم كله وتقف أمامه وتأتي عنده فتسيطر عليها سطوته فتضعف وترتد قلبًا وقالبًا...

خرج الطبيب بعد لحظات من غرفة العمليات فأتى عليه الجميع يسبقهما صالح الذي سأله بلهفة....

"خير يا دكتور..... طمّني..."

رد عليه الطبيب بنبرة عملية...

"الحمد لله، بخير... وقفنا النزيف ومافيش أي مضاعفات... في بعض الكسور والجروح هتاخد وقتها مع العلاج وهيرجع أحسن... دعواتكم ليه..."

ضمّت الجدة المصحف إلى صدرها وتمتمت بالحمد بينما أبرار تشهق باكية وكأنها عادت إلى الحياة للتو... سحبتها شروق إلى أحضانها تربّت على ظهرها هامسة ببعض الكلمات الممازحة وكأنها تشي سرًا...

مما جعل أبرار تبتسم في عز انهيارها وتتورد وجنتاها كفتاة حالمة...

ظل صالح يراقب تلك الحالة وهو يتمتم من قلبه مع زفرة ارتياح...

"الحمد لله..."

تلاقت عيناه الخضراوان مجددًا بعيون الغزلان وتلك المرة أهدته ابتسامة مشرقة...

أشرق معها صدره وربما وجهه وهو يستوعب أن البلاء قد زال وانتهى...

"وطلع الشروق..."

تلك الكلمتان اللتان لهما مفعول السحر على قلبه همس بهما وعيناه غير قادرتين على الابتعاد عنها...

وكأنه يخشى أن تغرب حياته فجأة إن غفل عن الشروق !...
...............................................................
ترك الجميع في الأعلى حيث الغرفة التي نُقل إليها ياسين... لم يستعيد وعيه بعد من آثار التخدير ومع ذلك ظلّت والدته وابنته بالقرب منه إلى أن يستيقظ...

أما هو فتركهم جميعًا وجلس في كافيتيريا المشفى يرتشف من كوب شاي ثقيل لعلّه يخلصه من هذا الصداع ويعيد إليه توازنه لبقية اليوم....

"ممكن أقعد معاك؟... "

اشتاق إلى تلك المبادرات الجريئة منها والتي لم تكن تعجبه في السابق... اشتاق إلى مداعبة الشروق لحياته بعد أن غابت عنه لأيام وليالٍ متعمّدة القسوة..... وهي ليست أهلا لها...

رفع عينيه عليها فرآها تجلس في المقعد المقابل تنظر إليه وعلبة العصير في يدها ترتشف منها مع قضمة من الشطيرة في اليد الأخرى...

حدق صالح في شفتيها شاردًا مع تحرك فمها لمضغ اللقمة بخفة وسرعة ويبدو عليها الجوع الشديد... كانت صامدة كل هذا الوقت بمعدة خاوية بينما امتلأت بطون الجميع غصبًا...

توقفت عن الأكل وهي تقدّم له الشطيرة قائلةً بخجل...

"شكلك جعان... اتفضل."

أبعد صالح عينيه بحرج وقال....

"بالف هنا... سرحت شوية."

قالت شروق محاولة قتل الصمت بينهما...

"حمد الله على سلامة ياسين... ربنا يتم شفاه على خير... "

أجابها وهو يعود إليها بعينيه...

"يا رب... تعبناكي معانا...."

قالت شروق بمودة....

"هو أنا عملت إيه يعني؟ دا انتو جمايلكم مغرقاني...."

عبس وجهه وقال بنبرة حازمة...

"بلاش الكلام ده إنتي مش غريبة... وقريب أوي هتكوني واحدة من العيلة دي."

غامت عيناها بالحزن وتوقفت عن الأكل وقالت....

"شكله مش هينفع..."

سألها متعجبًا....

"وليه مش هينفع؟!"

نظرت إلى المكان حولهما...

"هنتكلم هنا؟!"

رد مقتضبًا وصدره يعصف بمشاعر عديدة..

"وليه لأ؟... طالما بتتهربي مني من ساعتها..."

هزت شروق رأسها وقالت بشجن....

"أنا مش بهرب... أنا بس كنت بحسبها مع نفسي ولما حسبتها صح اكتشفت إنك
تستاهل واحدة أحسن مني ميت مرة...

" إيه اللي يخليك تتجوز واحدة مطلقة
ومعاها عيلة... وطليقها رد سجون واديك شوفت أمه عملت إيه... ما بالك هو..."

قست نظرة عينيه واشتدت ملامحه بصلابة مخيفة وقال مزمجرًا...

"هو مين؟! يبقى يحاول يقرب منك... وأنا مش هخليه يشوف النور تاني... "

انتفض قلبها بلوعة وقالت بخوف...

"وليه تدخل في مشاكل مع واحد زي ده ليه تدخل في مشاكلي اللي ما بتخلصش؟ بلاش يا شيخ... بالله عليك بلاش..."

حديثها أثار حفيظته وباتت نظرته عليها أخطر وكأن خضارهما يشتعل كغابة اندلع فيها حريق مفاجئ...

"إنتي ناوية ترجعي ليه؟!... "

توسّعت عيناها بصدمة من هذا الاتهام الصريح الذي يطرب به مسامعها...

قالت شروق بحدة.....

"كم مرة سألت السؤال ده ورديت عليك؟! ليه الظن ده؟!"

زجرها حانقًا...

"أمال رافضاني ليه؟!"

شهقت دون صوت مسموع وقالت...

"لا عاشت ولا كانت اللي ترفض واحد زيك
دي تبقى عميه..."

التوى فمه بسخرية....

"طب يا عميه... قولي الكلام ده لنفسك.. "

لم تقاوم ضحكة فلتت من بين شفتيها ولم يكن أوانها لكنها أثارته على أي حال...

عقد صالح حاجبيه متجهمًا...

"بتضحكي؟!"

قالت شروق بعد تنهيدة ناعمة...

"أنا مش رافضاك يا شيخ... أنا ببعدك عن الأذى ووجع الدماغ اللي ممكن تشوفه من الجوازة دي..."

رد بصوت قاطع...

"أنا قابل...."

قالت بسرعة وخوف....

"بس انا مش قبله... عشان خايفة وعارفة اللي هيحصل..."

نظر إليها بقوة ولهجة عميقة عمقها دغدغ أنوثتها وقلبها الخافق....

"أيا كان اللي هيحصل...أنا معاكي فيه... وعندي استعداد أقف قصاد أي حد عشانك. إنتي هتبقي مراتي يا شروق... عرضي."

تآوهت بتعب منه قائلة...

"هتندم يا صالح... وهتلعن اليوم اللي عرفتني فيه...."

هتف صالح بصوت أجش...

"إنتي اللي هتندمي على كل يوم ضاع وأنا مش معاكي فيه..."

قالت دون تفكير...

"ومين قالك إني مش ندمانة... "

علينا التفكير أولًا قبل أن يقع المحظور...

بلعت ريقها وهي ترفع عينيها عليه لترى ابتسامته تتسع على محيّاه مما جعل الجاذبية تتضاعف ويصعب على أنثى مثلها مقاومتها...

لذلك ظلّت لبرهة تحدّق فيه ببلاهة محاولة استيعاب اعترافها المخزي...

"اعتبر إن دي الموافقة اللي أنا مستنياها..."

أسبلت جفنيها متخضّبة الوجنتين وقالت بصعوبة...

"لا في حاجات كتير ما اتكلمناش فيها... أولهم أبرار وملك... دول موافقتهم عندي أهم من أي حاجة."

اعترض بخشونة مهيبة...

"موافقتك إنتي هي الأهم... والباقي مقدور عليه."

ظلّت صامتة ترفض النظر إليه فقال...

"أسمع الرد..."

عضّت على باطن شفتيها وأصابعها تحفر في سطح الطاولة...

انتظر بصبرٍ حتى قالت بعد دقيقتين....

"موافقة... وربنا يستر.... "

ومضت عيناه الخضراوان بالسعادة وأخرج زفرة ارتياح وهو يقول بخبث...

"وكأننا داخلين على حرب..."

قالت بوجوم...

"إنت بتقول فيها..."

هتف صالح بصوت حازم عميق...

"حتى لو هحارب... ما عنديش مشكلة أحارب عشانك."

الجمها الرد بشدة فرفعت عينيها عليه لترى الصدق مرتسمًا على محيّاه وومض عينيه كشهاب أخضر اللون...

"بجد؟!"

أومأ برأسه دون أن يضيف كلمة واحدة...

فتراجعت في مقعدها وهي ترفض توريطه معها...... تتمنى ذلك....

"ربنا يبعد عنك الأذى... ويحفظك... أنا فداك والله."

رد وعيناه تتشربان من حُسنها الأسِر....

"أنا اللي فداكي يا شروق... ومش كلام 
بكرة الأيام تثبتلك..."

أسرها بكلامه المعسول وسرى الدفء في جسدها وكأنه احتواها بين ذراعيه القويتين فبلعت ريقها بضعفٍ أنثوي وقلبها الخافق متجاوبًا معه بجنون...
.................................................................
تجلس على مقعد قريب من الفراش المُستلقي عليه... ذراعه مجبّرة وكذلك ساقه بينما هناك جرح عميق في رأسه تمّت خياطته...

تمسك يده السليمة المستريحة بجواره تحتضنها بين يديها وعيناها الباكيتان لا تفارقان وجهه متمتمة بتهدّج....

"كنت عايز تسبني وتروح فين يا ياسين... هونت عليك.....كنت هموت بجد لو كان
جرالك حاجة..."

ثم مدت يدها تتحسّس خصلات شعره برفق هامسة بشوق...

"اصحى بقى يا ياسينو... كفاية كده..."

وكأنه استجاب لنداء قلبها بدأ يفتح جفنيه ببطء مُصدرًا تأوهًا خافتًا...

اقتربت أبرار منه أكثر بحرصٍ شديد...

"ياسين... انت صحيت... حمد لله على السلامة... "

نظر ياسين إليها قليلًا ثم سألها وهو ينظر حوله محركًا حدقتيه...

"أنا فين؟"

قالت أبرار بلهفة...

"في المستشفى... انت عملت حادثة بالليل... مش فاكر؟"

ردّ مقتضبًا وكأنه تلقى أسوأ خبر في حياته..

"يعني... مموتش؟"

توسّعت عيناها بذهول....

"وانت كنت عايز تموت؟!"

رد عليها باستهجان...

"عشان أريحك مني... وتعرفي تتجوزي اللي على هواكي."

اتسعت عيناها حتى كادت أن تخرج من
مكانها وسألت بصدمة...

"انت كنت قاصد تقلب العربية بيك؟!"

أجابها دون تراجع...

"آه... عشان ماكنتش عايز أكون العقبة اللي واقفة في طريق حياتك."

نهضت من مكانها بمنتهى العصبية صارخةً بحرقة....

"انت أكيد اتجننت أنا حياتي كانت هتقف فعلًا لو جرالك حاجة يا مجنون... في حد عاقل يعمل كده؟!...... بتنتحر يا ياسين؟!"

زمّ فمه واجمًا وقال...

"علي صوتك أكتر خليهم يعرفوا... إني كنت قاصد أقلب العربية بيا... عشانك."

تراجعت للخلف وهي تقول بملامح غاضبة حانقة...

"عشاني ليه؟! مش هشيل ذنبك أنا انت واحد مستهتر... وعايز كل حاجة بالعافية... "

احتدت نظراته نحوها وقال بقسوة...

"لا بالعافية ولا بالرضا... أنا مبقتش عايزك أصلًا.... "

وخزت كلماته الحادة قلبها فقالت بمرارة...

"يا سلام... حوش أنا اللي هموت عليك"

أردف بلهجة مهينة حانقة...

"أنا اللي كنت هموت عشان واحدة حلوفة زيّك... "

قالت بعينين تلمعان بالغضب والدموع
بانفعال...

"أنا مش حلوفة لم نفسك... خسارة فيك خوفي ودموعي... "

تلون فمه بابتسامة مزدرية وقال...

"دموع التماسيح... كنتي هتدفنيني من هنا وتروحي تتجوزي من هنا... "

قارعته أبرار بلهجة باردة مستفزة...

"من الأصول كنت هستنى لحد الأربعين
عشان الناس ما تقولش عليا حاجة... "

قست نظراته أكثر وقال من بين أسنانه...

"لو كنت سليم كنت اديتك جوز قلام يرجعوا لك عقلك... "

تشدقت ساخرة...

"مش لما يرجع ليك إنت الأول... بذمتك في حد عاقل ينتحر عشان اترفض؟!"

أجابها ياسين بتهكم...

"وانتي صدقتي إني ممكن أضحي بعمري وشبابي عشان واحدة حلوفة زيّك؟!"

قالت أبرار بغيظ...

"إنت اللي لسه قايل يا ظريف... "

ردّ بجمود...

"كلام في الهوا... أنا كده كده هخرج من هنا على المأذون عدل."

سألته بترقّب...

"ومين تعيسة الحظ؟"

زجرها بغلظة...

"إنتي مالك؟ أي واحدة هتقابلني هطلب إيدها.... "

اندلعت نيران الغيرة في صدرها فقالت بسخط....

"واضح إن الخبطة أثّرت على مخك تتجوز مين وإنت بالحالة دي؟!"

رد بنبرة خافتة مستفزة...

"إنتي مالك؟.... هتجوزها وهي تمرّضني.. "

على تنفسها بغضب ونظرت للأعلى قليلًا ثم عادت إليه بنبرة مهددة....

"انت بتستفزني صح؟!.... والله والله لو ما سكت يا ياسين... لأكمل عليك.. "

وقبل أن يرد عليها دخلت الجدة التي أنهت لتوها فريضة الصلاة...

عادت الحياة إلى وجه الجدة حين رأته وقد استعاد وعيه ويتحدث كذلك مع أبرار 
فقالت وهي تقترب منه...

"ياسين انت صحيت؟.... حمد لله على السلامة يا حبيبي...."

ردّ ياسين وهو يستقبل قبلة منها على جبينه

"الله يسلمك يا تيتة."

جلست على مقعد مجاور للسرير وقالت بابتسامة حنونة...

"شكلك كنت عايز تعرف غلاوتك عندنا... "

رمق أبرار بنظرة نارية قائلًا بسخرية:

"عرفتها... عرفتها كويس."

قالت الجدة بعفوية...

"دي أبرار كانت هتجنّن عليك!"

هتفت أبرار بسرعة مستنكرة..

"وأتجنّن ليه؟! أنا لسه بعقلي الدور والباقي على اللي اتلسع خالص... "

زجرها بعينين قاسيتين...

"البركة فـ اللي وصلني لهنا... منه لله... "

نقلت الجدة عينيها بينهما بحيرة وسألتهم بضيق...

"في إيه يا ولاد؟! هو دا وقته ولا ساعته عشان تقعدوا تشدوا قصاد بعض؟!"

وجّهت لأبرار الحديث بنظرة محذّرة...

"خفّي على ابن عمك يا أبرار... دا لسه خارج من العمليات... "

ثم خففت حدتها وهي تكلم ياسين....

"وأنت يا ياسين... ريّح نفسك وبطّل عناد ومعافرة معاها... "

مطّت أبرار شفتيها قائلة بلهجة باردة..

"اسمع كلام تيتة يا ياسين... ريّح نفسك كده عشان تقوم بالسلامة وتقف على رجلك من تاني... وتحضر خطوبتي... "

ارتفع حاجب الجدة معقّبة بدهشة...

"خطوبتك؟!"

ردّ ياسين لها الصاع صاعين قائلًا بجدية أصابتها في مقتلها...

"جوازي أنا الأول... ابقي حضري نفسك ما انتي أخت العريس... "

ضربت الجدة كفًّا بكف وهي تنقل عينيها بينهما بصدمة موبّخة إيّاهما بنفاد صبر..

"جوازك؟!..... انتو اتجننتوا إحنا في إيه ولا
في إيه... "

التزم كلاهما الصمت بملامح واجمة...

حينها دلف صالح وبعده دخلت شروق... وعندما رأت ياسين قالت بابتسامة ودودة..

"حمد لله على السلامة يا ياسين.. "

ردّ ياسين بهدوء..

"الله يسلمك يا أم ملك."

ثم تحدث صالح بعدما اقترب من السرير...

"شفاك الله وعافاك... عامل إيه دلوقتي؟"

ردّ عليه ياسين بتحفّظ...

"الحمد لله يا عمي."

سأله صالح برفق...

"إزاي اتقلبت بيك العربية يا ياسين؟"

أجابه دون مواربة...

"كنت سايق على أعلى سرعة..."

شعرت أبرار وكأن قلبها هوى أرضًا محطمًا بقسوة وهي تحدّق فيه بصدمة...

كان يخبرها بالحقيقة... أقدم على إنهاء حياته بسببها هي...

كيف فعلها؟! وكيف هانت عليه نفسه؟! وماذا كان سيكون مصيرها هي من بعده؟!

انفعل صالح عليه بغضب....

"وإزاي تعمل كده؟!..... عايز تموت نفسك؟!"

لم يرد ياسين والتزم الصمت بينما تجهم 
صالح سائلاً بشك..

"إيه اللي حصل يا ياسين؟... خلاك تعمل كده؟... "

أردف ياسين بصوت خافت نادم...

"مفيش حاجة حصلت... لحظة غضب والشيطان عَمَاني."

تأفف صالح قليلًا ثم أردف بعقلانية...

"لا حول ولا قوة إلا بالله...مفيش حاجة تستاهل إنك تنهي حياتك عشانها... وتموت كافر... "

تبادل هو وأبرار النظرات بصمتٍ مشحون بالمشاعر...

خرج صوت الجدة بحزم تنهي هذا الحديث..

"خلاص يا صالح... ربنا عداها على خير... سيبوه يرتاح وبلاش الكلام الكتير عشان 
ما يتعبش...."
..............................................................
قرع كعب حذائها العالي أرض المشفى تسير بعجرفة بثياب ضيّقة قصيرة لا تناسب سنها كامرأة تخطّت الأربعين...

كان يرافقها في سيرها زوجها والذي من يراه بجوارها يعتقد أنها والدته لفرق السن الهائل بينهما...

ومهما حاولت إخفاءه بملابسها وزينتها المبالغ فيها يظل كخطوطٍ جرى عليها الزمان يصعب محوها...

بالطبع لن تستطيع محو سنوات عمرها التي أضاعتها في اللهو والتنقّل بين ذراع رجلٍ لآخر...

إلّا رجلًا واحدًا رفضها مرارًا وتكرارًا بمنتهى المهانة والذل...

رفضها بعد أن عرضت نفسها عليه أكثر من مرة مطالبةً بقربه بكل الوسائل الممكنة...

لكنّه لم يستجب... كان عنيدًا شغوفًا بزوجته.
وحتى عندما فُتح الطريق لها وماتت زوجته... رفضها....

رفضها ثم صفعها وطاردها من شقّته وكأنها لم تُحرّك فيه شعرةً طوال تلك السنوات...

وحين يئست من هواه ظلّت تنتقل من رجلٍ لآخر... وجميعهم يمتلكون الشباب والقوّة، لكنّها لم تجد في أيٍ منهم...(صالح الشافعي).

عندما وصلت عبلة توقّفت مكانها تنظر إليه وهو جالس على المقعد وبجواره امرأة شابّة يافعة الأنوثة... حسناء الوجه..واسعة العينين كالغزلان...

يتحدث إليها بهدوء وعيناه الخضراوان تتشرّبان من حُسنها رشفةً تلو الأخرى وكأنها آخر نساء الأرض !...

اهتاج صدرها بالغضب والغيرة وهي تنظر إليها بحقد...

فقال هيثم بعد أن لاحظ نظراتها الحارقة نحوهما....

"وقفتي ليه يا عبلة؟...... تعرفيهم؟"

تبرّمت شفتيها وقالت بضغينة...

"ده صالح الشافعي... عم ابني. بس معرفش مين اللي لازقة فيه دي..."

"يمكن مراته..."

توسعت عيناها بصدمة وهي تنظر إليه وكأنها تلقّت صفعة مهينة للتو رافضةً التصديق..

"مراته ماتت من عشر سنين...ومستحيل يتجوز بعدها... "

ألقى هيثم نظرة من بعيد على صالح ثم عقّب بنبرة هادئة...

"مفحيش حاجة اسمها مستحيل... مفيش راجل بيقعد من غير جواز خصوصًا إنه باين مش كبير أوي يعني..."

عادت تنظر إليهما بذهول قائلةً بحسرة وهي تتذكّر محاولاتها الفاشلة معه...

"بس ده كان بيحب مراته أوي... ومكنش شايف غيرها..."

رد هيثم بواقعية...

"كان... البعيد عن العين... بعيد عن القلب..."

رفضت عبلة التصديق وقالت..

"مش ممكن يكون اتجوز... على الأقل كنت عرفت..."

سألها هيثم بدهشة...

"وانتي عايشة معاهم؟!"

قالت عبلة بثبات...

"مفيش حاجة بتستخبى في بيت الشافعي..."

تململ هيثم في وقفته وهو يقول بعبوس..

"كله هيبان... يلا اتحركي خلينا نشوف ابنك ونعمل الواجب... انتي مش قلقانة عليه ولا إيه؟... "

رفعت حاجبها ونظرت إلى زوجها بضيق
قائلةً بحنق....

"انت بتقول إيه يا هيثم.... أكيد قلقانة...
ده مهما كان ابني.... "

مطّ هيثم فمه بغير اقتناع....

"آه... مانا عارف... طب يلا بينا..."

عندما لمحها صالح عبست ملامحه وقست نظراته ونهض واقفًا أمامها يمنعها من الاقتراب من الغرفة...

رفعت عبلة حاجبها بغضب وتحدٍّ سافر من عينيها بينما راقبت شروق الموقف بحاجب معقود لم تفهم بعد ما يدور هنا...

تحدث هيثم بلباقة وهو يرفع كفّ يده...

"أهلاً بحضرتك... أنا هيثم جوز عبلة..."

تعريف خائب تمامًا كوقوفه بجوار امرأة 
تقارب والدته في العمر بل ويتباهى بكونه زوجها...

فغرت شروق شفتيها فقد كانت تظنه في بادئ الأمر ابنها أو أخاها الصغير لم يخطر ببالها أنه زوجها...

نظر صالح إلى يد هيثم المرفوعة في الهواء ولم يبدُ عليه أنه ينوي مصافحته أو الترحيب بهما....

"خير..."

كلمة لفظها صالح بملامح جامدة خالية من أي تعبير......

خطت عبلة خطوة للأمام جاعلة هيثم خلفها وقالت بعينين تنطقان شررًا....

"عايزة أشوف ابني يا صالح..."

تهكم صالح قائلًا....

"افتكرتي دلوقتي إن ليكي ابن بعد خمستاشر سنة؟... غريبة..."

احتدت نظرتها أكثر.....

"مش هنفتح في القديم... أنا أمه ومن حقي أشوفه."

هتف صالح بصلابة....

"مفيش حقوق بعد اللي عملتيه زمان... ولسه بتحاولي تعمليه."

قالت عبلة بنظرة مهددة...

"أنا مش بحاول أنا بنفّذ... ولو حطيتكم في دماغي هتتعبوا أوي."

تدخل هيثم قائلًا...

"إحنا مش جايين نتعارك يا عبلة..."

هتف صالح بجفاء....

"بالظبط... أنا من رأيي تسمعي كلام جوزك وتاخدي بعدك وتمشي من سكات."

اقتربت شروق من صالح وهمست له بنبرة حانية...

"صالح...... اهدى شوية..."

ثم نظرت إلى عبلة وقالت....

"ياسين بخير الحمد لله... اطمني عليه."

استشاطت عبلة غضبًا وصاحت فيها بحقد..

"وانتي مين بقى بسلامتك عشان تدخلي وسطنا في الكلام؟!"

وقبل أن يرد صالح أجابتها شروق بملامح عابسة....

"أنا جارتهم... وبقولك ابنك كويس. إيه اللي يهمك دلوقتي معرفتي؟ ولا إنك تطمني على إبنك... "

لوت عبلة فمها وهي تنظر إلى صالح بعنف..

"جارتكم؟!... واضح إنها غالية عليك أوي يا شيخ صالح..."

رمقها بنظرة حارقة خطِرة ورد باقتضاب...

"شيء ميخصكيش... اتفضلي من غير مطرود."

رفضت عبلة وصدرها يغلي بالغيرة...

"مش هتحرك من هنا قبل ما أشوف ابني يا صالح... دا حقي ومش هتقدر تمنعني عنه."

زجرها صالح بكراهية...

"إنتي ملكيش حقوق من ساعة ما طلّقتي وسِبتي ابنك."

قالت عبلة بصفاقة...

"أنا سِبت ابني لأهله... مش انتوا أولى بيه؟"

توسعت عينا شروق من صدمة في تلك المرأة الجاحدة الوقحة المتصابية بدرجة لعينة...

لا يبدو عليها أي أثر للأمومة أو التأثر بحادثة ابنها.... وكأنها جاءت إلى هنا للتفاخر بزوجها الصغير والتباهي بأنها كسرت شوكة الجميع منذ سنوات وما زالت على حالها... صامدة بوجهٍ صفيق....

قال صالح مستنكرًا....

"يعني معترفة إنك بعتيه من زمان؟ طب جايه تدوري عليه ليه دلوقتي لما كبر وبقى راجل وبقى يدير شغل أبوه... بقى ليه قيمة عندك مش كده؟"

تدخل هيثم بنفاد صبر...

"يا أستاذ صالح دي مهما كان أمه ومن حقها تطمّن عليه..."

خرجت الجدة من الغرفة مغلقة الباب خلفها ثم اقتربت منهما قائلة ببغض...

"وإحنا بنطمنها إنه بخير... طول ما هي بعيد عنه.... "

نظرت إليها عبلة والتوى ثغرها في ابتسامة باردة وقالت....

"متغيرتيش يا حاجة أبرار... لسه زي ما أنتي."

رمقتها والدته بنظرة كارهة...

"لكن إنتي اتغيرتي... كبرتي أوي وغضب ربنا نزل عليكي."

أرجعت عبلة خصلة من شعرها المصبوغ وقالت بعجرفة...

"أنا بقيت أحسن من أيام ما كنت عايشة معاكم."

أومأت والدته مؤكدة وقالت بسخرية لاذعة..

"معلوم... لما طلّقتي شعرك ولبستي قصير بقيتي أحسن فعلاً... بس في عيون الرجالة اللي من عينتك... إنتي والأفندي."

احمر وجه هيثم من الحرج والغضب بينما استرسلت باحتقار...

"ده جوزك الجديد مش كده؟... عيني عليك
يا فاروق يا بني...ضيعت عمرك مقهور على واحدة ما تستهلش تكون مداس في رجلك."

احتد صوت عبلة بالغيظ...

"هترجعي تقولي إني أنا اللي قتلت ابنك؟!"

لم تتراجع والدته عن اتهامها وقالت بعينين تقدحان نارًا....

"هو في غيرك؟!.... قصف عمره وقصر نفسه... منك لله ذنبه هو وابنه في رقبتك ليوم الدين."

أمسك صالح بذراعها يحاول تهدئتها...

"مالوش لازمة الكلام ده يا أمي..."

جاشت مراجلها وهي تصيح فيهما...

"قولها تمشي يا صالح... أنا مش طايقة أبص في وشها... لا هي ولا اللي سحباه في إيديها ده.... "

ثم قالت وهي تلقي عليهما نظرة اشمئزاز..

"جايه تتباهى قدامنا بجوزها الجديد... الشاب اللي اشترته بفلوسها... "

تململ هيثم ونظر إلى عبلة بحنق...

"ده كتير أوي... يلا بينا يا عبلة من هنا... كفاية قلة قيمة... "

رفضت عبلة التحرك ونظرت إليهما بتحدٍّ...

"يقولوا اللي يقولوه... أنا مش همشي قبل ما أشوف ابني... "

قارعتها أبرار بالقول حاد....

"نجوم السما أقربلك من إنك تقربي من حفيدي ده ابني أنا... أنا اللي ربيته وسهرت عليه أنا وجميلة الله يرحمها... شيلنا همه وفضلنا جنبه... كنتي فين وقتها؟!... جايه تدوري على حاجة ما تعبتيش فيها؟!"

أجابتها عبلة بوقاحة وحاجباها يتراقصان مع الكلمات....

"قولي اللي تقولي... ياسين هيفضل ابني ولو حصل مني أي حاجة... هيختارني أنا عنكم كلكم... وإنتوا عارفين كده عشان كده خايفين أقرب منه... "

وبداخل الغرفة رفعت أبرار صوت التلفاز من خلال جهاز التحكم وقالت بصوت عالٍ...

"في برنامج حلو أوي بيتذاع دلوقتي..."

تجهم ياسين وقال بضيق...

"أبرار... طفي التلفزيون مش عايز صداع."

قالت أبرار...

"ليه بس؟..... ده البرنامج خطير..."

رد بنفاد صبر...

"مش عايز... قولتلك... "

أغلقت التلفاز على مضض فأصبح الصوت في الخارج واضحًا.... هتفت أبرار فجأة بابتسامة واسعة ظهرت معها غمازاتها الشقية...

"تحب أقولك نكتة؟ أو أحكيلك حدوته؟"

نظر إليها ياسين قليلاً وأذناه تسترقان السمع...

قالت بابتهاج...

"تصدق افتكرت موقف حصل في الجامعة قال إيه يا سيدي الدكتور اللي بيشرف علينا كان عـ..."

قاطَعها ياسين عن اللغو متذمرًا...

"أبرار ممكن تسكتي إنتي بلعة راديو اسكتي شوية... عايز أعرف مين بيزعق بره... "

توقفت أبرار بإحباط شديد بينما قال بعد لحظات....

"ده صوتها... صوت عبلة... هي بره؟!"

قالت أبرار هاربة من نظراته القوية...

"مش عارفة..."

ناداها ياسين...

"أبرااااار..."

أطلقت زفرة طويلة واعترفت على مضض..

"بره... وتيتة وبابا رافضين يدخلوها... جايه هي وجوزها... إنت عايز تشوفها؟"

نظر ياسين إليها قليلًا بملامح صخرية خالية من التعبير...

بعد دقائق

كانت عبلة تقف بجوار سرير ابنها بعد ان سمح لها بالدخول وحدها. خرجت أبرار قبلها لتترك لهما مساحة....

قالت عبلة بلوعة زائفة....

"ياسين حبيبي...شوفت كانوا مانعيني أشوفك
إزاي....... عشان تصدق إنهم عايزين يبعدونا عن بعض..."

رد ياسين بملامح مقتضبة ينظر إلى هيئتها التي بدت كعروس المولد...

"إحنا مش قريبين عشان نبعد... جايه ليه؟"

توسعت عيناها بصدمة....

"جايه أشوفك... جايه أطمن على ابني سمعت إنك عملت حادثة..."

أظلمت نظراته نحوها وقال بسخط مستهينًا بخوفها المفتعل....

"من خمستاشر سنة عملت حادثة، واتكسرت رجلي... اتصلت بيكي عشان تيجي تقعدي جمبي كنت محتاجك وقتها أكتر من أي وقت... قولتي إنك مش فاضية وبتجهزي لفستان فرحك..."

ثم تحشرج صوته في غصة مريرة....

"واللي قعدت جمبي في المستشفى وراعتني كانت جميلة مرات عمي... مش إنتي."

قالت عبلة بعنف...

"كنت غبية وقتها وبتصرف بطيش... بس دلوقتي عرفت غلطي وعايزة نرجع أنا وإنت زي أي أم وابنها..."

هتف ياسين هازئًا....

"بتطلبي المستحيل يا عبلة هانم..."

قالت بصوت ناعم كالأفاعي....

"مفيش حاجة مستحيلة... حنن قلبك عليا يا ياسين... أنا أمك..."

نظر لها بغضب متهكمًا....

"بالاسم... طول عمرك أمي بالاسم..."

قالت بنبرة حنونة وهي تحاول لمس خصلات شعره...

"وليه منخليهوش فعل؟!... وأعوّضك وتعوّضني عن غيابك..."

أبعد رأسه عنها قبل أن تلمسه وقال بجمود

"مفيش حاجة أدهالك... وأنا مش محتاج حاجة منك... فات وقت الكلام ده..."

استقامت عبلة في وقفتها تنظر إليه بغضب مكتوم....

"واخد قسوة أبوك..."

هتف ياسين بدفاع حانق....

"بالعكس... مكنش في أحن من بابا عليا وعليكي.... ولا هتنكري...

وبعدين أنا ماخدتش القسوة من حد... أنا متعلمها منك."

خففت عبلة من انفعالها تحاول معه بكل الطرق.....

"اديني فرصة يا ياسين... أنا محتجالك..."

ردّ بصوت قاسٍ....

"وأنا بطلت أحتاجلك... فمش مضطر أديكي فرصة... لأنها مش هتفرق معايا في حاجة..."

ثم أشار إلى الباب المغلق قائلاً بجزع...

"ياريت تتفضلي من غير مطرود... إنتي 
واللي جايباه معاكي برا.... "

احمرّ وجه عبلة بالغضب ورمقته بنظرة معاتبة قائلة من بين أسنانها...

"هتندم يا ابني... وبُكرة تعرف إنك ظلمني... ظلمني قوي كمان..."

وعندما لم تجد منه ردًا أو تأثرًا خرجت بخطوات غاضبة من الغرفة صافعة الباب خلفها بقوة...

بقى ياسين في مكانه عيناه على الباب المغلق وقد انتشرت كل مشاعره المكبوتة على وجهه بصورة مريعة...

............................................................

بين الحين والآخر كان يُلقي عليها نظرة سريعة ثم يعود ويركّز على الطريق. كان 
يقود سيارتها الفارهة في طريق العودة ليلًا بعد أن قضى وقتًا ممتعًا معها ومع التوأم في (بحري..)....

طوال الخروجة كانت شاردة بعيدة عنه وعن كل ما يحدث حولها. بالكاد تبتسم أو تتحدث إليه أو إلى شقيقتيه....

عاد ينظر إليها فرآها تستند إلى النافذة المجاورة تقبض على هاتفها بين يديها وكأنها تنتظر شيئًا من خلاله....

عقد أيوب حاجبيه وشعر بصدره يموج بالحنق...

فإن لم يسألها عن سر تغيّرها المفاجئ 
ربما لن يستطع النوم اليوم ولا لأيام قادمة إن لم يعرف السبب الذي جعلها تنزوي بعيدًا عنه وعن العالم بهذا الشكل المُحزن.

توقّفت السيارة جانبًا في حركة مفاجئة بالنسبة لها فقد كانت غائبة عن العالم غارقة في خيال مظلم ملغوم بكل ما هو خطر ومرعب... 

للوهلة الأولى تمنت لو أن السيارة لم تتوقف أمام منزلها فهي تخشى الجلوس وحدها حتى وإن كانت محاطة بطاقم من الحرس.. ما زالت الرسالة ترعبها وتشُلّ تفكيرها..

فهل الأموات يعودون حقًا للانتقام؟

أم أن الرسالة مجرّد مزحة من شخص يعبث معها بمنتهى السادية؟...

ليتها تكتشف الحقيقة حتى تستكين مخاوفها وتهدأ... فهي تحترق... تحترق بصمتٍ موجع ولا أحد يشعر بها...

لكن يبدو أن شعورها القاتل خرج عن الحدود وشعر به الشخص الذي مال إليه قلبها دون غيره.

نظرت إليه بدهشة فاترة... رغم أن السيارة توقفت فجأة وبسرعة لكنها لم تشعر بالخوف فهي متشبعة بالخوف والقلق منذ أشهر طويلة واليوم زاد حد الإفراط وعدم التحمّل.

قال بصوته المألوف القريب من قلبها.....

"مالك يا نغم... ساكتة ليه من أول ما خرجنا من صلاة العيد؟.... في حد ضايقك؟"

هزّت رأسها نافية وهي تنظر إليه مليًا كأنها تبحث عن الملاذ في عينيه المتلهفتين عليها...

ودائمًا كانت تجد ضالّتها في ملامحه. لطالما سكن الوجع في عينيه وغمرها الأمان لأنه هنا... بقربها....

نزع حزام الأمان واقترب منها أكثر في جلسته مدّ يده يضعها على خدها الناعم يتحسس بشرتها بإبهامه هامسًا بصوتٍ ساحر أمام عينيها الحزينتين اللامعتين... شتاء يوشك
أن يهطل بالأمطار.....

"فيه حاجة... بلاش تخبي عني يا حبيبتي. افتحي قلبك... لو مش هتتكلمي معايا هتتكلمي مع مين؟"

أغمضت عينيها بعذاب وكلماته تتسلل إلى قلبها المفطور... ومع لمسة إصبعه على بشرتها وكأنه يربّت عليها بدأت مقلتاها تحترقان بالدموع... ولحظة... ثم أخرى...

كانت دمعتها تنساب على إصبعه. اتسعت عينا أيوب والألم يجتاح صدره...

لم يقدر على نزع يده وكأنها تجمّدت فوق خدها... بدأ يناديها بحنو....

"نغم..."

تحولت دموعها الصامتة إلى شهقات عالية
مما جعله ينزع يده بصعوبة عنها ويلتقطها بين ذراعيه تاركًا إياها تنهار على صدره متشبثة بقميصه بكلتا يديها. بدأ يربت على كتفها دون كلمة فقط تركها تُخرج ما يعتمل في صدرها بين ذراعيه... لعلها ترتاح ويرتاح قلبه معها....

بعد فترة من الوقت كانا يستندان على إطار السيارة في منتصف الطريق الذي توقّفا فيه. وبعد أن أفرغت كل دموعها على قميصه المبلل بماء دموعها وبقايا كحلها...

من الطبيعي أن يتذمّر لأنها أفسدت قميص العيد لكن في الحقيقة هذا القميص الجديد نال الشرف مرتين حين لامس بشرتها وحين شرب دموعها ولُطّخ بكحلها...

أمسك بالقميص من عند صدره ينظر مجددًا إلى آثار انهيارها عليه فلاحظت نغم نظراته وقالت وهي تخرج منديلاً كي تمسح به القميص معتذرة....

"أنا آسفة... بوّظت هدومك."

منعها وهو يمسك يدها قائلاً بصوتٍ أجش...

"فداكي الدولاب كله... المهم إنك بقيتي أحسن."

أومأت برأسها..

"شوية..."

نظر إليها قليلًا ثم قال بأدب...

"ينفع أسأل؟"

تبادلت معه النظرات قائلة...

"خايفة إجابتي ما تكونش مقنعة..."

ارتفع حاجبه متوجسًا...

"لدرجة دي؟... إيه اللي حصل يا نغم يوصلك لكده قوليلي... مش أنا حبيبك؟"

أثارت الكلمة قلبها فتألقت عيناها وهي تنظر إليه قائلة....

"حبيبي... وكل حاجة ليا... بس انت مش هتصدق."

هتف أيوب بخشونة مجادلًا...

"هصدق... ليه ماصدقكيش أنا أكدب الناس كلها وأصدقك...."

نظرت أمامها والتردد بادٍ على وجهها وعينيها ثم لفظت الجملة بتنهيدة طويلة محمّلة بالأسى.....

"آسر... شكله رجع من الموت."

حين لم تجد ردًا نظرت إليه فوجدته ينظر إليها بملامح هادئة وكأنه لم يسمع ما قالت.

"انت سمعت أنا قولت إيه؟!"

هز رأسه بملامح منزعجة...

"لأ... ممكن تعرفيني مالك؟.... فيكي إيه
بصراحة..."

تأففت نغم بقلة صبر.....

"مانا بتكلم بصراحة... آسر شكله رجع من الموت...."

مط أيوب شفتيه مفكرًا ثم قال بلهجة خالية من المرح...

"عظيم... ويا ترى جاي سياحة ولا ناوي يكمل معانا؟.... "

صاحت بغيظ....

"أنا بتكلم بجد... "

"دي تبقى مصيبة لو بتتكلمي بجد... انتي سخنة؟"

مدّ يده يلامس وجنتها بظهر كفه فأبعدت يده قائلة بوجه ممتقع...

"شوفت.... قولتلك مش هتصدقني."

قال أيوب بلهجة حازمة....

"أصدق أي حاجة..إلا حوار الجن والعفاريت.. "

نظرت نغم حولها بخوف وقالت بتلعثم....

"لا بجد... شكله رجع من الموت... أو ده قرينه... يمكن قرينه... "

استخفّ أيوب بالأمر مجيبًا...

"أو قريني أنا... وبيعلب معانا... "

دبّت الأرض بقدمها بحنق بالغ...

"إنت بتهزر يا أيوب... "

زجرها بنظرة حادة...

"عشان مفيش حد عاقل بيفكر كده... هو الميت ينفع يرجع من الموت.. إزاي يعني؟!"

"مش مصدق صح؟... طب شوف الرسالة
دي... "

وضعت شاشة الهاتف أمام وجهه أخذ الهاتف دقّق النظر فيه وقال بغيرة....

"إيه ده؟!...... انتي لسه محتفظة برقمه؟!"

فغرت فمها بصدمة ثم عقبت بغضب مكتوم..

"هو ده اللي لفت نظرك؟!.... إني محتفظة بالرقم وبالنسبة للرسالة..."

انتبه إلى محتواها المكوّن من كلمة واحدة. طال النظر إلى أحرفها بملامح متجهمة حتى ظنت نغم أن خلف صمته تصديقًا لما تقول.

"صدقت... إنه هو؟"

هزّ أيوب رأسه بوجوم قائلاً بصلابة...

"مفيش حد بيرجع من الموت يكتب (وحشتيني). يا إما الواد ده عايش وبيستعبط يا إما ميت وحد تاني هو اللي بيستعبط... بس في الحالتين أنا هجيب اللي بعت الرسالة دي وهيتحاسب معايا شخصيًا."

سألته نغم بتردد...

"يعني... تفتكر آسر عايش؟"

رمقها بنظرة نارية وقال بضراوة...

"وحتى لو عايش... إيه علاقتك بيه هو ميت بالنسبالك... ولا؟... "

قالت نغم بصوتٍ منفعل....

"مفيش ولا... افهم يا أيوب لو عايش أنا هصحى من الكابوس ده ومش هرجعله تاني."

هتف أيوب بصوتٍ محتد....

"إنتي ما عملتيش حاجة تستاهل كل ده الواد ده مقتول منتحرش..... ولا كان في دماغه أصلًا رفضك ليه.... ده كان واخدك تحدي... 
لما عملتي عكس كل البنات اللي عرفهم 
مش أكتر.... "

قطبت نغم جبينها ناظرة إليه بريبة...

"جبت منين التفاصيل دي وليه بتتكلم 
بمنتهى الثقة... "

قال بنظرة مبهمة...

"بعدين هتعرفي... وهتتأكدي إني عندي حق."

هزّت كتفيها والشك والقلق يملآن قلبها...

"ولو فعلًا عندك حق... الرسالة دي معناها
إيه... "

تململ أيوب في وقفته وفكر معها بصوتٍ
عالٍ....

"مش عارف... ابن العزبي ده عايش ولا 
ميت؟.... مقتول ولا انتحر؟ دي بقت
حاجة تطير العقل..."

ثم قال بنبرة جافة وهو يأخذ الهاتف منها...

"بس سواء منه أو من غيره... الرسالة دي دليل.... ولازم ندور وراها."

سألته نغم...

"بتعمل إيه؟"

رفع أيوب هاتفه إلى أذنه...

"هتصل على الرقم من تلفوني... يمكن يفتح."

بعد ثواني لاح الإحباط على وجهه وهو ينزل الهاتف قائلًا بأعصاب تحترق....

"مقفول... ده كده قاصد يلعب بأعصابنا."

انتفضت نغم بهلع بعدما أصدر هاتفها صوتًا بوصول رسالة جديدة من نفس الرقم...

"في رسالة منه !... "

فتحت الرسالة بأصابع ترتجف برهبة بينما عينا أيوب معلقتان بالشاشة.... قرأت نغم بصوتٍ مسموع...

(بعتلك هدية بسيطة... على الفيلا... ياريت تعجبك.)

زمجر أيوب كأسد غاضب....

"هي وصلت للهدايا؟!"

قالت نغم...

"تفتكر بعت إيه؟"

جزّ أيوب على أسنانه بعنف وقال بتهكم...

"إنتي خلاص؟... بقيتي مقتنعة إن شبح المرحوم بيكلمنا وبيحب فيكي وبيبعت 
هدايا كمان؟!... "

ثم أجرى اتصالًا بالرقم وحين سمع أنه مغلق قال ساخرًا....

"التلفون مقفول... تقريبًا الإرسال في التُرب شغال رسايل بس... وهدايا أونلاين !"

قالت نغم عابسة...

"انت بتتريق..."

غرز أيوب أصابعه في شعره بعصبية يرجعه للخلف وكاد يقتلعه من جذوره وهو يقول بغضب مشحون...

"أنا هتجنن.... مبقاش فيا عقل من ساعة ما عرفتك... "

رمقته بنظرة حانقة..

"ندمان حضرتك؟"

قال بسخرية لاذعة....

"من كتر الندم... حبيتك في أكتر من كده؟!"

دارت نغم حول السيارة ثم فتحت الباب وقالت له....

"خلينا نطلع على الفيلا..."

تبرم أيوب والغيرة تنهش صدره كمخالب حادة....

"عشان نشوف هدية المرحوم يا ترى جابلك إيه ابن الـ..."

أطلق سبة سوقية جعلت عينيها تتوسع شاهقة فأدار أيوب رأسه إليها بنظرة بريئة...لم تصدق أن خلف هذه النظرة لسانًا يحوي موسوعة من الألفاظ النابية !.....

بعد مدة قصيرة وصلا أمام الفيلا. ترجلت نغم من السيارة تتحرك بصعوبة وساقاها ترتجفان تحتها... تشبثت بذراع أيوب هامسة بما يختلج في صدرها....

"أنا خايفة..."

رمقها أيوب بنظرة جادة صلبة كالفولاذ وقال بغضب مكتوم...

"أقسم بالله ده حد بيستظرف وعايز يرعبك على الفاضي... خلينا نسأل حد من الحرس."

اقترب بالفعل من قائد الحرس ووجّه سؤاله دون مقدمات...

"حسام..... فيه أي حاجة وصلت للهانم؟"

جفل حسام لبرهة من هذا الدخول لكنه أجاب بعد لحظتين بعملية....

"آه..... فيه علبة هدايا وصلت من ساعة."

تبادل أيوب ونغم النظرات معًا ثم عاد إلى حسام سائلاً....

"حد فتحها؟!... "

رد حسام بحرج وهو ينظر إلى نغم...

"إحنا شوفنا إن مفيش داعي... خصوصًا إن نغم هانم منبّهة علينا أي حاجة تخصها 
ممنوعة من التفتيش..."

التفت أيوب برأسه إليها يحدّجها بدهشة وصدره يجيش بالغضب... أطرقت نغم برأسها ارضًا متحاشية نظراته القوية كتلميذة مذنبة أمامه..

هتف أيوب من بين أسنانه بخفوت وهو يكتم غيظه...

"يعني لو حد عايز يزرع قنبلة عندك غرورك هيسهّله المهمة... والهدية اللي جوه دي خير دليل..."

زمت فمها ودون النظر إليه قالت بمسكنة..

"ممكن تخفّ عليا شوية؟... كفاية اللي أنا فيه..."

تعالى صوت أنفاسه الساخنة بالقرب منها فرفعت عينيها عليه بوداعة قائلة بتردد...

"خلينا ندخل نشوفها..."

رد عليها بتشنّج...

"ادخلي لوحدك.... خليها تنفجر في وشّك..."

نطقت اسمه برجاء....

"إييييوب..."

زفر أيوب وهو يبعدها عنه قائلًا بحزم...

"خليكي هنا.... أنا هشوفها الأول وأطمن إنها أمان.... "

رفضت بشدة وهي تقول بخوف...

"وافرض طلعت حاجة مؤذية وأذتك؟"

أجابها متهكمًا...

"ساعتها ذنبي في رقبتك... وخلي غرورك ينفعك."

قالت نغم بإلحاح...

"خلينا نشوفها سوا... عشان لو حصل حاجة... نبقى مع بعض...."

خفف أيوب من حدّته وقال بحزم...

"اطمني... مش هيحصل حاجة."

ثم علا صوته نحو حسام سائلاً....

"حسام..... هي الهدية اللي موجوده فين؟"

رد حسام وهو ينقل النظرات بينهما بفضول...

"في المكتب..."

وصل أيوب إلى غرفة المكتب وبالفعل وجد علبة هدايا صغيرة موضوعة على سطح المكتب تنتظر فضول أحدهما....

لم يكن الفضول فقط ما يحركه بل تلك الرهبة والشكوك في كل شيء... الأمور تتعقّد وكأن هناك من يحاول التلاعب به وتضليله. هذا ما يشعر به بقوة...

فتح العلبة الصغيرة ونظر إلى داخلها ليرى قارورة عطر فاخرة وبطاقة صغيرة بجوارها. أمسكها أيوب ونظر إلى كلماتها بوجه صخري ونظرة متجهمة....

(عشان تفضلي تفتكرني على طول...)

اعتصر البطاقة الصغيرة بين قبضة يده وملامحه تزداد عنفًا وتعقيد بينما نظراته
تقسو بشكلٍ مريع وصدره يختلج بالانفعال.

دلفت نغم إليه وهو على هذا الوضع فقالت وهي تقترب منه بخطوات سريعة...

"مالك يا أيوب؟...... الهدية عبارة عن إيه؟"

وعندما لم تجد منه ردًا أمسكت بقارورة العطر الفاخرة ثم انتشرت الصدمة على وجهها وعينيها وقالت....

"ده برفيوم أسر..."

رمقها أيوب بنظرة عنيفة....

"كمان حفظاه نوع البرفان بتاعه..."

هزّت رأسها وهي تنظر إليه موضحة...

"لا أنا كنت أيام الجامعة جايبة النوع ده له في حفلة عيد ميلاده... ومن ساعتها بقى بيحط البرفيوم ده على طول ومش بيغيّره..."

التوى فكه بسخرية قاتمة معقبًا...

"ده عشان يثبت لحضرتك إنه مغروم بيكي..."

شعّ العتاب من عينيها نحوه فقالت....

"ليه الهجوم ده يا أيوب؟.... أنا ذنبي إيه أنا حتى مش عارفة إيه اللي بيحصل حواليّا ده..."

ألقى أيوب البطاقة أرضًا بإهمال قائلًا بازدراء..

"ولا هتفهمي طول ما إنتي مصدقة الهري ده... مفيش ميت بيصحى من التربة يبعت رسايل وهدايا... ده لو كان فعلًا هو مش حد تاني..."

عقبت بعدم اقتناع...

"حتى لو حد تاني... هيستفاد إيه؟"

تمعن أيوب في النظر إليها قائلًا بكبت...

"هيستفاد إنك تفضلي في الحالة اللي إنتي فيها دلوقتي... ضايعة وخايفة..."

ارتجف صوتها وهي تعترف له دون تردد...

"أنا فعلًا خايفة... أنا خايفة قوي يا أيوب ومش عايزة أبات هنا..."

هتف أيوب بحمية...

"من قبل ما تقولي... أنا هاخدك ونمشي 
من هنا..."

سألته بحيرة...

"على فين؟... "

أجابها بهدوء وكأن الأمر طبيعي بينهما...

"بيتنا... هتنامي وسط إخواتي البنات كده هاطمن عليكي أكتر..."

قالت نغم بدهشة...

"وهتقول لمامتك إيه؟.... لما تلاقيني داخلة معاك في وقت زي ده؟... "

رد عليها بسخرية...

"هقولها إنكم ما عندكوش غطا في بيتكم..."

تبرمت بالقول...

"غطا إيه في الحر ده..."

قال لها بصبر...

"هقولها إن مراوحكم بايظة... ومش عارفة تنامي من الحر..."

"بس إحنا عندنا تكييف في كل حتة..."

اغتاظ من ردها المتعجرف فصاح متجهمًا..

"ربنا يزيد ويبارك.... إحنا بقى شغالين على مروحة السقف... أبويا ورثها من جدي وأنا ورثتها منهم تيجي معاكي ولا هنقعد نعد 
عندك إيه وعندنا إحنا إيه؟"

قالت نغم ببراءة....

"أنا مش قصدي كده... أنا كل اللي أقصده إن حججك مش مقنعة..."

سحب نفسًا عميقًا ثم قال بهدوء...

"حتى لو حجج مقنعة مش هتدخل على صفصف...دي بتشم كدبي من على بُعد. تعالي معايا وخلاص..."

ترددت نغم في الرضوخ لطلبه... لذلك اعترضت قائلة....

"خلاص... خليني هنا."

رد بصوت قاطع...

"يبقى هبات برا مع الحرس لحد الصبح..."

رفعت حاجبيها للأعلى مشدوهة...

"وليه تعمل كده؟... "

صمّم على رأيه برأس كالفولاذ وهو يقول بثبات....

"عشان مش هينفع أعمل غير كده... يا تيجي معايا... يا تفضلي هنا وأنا هبات برا... تختاري إيه؟.... "

تلاقت عيناها الرماديتان مع سطوة نظراته المنتظرة ردّها على أحرّ من الجمر. فهو يتمنى أن تقبل أن تأتي معه... هذا أفضل لها وله.

وبعد فترة من الصمت والتفكير أومأت برأسها موافقة فأطلق أيوب تنهيدة ارتياح وهو يمسك كفّها ويخرجان معًا...
.................................................................
رفع المِكواة بالقرب من وجهه فشعر أنها ساخنة بعض الشيء. كانت من النوع القديم الرديء..... لكنها توفي بالغرض.

بدأ يمررها على القميص الكُحلي والذي لا يرتديه إلا في المناسبات الخاصة مثل تلك المناسبة التي يذهب إليها مُرغمًا... لأجل عيونها....

لم يكن يُحبّذ تواجده مع من هم أقل منه في المستوى المادي والتعليمي لكنه هو من بدأ التحدي بالحب من (الدكتورة)... ونسِيَ كونه بلا نسب بلا هوية محددة.

كلما فكّر في علاقتهما يجتاحه شعور الندم بضراوة ويود لو يتراجع وكأن شيئًا لم يكن.

صدح اتصال من هاتفه فوضع المكواة جانبًا بعيدًا عن القميص ثم رفع الهاتف إلى أذنه بعدما رأى اسمها يضيء الشاشة...

"أيوه يا نهاد..."

لماذا أصبح صوته في الآونة الأخيرة يحمل كل هذا الحزن واليأس؟!.... وكأنه بات يتعامل مع أشياء صعبة وغير مريحة... وهي أول هذه الأشياء !

هل ممكن أن يجتمع الحب وعدم الارتياح في شعورٍ واحد تجاه شخصٍ واحد؟!

كيف؟!...

أصبح غريبًا وتلك الغرابة تُصيب قلبها في مقتل وكأنه يحاول الفكاك منها... ومن هذا الحب الميؤوس منه.

بلعت الغصة المسننة في حلقها وهي تفتعل الابتهاج قدر المستطاع...

(خَلصت يا سلامة... المفروض نكون في القاعة كمان نص ساعة...)

أطلق زفرة استياء جعلتها تقطب جبينها ويزداد شعورها بالقلق نحوه...

"بكوي القميص وجاي... ربع ساعة وهكون عندك... عند محطة الترام."

قالت بصوتٍ متردد...

(تمام هستناك... انت كويس يا سلامة؟)

رد حانقًا...

"أيوه.... مالي يعني..."

قالت نهاد بنفس التردد

(حاساك مش مبسوط... بالخروجة دي...)

تنهد سلامة وهو يقول بقنوط...

"لو معاكي إنتي بس... هكون طاير من الفرحة. بس دي خطوبة واحدة صاحبتك وأنا هظهر معاكي في الصورة... وأنا مش عارف هعمل كده إزاي..."

قالت نهاد بضيق مكتوم...

(لو مش عايز تحضر يا سلامة.. خلاص أنا...)

قاطعها بصوت جاد..

"ربع ساعة وهكون عندك يا نهاد... سلام."

أغلق الخط دون أن يسمع ردّها ثم ألقى الهاتف بعصبية على الفراش ومسح وجهه بكلتا يديه بتوتر... وهو يشعر بعدم الارتياح لكل ما يخصها؟!

كانت نهاد تجلس على المقعد الخشبي تنتظره ترتدي ثوب سهرة أنيقًا لاق بها جدًا مع حجابٍ حول وجهها زادها حشمةً وجمالًا وتضع القليل من الزينة اللامعة التي تجعلها تبرق برقي كالنجوم في السماء...

رفعت عينيها نحو الطريق فرأته يقترب منها...

دققت النظر إليه فرأته متأنقًا بشكلٍ ملفت يرتدي طقمًا عصريًا يليق به... بنطال جينز داكن يعلوه قميص كُحلي يُبرز تفاصيل
جسده الرجولي المتناسق.

تعالى نبض قلبها بقوة وهي تتأمل ملامحه وكأنه خرج للتو من مجلة أزياءٍ تعرض أفضل التصاميم على جسدٍ هو الأوسم بين الرجال وأكثرهم جاذبية... وهو لا يقل عنهم وصفًا.

بل إنّ شعره الأسود الناعم الذي يصل إلى آخر عنقه يزيد الوصف جنونًا... إنه وسيم بدرجة خطيرة.

وقفت نهاد في استقباله فابتسم لها تلقائيًا فرفرف قلبها كعصفورٍ صغير وعيناها تومضان بالعشق....

كان يتأملها هو الآخر... بعينين تشعان بالحب والندم. كيف يكون كل هذا الجمال والرقي والحب... ملكًا له وحده؟! أو قد يكون مقدّرًا 
له إن ابتسم له الحظ....

"اتأخرت عليكي..."

قالت عابسة...

"يعني تلات دقايق..."

قال بصوتٍ حانٍ...

"حقك عليا... على ما لبست."

شملته بنظرة تشع إعجابًا وحبًا وقالت...

"طالع حلو أوي النهارده..."

ردّ سلامة بنظرةٍ مداعبة...

"مش هكون أحلى منك يا دكتورة..."

سألته عابسة...

"أول مرة تشوفني حلوة؟"

رد مبتسمًا بحب...

"إنتي على طول حلوة... بس المرادي بزيادة."

غمزت له نهاد بعد أن نال رده رضاها...

"الإجابة الصح... في الاختبار الصح... كنسل النكد.... ويلا بينا..."

استقلا معًا الترام إلى وجهةٍ معيّنة وجلسا بالقرب من بعضهما يتسامران ويتمازحان حول أشياء عدة لكنهما تغاضيا عن ذكر المناسبة التي اجتمعا لأجلها...

تغاضيا عن ذلك الشعور الخانق... عن حبٍّ يُظهرانه للعلن ويعلمان أنه سيتعرض للرفض والانتقاد ما إن يعرف الجميع تفاصيل 
الحكاية

قاعةٌ فخمة تُقام فيها خطبة أصحابها لا تقلّ فخامةً ورُقياً... مجهزة بشكلٍ مذهل ومُتكاملة بطريقةٍ تشعره بالقهر.....

كان العريس يرتدي حُلّة فاخرة والعروس تتأنّق بثوبٍ أبيض ضيّق يلمع بشدة تاركةً شعرها حرًّا ممسكةً بباقةٍ من الورد. وقد وضع العريس خاتمًا من الألماس في إصبعها ثمّ ألقت بالباقة إلى صديقاتها فكانت من نصيب واحدةٍ منهنّ لا تقلّ عنهنّ جمالًا ولا مكانة.

كان يُشاهد العروض الجبّارة من بعيد من ركنٍ اختاره لنفسه كأنه منبوذ. وحين يئست هي تركته وذهبت تستمتع مع أصدقائها والعروس.

ثم عادت إليه تحمل طبقًا من الطعام وقالت وهي تُناوله إياه...

"خُد كُلّ يا سلامة... هتفضل واقف كده؟"

رفض كما رفض كأس العصير قبلها ممتنعًا عن كلّ ما يخصّ هذا المكان القاهر لروحه...

لم يكن حاسدًا أو حاقدًا على أحد لكنه كان دومًا يردّد هذه الجملة بحسرة....

(لماذا لم أكن أنا؟)

لماذا جعلته الحياة لقيطًا فقيرًا؟ لماذا يتجاهله الجميع وكأنه كومة قمامة لا يستحق إلا الازدراء؟

"وبعدين معاك يا سلامة؟... وكأنك جاي بالعافية إنت حتى مش راضي تسلّم على
حد من صحابي..... ليه بتعمل كده؟"

ردّ سلامة باختناق...

"أنا مش مرتاح يا نهاد... بصي كويس أنا مش شبهم.... ولا عمري هبقى شبهم..."

نظرت إليه بدهشة وقالت بحدّة...

"ومين قالك إنّي عايزاك تبقى شبهم؟ أنا حبيتك عشان إنت سلامة..."

جاشت مراجل صدره وهو يقول بغضبٍ مكتوم تنساب الحسرة من بين كلماته...

"وأنا مش حابب نفسي... مش حابب أحس إني أقل من حد... ليه جبتيني هنا يا نهاد عشان توريني القاعة الكبيرة والناس اللي فيها.. ولا توريني الخاتم الألماظ؟... الحاجات دي كلها مش هقدر أعملهالك ولو بعد مية سنة..."

شعرت بوخزة قوية في صدرها وكأنّه طعنها بتلك الظنون فقالت مبهوتة...

"ومين قالك إني طالبة ده منك ولا إنّي جايباك هنا عشان أورّيهولك؟!.... أنا جبتك هنا عشان ننبسط... عشان نكون مع بعض قدّام الناس
ليه بتظلمني يا سلامة؟!.... حرام عليك..."

وقبل أن يتفوه بحرف اكتمل العرض الجبار من الإهانة باقتراب إحدى الشابات الأنيقات والتي توقفت فور أن رأتهما... وخصّتها بنظرة مندهشة سعيدة وهي تقول بحبور..

"نهاد..... عاملة إيه؟"

رسمت نهاد ابتسامةً مهزوزة على شفتيها وقالت...

"الحمد لله... ألف مبروك يا يُمنى.. عقبالك..."

قالت يُمنى بابتسامة رقيقة...

"الله يبارك فيكي... جيهان فرحت أوي لما جيتي.... إنتي متعرفيش بتحبك قد إيه..."

ثم نظرت نحو سلامة وقالت بفضول...

"مين ده؟!..... مش تعرفينا؟!"

بلعت نهاد ريقها بصعوبة وهي تنظر نحو سلامة الذي بادلها النظرة بلا تعبير لتقول بصوتٍ مهزوز...

"دي يُمنى... أخت العروسة... جيهان."

ثم أشارت إليه وقالت....

"وده سلامة... خطيبي."

توسعت عينا يُمنى بصدمة وقالت بانبهار..

"آه يا نادلة..... يعني اتخطبتي ومقولتيش لحد؟!"

احمرّت وجنتاها خجلًا وصححت المعلومة قائلة...

"مش بالضبط... قراية فاتحة."

مدّت يُمنى يدها تُرحّب بسلامة وتُبارك له فبادلها الآخر بابتسامة خلفها سخريةٌ كبيرة وانكسارٌ هائل...

"بجد ألف مبروك... وياتُرى الدكتور من
أنهى قسم؟"

سحب سلامة يده وكأن السؤال كان صاعقة كهربائية جعلته يُحدّق فيها بتبلّد مشاعر وكأنها لا تخصّه بسؤالها بل تخص شخصًا آخر يناسب الموقف والمكان... والدكتورة نهاد.....

قالت نهاد متوترة...

"لأ.... هو مش دكتور..."

زاد فضول يُمنى فقالت بمزاح مؤكد...

"يبقى مهندس إحنا مش متوقعين لنهاد أقلّ من كده... ألف مبروك يا بشمهندس..."

ردّ سلامة بصوتٍ خافت ميت...

"الله يبارك فيكي..."

"سلامة... سلامة استنى..."

خرج مسرعًا من المكان تاركًا إيّاها خلفه تنادي عليه بحرقة وهي تركض خلف خطواته العنيفة السريعة حتى انقطع نفسها فتوقّف بعد عناء خارج القاعة في مكان بعيد عن الناس...

استدار يواجهها بعينين حمراوين غاضبتين وكأنه بكى دون أن يذرف دمعةً واحدة...

"عايزة إيه؟!..... جبتيني هنا ليه؟!"

توقفت في مكانها تلتقط أنفاسها بصعوبة 
وهي تقول بتهدّج...

"هكون جبتك ليه؟!.... عشان نحضر الخطوبة سوا.... والله ما كان قصدي حاجة..."

علا صوته عليها بعنف بصورة أفزعتها فلأول مرة تراه يعاملها بتلك القسوة...

"وكنتي عيزانا نواجه.... مقولتيش ليه لصاحبتك إني لا دكتور ولا مهندس مقولتيش ليها إني حرامي تربية ملجأ وخريج إصلاحية مش دي المواجهة اللي إنتي عايزاها؟!"

اقتربت منه نهاد وقالت بنبرة نادمة معتذرة...

"ممكن تهد بالله عليك بلاش البصة دي يا سلامة... أنا بحبك والله ما كان قصدي أوجعك..."

نظر لها مطولًا قبل أن يقول بعذاب....

"أنا طول الوقت موجوع... وطول ما أنا معاكي مش مرتاح... مش مرتاح يا نهاد..."

تعالى نبضها وبدأ جسدها ينتفض خوفًا من القادم وهي تسأله بتوجّس....

"يعني إيه؟..."

هتف سلامة بصعوبة وصدره يموج بالغضب...

"يعني كفاية كده... من الأول كان غلط... إننا نتكلم ونتقابل ونحب بعض... إحنا غلطنا جامد يا نهاد..."

تراجعت خطوة للوراء بصدمة وكأن كلماته أفرغت زخيرة في جسدها فأصبح كل جزء فيها ينتفض ويتألم...

"غلطنا؟!..... غلطنا إزاي يعني حبي ليك غلطة؟!"

هتف بقسوة دون تراجع....

"وحبي ليكي... أكبر غلطة..."

لمعت عيناها بالدموع وهي تقول بتحفّز...

"بلاش الكلام اللي هتندم عليه دا يا سلامة..."

صاح سلامة بغضبٍ أعمى...

"الندم موجود... كملنا أو سبنا بعض... هنندم..."

أشارت إلى نفسها بعدم فهم والكلمات تضربها بقسوة...

"نسيب بعض؟!..... يعني إنت عايز تسيبني؟!"

هتف بصوتٍ مختنق يائس...

"مش ده الأحسن؟!... أنا منفعش لأي حاجة..."

صرخت نهاد بانفعال وهي تقول بشراسة...

"يعني إيه؟!... إنت اللي قولتلي إنك بتحبني إنت اللي حركت مشاعري وفضّلت واريا لحد ما تكلمنا وتقابلنا واعترفتلك بحبي وفي الآخر جاي تقولي نسيب بعض؟!..... طب كانت إيه لازمتها من الأول؟!... "

انحنى كتفيه بانهزام وهو يهمس بضعف...

"كنت غبي... مكنتش عارف إني هوصل لهنا..."

أخذت خطوة كبيرة نحوه ثم ضربته في صدره مرتين وهي تقول من بين دموعها...

"لا... إنت لما لقيت الحوار هيدخل في الجد قررت تخلع بشياكة بحجّة إنك الواد الغلبان المظلوم اللي مش شبه الناس دي وإن نهاد الوحشة الظالمة بتحطك في مواقف بايخة... مش كده؟"

رفع عينيه نحوها ثم صرخ فيها بلا اكتراث مصرًّا على قراره....

"احسبيها زي ما تحبي... المهم إني مش عايز أكمل... مش عايز... "

رمقته بعينين مصدومتين والدموع تنساب منهما بغزارة غير قادرة على إيقافها....

تبادلا النظرات معًا... هي ترجوه ألّا يفعل وهو يرجوها أن تتقبل النهاية وكفى.

اقتربت منه نهاد وحاولت أن تمسك يده بقلبٍ مجروح وقالت برجاء...

"سلامة أنا بحبك بالله عليك بلاش تقول كده. الموضوع مش مستاهل... لو اللي عملته ضايقك مش هكرّره تاني... مش هنروح في حتة ولا هغصبك على حاجة بس أرجوك... بلاش تقول كده..."

ثبت على موقفه وبمنتهى القسوة قال لها...

"اللي بقوله هو الصح... إنتي تستاهلي حد أحسن مني."

سالت دموعها أكثر على خديها وهي تقول من بين شهقاتها المتقطعة بتوسّل...

"أنا مش عايزة الأحسن... أنا والله عايزاك إنت. مستعدة أضحي بحياتي كلها عشانك بالجامعة وبالناس عشان بس أكون معاك. افهم... أنا مقدّرش أشوف نفسي مع حد غيرك..."

نظر لها سلامة قليلًا لا يصدق ما آل إليه حالها...

لكن حديثها المنهار لم يجعله يتراجع بل جعله أكثر إصرارًا على الابتعاد عنها فهو إن استمر سيدمّرها ويدمّر نفسه معها لا محالة.

"هتكرهيني مع الوقت والله هتكرهيني وأنا هكره نفسي... بلاش تعملي كده يا نهاد... خلينا نبعُد ده الأحسن ليكي وليّا..."

قالت منهارة وهي تتشبث بذراعيه كأنها تخشى أن يتبخر حلمها وحبها فجأة...

"عمري ما أقدر أكرهك... أنا بحبك أكتر من نفسي. ليه مش قادر تفهم؟! إني مستعدة أضحي بكل حاجة عشانك..."

صرخ فيها سلامة وهو ينزع يديها عنه بعنف

"أنا مش عايزك تضحي ولا أنا عندي حاجة أضحّي بيها الحب لوحده مش كفاية إحنا 
مش مناسبين يا نهاد... مهما قوحتي إحنا
مش مناسبين... "

رمقته متعجبة متألمه وقالت هازئة بمرارة...

"مش مناسبين؟!... اكتشفت ده دلوقتي ولا 
دي الطريقة اللي بتحاول تخلع بيها؟!... "

قست ملامحه أكثر وقال بتهكّم...

"سَمّيها زي ما تسمّيها... أنا بصلّح الغلطة اللي وقعنا فيها..."

قالت بوهنٍ مرير، بينما عيناها الحزينتان تبحثان في وجهه وفي عينيه عن الوعود...
عن الحب الذي أمطرها به يومًا...

"غلطة؟!.... إنت بجد هتعرف تكمل من غيري
إزاي جالك قلب تقولهالي بالله عليك... إزاي إنت كنت بتقول إنك مستحيل تأذيني... طب ليه قربت مني طالما ناوي تأذيني؟.... ليه؟!"

ثم أخذت خطوة للخلف بعيدًا وهي تقول بضياع....

"ليه...انا كنت عايشة في الوهم ومبسوطة
ليه خلّيت الوهم حقيقة... وبعدها جاي تقولي نبعد ليه قربت طيب؟!..... ليه... حرام عليك..."

أخفت ملامحها بين كفّيها وانفجرت في 
بكاءٍ مرير...

اقترب منها سلامة وأنفاسه مثقلة بالوجع وكأنه وضع الخنجر في صدره أولًا قبل أن يصيبها به...

لكنه غدر بها وطعنها وكأنها عدو لا حبيبة كانت له يومًا....

أمسك سلامة ذراعها قائلًا برفق...

"نهاد... كفاية... كفاية عياط... تعالي أروّحك."

نزعت ذراعها عنه بقسوة ثم هتفت بنظرة ميّتة وقد تجمّدت الدموع في عينيها فجأة وسكن انهيارها وهي تدرك وضعها الحقيقي معه الآن...

"سيبني... أنا عارفة السكة ومش هتوه لوحدي... بس إنت اللي هتوه من بعدي..."

نظر لها مبهوتًا وظلّ مكانه دون حراك فقالت له بنظرةٍ مجروحة...

"ربنا يكسِر قلبك زي ما كسرتني..."

ثم ابتعدت عنه في الاتجاه المعاكس بخطواتٍ سريعة أقرب إلى الركض...

فنادى عليها بصوتٍ تحشّر تحت وطأة الوجع والنهاية....

"نهااااااد... مش هينفع تمشي لوحدِك... نهااااااد... "

لكنها لم تستجِب له وكأنه كابوسٌ تودّ الاستيقاظ منه بأقصى سرعة وهو ساعدها على فعل ذلك...

فلماذا يقف مكانه الآن ينظر إلى أثرها وعيناه تذرفان الدمع وكأنها هي من وضعت نقطة النهاية... لا هو؟!...
................................................................
دلف صالح إلى الشقة فرأى والدته بانتظاره بملامح مضطربة حزينة...

"في إيه يا أمي مالك؟.... حد في البيت جراله حاجة؟"

قالت والدته بتوتر....

"إحنا بخير يا ابني... بس شروق..."

بهت وجهه بشدة وسألها بانفعال وعيناه تشتعلان بالقلق....

"مالها شروق؟!........ تعبانة؟!"

قالت والدته بتهدج...

"شروق مشيت... وسابت ليا مفتاح الشقة."

ارتسمت الدهشة بصورة قاسية على ملامحه
وسألها مبهوتًا...

"مشيت؟!...مشيت إزاي يعني... ومشيت إمتى؟!"

قالت والدته بشجن....

"من ساعة... لمّت حاجتها في عربية ومشيت 
وسابت ليا المفاتيح.... "

سألها بغضب مكتوم...

"ومسألتهاش رايحة فين؟..... وليه ماشية؟!"

قالت والدته بوهن....

"قالت إن وجودها هنا هيعمل مشاكل كبيرة لينا... ومش عايزة تأذي حد... ولا تكون سبب في الأذى."

حدق فيها صالح بعدم فهم وقال بتجهم...

"أنا مش فاهم حاجة أذى إيه اللي بتتكلم عنه؟! وليه تمشي من غير ما تعرف حد؟!"

قالت والدته بقلب مفطور من الخوف...

"شكل في حاجة حصلت خلتها تعمل كده... أنا خايفة عليها أوي يا صالح... اتكلمت كتير معها
ومرديتش تسمع لي..."

ظل صالح واقفًا مكانه كجبلٍ شامخ ملامحه لا تنطق بشيء... ما زال في حالة استيعاب لفعلتها الغريبة... المباغتة له وكأنها طعنته بخنجر في ظهره...

سألته والدته بحذر.....

"هتعمل إيه يا صالح؟"

هتف بشراسة ليست من شيمه وعيناه تكادان
تنفثان نارًا....

"هدوّر عليها... لازم ألاقيها... مش بالساهل كده تمشي وتسيب كل حاجة....جت ليه من الأول؟!"

قطبت والدته جبينها في حيرة من كلامه...

"تسيب كل حاجة؟!..... بس هي خدت حاجاتها كلها..."

نظر إليها قليلًا ثم همس لنفسه بعذاب...

(وخدت قلبي معاها... وسبتني...)

أحيانًا نحتاج إلى رؤية النيران حتى نعرف معنى السلام... ونحتاج إلى الهجر حتى نُدرك قيمة اللقاء...


Knight of novels
Knight of novels
تعليقات