رواية للهوى رأي اخر الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم سارة حسن


 رواية للهوى رأي اخر الفصل الثاني والعشرون 

دخل والده الغرفة، فزفر بضيق قائلاً:
_ برضو هتخرج، يا بني، انت لسه تعبان والدكتور قال محتاج ترتاح، انت لسه حتى ما فكّتش رباط دماغك

أجابه ياسين وهو يرتدي ذلك الجاكيت الجلدي الأسود، ومن أسفله تيشرت بغطاء رأس:
_ محتاج أخرج شوية، زهقت من القعدة
_ طيب بلاش تسوق
أومأ له ياسين وقال:
_ أنا مش هاتأخر، مشوار مهم هاعمله وبعدين هاجهز للسفر
ثم خرج تاركًا والده ينظر لآثره بحيرة من تغير حال ابنه، ولا يعرف للآن سبب إصابة رأسه سوى أنه اصطدم بشيء ما أثناء قيادته، لكنه يشعر أن هناك ما يخفيه عنه وحيدًا، يشعر أنه حزين ولا رغبة له في شيء، حتى موافقته على سفره المفاجئ يشعر أنه هروب من شيء ما.

.........................

طرق على باب غرفة مكتبها، بتردد لأول مرة يشعر به، دخل إليها، تنحنح فارفعت رأسها إليه، غاب عنها ثلاثة أيام، حتى ظنت أنه استسلم وابتعد عنها، حتى عاد الآن لكنه بغير حال.
شاحب الوجه وغائر العينين، يرتدي جاكيت رافع غطاء رأسه لأعلى، واقفًا أمامها يتأملها بندم حقيقي وخسارة ظاهرة في عينيه، اقترب منها ودون أن يجلس قال ياسين:
_ أنا كويسة
لست بخير، قلبي يؤلمني، مفتقدة كل شيء معك، وجودك ورائحتك وابتسامتك وحتى عبثك، أنا أبداً لست بخير
كلمات قالتها أسيل لنفسها دون أن تتفوه بشيء منها، فقالت بهدوء:
_ كويسة
_ عايزك دايمًا كويسة وقوية، أنا عارف إنك قوية وهتعدي كل حاجة، خلي بالك من نفسك يا أسيل

بهتت أسيل ووقفت بترقب وتسائلت:
_ قصدك إيه بكلامك ده
_ أنا مسافر

رمشت بعينيها عدة مرات وبضحكة ساخرة متألمة:
_ مسافر

_ قبل ما أسافر حبيت أشوفك وأقولك، إني بحبك ومش هبطل أحبك

ثم صمت متنهداً بتعب وحزن:
_ ماكنتش جدير بيكي وأذيتك وأنتي ما تستاهليش كده

أشارت له بجمود وصوت معتز:
_ مرحلة وعدة من حياتنا يا ياسين، واديك اهو ها تسافر وتبدأ من جديد.

_ أنتِ مش مرحلة في حياتي، أنت كل حياتي، أنا ما استسلمتش يا أسيل، وهافضل أحاول لحد ما تسامحيني وتطمني معايا، السفر ده أنا محتاجه، محتاج أتعلم أكون جدير بيكي وأكون إنسان مسؤول بستحقك

اقترب منها وعينيها الحزينة مقابل عينيه النادمة التي تتأمل ملامحها بلهفة وشوق وندم:
_ أنا عارف إني ماليش أي حق في أني أطلب منك حاجة، لكني بس محتاج منك فرصة، ما تقفليش بابك في وشي، وما تفتحيش قلبك لحد، أنا هابعد علشانك

قضت جبينها بتساؤل:
_ غريب إنك بتطلب مني أستناك وأنت بتبعد

_ مش هابعد، هاكون دايمًا حواليكي، هاصلح كل شيء، حتى نفسي، هاعمل كل حاجة علشان أستاهلك

ودون أن ينتبه سقط غطاء رأسه، فظهر ذلك الأزرق الطبي الكبير خلف رأسه، فشهقت أسيل هاتفة به بقلق:
_ ياسين إيه ده
بابتسامة صغيرة أجابها:
_ أستاهلها، كل ألم بحسه أستاهله، لأني خليتك تحسيه أضعاف

انحنى حاجبيها بألم، فمسك كفها وقبل باطنه وغادر الغرفة، وهي تنظر لآثره وقد ارتقرقت الدموع بعينيها، ولا يتوقف ياسين على بعثرتها بحبها له.

.........................

كانت أصوات الضوضاء من أسفل تصل إليها، انتبهت أكثر واقتربت من الباب تسترق السمع، وصوت قاسم الغاضب عاليًا وصوت مقابله مجابها في غضبه، إنه صوت عمها كمال.

_ عايز فيروز يا قاسم، آخر حاجة كنت أتوقعها تكون ليك يد في اختفائها

قابله قاسم ببرود شديد:
_ اهدي يا كمال

صرخ كمال بوجهه منفعلاً:
_ اهدي إيه، بنت أخويا في بيتك وأنا قالب عليها الدنيا، إزاي تتجرأ وتعمل معايا كده

_ أنا ما قدرش انفعالك، لكن كمان ما تنساش إنك بتكلمني، يمكن اتسرعت بوجودها هنا لكنها كده كده كانت جاية ومسألة وقت مش أكتر، ما تنساش إني طلبتها للجواز

_ طلبتها وما سمعتش حتى موافقتي أو رفضي، سرقتها يا قاسم

_ فيروز جاية هنا بمزاجها وأنا بنفسي كنت هاكلمك علشان نكتب الكتاب وما فيش داعي للتأخير أكتر من كده

انفعل كمال غير مصدق هدوء قاسم المريب:
_ كتب كتاب إيه، أنا عايز أشوفها، فيروز عمرها ما هاتقلل مني وتعمل حاجة، أنا مش راضي عنها

خرج صوت قاسم منفعلاً محذراً:
_ فيروز مش هتخرج منها

_ هابلغ عنك

هدر قاسم بصوت جهوري غاضب:
_ اعمل اللي تعمله، لو ألف راجل وقفوا على الباب ده ماحدش هايقدر ياخدها من هنا

_ يعني إيه، لو انت قاسم عمران فأنا كمال الصواف، اوعي تستقل بيا يا قاسم

كانوا متجابهين، وكل منهما متمسك بكلمته، صراع بينهما وكلاهما مستعد للحرب إن لزم الأمر، فكان حل المعضلة تلك في يد فيروز.
فيروز التي استمعت لصوت مفتاح الغرفة ودخول قاسم، الذي وقف قبالتها يخبرها مؤكداً:
_ مش هاتمشي من هنا

تسائلت بلهفة وأمل:
_ ده عمي اللي تحت، جاي علشاني

أسرعت تتخطاه بأمل، وطوق نجاة ظهر أخيراً يخرجها من سجنها، لكن يد قوية كالفولاذ تمسكت بها وبخفوت محذراً:
_ رايحة فين

نظرت إليه وبتوسل رغم بريق الأمل في عينيها قالت:
_ مش هاقول أي حاجة من اللي حصلت، والله ما هاتكلم، بس سيبني أروح معاه، لو في قلبك حاجة صغيرة من ناحيتي بس سيبني لحالي

_ لو كان في قلبي ليكي حاجة صغيرة كنت سبتك تمشي من زمان، لكن اللي في قلبي ما حدش هايفهمه ولا انتي هتحسي بيه

_ يعني إيه

كانت عيناه بها من التصميم ما يجعل أي أمل في خروجها هنا يتلاشى، ويحل مكانه اليأس والخوف.

_ هتنزلي لعمك و ترفضي إنك تمشي معاه

ضيقت عينيها ورفضت دون تفكير:
_ مش هاعمل كده

مسكها من ذراعيها ضاغطًا عليها غير مبالٍ بالكدمي التي لم تشفَ بعد، وبهسيس مرعب وعينيه متملكتين ومحنتين قبالة عينيها المعذبتين، وبحروف مشددة عليها كأنه يوصلها لعقلها قسراً:
_ لو فاكرة إنك شوفتي وشي التاني تبقي غلطانة، أنا جوايا وحش متحكم فيه لو فقدت السيطرة عليه هادوس على الكل

شعر بارتعاشها بين يديه وشحوبها، فأكمل بإصرار:
_ هتنزلي و ترفضي تمشي معاه، وتقنعيه كمان، وإلا هاهد الدنيا وشغله اللي معايا هاوقفه وهاخليه يعلن إفلاسه في ٤٨ ساعة، بلاش تخرجي شياطين يا فيروز

تجمدت فيروز بين يديه، عينيها أصبحت فارغة وخاوية، حتى الدموع توقفت وهي تومئ برأسها بضعف ولا سبيل لها آخر.

احتواها عمها مربتًا عليها، ورغم جمودها إلا أن مشاعرها إليه لم تخف عليه، أحاط وجهها متسائلًا:
_ آخر مكان فكرت أدور عليكي فيه هو هنا، أنا قلبت علىكي الدنيا، ليه عملتي كده

اخفضت عينيها بخجل، فقال:
_ مش مهم أي حاجة دلوقتي، المهم إنك هترجعي معايا تاني

جذبت يدها منه، نظرت بطرف عينها لقاسم الذي يقف عاقدًا يديه أمام صدره مترقبًا، ابتلعت ريقها بصعوبة ثم قال بصوت متحشرج:
_ أنا هافضل هنا

_ يعني إيه تفضلي هنا، ليه وبصفتك إيه تبقي معاه في بيت واحد

حدقت في قاسم ولا أجابه، تملكها الصمت، لكنه صدمها حين قال:
_ مراتي، بصفتها مراتي، هانكتب الكتاب وكده وجودها هايكون طبيعي حدًّا

واتسعت عينيها وبصعوبة تحكمت بذلك الدوار والبرودة في أطرافها، وعينيه المحذرة لها جعلتها تخفض عينيها عنه، بينهما هتف كمال بغضب:
_ واسمه إيه ده، أنت قررت كده من نفسك من غير ما ترجع لنا

_ أبداً، العروسة قدامك اهي اسألها

رفع كمال رأس فيروز وبانفعال تسائل:
_ انتي موافقة على اللي بيحصل ده
_ أنا كنت قولت لحضرتك إن قاسم طلب يتجوزني

هتف بها فانتفضت مكانها:
_ طلب، ولا أنا ولا انتي وافقنا، فجأة قررتوا كده من غير حساب لأي حد، فيروز لو قاسم ضاغط عليكي متخافيش أنا معاكي ومش هاسمح لحد يغصبك على حاجة

كتمت الدموع وبصعوبة قالت:
_ مش غصب عني، أنا موافقة

أشار لها بأصبعه محذرًا:
_ اوعي تخسري نفسك وتخذليني

_ أنا آسفة لكن أنا هافضل هنا

اخفضت عينيها عنه بخزي، موضع لو تعلم أنها ستكون فيه لم تكن لتطرق بابه يومًا، بابه الذي فتحه لها على مصراعيه وحضنه الذي احتواها في أشد أوقاتها ضياعًا، هو أبوها حتى لو لم يكن اسمه بعد اسمها في هويتها، لكنها تحبه بالقدر الذي يجعلها تتحمل أي شيء دون أن يحدث هو أي أذى، هو لا يستحق أن يطالَه جبروت قاسم عمران.

خرج كمال دون أن يتفوه بشيء، لكنه متخاذل وحزين وغير راضي، قبل أن يخرج من الباب قال بجمود لقاسم:
_ حدد ميعاد كتب الكتاب وكلمني

أصبح المكان من حولهما فارغًا، تقابلت أعينهما في حديث قاسي قاتل، به من الخذلان والحزن:
_ بكرهك يا قاااسم عمرااااان، بكرهككككك

صوت صراخها رجّ أركان القصر بأكمله مقهورًا وغاضبًا.
استقبله قاسم بثبات قاتل، دون أن يرف جفنه حتى، فقط يطالع انهيارها كالحجر، ركضت فيروز لأعلى وصوت بكائها يصل لمسامعه وقلبه.
اخفض رأسه قابضًا جبينه وتنفسه متحشرجًا، وجهه الجامد أصبح تعبيره متألمًا، رفع يده وضعها على مكان قلبه ثم أغمض عينيه بتعب من كل شيء.

.......................
ابتعدت كامليا عن المرآة، تنظر المنزل الخالي حولها، رغم بعد دهب عنها لكنها كانت تستأنس بوجودها، تلك التي لم تجب على اتصالاتها ولا رسائلها، متنعمة في قصر موسى رشيد، ذلك القصر الذي أوصلتها إليه دون أي مجهود بذكر منها، وفي الأخير لم تهتم حتى أن تطمئن عليها وعلى احتياجاتها بعدما تركتها. نفخت كامليا ونظرت إلى أصابعها المطلية بعناية، ويدها التي تستخدم لها أغلى المنتجات لمحاربة التجاعيد.

اتجهت للطارق بتكاسل وفتحت الباب، فاقابلت إحدى صديقاتها والتي دخلت مثرثرة بانبهار:
_ حقيقي اللي سمعته يا كوكي، دهب اتجوزت ابن خالد رشيد

جلست كامليا أمامها واضعة قدمًا فوق الأخرى بغرور:
_ حقيقي طبعًا، دهب ماكنتش هاتتجوز أي حد
_ بس شفتك يعني لسه في الشقة هنا وما روحتش معاه قصر جوزها

تململت قليلًا، لكن بثبات قالت:
_ عرسان بقي ما حبتش أكون عزول، فترة صغيرة وأكيد هاعيش معاهم

تسائلت صديقتها بفضول:
_ ورقية هانم هاتتقبل ده؟

احتدت كامليا وقالت:
_ تتقبل أو لا مش فارق معايا، لكن أنا مش هاعيش في الشقة دي لوحدي وبنتي تقعد في القصر

_ بصراحة يا كامليا، عيالك الاثنين عندهم كتير، لو كنتي علاقتك كويسة بقاسم كان زمانك في مكان تاني خالص، ولا هاتستني حاجة من دهب أو جوزها

وقفت كامليا بغضب مكتوم قائلة بفظاظة:
_ سوري يا حبيبتي، ميعاد الشور بتاعي وبعدين رايحة الكوافير ومستعجلة

تنحنحت بإحراج ثم جذبت حقيبتها وخرجت بعدما ألقت عليها نظرة مغتاظة من غرورها وعجرفتها، بينما أغلقت كامليا الباب من خلفها وعينيها الذهبتين مشتعلتين بلهب، وكلماتها تتردد في أذنيها: لن يكون أولادها في كل ذلك الثراء والمال، ولن يطالها شيء سواء باللين أو بالقوة إذا لزم الأمر.

تعليقات