رواية مع وقف التنفيذ الفصل الرابع والعشرون بقلم دعاء عبدالرحمن
أطل بلال برأسة داخل مصلاها الصغير الذي يتخذه منذ زواجها مصلى خاص بها في أحد أركان المنزل الصغيرة فوجدها تسبح بعد انتهاءها لتوها من صلاة الفجر ... أزاح الستار الذي وضعه عليه ليعطى الركن شيء من الخصوصية فلا يدخله أحداً سواها ولا يعبث أحد بمكتبتها الصغيرة فيه .. وقع منها وجلس بجوارها ، التفتت إليه بابتسامة عذبة فأخذ كفها في يده وقبل راحتها ثم أكمل تسبيحه على أصابعها ... نظرت له يحب جارف وهو يسبح على أصابعها وفي كل تسبيحة مستخدمة حبه بقلبها وتتعلق به أكثر وأكثر ... رفعت يدها الأخرى ومررت أناملها على لحيته وخللت أصابعها برفق داخلها فنظر لها وابتسم ثم وقع منها أكثر وأخذها بين ذراعه وهما جالسان على الأرض ثم تناول يدها الأخرى وأكمل التسبيح عليها ... ظلت هي تمر أصابعها على يده التي تتلمس راحتها برقة حتى انتهى ورفع راحتها لقمه ليقبلها مرة أخرى باشتياق، ولفها إليه برفق لتكون في مواجهته وقال بخفوت:
لسه صحاحية وتحديد دلوقتي ليه مش قلتي فصلي وأنام
بادلته همساً يهمس وهي تقول بسكينة :
كل مرة يقول أذكار الصباح في السرير بتروح عليا نومه قبل ما اخلصها فقلت اقولها هنا علشان
کمان ايقى مركزة فيها .....
ثم أردف متسائلة :
ملى قلت هندی درس بعد الصلاة
ظهر الحزن على وجهه وهو يقول :
- درس الفجر استمتع هو كمان مع الاسف
ثم أردف متسائلة بسخرية حزينة:
الرقاصة في الكباريهات محدش بيقدر يمنعها من اللي بتعمله لكن أحدا لما تيجى تتكلم عن الله
يمنعونا وبانفلوا المساجد بعد الصلاة على طول
ريتت على وجنته وقالت بهدوه :
متزلزلش نفسك كده يا حبيبي انت ناسي حديث الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال :
بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود كما بدأ غريبا ، فطوبى للغرباء
نظر لها وأطل الأسى من أعينهم وقال:
أحنا بقينا غرب في بلدنا يا عبير أول ما الواحد يربى لحيته يبتدى الاضطهاد ويبتدوا يحاصروه في كل مكان في المسجد وفي الشغل وفي كل حتة تبتدى المضايقات .... كأن التأسي بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام بقت تهمة
حاول أن تضفى بعض من المرح عليه فغيرت مجرى الحديث وقالت مداعبة :
قولى بقى ناوى تعمل ايه النهاردة في فارس وعمرو
نجح لمداعبتها وابتسم يمرح وقال :
- ناوی ارشد شهم طبعا
تحسست ذراعيه بإعجاب وهي القول حكة :
أنا متأكده ألك هد شدهم بسير
خلل أصابعه بين خصلات شعرها و همس في أذنها قائلاً:
- البسيطةيني بالضمير .. الولاد لسه نايمين مش كده !
طيب هسيبكوا أنا شوية يا متر علشان تعرفوا تتكلموا
قال الضابط هذه العبارة وهو ينهض من خلف مكتبه ويأخذ هاتفه واتجه خارج مكتبة ... أنتظر فارس حتى خرج الضابط وأغلق الباب خلفه فالتفت إلى الشاب الذي وقف أمامه مطرقا براسه في حزن وقال وهو يشير له بالجلوس:
اقعد یا هانی
جلس هاني ببطء وبدون أن يرفع رأسه أو ينطق ببنت شفة .. تفرس فيه فارس ملياً وقرأ بسهولة تعبيرات الحزن والوجوم في ملامحه الشاحبة المترقية .. لا يبدو عليه الإجرام ابدأ على العكس تماما، وجهه فيه من البراءة ما فيه ... حاول فارس أن يقرأ لغة جسده فلكل جسد لغة من الممكن ان تكشف عن مكنونات مشاعره اثناء الحديث ... صمت فارس برهة من الوقت لكي يجعله بتوتر أكثر ويسهل استدراجه وقاطعاً عنه أي اسلوب للمراوغة من الممكن أن يلجأ إليه ثم قال فجأة :
أنا عارف أنك مكنش قدامك جل ثاني ...
رفع هاني رأسه يحذر ناظراً إلى فارس الذي مال للأمام مقتحماً عينيه وتكلم وكأنه راه يوم
الحادث رأى العين وأردف قائلا بثقة :
كانت يتهددك كنت هتعمل ايه يعنى غير كده
حدق هاني فيه مندهشاً وقال متعجباً :
عرفت ازياها ولم تكن تهددني !
قال فارس بهدوء وتركيز :
أحكيلي كل حاجة وانا هقولك عرفت ازاى
نظر له هالي وهو يفرك كفيه في اضطراب وتوتر كبيرين وقال متلعثماً :
زي ما انت قلت مكنش في أيدى حل ثاني... كانت عمالة تهددني أنها تفضحني في كل حتة وتقول لابويا وانا خلاص كنت هتعين في السلك الدبلوماسي وأي قلق كان هيحصل حواليا كان هيطير منى الشغلانة اللى كنت يحلم بيها طول عمري ...
ثم بدأ في البكاء وهو يرتعش قائلاً :
صدقتي انا عمري ما كنت احلم انى اعمل فيها كده.. بس هي اللي اضطرتني ....
دفن وجهه بين كفيه وهو يرتعش بقوة ويقول:
أنا مكنش قصدي اموتها أنا كنت عاوزها تسقط بس وخلاص.. مكنتش اعرف انها هتموت
سايره فارس في الحديث وهو يربط على ساقه مهدئاً وقال :
أهدى بس يا هاني أهدى ... أنا فاهمك طبعاً بس انت أيه اللي خلاك من الأول تعرف الاشكال دي يا أخي
جفف هاني دموعه ولكنه مازال يتلعتم وهو يتحدث من فرط الاضطراب فهذه أول مرة يعترف
بها بما فعل وقال :
كانت زميلتي في الكلية وأعجبنا ببعض لحد ما صارحنا بعض بالحب وكنا متفقين أن محدش يعرف بعلاقتنا دلوقتي وكانت علاقتنا علاقة حب بريئة ... وبعد شويه صرحتني أنها حكت لاختها الكبيرة وأختها كانت متفاهمة معاها حتى ساعات .. ساعات كانت يتخرج معانا وكانت
منصورة كده أن علاقتنا بقت شبه رسمية وبقت مطمنة أكثر معايا ....
في الأول كانت بتحاسب أوى على كل لمسة بيني وبينها ويترفض لكن بعد ما اختها الكبيرة عرفت و رحبت وهي من ساعتها وهي معتبرة علاقتنا رسمية .. وابتدت التنازلات بينا لحد ما حصل اللى حصل ... وجات قالتلي أنها حامل .. وفضلت شهر بحاله أحاول أتهرب منها ...
التقط أنفاسه بصعوبة وهو يتابع قائلاً :
لحد ما هددتني وقالتلي انها متفضحني في كل حته وتبلغ ابويا ....
أجهش في البكاء عندما وصل لهذه النقطة وهو يقول:
مفكرتش ... معرفتش أفكر في حاجة غير ألى الخلص من تهدديها بس... مكنتش اقصد صدقني أغمض فارس عينيه بألم وقد تيقن من أدانته .. ها هو يتجسد أمامه مثالاً لعقد الحرام عندما يقطع قد تفرط حياته حية تلو الأخرى بسرعة كبيرة لا تستطيع اللحاق بها أو جمعها.
ترکه فارس يبكى ويعضه الندم على ما فعل حتى بدأ يهدأ ويسكن جسده المنتفض ثم قال :
علشان كده انكرت أنك تعرفها مش كده
رفع هاني كتفيه بحركة عصبية وهو يقول بأنفاس لاهنة :
اومال كنت هعمل ايه كان لازم أنكر وكدبت الشهود اللي شافوا الحادثة وكديت أختها لما قالت
انها تعرفتي ... خفت اقول الحقيقة ... خفت يعدموني
أخذ فارس كفه وقبض عليه بقوة وهو ينظر له بصرامة قائلاً:
و مخفتش من ربنا ١٢ .. انت ممكن تاخد براءة وبعدين تموت عادي في بيتك
ثم وضع أصبعه على صدره وضغطه وهو يقول :
هتر وحله ازاى وانت هاتك عرض واحدة ومش هي عايشة وبس لاء وهي ميتة كمان
حدق فيه هاني فرعاً وهو يقول منتفضاً :
- وهي ميتة يعنى أيه
يعنى أهلها وصحابها وجيرانها وكل اللى يعرفوها عرفوا دلوقتى انها ماتت وهي حامل وهي
مش متجوزة .. يعنى عرضها اتلوت والناس بتنهش فيه حتى وهي ميتة ... و بسببك انت
بدأت دموع هانی تنهمر بشدة وهتف صالحاً :
أنا قيت لريدا ثبت وندمت وربنا هي قبل توبتي انا متأكد
وضع فارس يده على كتفه وهذه بقوة وهو يقول :
ممكن ربنا يقبل توبتك او لما تغلط في حق نفسك وبس ... لكن أنت غلط في حق أنسانه متعلقه في رقبتك عمرها اللي راح هي واللي كان في بطنها وشرفها اللي أنتهش ... يعنى لازم تردلها حقها ... على الأقل خالص انك تعترف بغلطك وتتقبل العقوبة بشجاعة .. مش تنكر وتقول توبت
دفع هاني ید فارس حائقاً وقال :
انت عايز منى آيه ... أنت جاي تدافع على ولا جاي تلف حبل المشنقة حوالين رقبتي
هر فارس رأسه أسفاً وهو يقول :
يابني أنا بنصحك لوجه الله علشان لما عمرك اللي متعرفش هيخلص امتى ينتهى ... تروح لربك نضيف
قال عبارته الاخيرة وتركه وأتجه لباب الحجرة ليتصرف ... فتح الباب وخرج وتركه وحيدا يشعر
بظلام قلبه وروحه الأئمة الملوثة .. والمعدية
بينما كانت أم فارس منشغلة في المطبخ تعد طعام الغذاء سمعت طرقاً خفيفاً على باب الشقة
فتركت ما في يدها واتجهت لتفتح الباب .. ابتسمت وهي تنظر إلى شهرة التي وقفت على استحياء مطرقة برأسها وقالت :
أهلا يا مهرة يا حبيبتي الفضلي
قالت فهرة بخفوت وقد بلغ الخجل منها مبلغة :
معلش يا طنط مش هقدر ادخل ...
تم ترددت قبل أن تقول :
أنا بس كنت عاوزه اسأل على حاجة وهمشى على طول
جديتها أم فارس من يدها وهي تقول :
تعالى مفيش حد هنا غيري
دخلت مهرة وأغلقت أم فارس الباب خلفها فوقفت خلفه ولم تتحرك خطوة واحدة وقالت بخجل :
- معلش يا طنط بجد مش هقدر أقعد ...
قالت أم فارس وهى تمسكها من يدها وتتجه للمطبخ :
طب تعالى معايا في المطبخ قوليلي اللى انت عايزاه أحسن الأكل هيتحرق
وضعت مهرة حقيبتها جانباً على المقعد المجاور للباب وتبعتها إلى المطبخ ... وقفت مهرة بجوارها تنظر إليها وهي تقلب الطعام في الإنائين, أشفقت عليها من المجهود اليومي التي تقوم به وحدها وبحركة تلقائية تناولت ملعقة خشبية كبيرة ووقفت تقلب الأرز مساعدة لها ثم قال :
في حاجة يا طنط عاوزه أسألك عليها بس خايفة تقلقى
التفتت إليها أم فارس باهتمام وقالت :
- خير يا بنتي في أيه
ظهر على وجهها الأضطراب والتوتر وهي تقول :
بقالي كام يوم يحلم بكوابيس تخص الدكتور فارس ويقوم من النوم مفزوعة
عقدت أم فارس بين حاجبيها وهي تضيف صلصة الطماطم إلى الإناء وقد تسرب الفلق لقلبها وقالت :
بتشوفي أيه في الكوابيس دي
أضافت قهرة مرقة اللحم إلى الارز وقليته مرة أخرى ثم وضعت غطاءة جيداً والتفتت إليها قائلة :
مش هينفع أحكيه يا طنط علشان مرة ... مرة الدكتور فارس قالي أن اللي يحلم بحلم وحش
محكم بهوش في النهاية ويستعيذ بالله وهو مش هيضره
قالت كلمتها وتوجهت للمكان المخصص للأكواب يحثت بعينيها قليلاً وما لبثت أن وجدت ضالتها .. كوبها المخصص منذ زمن طويل لا يشرب منه أحد غيرها، لوله مميز وعليه رسومات
كرتونية كثيرة مختلفة، ابتسمت وهي تتناوله وقالت :
مكنتش متخيلة الى هلاقيه
أطلت نظرات الإشفاق في عينيي أم فارس وقالت بحتان :
حاجاتك اللي هنا في الحفظ والصون مهما غبتي هترجعي تلاقيها
لمعت عينيي مهرة بدمعة قاتلت لإخفائها وهي تتجه الثلاجة ووضعت في الكوب بعض المياه
الباردة وما أن انتهت حتى قالت لها أم فارس :
كنت عاوزه تسأليني على ايه يا مهرة
وضعت مهرة الكوب على رخامة المطبخ أمامها وقالت :
الكوابيس دي مش مریحانی با طنط ... هو الدكتور فارس عنده مشكلة ولا حاجة ؟
توترت وهي تردف :
انا والله مش يدخل في خصوصياته.. بس انا بخاف من احلامي دايما ويصدقها علشان كده بسال
هزت ام فارس راسها نفياً وهي تقول مطمئنة :
محكاش ليا حاجة خالص لو في مشكلة كان أكيد حكالي .. أطمني
قالت شهرة وهي تومي برأسها قلقة :
أتمنى أن تكون فعلا .. معلش يا طنط عطلتك.. أمشى انا بقى علشان عندی مذاکره کثیر
كانت أن تخرج من المطبخ الا أن أم فارس تذكرت أنها لم تسألها عن أحوالها مع زوجها وخصيصا بعد المشادة التي حدثت بينه وبين فارس فوضعت يدها على كتفها من الخلف وهي تقول :
استنى صحيح ... عاملة أيه مع جوزك يا بنتي ياترى لسه زعلان ولا خلاص
شعرت قهرة بالحنة لمجرد ذكر أسمه وقالت بضيق :
تفتكري با طنط أنا ممكن أفكر في زعله بعد ما كان هيمد أيده عليا بعد أسبوع واحد من كتب كتابنا
عندما وصلت لهذه النقطة سمعت المفتاح يدور في الباب ويفتح التفاجأ بفارس يدخل ويغلق الباب خلفه وقد بدا عليه الإرهاق والهم الشديد بعد جلسته مع هاني منذ قليل ... التفت بتلقائية لينادي والدته فوجدها تهم بالخروج من المطبخ وقد احمرت وجنتاها خجلا للقاءه في بيته. نسى همه وأرهاقه وهو مازال واقفاً مكانه خلف الباب المغلق وتسللت النشوة إلى قلبه, تناولت
حقيبتها بجوار الباب بارتباك شديد ووقفت تقول بخفوت :
أزيك يا دكتور
لم يتنحى جانباً لتخرج إنما ظل واقفاً مكانه .. لا يعلم لماذا تسمرت قدماه وابت أن تتحرك وقد
ارتسمت النشوة والبهجة على ملامحة وقال :
أزيك انت يا شهرة .. عاملة أيه
تحشرج صوتها وهي تتمتم :
الحمد لله
كانت تتوقع أن يتحرك جانباً ولكنه لم يفعل ... أقتربت منه والدته وريتت على ذراعه وكأنها توقظه من غفوته وقالت :
عديها يا فارس علشان متتأخرش على مامتها
التفت إلى والدته محدقاً بها وكأنه لم يراها إلا الان فقط, أغمض عينيه وفتحهما ببطء ثم تنحى
جانباً لتمر من أمامه وتحت ناظري قلبه الذي يقاتل ليزيل الغمامة التي تعصب عينيه فتحجب عنه الرؤية الصحيحة لحقيقة مشاعره, خرجت وأغلقت الباب خلفها مسرعة وصعدت الدرج قراراً، ولكن من منا يستطيع القرار من قلبه .
باب المطبخ قائلاً :
تركته والدته وعادت للمطبخ ثانية لتتمم على الطعام فدخل خلفها ووقف مستنداً بذراعيه على
مالها يا ماما في حد ضايقها ثاني
هزت رأسها نفياً وقالت :
لا مفيش دي كانت يتسلم عليا بس
وقع بصره على الكوب الموضوع فوق رخامة المطبخ فارتسمت ابتسامة واسعة على شفتيه ....
تقدم نحوه وأخذه ونظر إليه جيدا وهو يقول :
طول عمرها مبتحبش تشرب غير من الكوباية دي
نظرت له والدته بدهشة وهو يتوجه إلى الثلاجه ويصب فيه بعض الماء البارد ويشرب بشكل
تلقائي ولكن بحماس شديد.. ويتلذذا
أنتهى ووضعها مكانها كما هي وخرج ليبدل ملابسه تحت ناظري والدته التي كانت تدعو الله
بقلبها أن يرزقه راحة البال والقلب .
بمجرد أن جلسا حول مائدة الطعام قالت والدته :
أومال مراتك مجاتش ليه يابني لحد دلوقتي
عقد بين حاجبيه بضيق وقال :
عاوزه تقعد في بيت امها يومين
وكأنهما استدعاها حينما تحدثا عنها فلم يكد ينتهى من كلمته حتى سمع رئين هاتفه النقال أخذ
الهاتف وأجابها فقالت على الفور
آیه یا فارس قافل تليفونك ليه
ظهرت الدهشة على وجهه وقال :
أنا مقفلتش التليفون النهاردة خالص
تصنعت الدهشة وهي تقول :
معقوله اومال كان بيديني مغلق ليه
ثم استدركت وهي تقول :
أومال انت كنت فين من ساعتين كده لما كان بيديني مغلق
كنت مع المتهم بتاع قضية القتل.
ادعت المرح وهي تقول :
شكلك كده وافقت على القضية
هز رأسه نفيا وهو يقول :
لاء رفضتها
ابتلعت ريقها بصعوبة فهذا ما كانت تتوقعه إلا أنها كان لديها بصيص من الأمل في أن يقبلها ويريحها مما هي مقدمة عليه .. قالت يتماسك :
بلغت والده بالرفض ولا لسه
لا لسه لما أروح المكتب بالليل هخلى السكرتارية تبلغه علشان يجي كمان ياخد الأوراق بتاعة القضية
الأرض وسمعته ينهى المكالمة قائلا:
شعرت بالوهن يدب في أوصالها فهاهي ستضطر أن تلجأ إلى أكثر شخص تبغضه على وجه
طلب معلش یا دنیا هقفل دلوقتي علشان الحق أخلص غدا وأنزل
قالت بلهفة :
رايح المكتب بدرى كده
لالا أنا عندي ماتش كده مع الدكتور بلال وعمرو ويمكن اروح المكتب متأخر شوية .. يلا سلام
أنهى مكالمته بينما قالت والدته باهتمام:
لیه یا فارس هتسيبها تقعد لوحدها يابني في حاجة مزعلاها ولا ايه .. طب شوف ايه اللى مزعلها ... مينفعش تقعد لوحدها كده ... دی دلی بقت يتيمة يا فارس
نظر لها فارس وهو يشعر بالإشفاق تجاه والدته لطيبتها الزائدة حتى مع من يسيئون معاملتها
وقال :
خلاص براحتها
مفيش حاجة يا ماما .. هي طلعت في دماغها النهاردة الصبح أنها تروح هناك شوية وصممت ....
نظرت له والدته بريبة تم تذوقت الأرز وهي تتمتم بإعجاب :
والله شاطرة
رفع فارس رأسه ناظراً إليها بتسائل وقال :
مين دي اللي شاطرة
قالت والدته وهي تتناول طبقها :
ولا حاجة ... قهرة أصلها نفسها حلو في الرز
رفع حاجبيه وقال :
- هي اللي عملته ؟!
أومأت برأسها وهي تكمل طعامها دون أن تنظر إليه فقال :
فين طبق الرز بتاعي يا ست الكل
رفعت رأسها بدهشة وقالت :
أنت مش قلت يتحب السبانخ مع العيش
مط شفتيه قائلا:
- مجربها مع الزر
نظرت له والدته وهو يأكل الارز بإعجاب شديد وكأنه لم يأكله من قبل فلاحت ابتسامة صغيرة على جانبي شفتيها رغما عنها، وبعد أن انتها من طعامهما ... أعد فارس الشاي كما يفعل دائماً
.... وضع واحدة أمام والدته التي قالت :
أنت متقابل عمرو والدكتور بلال النهاردة
أرتشف رشفة منه وأوماً برأسه قائلاً :
أيوا عندنا ماتش النهاردة بعد صلاة العصر على طول ... يدويك أخلص وأرجع أغير هدومي
وانزل على المكتب
أنهى فارس اغتساله وبدل ملابسه وارتدى حلته الرياضية استعداداً لماتش الملاكمة
نظر باسم الرقم الدنيا الذي تنضى به شاشة هاتفه النقال بانتصار وخبت فقد كان متأكدا من اتصالها ولجوئها إليه من أجل المال فلقد صدق عنه بها بل وثقته في طمعها .... أجابها بترحاب
شدید فقالت باقتضاب وهي تشعر بالتقرر منه وقالت :
خلصني وقولي هتعمل ايه.. فارس هيبلغ الراجل رفضه النهاردة
أصابه التوتر والقلق وقال بسرعة وهو يعتدل في جلسته :
لاء لازم تعطليه النهاردة بأى شكل ... مش لازم يكلم الراجل النهاردة خالص.. وإلا كل حاجة متبوظ
قالت بتأفف :
امنعه ازای یعنی انا اصلا في بيت ماما مش معاه وبعدين انت ناوى تعمل ايه انا لسه معرفش النهاية دلوقتي ....
هتف بغضب :
أنت غبية ولا ايه... سبتي البيت ليه دلوقتي
صرخت به :
انت ايه يا أخي مبتحسش ... انا مش عارفة انت ناويله على ايه .. مش قادره أحط عيني في قبلة
أطلت من عينيه نظرات بغض شديده وهو يقول :
هعدى عليكي بالعربية دلوقتي ... هنروح مشوار مهم وهناك هقولك انا ناويله على أيه بالظبط
ضحكت ضحكة عصبية وهي تهتف :
انت عاوزني اقابلك انت .. في حد يروح يقابل التعبان مرتين
ضغط حروف كلماته بغل واضح وهو يقول :
أسمعى بقى .. انت وافقني تتعاملي معايا بمزاجك مرة تانية يعنى لازم تكملي للآخر و متخافيش با اموره انا مش عاوز منك حاجة.. المقابلة هتبقى في الشارع .. ولو خايفة أوى كده من مقابلتي هقولك هنتقابل فين علشان تطمني
قالت بسرعة :
فين ؟
نظر أمامه بحقد دفين وهو يقول :
- مباحث أمن الدولة
اتسعت عيناها رعباً وهي تردد خلفه :
مباحث أمن الدولة !
غير نبرة صوته وهو يقول :
متخافيش أوى كده ... أنا ليا واحد صاحبي هناك هيظبطنا في الحكاية دي ... كل اللي عليكي انك تقدمي بلاغ صغير وملكيش دعوة بالباقي
هتفت ساخطة :
وهقول ايه في البلاغ ده واشمعنى انا اللي أقدمه
أنت مراته .. يعنى بلاغك هيبقى أهم من عشرين بلاغ تاني.. متنسيش أحنا عاوزينهم يتحركوا بسرعة قبل ما يتصل بالراجل ويبلغه بالرفض .. ومتخافيش عليه يا ستى محدش هيلمسه ... هما بس هيضا يفوه عندهم لحد ما القضية تخلص والفلوس تبقى بتاعتنا
قالت وكأنها منومة وقد أنتزعت أرادتها :
وهقول ايه في البلاغ ده
أبتسم وهو يقول :
هتقولي أنك شاكه أنه منضم لخلية أرهابية وأنه بيجتمع بناس معينة في البيت عندكوا وبيتكلموا في السياسة.. وحطى أسم أي حد من صحابه.. و يا سلام او مربی دفته
تقطعت أنفاسها والقبض صدرها وهي تقول :
بس أنا معرفش حد من صحابه غير أثنين بس ... وواحد فيهم مربى دقته
ممتاز أوى خطى أساميهم الاثنين
صمنت وقد شعرت أن السماء والأرض تلعنها وضاقت بها جدران بيتها وانقبض عليها فلم تسمحلها بالتنفس فشعرت بأضلاعها تتمزق صارخة ببغضها تود الهروب ببعضها من بعضها ... لم ينتظرها حتى تستيقظ مما هي فيه وقال بسرعة :
أنا مش عارف انت قلقانة من أيه.. قلتلك محدش هيلمسه بأي أذى ... صاحبي اللي هناك أكدلي كده ... كل الحكاية أننا هنكسب وقت لصالحنا مش أكثر من كده.. ومحدش هيعرف أن انت اللي
بلغتي ولا حتى فارس نفسه ... ها قلتي آيه
ابتلعت ريقها وقت امتقع وجهها بشدة وتحجرت مقلتيها وقالت بصوت مسحوق بأقدام الطمع :
موافقة
وقف بلال على الحلبة وحيداً وهو يلوح لهما بذراعيه تارة ويضرب يديه بعضهما في بعض تارة أخرى فتصدر قفازات الملاكمة التي يرتديها صوتا عاليا وهو يهتف بهما :
أيه محدش قادر يواجهني ولا ايه
دقه عمرو فارس للحلية وهو يقول لبلال :
لالا أوعى يغرك جسمك ... أنت باين عليك متعرفش فارس ... ده أيده طارشة
دفع فارس يد عمرو بعيدا عنه ثم صعد إلى الحلبة وقال لـ عمرو :
طول عمري بقول عليك ندل ياض
بدا بلال بلاعبه يمرح شديد ويعلمه بعض الفنون التي تجعله يتفادى الضربات بحرفية شديدة ولقد كان فارس تلميذ بارع ... تعلم سريعا وبدا يناوش بلال ببعض الضربات الخاطفة ولكنه لم يفلح في أصابته إلا مرة واحدة .. التفت بلال إلى عمرو وهو يلوح له بالصعود هاتفاً :
يالا يا عمر و دوره چه
صعد عمرو على مضض وهو يقول :
انا لله وانا إليه راجعون الله يرحمك يا عمر و كنت أمور ومسمسم الله يرحمك يا غالي
ضحكا فارس وبلال وتنحى فارس جانباً ليصبح عمرو في مواجهة بلال ... شعر بلال بالنشوة وهو يداعب عمرو بضريات لا تصل إليه إلا قليلاً مما أغرى عمرو على التقدم وصد تلك الضربات.
.... بعد قليل وقف بلال بينهما يلعب دور الحكم، وبدأ عمرو وفارس في مناوشة بعضهما البعض .
طالت المناوشات ولكن فارس كان متقدم على عمرو كثيرا فاستطاع أن يوجه له ضربات عدة مما جعل عمرو يشعر بالباس فوجه إلى فارس ضربة غير مدروسة لم يراعى فيها المسافة بينهما رغماً عنه فاصايته في فكه مباشرة واندفعت الدماء من فم فارس بغزارة
امتقع وجه عمرو واقترب منه بلال بسرعة يحاول أسعافه حتى توقفت الدماء تماماً جلس عمرو يساعده وهو يعتذر الفارس قائلا :
- أنا أسف والله ما اقصد يا فارس ... معلش انا غشيم
أعتدل فارس في جلسته بمساعدة بلال وعمرو وضربه فارس على كتفه بقوة وهو يهدف به :
يخربيت عمي الحيسي اللي انت فيه يا أخي هروح العملی آزای دلوقتي
ساعدة بلال على النهوض وهو يقول :
لا شغل ايه بقى ده انت بؤل وارم خالص... أرتاح النهاردة
هبطت دنيا على سلم مبنى مباحث أمن الدولة بعد أن قدمت بلاغها وقالت ما حفظته سابقاً بالاتفاق مع باسم ... التفت إليه وهو يهبط بجوارها ونظرت إليه باشمئزاز وهي تقول :
المفروض أيه الخطوة اللي جايه
قال باسم وهو ينظر أمامه بتفكير:
هتروحي البيت دلوقتي وتحاولي تعطليه علشان ميروحش المكتب النهاردة.. والنهاردة قبل
الفجر هيعملولوا زيارة ليلية
وضعت يدها على صدرها بخوف وقالت:
بسرعة كده
وقف امام سيارته والتفت إليها قائلا:
الناس دى مش محتاجة تحريات ... وجوزك سهل علينا الأمر وساب دقته .. و ده دلیل اتهام
کافی علشان بیشی آرهابي يا مدام ... أنت مش عايشة في البلد دي ولا أيه!
عاد فارس للمنزل في آخر اليوم بعد أن ودعه عمرو وبلال عند باب المنزل وتركاه وأنصرفا ....
ضربت والدته على صدرها وهى تنظر لفكه المصاب وقالت بلوعة:
ايه اللي عمل فيك كده يا فارس
لف ذراعه حول كيفها وهو يقول مداعباً:
متقلقيش كده يا ماما دي أصابة ملاعب
حاولت أن تتحسس مكان الأصابة قائلة :
أنا يكلم جد.. مين اللي عمل فيك كده.
حاول أن يضحك ولكنه تألم وقال :
الواد عمرو الله يخربيته.. ده مش بيلعب ده بیطبش صحیح على رأى المثل ألعب مع اللثيم ومتلعيش مع العبيط
دخلت دنيا المنزل خلفه تماماً وأغلقت الباب خلفها وتبادلا نظرات الدهشة بين بعضهما البعض فقال :
أنت مش قلتي هنباتي يومين هناك
قالت :
رجعت في كلامي.. بس انت مين عمل فيك كده
تركها واستدار ليجلس على المقعد وقال :
- مفيش دي حاجة بسيطة .. بكره هبقى كويس ان شاء الله
خفق قلبها هي تقول :
يعنى مش هنروح المكتب النهاردة
أوما برأسه دون أن يتكلم فقالت بسرعة :
طلب خلاص ارتاح انت وانا هلبس وأروح دلوقتي ومبلغه باللي انت عايزة
بدلت ملابسها في غرفتها وهى شاردة الذهن يكاد قلبها أن يقفز من حنجرتها من شدة الخوف من المستقبل نظرت لنفسها في المرأة فوجدت علامات الريبة تحتل ملامحها وصدق من قال .. يكاد الغريب أن يقول لخدوني .. حاولت أن تتماسك وتجمدت ملامحها وخرجت من الغرفه ووفقت أمامه تنظر إليه كأنها تودعه وقالت :
أنا ماشية. عاوز حاجة
أشار إليها قائلا:
متنسيش تبلغى السكرتارية يتصلوا بالراجل صاحب القضية ويبلغوا رفضي علشان يجي باخد
ورق القضية ويلحق يشوف محامي تاني
أومات برأسها واتجهت للباب فاستوفقها منادياً :
العالم
وقع قلبها بأخمص قدميها وهي تلتفت إليه بعينين زائفتين فقال :
- ساعتين بالظبط وارجعي ... متتأخريش علشان مترجعيش بالليل متاخر لوحدك
ابتلعت ريقها وهي تسمع كلماته وأومأت برأسها وقالت :
حاضر
ذهبت دنيا للمكتب وحضر إليها وائل واتفقا على تنفيذ الخطوات الاحقة .. ستتصدر في القضية وسيتولى هو وباسم أمر الشهود وأمر ورقة التحريات التي ستنتزع من ملف القضية لتصبحمتقدمة الأدلة خافت دنيا أن تعود للبيت وهي تعلم ما سيحدث قبل الفجر بدقائق. أتصلت بوالدة فارس وأبلغتها أنها ستضطر إلى الذهاب إلى شقة والدتها لانها قد نسيت هاتفها وبعض أشياءها الخاصة هناك, وربما ستضطر للمبيت لم توقظه والدته للخيره بامرها و عزمت آن تخبره في الصباح خوفاً من ردة فعله وهو منهك ومصاب هكذا
دقت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، ولكنها لم تدق وحدها. لقد تبعتها دقات عنيفة على باب المنزل ... أستيقظ فارس فرعاً وكذلك والدته ولكن الدقات لم تنتظرهما كسر الباب عنوة ليدخل زوار الفجر إلى المنزل باندفاع محطمين ما فيه يبحثون عن أي شي، يدينه ظل يصرح بهم
وهو يحمى والدته بذراعيه :
أنتوا مين، وبتفتشوا على أيه وفين أذن النيابة
خرج أحد الرجال من المطبخ وهو يرفع سكينة كبيرة قائلا :
لقيت سكينة دبح كبيرة يا فندم وورق الموليوم
هتفت والدته :
وفيها أيه دي حاجات المطبخ
خرج رجل آخر من الشرفة وهو يقول لنفس الرجل :
- لقينا تراب فيه حبات ظلت صغيرة يا فندم
تناول الضابط الذي كان يلقى الأوامر للجميع الأشياء الثلاث وقال موجها كلامه الفارس :
رمل وظلت وورق المونيوم ... أنت بتصنع قنبلة يديوية في بيتك ولا ايه
أدرك فارس أنه مأخوذ لا محالة وأن دفاعه عن نفسه لن يجدي فقال بهدوء :
ده مش رمل ده تراب بنزرع بيه في البلكونه قصاري الزرع بس انا عارف انه هيتكتب رمل
أوما الرجل برأسه ساخرا وقال :
شاطر
ثم صرخ في الموجودين جميعا ... هاتووا
وقف بلال يسد باب غرفة نومه بعد أن هتف بزوجته أمرا بارتداء ملابسها فورا وبأقصى سرعة .
ارتدت عبير ملابسها وهي تصرخ به :
ملى معقول هيدخلوا عليا الأوضه وانا كده
صرخ بها :
- البسي بقولك بسرعة
وبسرعة البرق وقبل أن يتكاثر عليه الرجال ويدفعوه بقوة ليدخلوا غرفته، كانت قد وضعت نقابها على وجهها .. دفعهم وهو يمر من بينهم ليحميها منهم وهم ينقضون على فراش السرير ليمزقونه بالمطواة ويخرجون ما به ويقلبون الخزانات والملابس التي بداخلها في مزقونها عنوة . أحاطها بذراعيه هي ووالدته وأبناءه من خلفه.. لقد كان كل همه أن لا تنكشف زوجته ولا أمه على أحد منهم وعبير تردد بجسد مرتجف وهي منشبتة بظهره :
اللهم اكفينا هم بما شئت وكيف شئت .....
وبعد أن انتهوا تكاثروا عليه مرة أخرى ليا خذوه معهم ... حاولت والدته أن تشبت به تمنعهم ولكنهم لم يراعوا حرمة ولا امرأة عجوز ... دفعوها بمنتهى العنف وهم يقذفونها با قدع الألفاظ التسقط على رأسها مغشيا عليها في الحال وخرجوا وتركوا البيت في حالة دمار أمرأة مغشياً عليها وأخرى ترتعتش وتنتفض وتنتحب زوجها وحبيبها وأطفال يصرخون أبيهم ... أما عند عمرو فلم يكن الأمر بأقل منهما شانا، دمارا في كل مكان واثاثاً مبعثرا وممزقا في كل مكان ومحطم وامرأة خلفها زوجها صارخة باكية جزعة تنادي على زوجها فلا تجد من يرد النداء .