رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسابع والخمسون
انتهى العراك وقد تلطخ المكان بأنفاس متقطعة ووجهيهما صار لوحة من الكدمات والدماء كلاهما كان مرهقا لكن كبرياء كل واحد منهما كان يرفض الاعتراف بالهزيمة.
غير أن كارم المثخن بجراح قديمة لم يكن ندا حقيقيا أمام بطش ظافر ومع سقوط لكمة أخرى من يمين ظافر كادت أن تطيح بكارم تقدمت سيرين إلى الأمام كنسمة عنيدة اخترقت إعصارا ووقفت بين جسدين يتطايران شررا ومن ثم رفعت يدها في الهواء كحاجز من نور وعيناها تلمعان بصلابة غير مألوفة وقالت بصوت هادئ لكنه يقطر جليدا
هل انتهيت يا ظافر
تجمد الرجل في مكانه وقبضته ما زالت مرتجفة بينما شفتاه تنزفان ألما وكبرياء مسح الدم عن فمه بظهر يده يمحو آثار هزيمته الداخلية ثم غاصت عيناه في ملامحها يبحث في عمقها عن ذرة تعاطف ضاع لكنها لم تمنحه سوى وجه صلب كالحجر وأضافت بلهجة تقطع الخيط الأخير بينهما
غادر... وإلا استدعيت الشرطة.
تسلل الصمت بين جدران الغرفة وقد توقف الزمن ليستمع إلى حكمها القاسي.. أما ظافر في داخله كان يختنق بمرارة جارفة فقد كان يعرف أن سيرين في كل الحروب السابقة لم تكن يوما تترك موقعها إلى جانبه كانت صوته حين يصمت وسنده حين يتهاوى أما الآن فقد وقفت بجانب آخر... ضده هو.
أدار ظافر وجهه عنها يخفي انكسارا يتفجر في صدره كبركان لا يراه أحد ثم التفت مبتعدا بخطوات مثقلة كأن الأرض قد تحولت إلى مستنقع يبتلع عزيمته مع كل خطوة غادر دون كلمة تاركا خلفه فراغا يصرخ أكثر من أي ضجيج.
أما سيرين فظلت واقفة في مكانها تحدق في الباب
المغلق تتناوب على قلبها مشاعر مختلطة رعشة انتصار وجرح عميق.. ولا تعلم بعد أيهما سيفوز.
بعد أن انطفأ صدى خطوات ظافر ورحل هرعت سيرين نحو كارم قلبها يسبقها وعيناها تمسحان ملامحه بجنون تبحث بين تفاصيله عن أي وجع إذ انتابها إحساس قاس بالذنب ومن ثم وضعت يدها برفق على ذراعه وسألت بلهفة مكتومة
هل أنت بخير
لكن كارم ما إن لامست أصابعها جلده حتى ارتعش وأطلق أنفاسا حادة يحاول إخفاء ألم متجذر.
أنا بخير تمتم بصوت متكسر لا يقنع أحدا فلم تنخدع إذ أبصرت الدم يتسلل من كمه يزحف إلى أطراف أصابعها كوشم أحمر يفضح الحقيقة تشهق قائلة بهلع
ذراعك
ببطء خلع كارم سترته كاشفا عن ذراع مفتول بالعضلات يئن من جرح غائر بدا كندبة مقطبة تمزقت من جديد في عراك لا يرحم.
ضغط كارم بسترته على وقال بابتسامة ساخرة تخفي وجعا
إنه جرح قديم... هل فاجأك أن يفتح من جديد
لم يكن كارم يتوقع أن يقاتل ظافر بهذا القدر من الوحشية وكأن الغضب قد حوله إلى وحش لا يعرف الرحمة.
في تلك اللحظة اقتحم رجال كارم المكان وجوههم مثقلة بالكدمات والعنف نظراتهم تفضح مرارة المعركة وما إن رأى أحدهم الدم يسيل من ذراع كارم حتى اندفع نحوه محاولا تضميد جرحه بارتباك
سيدي... هل نتوجه بك إلى المستشفى
أشار كارم بصرامة وهو يكتم ألمه
لا داعي. دع الجميع ينصرفون.
تفرق الرجال كأشباح مهزومة وبقي هو وحده في مواجهة نظرات سيرين اقترب منها يبحث في عينيها عن ملاذ من عاصفة لم تهدأ داخله فتمتم هامسا بحنو وأ
هل آذاك ظافر
أومأت برأسها نفيا
لكن الامتنان كان يتلألأ في عينيها كبرق خافت يضيء عتمة القلق
لا لقد وصلت في الوقت المناسب شكرا لك.
تجمدت ابتسامته في منتصف الطريق عبس قليلا وهو يقول بنبرة تفضح خيبته بعد أن تلبكت مقاطعة جسر الرومانسية الذي مده بينهما
كنت أعلم أنه لن يرضخ بسهولة.
ارتجفت نظراتها وهي تهمس بقلق صادق
لم أتخيل أنه سيتعقبني إلى هنا.
اقترب أكثر صوته يحمل ارتباكا نادرا هو يريدها حتى لو كان قلبها ملك لآخر سيجعلها تعشقه حد الموت فقط لتمنحه فرصة
هل أخرجك من هنا غدا آخذك إلى مكان لا يعرفه
هزت رأسها برفق ترفض الهروب من قدر محتوم
لا داعي يكفيني أن تساعدني في رعاية فاطمة والأطفال... أما هذا فسأواجهه وحدي.
ابتسم كارم ابتسامة مشوبة بالخذلان فهو قد توقع الجواب منذ البداية وقال بمرارة هادئة
لماذا ترفضين يدي دائما ألسنا أصدقاء
ظلت صامتة لبرهة ثم أطلقت جملة كسكين حاد اخترق صدره
لأنني لا أستطيع سداد دينك.
كلماتها أجهزت على كل ما تبقى داخله فهم أنها لن تكون له يوما وأن المسافة بينهما أوسع من أن تردم أطرق رأسه للحظة ثم همس بيأس محاصر
أفهم... اتصلي بي إن احتجتني.
واستدار بخطوات بطيئة يجر خلفه ظلال هزيمته تاركا قلبه على الأرض حيث وقفت هي.
عاد كارم إلى سيارته بخطوات مثقلة والأرض تنوء بثقل قلبه أخرج من جيبه خاتم الألماس الذ كأمنية مؤجلة كسرها الصمت بين أصابعه ثم ألقاه من نافذة السيارة ليتناثر في العتمة كنجمة انطفأت قبل أن يراها أحد فقد كان ذلك الخاتم رمزا لحلم لم يكتب له أن يولد فانتهى به المطاف
بين غبار الطريق.
وفيما كان يسلك الطريق المؤدي إلى المطار رن هاتفه ليأتيه صوت يامن دافئا كأخ متلهفا لسماع النتيجة
مرحبا يا أخي كيف جرت الأمور هل وافقت على عرضك
ارتسمت على وجه كارم ابتسامة ممزوجة بمرارة كالسهم المسموم يجرح الشفتين أكثر مما يجملهما متنهدا وقال بصوت مبحوح
لا.
ساد صمت قصير على الطرف الآخر قبل أن يجيبه يامن متعجبا وقد تسللت نبرة الدهشة إلى صوته
رفضتك كيف يمكن هذا
ثم أضاف بنبرة صادقة حريصة على تضميد الجرح
مستحيل... أنت رجل لا يضاهى وهي متزوجة ولديها طفلان لكنك كنت لتمنحها الأمان والحب الذي تحتاجه كيف لها أن تجد أفضل منك
ارتجف صوت كارم والكلمات تخنقه وحلقه أخذ يضيق على نفسه كأن حبلا غير مرئي يلتف حوله
إنها لا تحبني يا يامن بل لم تفعل يوما.
كانت الحقييقة
الحب غائب والفراغ هو ما بقي له.
لطالما أقنع نفسه بأوهام وقرأ في صمتها ابتسامات موهومة لكنه في النهاية أدرك أن قلبها لم ينبض له قط وأنه ظل يركض وراء سراب.
ساد الطرف الآخر صمت ثقيل حيث كان يامن يبحث عن كلمات لكنه لم يجد ما يرمم كسور قلب أخيه وقبل أن ينبس بحرف اخترق السكون صوت مدو كالرعد الذي يشق السماء.
أخي! ماذا هناك! صرخ يامن.
لكن كارم لم يستطع الإجابة... فعلى الطريق الساحلي كانت أمامه سيارة فاخرة ارتطم بها وهو شارد بصوت هائل وتطايرت شظايا الزجاج من سيارته كأمطار ليلية فاخترق الضجيج أذنيه كصفارة موت ثوان والسيارة التي كانت ترافقه من الخلف لم تستطع التوقف فاصطدمت به هي الأخرى قبل أن يغلف
المكان دخان أسود كثيف يتصاعد كروح تنتزع من الجسد.