رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثامن والخمسون
عادت سيرين إلى حجرتها مع حلول المساء متعبة من صخب النهار وضجيج الأحداث تمددت فوق الفراش كطائر جريح يبحث عن مأوى وأغمضت عينيها محاولة أن تستسلم لنعمة النوم لكن صورة ظافر حين غادر لم تزل عالقة في ذاكرتها كطيف يرفض الرحيل كان ذاك الوجه مألوفا لها ومع ذلك بدا غريبا لم تره إلا مرة واحدة يوم زفافهما حين انكسرت ثقته بها كزجاج هش سقط من عل بعد ما فعلته عائلتها حينما امتنعوا عن تسليمه المتفق عليه في تلك الصفقة.
ارتجف قلبها بقلق غامض شعور أشبه بموجة بحر تتسلل خفية تحت جدار هش حتى غلبها نوم متقطع متوتر لا يحمل راحة ولا سلاما.
أما ظافر فكان في مكان آخر يجلس داخل جناح فاخر في فندق يطل على الشارع من عل عيناه كجمرتين خامدتين تنظران إلى ما حوله ببرود لا يعرف ارتعاشة كأن كل ما يحدث تحته مجرد مسرحية باهتة.
لطالما اعتقد كارم أن المدينة ملك يديه وأنه وحده سيدها لكنه لم يدرك يوما أن ظافر كان يكبح نفسه في دياره كذئب يقيد أنيابه أما الآن في الغربة لم يعد هناك ما يحده ولا قيد يكبل عنفه أو شغفه بالسيطرة.
وعلى الطرق الساحلية كان القدر قد بسط فخه وسيارة كارم الفارهة تناثرت زجاجاتها كنجوم مكسورة في ليل معتم ودخان كثيف التف حولها ككفن أسود فأسرع رجاله إلى انتشاله من بين الحطام وحمل بعيدا في عتمة الليل فيما أخفت عائلته الحادث عن أعين الصحافة والناس كسر مظلم لا يجوز أن يتسرب.
أما سيرين فلم تعلم شيئا عن هذا الاصطدام وظلت غارقة في جهلها تظن أن
الحياة لم تتغير وعندما أشرقت شمس اليوم التالي فتحت عينيها بثقل ثم طلبت من أحد العاملين إصلاح الباب المخلوع.
بينما حدثت نفسها بأنها ستبقى هنا مؤقتا تكمل ما بدأته من تأليف موسيقاها وتستعيد بعض الهدوء كما قررت أن تؤجل لقاءها ب فاطمة والآخرين إلى أن ينتهي ظافر من مطاردتها أو يمل من إزعاجها.
مع بزوغ خيوط الصباح الأولى خرجت سيرين بخطوات مترددة تحمل في ذهنها قائمة صغيرة من حاجيات البيت وما إن فتحت الباب حتى اصطدمت عيناها بمشهد كتب له أن يثقب أعماقها
ظافر واقفا بجانب سيارته المايباخ السوداء الفارهة كتمثال من صخر بين أصابعه سيجارة يلفظ دخانها ببطء كزفرات قلب مثقل بالهزائم.
وما إن التقط أنفاسه وهو يراها حتى سحق السيجارة بعنف في سلة المهملات محاولا دفن ضعفه ثم رفع عينيه إليها.
تجاهلته سيرين بصرامة ومضت في الاتجاه المعاكس بخطوة ثابتة وكأن الأرض التي بينهما هي حد فاصل بين حياة ماضية وأخرى تريد أن تبدأها بلا قيود.
لكن رائحة الدخان التي التصقت به لم تلبث أن تذوب في الهواء حتى لحقها ظافر بخطوات سريعة يناديها بصوت يحمل نبرة متكسرة
سيرين!
توقفت تلتفت إليه وفي عينيها وهج قاس يخفي خلفه زلزلة مشاعر ومن ثم قالت بصوت حاد
إن لم يكن ما قلته بالأمس كافيا فسأكرره الآن لا أريدك في حياتي بعد اليوم أرجوك دعني أرحل لنفترق بسلام.
ومض ظلام غامض في عيني ظافر كأن الليل قد سكنهما يتمتم بصوت أجش
هل تعلمين أنني لم أذق طعم نوم هانئ منذ أن رحلت
ابتسمت بسخرية باردة
كمن يسكب الملح فوق جرح غائر
إن كان الأرق يقتلك فالأطباء موجودون. جرب أن تزور أحدهم.
كانت تعرف في داخلها أنها هي من عانت أضعاف أرقه ثلاث سنوات كاملة تقلبت فيها على فراش لا يحمل إلا برودة الغياب.
باندفاع حارق تقدم ظافر يقبض على ذراعها وسحبها إلى صدره رغم مقاومتها كمن يتمسك بآخر خيط يربطه بالحياة ومن ثم شهق بصوت مبحوح منحدر من أعماق كبريائه الجريح
قولي لي ماذا تريدين مني كي تعودي! ماذا أفعل لأستعيدك
لكن رائحة الدخان التي علقت بثيابه كانت كطعنة في حواسها إذ تسللت إلى صدرها فأثارت اشمئزازا تماسكت مبتلعة نفورها الناجم عما ينبت في رحمها محتجا على رائحة أبيه وردت بصوت منخفض لكنه مشوب باليقين
أتمنى أن تكون قد قرأت رسالتي هناك ستجد كل شيء.
تصلب جسده فجأة كأن كلماتها سهام مغروسة في قلبه تمتم وهو يحاول أن يخنق ارتجاف صوته
ربما أخطأت منذ البداية أنت لست من أحببته يوما.
شعرت سيرين بثقل يرفع عن صدرها وأكملت كمن يعلن حكما نهائيا
وأنا آسفة لأنني تأخرت كل هذه السنوات. انتهى الأمر يا ظافر. سأرحل وأنت عليك أن تدعني أرحل أيضا أليس كذلك
ارتدت عبارتها داخله كارتطام زجاج يتحطم في غرفة مغلقة ظل يرددها في داخله بلا وعي
أنت لست من أحببت سأرحل.
احمرت عيناه كغابة اشتعلت فيها النيران إذ ضاق حلقه بوجع لا يحتمل وانحنى صوته إلى همس متحشرج خرج محملا باليأس
هذا مستحيل!
لم تستوعب سيرين ما يحدث أهو ذاته الرجل الذي لم يلمح إليها يوما بعين إعجاب أهو نفسه الذي
ظل طوال سنوات يلوح برغبته في الانفصال فلماذا إذن يقف الآن سدا منيعا أمام حريتها متشبثا بها وكأنها آخر ما تبقى له
أحكم ظافر قبضته على جمرة الغضب المستعرة في صدره ثم حاول أن يتكلم بصوت متماسك رغم أن حشرجة الألم فضحت انكساره
لا... دعينا نختصر كل هذا. ما أريده ليس المال الذي أوصيت به لمحاميك لتتركيني خلفك. أريدك أنت سيرين صدقيني لقد لقد جردت مجموعة تهامي من مجدها عمدا ثم أعدت لها الحياة كما كانت قطعة بقطعة... أهذا لا يكفي
صمتت سيرين كأن صوته ارتطم بجدار صلد داخلها فلم تجب فاندفع ظافر يحاول انتشالها من قرارها كما ينتشل الغريق نفسا من بين الأمواج
اشتريت أيضا بيت تهامي... بيت عائلتك الذي كان يعج بذكرياتك إذا عدت إلي يمكننا أن نعيش هناك معا وإن لم يعجبك سنرحل إلى مقاطعة سان حيث قضيت طفولتك لك أن تختاري... ومنذ هذه اللحظة أي طريق تختارينه سأسير فيه معك أي حلم تنطقين به سأحققه لك أليس هذا ما كنت تريدينه دوما
كان في صوته ارتعاشة لم تعهدها كطفل يطلب الغفران بعد خطيئة جليلةلم تر سيرين ظافر على هذه الحال من قبل منكسرا إلى هذا الحد.
لكنها حين أبعدت يديه عنها وتراجعت خطوة إلى الوراء أشرقت عيناها بوميض العزم لا بالدموع
لا أريد شيئا.
كانت كلماتها كالسيف القاطع تنهي ما تبقى من خيوط واهنة بينهما.
كل ما تاقت إليه الآن هو أن تلم شتاتها أن تحيا بسلام في كنف طفليها إلى جوار فاطمة لم تعد تركض خلف سراب الحب ولم تعد تغريها قيود الزواج... أرادت
فقط أن تنجو بنفسها أن تنجو منهم جميعا.