رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والتاسع والخمسون
ظنت سيرين أنه سيغادر أخيرا كما يفعل كل طيف عابر يرهق المكان ثم يتلاشى غير أن الأيام أثبتت لها أن ظافر لم يكن من أولئك الذين يختفون بهدوء بل كان كالعاصفة كلما حسبت أنها ابتعدت عاد ليقتحم الأفق من جديد فقد زرع جذوره في المدينة وأنشأ فرعا جديدا لشركته غير بعيد عن منزلها.
كانت تدرك بيقين ممزوج بالدهشة أنه حين يلمس شيئا يحيله ذهبا وأنه قادر على النجاح أينما حط خطاه وصدق حدسها فسرعان ما مد خيوطه في جسد المدينة يكون علاقات مع كبار أثريائها كما ينسج العنكبوت شبكته بإتقان قاتل وكل صباح كانت تجد أمام بابها باقة مترفة من الزهور تتبعها هدية ثمينة وكأنها رشوة مقنعة لروحها لكنها لم تكن ترى فيها سوى أصفاد ناعمة فتلتقطها ببرود ثم تلقيها في سلة المهملات كمن تدفن جثة بلا مراسم غير أنه في أحد الأيام تجاوز الحدود التي لم تكن تتصور أنه سيتخطاها إذ اشترى الحي بأكمله فلم يعد مجرد جار عابر بل صار ظلا دائما يسكن جدارها فقد كان يكفي أن تفتح شرفتها لترى وجهه ماثلا كما يراقب صياد فريسته فقد اكتشفت الأمر بينما كانت غارقة في تأليف مقطوعة موسيقية وأصابعها ترقص فوق الأوراق البيضاء واللحن يتصاعد كحمامة تبحث عن فضاء
بعيد فرفعت رأسها لتجده واقفا في الجهة المقابلة يبتسم بجرأة مستفزة وعيناه تمطرانها بتلك النظرات التي تحمل مزيجا من التملك والرجاء ومن ثم قال بصوت يقطر ثقة ممزوجة بوقاحة وهو يعض شفته السفلى كمن يستفزها عمدا
إن كنت تحبين العيش هنا فلنستقر معا يمكن أن يكون هذا بيتنا المشترك حلوتي
لم تجبه سيرين بل لم تسمح لنفسها حتى بالنظر في عينيه فجمعت أوراقها الموسيقية بيد مرتجفة من الغضب ثم التقطتها كما ينتشل المرء قلبه قبل أن يسحق وهرعت إلى الداخل تاركة وراءها شرفته ونظراته معلقة في الهواء تتلاشى كدخان سيجارة انطفأت قبل الأوان.
بينما كانت المدينة تستيقظ على خفقات النهار كان ماهر قد وصل مع رجاله محملين بمواد البناء وأصوات المطارق لتجديد المنزل الذي استحوذ عليه ظافر حديثا.
رفع ماهر بصره نحو الشرفة فرأى سيده واقفا هناك كتمثال يتحدى الزمن عيناه مسمرتان على النافذة المقابلة حيث تقيم سيرين كمن يحاول اختراق الجدران للوصول إليها هنا قد أدرك ماهر في لحظتها أن كل هذا العناء لم يكن من أجل المنزل بل من أجل عين واحدة في ذاك البيت المجاور.
اقترب ماهر منه وقال بصوت خفيض متملق
سيدي لقد أصبح المنزل المجاور ملكا
لك يمكنك الدخول إليه متى شئت وهناك سترى السيدة نصران دون قيود.
منذ أن لمس ماهر نوايا ظافر تغيرت نبراته فلم يعد يتحدث ببرود عن سيرين بل بات يزن كلماته بميزان الخوف والاحترام.
وبما أن سيرين بدورها تستأجر بيتا باسم شخص آخر ذلك البيت الذي أصبح في حدود ملك مطاردها وبعلاقات ظافر استطاع ماهر الحصول على المفاتيح وسلمها إلى سيده كمن يسلم سلاحا خطيرا لمن يعرف كيف يستخدمه.
أخذ ظافر المفاتيح يحدق فيها طويلا ثم رفع نظره إلى ماهر وسأله بنبرة باردة
ماذا عن بيت العائلة هل ثمة جديد
ارتبك ماهر وتلعثم قليلا قبل أن يجيب
لقد أزحنا كبار المسؤولين عن المشهد يا سيدي ولم يبق إلا زيدن وزوجته مارلين فهما يتحركان في الظل كالأفاعي.
ابتسم ظافر بازدراء وألقى كلماته كمن يرمي حجارة في بئر فارغ
تجاهلهما إنهما لا يستحقان حتى لعنة من فمي.
هز ماهر رأسه مطيعا لكن ظافر لم يتوقف
وماذا عن جاسر
ساد صمت قصير قبل أن يتنحنح ماهر ويقول مترددا
لا أدري يا سيدي. منذ غادرت أنت القصر اختفى أثره هو الآخر.. ولا نعرف له وجهة.
لأول مرة تسلل القلق إلى عيني ظافر تلك العينان اللتان اعتادتا
التحديق في الخراب دون أن تهتزا لم يخش زيدن أو مارلين فهو يعلم كيف يحرقهما متى أراد.
لكن جاسر كان مختلفا إذ ظل غائبا كغيمة لا ترى لكنها تعد بالعاصفة لذا قال ظافر بصرامة تقطع الهواء
ابحث عنه واكتشف أين ذهب.
أجاب ماهر وهو يخفض رأسه
أمرك سيدي.
مد ظافر يده إلى جيبه يخرج سيجارة وكاد يشعلها لكن أصابعه توقفت عند عتبة الولاعة حين تذكر ملامح سيرين وهي تبعده عنها يوما ما لأن رائحة التبغ جعلتها تختنق فأغلق قبضته على السيجارة يسحقها بين أصابعه.
ثم بصوت بدا كأنه يناجي نفسه أكثر مما يخاطب خادمه تسلل السؤال من بين شفتيه
هل تظن أنها لا تزال غاضبة
تجمد ماهر في مكانه فقد باغته السؤال كطعنة لا يعرف كيف يصدها. فكيف له أن يعرف! أي جرح عميق يمكن لباقة ورد أن تداويه وأي سنوات من القسوة يمكن لأيام قليلة من الهدايا أن تمحوها لذا ظل صامتا لكن الصمت نفسه كان كالمطرقة التقطه ظافر بعينيه واعتبره جوابا دامغا تأكيدا بأن الجرح في قلب سيرين لا يزال ينزف مهما حاول أن يوقف النزيف.
وأخيرا أسدل المساء ستائره متلحفا بعباءة من الصمت لا يقطعها سوى خفق قلب يترقب إذ كان ظافر يترصد من بعيد يراقب
أضواء منزل سيرين وهي تنطفئ واحدة تلو الأخرى كنجوم تخبو في سماء معتمة لم يمد يده إلى المفتاح بل فضل أن يتسلق الشرفة كذئب يفضل أن يقتحم الغابة خلسة بدل أن يفتح أبوابها.
في الداخل لم تكن سيرين تعرف طعم النوم الهانئ منذ زمن جسدها المثقل بالحمل يئن وروحها مضطربة محاصرة بأشباح البعد عن طفليها نوح وزكريا الليل يهبط عليها ككابوس متكرر فتستفيق من غفوة إلى أخرى بين هواجس وأحلام متكسرة.
وفجأة
هاجمها حضور مباغت يد غليظة انتشلتها من سريرها إلى عناق حاد يشبه قيدا.
فتحت عينيها كالمستيقظة من غفوة قصيرة وأطلقت شهقتها المرتعشة
من أنت!
لكن الظلام كان أعمق من أن يمنحها ملامح فاندفعت غريزتها تدافت فغرست أسنانها في اليد التي تخنقها بالاحتواء.
تأوه ظافر والعبوس يقطب ملامحه لكنه لم يتركها. بصوت مبحوح يقطر رجاء همس
أنا... هو.
ارتعشت
وحالما تعرفت إلى الصوت الذي خبرته روحها انخفض التوتر في عينيها لكن الغضب ظل يتأجج
ظافر...! كيف تجرؤ على الدخول هكذا اخرج حالا!
كان قد شق طريقه إليها بشق الأنفس ولم يكن ثمة مهرب أو باب للانسحاب اقترب أكثر كأنه يتوسل بين أنفاسه
أنت غاضبة كثيرا... أرجوك لا تعودي إلى الغضب مرة أخرى
رمقته بعينين جليديتين وصوتها صارم كالسيف
لقد
أخبرتك مرارا أنني لا أهوى ثورات الغضب.
كان أثر العضة ما يزال محفورا على يده دليلا على رفضها العنيف ومع ذلك ظل يطوقها بذراعيه كمن يتمسك بطوق نجاة وفي صدره ألم خافت غريب ومختلف كأنه وخزة من حقيقة لم يعرفها يوما هذه المرأة حطمت غروره قاومته كما لم يفعل أحد ومع ذلك كانت وحدها التي اخترقت حصونه المرأة الأولى التي أحبها بحق حبا لم يعرف له في قلبه
مثيل.