رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والستون
فجأة باغتت سيرين وخزة حادة في صدرها كأن قلبها يئن من ثقل لم تعهده من قبل كانت تلك اللحظة فاصلة فهي المرة الأولى التي تشعر فيها أنها عالقة في قيد زواج والمرة الأولى كذلك التي يجرب فيها ظافر أن يكون زوجا بحق لا مجرد رجل يتقن السيطرة.
تجمدت عيناها كقطعتين من جليد يرفض الذوبان وهي تلفظ ببرود حاد
ظافر... عد من حيث أتيت ولا تبق في هذه المدينة لا تدفعني إلى كرهك.
ارتجف جسده ومن ثم تصلب كجدار يوشك على الانهيار ثم خرج صوته أجشا مشبعا بعناد مرير
لن أعود... لدي من العمر صبر الدهور ومن الوقت ما يكفي لأنتظرك.
ارتسمت الحيرة على ملامح سيرين فكلماته كسرت ميزانها الداخلي حدقت فيه طويلا قبل أن تهمس بارتباك مشوب بالاستفهام
لم تعجب بي يوما... فلماذا تتمسك بي الآن
انقبض حلق ظافر وكأن غصة العمر تجمعت فيه فصرخ بصوت يقطر وجعا
لأنني لم أرد الطلاق قط!
نفض الغطاء بعصبية ونهض واقفا كعاصفة هوجاء تتلمس مخرجا ضيقا ثم ألقى كلماته الأخيرة بنبرة حاسمة أشبه بحكم لا رجعة فيه
اتصلي بي كلما احتجت إلى أي شيء... من هذه اللحظة أنا مالك هذا البيت.
لم تدرك سيرين كيف اختفى من الغرفة فالظلام ابتلعه بلا أثر للحظة شعرت أن الجدران تهمس باسمه رغم غيابه وفي ارتباكها سارعت بالاتصال بالمالك السابق لتعرف الحقيقة المدوية البيت قد بيع فعلا.
حينها فقط أدركت أنها محاصرة داخل أسوار جديدة صارت سجنا ناعما باسم الحب ولم تجد أمامها سوى أن تغير الأقفال إلى إلكترونية
علها تحكم سيطرتها على باب واحد... بعدما بدأت في فقد السيطرة على أبواب قلبها.
بينما الليل أسدل ستائره الثقيلة على المدينة أخذ قلب سيرين يخفق بوقع أسرع من دقات عقارب الساعة إذ تلقت مؤخرا عرضا بدا كطوق نجاة في بحر مائج صفقة تجارية لأغنية من تأليفها قد تعيد إليها بعض التوازن المالي بعد أن أنهكها ما أعطته لظافر فصفقة كهذه كانت خيط ضوء يتسلل عبر جدار مظلم ربما تفتح أمامها بابا إلى دخل سنوي يليق بحلمها المجهد.
تهيأت باكرا كمن تستعد لمواجهة معركة لا لقاء عمل عيناها تحملان يقظة متوترة وداخلها خليط من الحذر والرجاء.
كان الفندق الفاخر الذي حدد اللقاء فيه بدا كقصر من زجاج تخفي جدرانه البراقة أسرارا أكثر مما تفصح انتظرها هناك توني بيرليني رجل طويل أشقر عيناه زرقاوان كبحر لا يرحم ببدلة رسمية محكمة تخفي غرورا وصوت رخيم مزيف بالعجرفة مد يده إليها بابتسامة قائلا وهو يتفحص ملامحها بدهشة
السيدة ساسو لم أتخيل أن تكون الملحنة التي هزت الإنترنت شابة إلى هذا الحد.
بادلته مصافحة مترددة والبرود في نبرتها واضح
هذا أنا... سررت بلقائك سيد لو.
لكن في اللحظة التي لامست يدها يده تحولت تلك المصافحة البسيطة إلى فخ إذ شد قبضته عليها ونظراته تجردها من وقارها كخنجر يسلط على الروح
أحب النساء الشرقيات... فيك فتنة تفتك بالرجال.
تجمد وجه سيرين لم يكن هذا الموقف جديدا عليها بعد سنوات عاشت فيها بين أنياب الاغتراب فسحبت يدها بقوة وبصوت بارد كالثلج
دعنا
نتحدث عن العمل أولا.
ضحك توني بخبث يلعق شفته السفلى كذئب يحدق بفريسة
هل كل نساء الشرق محافظات هكذا
تحدثت سيرين بحدة تطعن كرامته بسكين
وهل كل رجال الغرب وقحون إلى هذه الدرجة
ارتفع ضحكه بينما جسده العريض يلوح أمامها كجدار من إسمنت
يكفي ليلة واحدة معي... وستحصلين على كل ما تحلمين به صفقة العمر مقابل بضعة ساعات!
اشتعل وجهها غضبا وأخذت دماؤها تفور كبركان على وشك الانفجار فأمسكت بحقيبتها تستعد للمغادرة لكن يده المتغطرسة حاولت أن تقيدها.
في لحظة خاطفة أخرجت بخاخ الفلفل من حقيبتها ورشته في عينيه.
صرخة توني اخترقت أروقة الفندق كعواء ذئب مذبوح فيما اندفعت سيرين هاربة غير أن القدر لم يمنحها طويلا من الوقت فما أن خرجت من القاعة حتى لاحظت حراسه الشخصيين بأجسادهم الضخمة تتحرك كذئاب جائعة نحوها.. حاولت الاتصال ب رامي حارسها الشخصي لكن يدها وجدت الفراغ فإحدى سماعاتها السمعية سقطت في عراكها مع توني ومعها سقط جزء من أمانها.
في ثوان أحاطها الرجال وانتزع هاتفها من بين أصابعها وصفعة غادرة هوت على وجهها جعلت الكون يدور حولها كغرفة مظلمة بلا جدران فدوت أذناها بطنين خانق وعيناها صارتا غارقتين في ضباب.
ومع ذلك لم تستسلم بل نهضت رغم الوجع.. جسدها كله يتصبب من غريزة النجاة وركضت بروح ترفض أن تساق كغنيمة كل نفس يخرج منها كان أقرب لصرخة مكتومة وكل خطوة كانت أشبه بطلقة تطلقها في وجه قدر متوحش.
كان السمع يختنق داخل أذنيها كأن جدارا من زجاج
غليظ يفصلها عن الأصوات والبصر يتشقق في عينيها كلوحة مائية تسربت ألوانها تحت المطر. ..كل خطوة كانت أشبه بارتطام جسدها بفراغ يبتلعها حتى تعثرت فجأة وسقطت للأمام غير أن الأرض صلب كجدار من صخر حي ينبض بالقوة.
رفعت عينيها المرتجفتين وفي شهقة مختنقة خرجت الكلمات من بين شفتيها الجافتين
من فضلك ساعدني
لكن الحروف سرعان ما تلاشت حينما بدأ الضباب الذي يلف رؤيتها يتلاشى تدريجيا لتكشف الملامح شيئا فشيئا كان هو ظافر. عيناه المتقدتان اخترقتا غشاوة الإعياء فغدت رؤيته أشبه بخيط نجاة وسط غرقها.
ترددت على شفتيها جملة غير مكتملة اختنقت في حنجرتها قبل أن تنفجر باندفاع غريزي
اركض!
لم تنتظر جوابه بل أمسكت بيده بلهفة مضطربة يدها المرتعشة تتشبث بيده وكأنها تتعلق بحافة العالم سحبته معها بخطوات متعثرة غير عابئة بآلام جسدها ولا بالرجال الذين يطاردونها.
كان في داخلها شيء غامض بدائي أقوى من خوفها وأثقل من جسدها الواهن لم يكن دافعها النجاة بنفسها فقط بل ذلك الوميض الغريب الذي جعلها في لحظة أشبه بالوحي ترغب في حماية ظافر في أن تنقله بعيدا عن المخاطر وكأنها هي الحصن وهو الغريب الضائع
ظلت قبضتها عليه مشدودة كأنها تقول له دون كلمات
لن أتركك ولو كان الهلاك يركض خلفي.