رواية للهوى رأي اخر الفصل الخامس والعشرون
في وقت الفجر، ورائحته الليلة المنعشة، تتحرك الستائر بتمايل، مهدئة قليلاً من أنفاسها بعد إحساس الحبس الذي شعرت به بعد ما أغلق الشرفة بأمر عثماني منه.
لا تتذكر الكثير بعد آخر حديث بينهما سوى أنها كانت منهارة وشعور القهر وهو يفرض سطوته عليها قسرًا، بموافقتها الإجرارية للزواج به، أو بالتهديد بإفلاس عمها، وهذا ما كانت ستسمح به أبدًا، أن يتضرر عمها بأي شكل من الأشكال.
ذاكرتها ضبابية، فقط تتذكر عينيه المتأثرة بها وكأن لديه قلب يتأثر ويشعر، ثم صراخها بكل ما يعتمر قلبها، وفقدانها للوعي، تكره ذلك الضعف المسيطر عليها، تنفض في حين عباءته عنها، ثم تنهار مستسلمة في وقت آخر، تخافه ولا تنكر، لكن لم يؤذيها جسديًا بعد ما عرف بالحقيقة، بل شعرت بندمه ربما، لكنه لم يمهلها الوقت وبفعلته الأخيرة جعلها لم تعد تتحمل المزيد.
استقامت ببطء واقفة، وذلك الشعور الملح عليها أن لا تخضع، تجابه ولن تخسر أكثر مما خسرته، تبحث عن أي من إنسانيتها المهدورة في منزل زوج والدتها، ثم هنا، تتجاهل ذلك الألم في أيسر قلبها الذي وُلد بعد خذلان الحبيب، حكاية حب لم تكتمل، بل بمجرد ما خطت في محرابه لطمتها الصدمات ولم تتوانَ، لن يحدث أكثر مما حدث.
كانت تلك الكلمات التي تحفز بها فيروز نفسها، لعلها تساعدها على التخطي قبل أن تصل لحافة الانهيار والموت.
التفتت بجسدها فجأة، كان هو، يقف على باب غرفتها، من حجمه لم يكن هناك مدخل أو صغير آخر، ضيقت حاجبيها تنظر إليه باستغراب، لما هيئته مبعثرة مشعثة، مجروح في جبهته ويظهر أنه أهمله، فجفت الدماء على جبينه وبقى فقط أثره.
كان يبدو كَماذا، رجل مهزوم؟
سخرت من نفسها: ما الذي يستطيع أن يهزم قاسم عمران؟
بركن منزوي جلست فيروز في آخر الفراش، تنظر إليه مترقبة خطواته.
بينما هو يتركه ببطء وبخطوات مترددة، حتى اتجه لأبعد مقعد في الغرفة وأرتمي عليه.
لم ينظر إليها ولم يرفع حتى رأسه لعلها من ملامحه تعرف ماذا ينتوي أن يفعل بها مجددًا.
مسح على وجهه ثم استند بساعديه على فخذيه وتحدث لأول مرة بصوت بعيد عن نبرته المعتادة المتسلطة، كانت نبرته خافتة ضعيفة وكأنها ليست له.
_ أنا آسف.
عقدت حاجبيها وضيقت عينيها، بالتأكيد لم تستمع جيدًا لهمسه البعيد.
لم تعد تملك حتى القدرة لتسأله عن مقصده، ولم يتحرك حتى فصولها، كل ما تريده هو أن يذهب ويتركها.
كان الصمت بينهما مهيبًا، مقبضًا للقلب وثقيلاً.
عينيها لم تفارق مجلسه، متحفزة لأي حركة تصدر منه بترقب.
رفع عينيه إليها، هاله شكلها، باهتة وشاحبة، شعرها مشعث، عينيها متسعتان تنظر إليه، وعلامات عنفه لم تخفِ أثرها بالكامل، أخفض عينيه عنها بسرعة وأدار وجهه وخرجت أنفاسه بثقل.
ابتلع ريقه وبصعوبة قال قاسم ملقيًا على مسامعها ثقل صدره:
_ أبويا اتجوز وهو كبير في السن، كان بيحب الشغل وعمره اتسرق فيه، لحد ما خد قرار الجواز، اتزوج شابة أصغر منه بكتير، كان فاكر بجوازه منها هايعوض بيها شبابه اللي راح في الشغل وبناء نفسه، لكن العكس حصل، قضت على الباقي من عمره.
حملت فيّا بعد جوازهم على طول، وكانت فرحة أبويا ماتتوصفش إني ولد، انشغل بيا أكتر منها، وإزاي يربي ابنه الوحيد ويشبع منه أكبر وقت ممكن، وهي كانت في دنيا تانية، دنيا الموضة واللبس والسهر والفلوس، دنيا دخلت فيها وبصت بس على نفسها وانبساطها.
لحد ما بقي عندي 8 سنين، أبويا كان تعبان بقلبه، حصلت مشكلة بينهم، ماكنتش الأول بالعكس، مشاكلهم كانت طول الوقت، لكنها كانت أكبر مشكلة حصلت وكل واحد طلع اللي في قلبه للتاني، وكنت أنا واقف بتفرج.
......................
_ صباح الخير.
انتبهت أسيل لذلك الشاب على باب غرفة مكتبها وقالت باستفهام:
_ صباح النور، أفندم.
تنحنح ومسح على جبينه بإحراج وقال:
_ أنا عدي حسن.
ضيقت حاجبيها مشيرة إليه برأسها أنها لم تفهم، فابتسم بحرج:
_ واضح أن كمال بيه ما قالش لحضرتك، أنا حديث هنا وكمال بيه قال إن حضرتك هاتديني شوية معلومات مبدئية للقسم هنا.
تساءلت بحيرة:
_ انت جاي مكان فيروز؟
لم يفهم هو هذه المرة، فاضحك حتى ظهرت تلك الغمازة اليتيمة في جانب خده الأيمن:
_ مش عارف الحقيقة مكان مين بالظبط، أنا جاي على هنا على طول.
ابتسمت بعملية، ثم فكرت أن بالغرفة مكتبين واحد لها والآخر لفيروز، وذلك الشاب سيكون مكانها، ولن يكون مريحًا لها بالمرة أن يمكث معها شاب طوال ساعات العمل بمفردهما، أخرجها من شرودها متنحنحًا فانتبهت إليه، كان طويلًا وجسده طبيعي ليس متكدسًا بالعضلات، شعره مجعد قليلًا يعطيه مظهرًا مشاغبًا عكس ملامحه الهادئة، عينيه مبتسمتان حتى لو لم يبتسم، سوداء واسعة يظللها رموش كثيفة، ملابسه رسمية أنيقة.
أخفضت عينيها حرجًا ثم أشارت إليه على المكتب الوحيد والفارغ قائلة:
_ اتفضل هنا لحد ما أشوف إيه ممكن نبدأ به في أول يوم.
_ آه ياريت، أنا بصراحة متحمس أوي، ما تعرفيش يا آنسة الخبر وصلني إزاي، وقد إيه محتاج للشغل ده الفترة دي، آه صحيح اسمك إيه الأول؟
ثرثار! قالتها أسيل لنفسها متعجبة، لكنها أجابته بنبرة طبيعية:
_ أسيل.
أومأ برأسه وقال معرفًا بنفسه مجددًا:
_ أنا عدي حسن.
_ أيوة عرفت بنفسك على الباب.
ابتسم بحرج، فقالت له بعملية:
_ افتح الجهاز قدامك هابعتلك عليه حاجات، راجعها وقولي ملاحظاتك عليها، وبعدين نقعد ونشوف هنوصل لإيه.
كان حماسه الشديد ظاهرًا على محياه، فابتسمت له وركزت على ما تعمل به، تاركة إياه يتلقى أولى المعلومات على يدها.
.! ... ....... .... .....
عودة الماضي
يقف الطفل قاسم خلف باب الغرفة الموارب، يشاهد تلك المشاجرة بين والديه، والتي آتت على أصواتهما العالية من غرفته.
هتف والده بضيق وغير رضا:
_ كل يوم سهر وخروج ووصلت كمان للشرب، إنتي اتجننتي ده أنا ما بشربش.
اجابته كامليا وهي تنفض شعرها أمام المرأة، وكل ما تنظر إليها يزداد غرورها بجمالها الذي ما إن تدخل لأي مكان تكون الأنظار عليها فقط، يلهث خلفها الرجال وتضحك بغرور لكره السيدات.
_ بقولك إيه، أنا خارجة، ما تبوظش المود، كده كده بتفضل قاعد مع ابنك وبتسبني.
أجابها عمران:
_ إنتي المفروض تقعدي معانا ومع ابنك، إنتي مهملاه ومش شايفة غير نفسك، إنتي ما تعرفيش أي حاجة عنه.
هتفت به بنفاذ صبر وهي تأخذ حقيبتها الصغيرة:
_ أنا زهقت من الأسطوانة دي، هو كل يوم إنت ما بتزهقش؟
_ إنتي أنانية.
_ أنا تعبت، تعبت من الفرق اللي بينا، تعبت وأنا بشوف صحابي واجوازتهم الشباب حواليهم وإنت بيفتكروك أبويا، بتكسف أقولهم إنك جوزي.
قاطعها بغضب هادر بها:
_ عشان ما يقولوش اتجوزته طمعانة في فلوسه، قال يعني مش دي الحقيقة؟
بهتت ملامح كامليا، فأكمل هو:
_ كانت صفقة بينا غير معلنة، فلوس واسم وجاه مقابل جواز وذرية، لكن اللي حصل مش كده، أنا حبيتك بجد.
هدرت به وهي تلوح بيدها، وبما أنه قال جزء من الحقيقة، أكملت هي الجزء المتبقي دون رحمة:
_ وأنا مش بحبك، خلينا زي ما إحنا في صفقتنا وتسبني بحريتي، أو تطلقني.
_ وأبني؟
_ خده مش عايزاه.
كانت إجاباتها سريعة وواضحة، دون أي تردد أو تفكير.
بكى الصغير خلف الباب، وعينيه تدور بينهما يعجز وحزن وصدمه، ولم يكن بالسن الصغير جدا حتى لا يدرك ما يحدث حوله ويفهم معاني كلماتهم القاسية، للأسف كان من الأفضل لو كان قاسم خارج تلك المعادلة.
تركته كامليا وغادرت دون أن تلتفت إليه، حتى بعد ما وجدت ابنها واقفًا مستمعًا لما دار بينهما، لم تفعل سوى أنها ألقت عليه نظرة عابرة وغادرت.
استند عمران على المنضدة بيديه، ونغزات بقلبه العليل تزداد وتيرتها بصورة مؤلمة، وضع يده على قلبه متحاملاً تلك النغزات التي تزداد، صدرت منه آه موجعة، فاركض قاسم إليه واحتضن والده الذي سقط على الأرض غير قادر على الوقوف.
_ بابا، يا بابا!
هتف عمران بخفوت محاولًا أن يطمئن الصغير:
_ متخافش يا قاسم.
بكى الصغير بشدة، فاربت والده على شعره الأسود الغزير، ومسح تلك الدموع على وجنته الشاحبة الخائفة قائلاً:
_ أوعي تعيط يا قاسم، أنا علمتك إيه، تكون قوي.
كان الشبه بينهما ليس بالقليل، لكن أخذ قاسم عينين والدته، فقد تكونت شخصيته على يد ذلك الرجل، أما تداعيات ما بعد تلك الليلة عليه فكانت متوقعة.
تمتم قاسم بخوف:
_ أنا خايف، ومش عارف أعمل إيه.
_ انت ابني وابني ما يخافش أبدًا، تعالي في حضني.
تمدد الطفل بكامله واحتضنه، أحاطه والده بيديه واحتضنه قاسم بيديه الصغيرتين من خصره، سمع همس والده بالشهادتين وتلك النفضة التي جعلت جسده يرتعش ببرودة.
سكن قاسم لدقائق، كاتمًا أنفاسه برهبة، ثم رفع رأسه مناديًا والده بهمس ضعيف ولم يجيبه، هتف مرات ومرات ولم يجيبه سوى الصمت المخيف.
ازداد بكاء الطفل ولم يدري بمن يستنجد وهو بمفرده في المنزل، عاد مرة أخرى محتضنًا والده وبجسده البارد الفاقد للحياة، ينتفض من البرد مستمرًا في بكائه برعب.
حتى أتى الصباح واستيقظ الصغير على صراخ أحد العاملين، الذين احتضنوا الصغير الصامت، الذي دخل في حُمى انتقل على إثرها إلى المستشفى.
عودة للواقع
تسللت تلك الدمعه بجانب عينه وصمت يلهث وكأنه في سباق.
ثم هتف مسترسلاً:
_ ما فرقش معاها موته ولا حتى أنا، خدت الفلوس وسافرت وعشت عند عمتي لحد ما اتعلمت واشتغلت وكملت في طريق أبويا، مافيش يوم عرفت أنام فيه من غير كابوس، كابوس واحد بيفضل يتكرر كل ليلة، بيعيد لحظات موته ببطء مرعب ومخيف.
ارتفعت عينيه إليها فجأة، أمام عينيها المتسعة المرتسمة بها إمارات الصدمة، كان يرتجف!
ترى يده المرتعشة والتي قبض عليها لعله يخفي تلك الرجفة.
_ أنا مش سادي ولا معقد يا فيروز، أنا بس لاقيت فيكي اللي تمنيته، الحاجات اللي وصلتني كانت أكبر من إني أتحملها وأتصرف بعقل، مش سهل عليا إني أتعرى من مشاعري وأسراري قدامك، مش بقول الكلام عشان أثير تعاطفك، لكن عشان تتفهمي إن ردود أفعالي مش من فراغ، وإنتي من حقك تعرفي ده.
حاوطت ذراعيها حولها، مضطربة وحزينة ومصدومة، رغم أفعاله بها إلا أنها تخيلت ذلك الطفل النائم بجوار جثة هامدة ليلة بأكملها، وما نتج عن تلك الليلة من مأساة وذلك الشخص المضطرب الماثل أمامها.
_ ممكن أطلب منك حاجة؟
انتبهت إليه باستغراب فقال بأرهاق:
_ ممكن أنام في الأوضة هنا، هنام على الكنبة دي.
مشيرًا للأريكة في ركن بالغرفة مقابل الفراش، كيف تحركت رأسها بالموافقة لا تعلم، رآته متجهًا إليها ممددًا جسده واضعًا يده على عينيه، وفي لحظات شعرت بانتظام أنفاسه، نظرت للغرفة من حولها بتيه، ثم إليه، تسترجع حديثه، لا تظن أنه يكذب، بل كان يحكي وكأنه في قلب الحدث، تأثرت لا تنكر بما عاشه من لحظات قاسية بجانب والده المتوفي بصدمته، فما حال طفل صغير بسنواته الأولى.
تنهدت وجذبت الوسادة، سندت برأسها عليها وعينيه على ذلك المسجي قبالتها، ظلت لفترة طويلة تقاوم سلطان النوم، لكن في النهاية استسلمت وسقطت جفنيها مستسلمة.