رواية للهوى رأي اخر الفصل السادس والعشرون 26 بقلم سارة حسن


 رواية للهوى رأي اخر الفصل السادس والعشرون 

كانت تعمل على حاسوبها على عدة ملفات، ولكن بسبب غيابها عن العمل اختلطت بعض الأوراق عليها، هاتفت موسى والذي أفادها أن ما تريده متواجد في ملف به الأوراق المعدلة والموجود في إحدى أدراج مكتبه.
وضعت حاسوبها بجانبها ثم اتجهت لأسفل، فتحت الغرفة الخالية منه، لكن رائحته ما زالت في الأرجاء، تشعر به يحاوطها وكأن هيبة حضوره لم تتأثر بغيابه.
تلقائيًا وقعت عينيها على النافذة التي كان يقف موسى أمامها، يوم العشاء العائلي والكارثي الأول لها، لحظة ما اندست بحضنه بإرادتها، مستسلمة لتلك الرغبة لقربه والشعور بدفئه، وكان اعترافه الأجمل على الإطلاق باستحالة خروجها من منطقته المحظورة.
كانت لحظات فارقة في علاقتهما، وحصل كل منهما على هدنة غير معلنة بينهما، وكأنها خطبة يتعرف كل منهما على الآخر ويستكشفه، ولا تنكر أنه راق لها.

اتجهت لمكتبه وجلست على مقعده، مسحت على حرفه بيدها، لا يليق لأحد سواه، وكأنه صاحب أحد المناصب المهمة في الهالة المحيطة به من الهيبة والوقار، مسحت على مكتبه وابتسمت لصورته بجانب عائلته، دائمًا ما يعتز موسى بعائلته، ويقدس العائلة ويعرف أهميتها، ومتمسك بترابطها، وهذا شيء تفتقده هي بشدة.
لم يفتح موسى موضوع قاسم مرة أخرى، ولا هي أيضًا، ربما لبعض الوقت، القليل ربما، لا تعرف.
حركت رأسها وتذكرت سبب قدومها، مالت بجانبها قليلًا وفتحت درجًا تلو الآخر ولم تجد مبتغاها، مالت للجانب الآخر وبحثت في أدراجه، لكنها انتبهت لتلك المذكرة في درج خاص بمفردها، بتردد مسكتها، ثم ألقتها في الدرج مع نفاد صبرها عن فعل لا يصح، ولكن شيء يلّح عليها أن تفتحها، وبتردد وتأنيب ضمير أخذتها دهب.
فتحت أول صفحة بها، عدة خواطر لا تعرف لمن، لكنها ليست لقاسم، كانت لإمرأة.
خواطر حزينة، ربما تعاني من شيء ما،
تقلب في الصفحات، والفضول يزداد والترقب يزداد أكثر فأكثر، حتى توقفت عينيها على إحدى الصفحات المليئة بالكلمات المكتوبة بعشوائية، وبقلق تسلل إليها، وبرودة لا تعرف مصدرها، لكن ذلك الإحساس يحدثها أن القادم لن يكون جيدًا، بدأت دهب في قراءة أول سطورها.
لأول مرة أفكر في كتابة مذكراتي، الطبيب النفسي نصحني أن أحاول بكتابة أي شيء يخطر ببالي وأشعر به، أن أخرج عن صمتي الذي اخترته بإرادتي بعد ما فرض عليّ كل شيء، لا أعرف من أين أبدأ وكيف!
يمكن لأن حياتي لم يحدث فيها ما يستدعي اللجوء لطبيب نفسي، نظرًا لأنني الفتاة المدللة لعائلة لها اسمها.
لكني بحاجة إليه الآن، أشعر أني أصبحت على المحك، على حافة الجنون والانهيار، لم أخضع في يوم لشيء، لكني اليوم خضعت.
أنا رقية كامل زوجة رجل الأعمال خالد رشيد........
.........................
تململت فيروز من صوت الطرق المتواصل على الباب، تثاءبت بكسل ثم ما لبثت واعتدلت تنظر لمكان نوم قاسم الفارغ الآن، لم تشعر بخروجه من الغرفة، فاقدة سقطت نائمة دون أن تشعر بشيء، أذنت للطارق بالدخول، فكانت إحدى الخادمات التي رأتها من قبل تقول:
_ صباح الخير يا هانم، قاسم باشا يبلغ حضرتك لو حابة تخرجي بره أوضتك وتستكشفي القصر والحديقة وقت ما تحبي
ثم وضعت تلك الحقيبة الكبيرة قائلة:
_ وباعت لحضرتك الهدوم دي كمان
فاوقفت في انتظار أي تعقيب أو أمر من فيروز، التي وقفت قبالة الحقيبة وبدون أدنى فضول أخذتها ووضعتها جانبا ثم قالت لها:
_ قوليله مش عايزة، أنا عايزة هدومي اللي في بيت عمي
ظهر التردد على وجه الخادمة، لكنها أومت برأسها بطاعة، أخذت فيروز ملابسها التي أتت بها إلى هنا لأول مرة ودخلت للمرحاض ثم ألقت الملابس التي استيقظت في يوم ووجدت نفسها بها، شعرت بطاقة بعد الاستحمام، مشطت شعرها وعقسته في ذيل فرس، ولم تستطع رفض فرصة الخروج من الغرفة بعد تلك المدة التي مكثت بها، نزلت بخطوات هادئة، حتى توقفت على الصور الضخمة في البهو، صور لم ترها من قبل ولم تنتبه إليها، كانت لرجل يجلس باعتزاز على مقعد أسود مزركش مخملي، واضعًا قدمًا فوق الأخرى، مستريحًا بظهره للخلف، لم يكن شابًا بل رجل تخطى مرحلة الشباب، ربما في عقده السادس، وظهر العمر على شعرة الأبيض وتلك التجاعيد الجانبية، كانت الصورة تتحدث عن رجل أنيق وثري، صاحب سلطة وأموال، أيقنت أنه والد قاسم، لو لم يكن يملك ذلك الشبه بينه، لكنه حصل على تلك الهالة، وتناسقت عليه بشكل خاص مع ملامحه الجادة ونظرته الثاقبة التي تشعر أنها تخترقك.
تحركت فيروز متجهة للباب الذي فتحته وسقطت على وجهها الشمس، فابتسمت باستمتاع، انحنت وخلعت حذائها وضحكت لدغدغة العشب لقدميها الحافيتين، سارت على العشب الندي ورائحة الهواء المعبقة بالزهور، التي لامست كل نوع من أنواعها المختلفة الكثير واشتمته باستمتاع.

ابتسم من خلف زجاج مكتبه، كان يتأملها من وقت خروجها، طبيعية وهذا أكثر ما لفت انتباهه إليها، ارتفع حاجباه بتسلية عندما رأها تخلع حذائها وتضحك، أضحك قاسم ولمعت عينيه لكل مرة تشتم إحدى الزهور، ولو تعلم أنها أجملهن وأطيبهن رائحة، كانت تستكشف كل شيء وتدور في الأرجاء، ويتبعها بعينيه دون أن تلاحظ، وضع هاتفه على أذنه وقال:
_ كل الحرس يطلعوا من الجنينة يقفوا بره.

شعرت أكثر بالراحة بعد خروجهم، رغم أن الحراسة كانت على مسافة منها، لكنها أرادت بعض الخصوصية، فجلست تحت شجرة وسندت بظهرها للخلف، وأغمضت عينيها.

.......................
في تلك البلاد الباردة معظم أوقات السنة، كان ياسين يسير في إحدى الشوارع الأوروبية، مرتديًا ذلك الجاكت رافعًا غطاءه على رأسه، واضعًا يديه في جيبي جاكيته لعل بعض الدفء يتسلل إلى أطرافه من شدة البرودة، كان يحتاج لذلك البعد، رغم صعوبته على نفسه، لكنه خطأه، حتى لو لم يكن المتسبب الوحيد به، حتى لو كان داخل مؤامرة من أناس ظنهم أصدقاء، لكنه هو من سمح بذلك، كان من المفترض أن يتوقف عن عبثه لكنه لم يفعل، خدعة غروره أنها ستكون دائمًا معه بأي حال، لم يفق إلا عندما توقفت أمامه قائلة بصمود فاجأه، إنها لا تريده واكتفت، وهي محقة، أي أنثى ترغب أن تكون الوحيدة في حياة آدم، ويحق لها، لكنه انتزع منها ذلك الحق، حتى لو كانت فعليًا الوحيدة بقلبه، لكنه لم يكف، أخطأ وكان عليه دفع ثمن خطأه، لكنه لم ولن يتركها ولن تكف محاولاته، لكنه فقط أراد تلك الهدنة لكلاهما.

توقف ياسين وارهف السمع لذلك الأنين من الشارع الجانبي المظلم في قبالته، بترقب وحذر دخل ياسين باحثًا عن مصدر الصوت، فاتفاجأ بتلك الفتاة الساقطة على الأرض تتأوه بضعف، انحنى إليها فاشهقت بخوف وصرخت بوجهه باللغة الإنجليزية:
_ ابتعد عني
ابتعد ياسين بالفعل خطوتين للوراء، وفرد كفيه أمامها وقال:
_ اهدئي، أنا لن أؤذيك، أنا فقط أتساءل لو تحتاجين لمساعدة
نظرت له الفتاة بترقب وتوجس، ثم ببطء فردت قدميها المجروحة بشق طولها، وبداخل الجرح قطع من الزجاج، والذي يظهر أنه جرح من كسر زجاجة، قالت بألم:
_ قدمي لا أستطيع السير بها
انحنى ياسين مرة أخرى، قابضًا جبينه بقلق:
_ إنه جرح عميق، من فعل ذلك بكِ؟
_ شبابين أرادوا سرقتي، أخذوا حقيبتي وعند مقاومتي أصابوني بقدمي، ولا أستطيع السير بها.
أزاح ياسين الوشاح من عنقه وقام بربطه برفق على قدمها، ثم قال لها:
_ استندي عليّ حتى نصل لسيارتي ونذهب للمستشفى
بتردد قالت الفتاة:
_ لا، فقط أوصلني لبيتي، لا أريد تحقيقات هنا أنت تعلم
بتساؤل قال ياسين:
_ ما هي جنسيتك؟
_ أنا عربية، مصرية
اتسعت عينان ياسين وقال وهو يفرد يديه باستسلام ساخر:
_ يا أهلا وأنتم ورايا ورايا
شهقت الفتاة قائلة بصدمة:
_ أنت مصري؟
أشار لها وهو يمسك يدها لتستطيع الوقوف قائلاً:
_ شوفتي بختي
تنهدت الفتاة وقالت وهي تستقيم واقفة ببطء:
_ طب الحمدلله، ابن بلدي هايخاف عليا برضو، ولا أنت إيه ظروفك؟
_ ياختي اتنيلي ده أنا هربان منكم
ارتفع حاجبيها فاهتف بها ياسين:
_ تعالي الأول على المستشفى نشوف رجلك ومتخافيش مش هايبقى في تحقيقات.

..........................

شعرت بظل أمامها، حجب عنها أشعة الشمس التي كانت مستمتعة بها، فرجت عن جفنيها، وقابلها زوج من العيون بلون العشب وأوراق الشجر، قاسية وحنية، تلمع كالزمرد وتارة أخرى تكون كاللهب الأسود، كانت تنظر إليه في سكون، وهو أمامها لم يكن نافذًا للصبر، لكنه انحنى جالسًا جانبها، فاعتدلت فورًا وفاجأها بوضع رأسه على فخذها، تجمدت فيروز، وثبتت كالتمثال تنظر إليه بصدمة، فاعتدل برأسه أكثر مستكشفًا ردة فعلها، فاستمعت لصوت ضحكته وقال قاسم:
_ فيروز اقفلي بؤك
أغلقت فمها بالفعل، وتململت ترغب في النهوض، لكنه قال بهدوء بعد ما أغلق عينيه:
_ اقعدي شوية
_ مش عايزة
_ مش ها ضايقك
وسكتت فيروز، وهو أيضًا، بعيدًا عن الجو المشحون بينهما، إلا أنها كانت لحظات هادئة بينهما ونادرة، فتح عينيه فجأة وتسائل بصوت رخيم:
_ عجبتك الجنينه؟
ورغم أنه يعلم الإجابة، إلا أنه أراد أن يسمعها منها، فقالت فيروز:
_ أه
_ إيه أكتر حاجة عجبتك فيها؟
_ الورد الأحمر، والفل والياسمين
_ بتحبي الفل والياسمين؟
_ جدًا
رأت ابتسامته وقال:
_ كل يوم هايوصلك فل وياسمين مخصوص
تململت وبترقب قالت:
_ لا مش عايزة
_ ليه ما أخذتيش الشنطة؟
_ مش عايزاها، أنا عايزة الهدوم اللي عند عمي
بهدوء قال دون أن يعكر صفو جلستهم:
_ بس أنتي بقيتي مسؤولة مني، ما ينفعش كل ما تحتاجي حاجة تروحي تاخديها من عمك
سكتت لبرهة، وبصوت مختنق قالت:
_ وأنت فاكر إن بقي لي الحق ده بعد اللي أجبرتني أعمله معاه؟
اعتدل قاسم وجلس قبالتها منحني للأمام باتجاهها قليلاً:
_ أنا كنت بحافظ على حقي فيكي
_ أنت أناني يا قاسم
_ ليه تسميها أنانية يا فيروز؟
_ لأنك كده فعلا، بتاخد اللي انت عايزه ومش مهم الطرف التاني عايز إيه

ثبت عينيه عليها، حتى حصل على كامل تركيزها وقال بتمهل وخفوت:
_ وليه ما تسميهاش حب، إنك أول حاجة اختارها وتمسك بيها
أخفضت هي عينيها، وكأنها تهرب من ذلك التأثير القوي الذي يلقيه عليها، كأنه يسحبها لعالم آخر بسحر.
_ في يوم واحد قطعتي المسافة اللي بينا مرتين بإرادتك، في المستشفى يوم تعب كمال.
برقت الذكرى بعقلها، وقت ما دافع عنها أمام نازلي بافترائها عليها، وقد تصد لها حينها.
رفعت أنظارها إليه، وقالت:
_ فعلا، شوفت فيك الحماية، فرحت إنك ما تأثرتش بالكلام اللي اتقال عني، لكن في موقف تاني، كان تأثير الكلام ده عليك أقوى، صدقته وشوفتني زي ما هما عايزينك تشوفني.
صمت قاسم قليلاً ثم تنهد وعاد مرة إلى جلسته الأولى وقال:
_ أتمنى ما حدش يشوفك زي ما أنا شايفك يا فيروز
باستغراب وعدم فهم قالت:
_ يعني إيه؟
بمراوغة قال قاسم بعبث:
_ العبيلي في شعري
_ نعم
صرخت بها فيروز مستنكرة، ثم دفعته من عن قدمها وجلست مستندة على ركبتيها قائلة:
_ ابعد كده عايزة أقوم
_ ليه خليكي شوية
التفتت حولها متهربة من عينيه المحاصرة لها وقالت:
_ مش عايزة أقعد معاك
_ إلا قوليلي، مين سماكي فيروز؟
_ أمي
استقامت واقفة منفضة ملابسها، فأوقف هو الآخر وتسائل:
_ طب عارفة معناه؟
بتهرب من الوقوف أمامه قالت:
_ لا
وكادت أن تتحرك من أمامه بهروب، إلا أنه استوقفها بيده واقترب منها، فاتراجعت هي للخلف، واستمرت في تراجعها حتى اصطدمت بالشجرة من خلفها، وبصوت رخيم وعينين شغوفتين قال قاسم:
_ حجر كريم أزرق اللون، نادر الوجود، ومن بين كل الناس كنت أنا أكثر حظًا وبقي معايا، ملكي، في قلبي.
زاغت عينيها وتوهج وجهها، لكنها دفعته بقوة حتى ابتعد وركضت هي أمامه للداخل، ولم يستطع أن يؤدِ تلك الابتسامة النادرة على شفتيه.

تعليقات