رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والواحد والستون
ومن العجيب أن المطاردة قد انقطعت فجأة كأن الليل نفسه ابتلع أولئك الغرباء الذين كانوا يلهثون خلفهما منذ لحظات.
توقفت سيرين صدرها يعلو ويهبط كطائر مذعور في قفص ضيق وأطلقت شهقة حارقة لتسترد أنفاسها.
رفع ظافر بصره إليها وعيناه تلتقطان ما لم تستطع إخفاءه
ماذا حدث لك
ارتسمت على ثغرها ابتسامة باردة متحاشية نظراته وأجابت باقتضاب
أنا بخير.
كان يعرف أنها تكذب لكنه قرأ ربما لم ترغب في أن تساق إلى حوار يظهر ضعفها واندفعت تخترق الحشد متظاهرة بأنها بخير.
غير أن ظافر لم يسمح لها بالرحيل بل تقدم خطوات سريعة في طياتها قلقا صادقا وغضبا مكتوما وصوته كان أشبه بزمجرة حيوان جريح
أخبريني هل ضربك أحدهم
لقد كان يتتبعها منذ أيام يراقبها في صمت قاتل واليوم حين رآها تدخل الفندق تبعها بعين يقظة وشهد بعينه ما جرى في الردهة لكنه صبر حتى اللحظة التي تمكن فيها من الحديث معها
همست سيرين بنبرة متكسرة
اتركني
فهي لم تكن تريد أن يراها بهذا الانكسار لكن ظافر وقد اشتعل الدم في عروقه رفض الاستسلام
التفت بعينه إلى مدخل الفندق ورأى رجلين أجنبيين يراقبانهما عن بعد كذئاب عندها فهم الصورة كاملة وأدرك أن الأمر لم ينته بعد.
لم يعط سيرين فرصة للاعتراض بل تجاهل مهددا بالضياع من ثم فتح باب السيارة بقدمه بحرص مشوب بالقسوة كمن يعطي الحق في حمايتها رغم إرادتها.
كانت إحدى سماعتيها السمعية قد سقطت
فعجزت عن سماع كلماته لكنه لم يتوقف عن التصرف كتب عنوانا وأرسله إلى رجاله ثم اتصل بأحدهم وجاء صوته جليدي حاد كسيف مشهر
حاصروا المكان واكتشفوا ولا تدعوا أحدا يفلت من قبضتكم.
وما إن أغلق الهاتف حتى أمر السائق بنبرة لا تحتمل نقاشا
إلى أقرب مستشفى فورا.
جلس إلى جوارها بأنفاس مضطربة كعاصفة مكبوتة فيما قلبه يتأرجح بين الغضب الذي يشتعل في داخله
حين لاحت أضواء المستشفى من بعيد ارتجف قلب سيرين كما لو أصابته صاعقة لحسن الحظ تلاشى شحوب وجهها في الظلام بينما اتسعت عيناها بوميض هلع مباغت فهتفت وصوتها يتكسر كزجاج تحت مطرقة
لا لا أريد الذهاب إلى المستشفى! أوقفوا السيارة دعوني أخرج!
كان الخوف يعتصر صدرها فالمستشفى ليس مجرد جدران بيضاء وأسرة باردة بل فخ قد يكشف سرها الأعظم
لم تستسلم بل مدت يدها المرتجفة إلى المقبض وصوته خرج كالرعد
كفى سيرين!
ارتدت بعنف وقلبها يدق كطبول حرب وصرخت في وجهه بجنون لم تعهده في نفسها
قلت لك لا أريد! دعني أخرج أيها الوغد!
تجمد ظافر في مكانه بينما حدقت عيناه فيها بدهشة نادرة فهي لأول مرة تكسر هيبته التي لم يجرؤ أحد قط على المساس بها حتى السائق ذلك الذي اعتاد مشاهدة ظافر يرهب الرجال بأدنى حركة اتسعت عيناه غير مصدق أن امرأة تصرخ بوجه سيدها وتنعتها بالوغد.
لكن المفاجأة لم تكن في صراخها بل في رد فعله فهو لم يغضب لم يزمجر لم يهدد بل صمت صمت خانق كأن البحر
كله انكمش في جوفه واكتفى
قلت كفى سيرين ألا تفهمين
حاولت سيرين بكل يأس تحولت إلى قيد من حديد لا يعرف الانكسار. بكل ما بها من غضب ورفض. اكتفى بأن يرفع حاجبه بابتسامة مهلك غامزا
تسمرت سيرين في مكانها والدموع تكذب قسوتها
أما هو فبدل أن يغضب أو يتألم تمنى في سره تنزف يده ألف مرة على أن يراها منكسرة أمامه.
وما إن توقفت السيارة أمام المستشفى كما هي ودفع باب الطوارئ بكتفيه يسلمها إلى الطبيب وقال بصوته بارد حاد
تفقدها حالا.
فحصها الطبيب بعجلة وأوضح أن ما أصابها لم يتعد كونه صفعة قوية تركت أثرها وأن ارتجاج السمع لديها سببه سقوط سماعتها وحالما عرض إجراء فحوصات أعمق رفضت بإصرار وعينيها تتهربان من كل الأجهزة كأنها أفاع سامة لذا اكتفى الطبيب بعلاج بسيط ثم أعاد إليها السماعة الإلكترونية وحين استقرت في أذنها عاد إليها صوت العالم وعاد معها صوت ظافر الذي لم يترك يدها للحظة كأنه يخشى إن أطلقها ستذوب في الفراغ وتغيب عنه إلى الأبد.
وقف ظافر في الممر الأبيض البارد وأضواء المستشفى الفلورية ترسم ظلالا حادة على ملامحه وصوته المنخفض عبر الهاتف يقطع سكون المكان كالسكين كان يتحدث مع رجاله بلغة الأوامر الجافة فيما عينيه بين حين وآخر تهربان إلى الباب كأنهما مرساتان معلقتان في انتظار خروجها.
وعندما خطت سيرين خارج الغرفة بدا المشهد كأنه انكسار صمت ثقيل إذ أغلق ظافر هاتفه في اللحظة
ذاتها فالعالم وما فيه لا يساوي شيئا بجانب رؤيتها.
قالت سيرين بصوت خافت يكاد يذوب في الفراغ
شكرا لك.
كلماتها قصيرة وموجزة لكنها في أذنه أشبه بجرس بعيد يرن في قلب أنهكه الاشتياق رمق وجهها وقد خف تورمه بعد أن اخذ الأدوية فتسللت إلى داخله حب حارقة في أن يحميها من كل أذى نحوها ببطء قائلا
هيا بنا سأوصلك إلى المنزل.
لكنها تجنبت بمهارة بينهما جريمة لا يسمح لها بالحدوث وأجابت بصرامة مغطاة بالضعف
لا داعي سأعود بمفردي.
تجمدت يد ظافر في الهواء معلقة بين الخذلان بين أن يتركها تغيب كالماء وفي النهاية اكتفى بأن يراقبها وهي تمضي بخطوات مترددة تركب سيارة أجرة تنقلها بعيدا.
لكن ظافر كعادته لم يعرف يوما الاستسلام تبعها بسيارته في صمت مهيب.. يسير خلفها طوال الطريق كظل لا يفارق صاحبه كقدر يرفض أن يمحى.
وخلال رحلته خلفها اجتاحته الذكريات كطوفان تذكر كيف لم تتخل عنه حين كان الهروب سبيلهما الوحيد كيف في الفندق وسط الجحيم تتمرد على خوفها لتحميه هو ثم قفزت إلى ذهنه صورة أخرى تلك الليلة البعيدة حين كان مطوقا بالأعداء في الخارج وكيف عثرت عليه منهكة لكنها اختارته رغم كل شيء.
عندها فقط أدرك أنه منذ قليل وكأنه قبض على العالم كله ثم أفلت منه دفعة واحدة.
قطع تيار أفكاره رنين الهاتف كان ماهر على الخط رفع ظافر الهاتف إلى أذنه وصوت الرجل يأت متوترا
سيدي وصلت نتائج اختبار
انقبضت عيناه وفي داخله
ارتجف شيء لم يجرؤ أن يسميه.
ترى ما سبب توتر ماهر