رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والرابع والستون 264 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والرابع والستون


لم تستوعب سيرين سبب سؤاله الغامض غير أنّ سخاءه في إرسال المال بسرعة جعلها تظنه مجرّد عابر طريقٍ أراد أن يُظهر تعاطفًا لا أكثر… هكذا هدّأت شكوكها وأكملت حديثها كأنها تخاطب فراغًا واسعًا يبتلع أسرارها.

كتبت بأنامل مرتجفة: 

«بصراحة… لم أشعر يومًا بخفّة كالتي شعرت بها بعد الطلاق. حرية غريبة تسري في عروقي، وسعادة مبهمة لا أدري من أين جاءت. الغريب أنّ الحمل الثقيل الذي كان يطحن صدري اختفى فجأة، وكأنني تنفّست هواءً جديدًا لأول مرة».

ظلّ ظافر يحدّق في سطورها على الشاشة… عينيه تلتهمان الكلمات بنهمٍ بينما أصابعه تجمّدت فوق لوحة المفاتيح… بينما ارتعش قلبه بارتباكٍ لم يعهده ثم أرسل متردّدًا:

«لكن… لماذا؟ هل لأنكِ لم تحبّيه يومًا؟».

توقّفت سيرين عند سؤاله طويلًا فكّرت أنّه سؤال أكبر من أن يُطرح بهذه البساطة خاصّة من غريبٍ لم تره لكنّها قررت ألّا تخفي شيئًا كأنّها تكشف عن جرحٍ قديم لم يعد يؤلمها.

أجابت:

«الذين يقرّرون الانفصال… يكونون قد احترقوا بما يكفي قبلها… الطلاق لا يحدث لسبب واحد يا سيّدي بل لأسبابٍ تتراكم حتى يصبح الصمت موتًا بطيئًا».

كتب ظافر كلماتٍ طويلة أثقلها الحزن ثم محاها بضغطةٍ متردّدة لم يترك لها أثرًا كمن يبتلع صرخته.

وصلته

رسالة قصيرة منها:
«إذا لم يكن لديك ما تقوله بعد الآن… فسأنصرف… وداعًا».

أغلقت النافذة تاركةً ظافر في فراغٍ موحش. يجلس على الأريكة… يراقب انعكاس وجهه على شاشة سوداء… يتأمل كلماتها التي تركت أثرًا مريرًا في صدره وعندما لم يحتمل اختناق الغرفة اندفع نحو الباب ليلامس الهواء… هناك كان القدر يستهزئ به إذ رآها أمامه تسير بخفّةٍ حاملة حقيبة ظهرها.

التقت أعينهما لثوانٍ قبل أن تشيح وجهها عنه بارتباك كأنها ارتكبت خطيئة غير مرئية ومن ثم مرّت مسرعةً بجانبه كمن تهرب من طيفٍ يلاحقها.

ظلّ ظافر يراقب خطواتها الصامتة وفي داخله عاصفة تُكسر أضلعه.

*يا لها من امرأة قاسية! كيف يسكن في قلبها كل هذا الجليد؟*

اندفع بخطواتٍ طويلة حتى لحق بها وقال بصوتٍ باردٍ يخفي جمرةً متقدة:

«هكذا إذن تُكافئين زوجكِ السابق الذي أنقذكِ الليلة الماضية؟» ثم شدّد ببطءٍ على الكلمة:

«زوجكِ السابق».

توقّفت سيرين فجأة ومن ثم استدارت نحوه بدهشة وعينيها تتسعان كنافذتين يطلّ منهما ذهول صامت بينما عيناه كانتا مسمّرتين عليها بنظرة حادّة كالسيف لا تعرف التردّد ولا تعرف الهروب.

ابتلعت ريقها وتجنّبت اختراق عينيه… ارتجفت شفتاها الحمراوان ثم انفرجتا لتقول بصوتٍ مخنوق:

«لقد شكرتك بالفعل على ما

فعلته… إن لم يكن ذلك كافيًا لك فاعذرني… فأنا لا أملك المزيد… ثمّ أنت قلتها بنفسك… أنا طليقتك… أن تمدّ لي يد العون حين كنت على شفا الخطر… لم يكن حبًّا، أليس كذلك؟».
كانت كلماتها كخنجرٍ مسموم يغرس في صدره فانكمشت حدقة عينيه وانقبضت ملامحه كمن تلقّى طعنة مباغتة لكنه تقدّم خطوة نحوها صوته يخرج متقطّعًا:

«إلى أين أنت ذاهبة؟».

أطبقت سيرين شفتيها وحاولت أن تُخفي ارتجاف صوتها ثم قالت ببرودٍ جليديّ:

«ليس من شأنك».

استدارت وسارت بخطواتٍ سريعة تاركةً ظافر يبتلع مرارةً لا تُحتمل كمن يقف على حافة هاوية لا نهاية لها.

تحوّلت نظرات ظافر إلى مرارةٍ قاتمة وهو يراقب ظهر سيرين يتلاشى في البُعد تسحب معها آخر خيطٍ من توازنه وإذا بصرخة مكتومة ارتطمت بجدار صدره فاندفعت يده بعنفٍ لتلكم الجدار كوحشٍ جريح يتخبّط في قفصه بينما ارتدّ الصدى في الممرّ كهدير أسدٍ عاجله صيّاد بخنجرٍ في مقتل.

في زمنٍ مضى كان ليسمح لها أن ترحل بلا مقاومة لكنّه الآن يترنّح أسيرًا تحت ثقل جنونٍ لا يعرف كبحه وكل خلية في جسده تأمره بأن يتعقّبها.

لم يفكر بل ألقى بنفسه داخل سيارته وانطلق خلفها بلا وعي، كذئبٍ يتعقّب أثر فريسته… عينيه مسمّرتان على ملامحها وهي تستوقف سيارة أجرة ثم تذوب في صخب المدينة

حيث الأضواء تتراقص على وجوه العابرين.
رآها تتجوّل بين الشوارع المكتظة تحمل أكياس البقالة كربة بيتٍ اعتادت الوحدة وسمعها تخاطب الغرباء بلسانٍ أجنبيٍّ لم يكن يومًا سلاحها الأقوى فقد تذكّرها في الماضي حين جاءت تبحث عنه خارج حدود الوطن ضعيفة أمام اللغة تتخبّط بين ترجمات إلكترونية مشوّهة تُسيء الفهم أكثر مما توضّح لكن الآن صارت قادرة على نسج خيوط يومها وحدها كأنّ الطلاق صهرها في نارٍ أعادت تشكيلها. تردّد في ذهنه صداها القريب:

*«بصراحة، أشعر بحرية وسعادة كبيرتين بعد الطلاق… والغريب أنني لا أشعر بضغط كبير»*.

ارتعش قلبه وهو يسترجع كلماتها.. لم يعرف هل كان يغلي غيرةً أم يحترق رغبةً في فهمها… فأخذت مشاعره تتكسّر داخله كأمواج تتلاطم في كهفٍ مظلم.

في تلك اللحظة ارتجف هاتفه بين يديه.. رفعه فإذا بالاسم ينزف على الشاشة: **شادية** التي جاء صوتها لاهثًا:

ــ «ظافر، متى ستعود؟».

قطّب حاجبيه وسأل ببرودٍ يخفي قلقًا متصاعدًا:

ــ «هل هناك ما يُثير القلق؟».

ردّت بسرعة:

ــ «المساهمون يتحرّكون في الظلّ وجدّك يريدك فورًا!».

ضاقت عيناه حتى صارتا كسيفين مسلولين ولفظ الكلمة ببطءٍ محسوب:

ــ «حسنًا».

أغلق الهاتف ثم رفع رأسه يبحث عنها في الزحام لكنّها قد اختفت

لا ظلّ لها ولا أثر كمن تلاشت في الهواء أو ذابت بين وجوه الغرباء كحلمٍ لم يُكتب له البقاء.
 

تعليقات