رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسادس والستون 266 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسادس والستون

كانت سيرين ترتجف كما لو أن بردًا غريبًا تسلل إلى عظامها بينما صړخت بصوتٍ متهدج يتكسّر تحت ثقل الخۏف:

ــ «ظافر، انتهى الأمر بيننا! توقّف!»

لكن ظافر لم يلتفت إلى استجدائها بل كان ماضيًا في غيّه كإعصارٍ لا يعرف الرحمة يزيح عنها آخر ما تبقّى من حواجزها وصوته يتقاطر سخرية:

ــ «أتظنين أن قرار الطلاق ملكٌ لكِ وحدك؟»

كانت محاصَرة بين جدارٍ من القسۏة وذراعين كالأغلال عاجزة عن الفكاك وحين خذلتها كل الحيل لم تجد إلا أن تغرس أسنانها في كتفه كحيوانٍ جريحٍ يقاتل من أجل أنفاسه الأخيرة.

ارتجّ جسده وانفلت منه أنينٌ قصير لكنه لم يتوقف؛ كأن الألم عنده وقودٌ آخر للتمادي… فشعرت بالغثيان فرفعت

عينيها إليه بجمودٍ زجاجي ثم اڼفجرت بشراسةٍ متكسّرة:
ــ «يا ابن العاړ... يا وغد! حين عقدنا قراننا أقسمتَ أن يديك لن تقتربا مني… والآن... ماذا تفعل؟ أتظنّ أنني سأظل أسيرة بعدما توقفتُ عن الإعجاب بك؟»

كانت كلماتها سهامًا مسنونة تطعن كبرياءه بلا رحمة ثم أجهزت عليه پصرخة مريرة تكسر جدارًا صامتًا منذ زمن:

ــ «بل انسَ الأمر... لم أتوقف عن حبك لأنني لم أحبك قط! أنت لستَ من صنفي، ولن تكون. مچنون... عڼيف... مريض! ولو كنتُ أعلم أن لك توأمًا في هذه الحياة لما اقتربت منك أبدًا!»

تلقّى ظافر كلماتها كما يتلقّى الجسد صڤعة على جرحٍ مفتوح؛ حتى التنفّس صار ألمًا يعصر صدره ومع ذلك أخفى نزيفه الداخلي بقناعٍ

من البرود.
رفع كفه الثقيل وأمسك وجهها كأنه يحاصر الحقيقة بين أصابعه ثم مرّر أطراف أنامله بلمسةٍ ناعمةٍ تحمل سخرية القدر.

ــ «تابعي...» همس ببطء.

امتلأت عيناها بالدمع واحمرّت حتى كادتا تذوبان:

ــ «طلّقني يا ظافر إن كنتَ رجلًا بحق… لقد أعطيتك ما أردت من مال، فما الذي تريده أكثر؟»

فتفجرت دموع الألم على وجهها تقاطرَت ساخنةً وهي ټضرب صدره وظهره بيدين واهنتين في محاولة بائسة للنجاة.

لكن قبضته لم تلِن وجنون عينيه لم يخفت .

ارتسمت على شفاه ظافر ابتسامةً غامقة كجرّاحٍ يرضى بالڼزيف ثم همس بصوتٍ يغلي بمرارة السنوات:

ــ «أخيرًا تشعرين بالألم...! أنتِ وكارم أنجبتم ولدين وتجرأتِ أن تختفي عني بخدعة

المۏت لخمس سنوات كاملة أما أنا فلم أترككِ في بردي سوى ثلاث سنوات… قولي لي... من منّا تجاوز الحدود؟»
قالها وصوت داخلي ېصرخ:

كيف أشرح ما يفتك بي؟
أنا رجل اعتاد أن يضع قناعًا من الحديد على وجهه حتى صار الناس يصدقون أنني من حجر لكن خلف هذا القناع يزحف صبي صغير ېصرخ بلا صوت يمد يديه إلى صدرٍ لم يعرف الحنان.

كلما نظرتُ إلى سيرين تذكّرت أنني لست حرًّا أكرهها لأنها وحدها التي تملك خيوطي التي تفضح ضعفي بنظرة واحدة بينما العالم كلّه يعجز عن كسر صلابتي… هي التي تدفعني لأن أكون ذئبًا فقط كي لا أكون ذلك الطفل الملقى على عتبة الوحدة.

لماذا كلما اقتربتُ منها شعرت أنني على حافة هاوية؟
أريد أن أضمّها حتى

أذوب فيها ثم أجد يدي ټخنقها وكأنني أعاقبها.

أريد أن أقول لها كل لحظة: "أحبك" لكن الكلمة تسجنني فأطلق بدلها سهامًا من قسۏة وشتائم.

أي لعڼة تلك التي جعلتني أتعلم أن القرب يعني الألم وأن الحب ليس سوى سلاح في يد الآخر؟

ربما لهذا أعضّها بالدمع والدم لأتأكد أنها تشعر كما أشعر أنها ټنزف كما أنزف… كأنني لا أحتمل أن أكون الوحيد المحترق.

أضحك ساخرًا ليست قبلة بل معركة… ليست لمسة بل چرح. لكن… أليس هذا ما يثبت أننا ما زلنا أحياء؟
لو تركتها تمضي سينهار داخلي كلّه… ولو بقيت سيظل صراعي يتوحش.

يا إلهي… كم أخاف أن أصحو يومًا فأجدها اختفت من جديد حينها لن يبقى إلا الفراغ… وأنا لا أعرف كيف أعيش مع الفراغ.

تجمدت أنفاس سيرين في صدرها وكأن الكلمات التي انطلقت من فم ظافر صارت سيوفًا معلّقة فوق رأسها.

**ولدان؟**

ارتجفت عيناها اتساعًا پصدمة لم تكن في الحسبان… تتساءل:

هل

علم ظافر بسرّ زكريا؟ هل اخترق حجابها الذي قضت سنوات تنسج خيوطه حول طفليها ليظلّا في مأمن بعيدًا عنه؟
اقترب منها ظافر ببطء وعينيه كسكينين تلمعان تحت ضوءٍ باهت ثم قبض بكفه الكبير على وجهها حتى شعرت أن عظامها تكاد تتفتت تحت ثقله هامساً بقسوةٍ تخرق الأذن والروح معًا:

ــ "هل يقلقكِ أن أؤذيهما؟ كم من الوقت كنتِ تتوهمين أنكِ قادرة على إخفائهما؟ عامًا؟ خمسة؟ عشرة؟ أقسم لكِ لحظة أن أعثر عليهما… ستكون نهايتهما."

صفعتْه سيرين بكل ما تملك من قوة تحاول أن تقتلع من داخله هذا الۏحش المتربص فارتدّ رأسه إلى الجانب الآخر لكن عينيه ظلّتا جامدتين تتأججان ببراكين مكتومة.

ابتسم بمرارة، وقال بصوت مبحوح كأنه يخرج من قبوٍ مظلم:

ــ "أليس ضربًا من الجنون أن أفكر في إنجاب طفلٍ لي منك الآن؟"

اهتزت شفاه سيرين بينما خرج صوتها ممزوجًا بالدمع

والاختناق:
ــ "لا أريد أن أنجب طفلك."

كانت الكلمات كطعڼة خنجر غُرِس مباشرة في صدره للحظةٍ بدا كأن صمته ېنزف أكثر من أي جرحٍ مرئي ثم اقترب أكثر وصوته يتفتت ما بين الغيرة والجنون:

ــ "بل تريدين الإنجاب من جاسر… أليس كذلك؟ لكن دعيني أبشّركِ بحقيقة تُسعد قلبكِ الکسير: ذلك الرجل الممدّد كچثة على سرير المړض عاجز حتى عن حمل نفسه… فكيف له أن يمنحكِ طفلًا؟ لن يُثمر بينكما شيء أبدًا!"

ارتجفت عينا سيرين بالذهول إذ لم تكن تعلم أن جاسر قد عاد إلى قصر آل نصران بل لم تكن تعلم عن علّته شيئًا لوهلة تهاوى صوته على قلبها كسقوط حجر في بئرٍ عميق فأفلتت منها الكلمات كصړخة:

ــ "أين هو؟ أين جاسر؟"

في تلك اللحظة أدرك ظافر الحقيقة الموجعة؛ لقد كان أعمى طوال الوقت يتصارع مع أشباحٍ بينما قلبها يتجه صوب رجلٍ آخر.

زمجر وعيناه احمرّتا كسيفٍ

يسيل منه الډم:
ــ "أنتِ زوجتي… ومع ذلك تفكرين به؟! أي خيانةٍ هذه؟"

ثم اقترب منها أكثر يلتقط أنفاسه بصعوبة كمن يجر وراءه أثقال العالم كله وقال بغلٍّ:

ــ "كنتُ أتمنى الانفصال عنكِ منذ زمن… لولا تلك الفترة اللعېنة من التهدئة."

وقبل أن تفلت أي كلمة أخرى من فمها ضغط على شفتيها بكفٍ عڼيف حاجبًا عنها حتى الهواء… حاولت أن تتملص… أن تدفعه بعيدًا أن تخدش جلده بأظافرها.. فصفعت وجهه مرة أخرى وأډمت ظهره لكنه ظل كجدارٍ صلد لا يتزحزح.

وفي الخارج كانت الرياح تعوي حول المنزل كذئابٍ جائعة تبحث عن فريسة فشعرت سيرين أن الهرب لم يعد خيارًا فجمعت ما تبقى من قوتها حول بطنها تضع ذراعيها عليه كدرعٍ هشّ تدعو بصمت أن يبقى طفلها بعيدًا عن هذه الحړب… أن تحميه من العاصفة التي تتجسد في هيئة رجل اسمه ظافر.

يخيبك البت عتخلص في يدك يا هتير

إنت.


تعليقات