رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسابع والستون 267 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسابع والستون 


كانت تلك اللحظة الفاصلة التي شعرت فيها سيرين وكأنها تقف عند حافة جرفٍ سحيق، الريح تعـ,ـصف بروحـ,ـها قبل أن تعـ,ـصف بالنافذة، لتعلن أن كل ما جمعها بظافر قد انكسر بلا رجعة. العاصفة في الخارج لم تكن إلا صدىً لما يضج بداخلها؛ كارتطام برقٍ بصدرها، ورعدٌ يجلجل في أعماقها.

تمدّدت لوهلة في الصمت حتى تسلّل عطشٌ جافّ إلى حنجرتها كأن الأرض في جوفها صارت قاحلة ومن ثم همست ببرودٍ متعمد كمن يريد قطع آخر خيطٍ من الود:

«أريد ماءً.»

تثاءب ظافر وهو نصف يقظ فتح عينيه المثقلتين بسهرٍ مرير ومن ثم مدّ يده نحو الطاولة والضوء الخافت كشف آثار المعركة التي جرت بينهما؛ فأسنانها قد تركت وشمها على يده… عضّاتٌ واضحة على يده، وندوبٌ على كتفي.

فتح زجاجة الماء ومدّها إليها في صمت كهدنة أخيرة فارتشفت قليلاً لتشعر بنسمةٍ من الراحة تنسلّ إلى حلقها لكنها لم تدم… فجأةً اجتاحها موجٌ من الغثيان فدفعت يده بعيداً بقسوة واندفعت نحو حافة السرير.

اقترب منها وربت على ظهرها ومن ثم خرج صوته متحشرجاً:

«ما بكِ؟»

انتفضت من لمسته وصوتها كسيفٍ يقطع الهواء:

«لا تقترب!»

تجمّدت يده في منتصف المسافة معلّقة كطائرٍ فقد جناحيه… لكنها لم تكتفي بل استدارت إليه ببرودٍ جليدي بعينين كليلٍ بلا نجوم تهدر فيه:

«هل يمكنكِ أن تغربي عن وجهي الآن؟»

انقبضت ملامحه… ذلك الوجه الذي كان يومًا ساحةً للحُلم صار لوحةً تتكسّر فيها الظلال لكنه تقدّم خطوةً خاطفة يقبض على وجهها برعشةٍ مكبوتة وصوته أشبه بإنذارٍ حاد:

«لديكِ ساعةٌ واحدة لتحزمي أمتعتك… بعدها سنعود إلى المدينة.»

كانت نبرته أشبه بصفقةٍ حُسمت لا رجعة فيها ثم استدار مبتعدًا يرتدي ثيابه ببرود وغادر الغرفة تاركًا خلفه صدى خطواتٍ ثقيلة كأبوابٍ توصد.

لم تحاول سيرين الهرب؛ فالليلة الماضية كشفت لها حقيقةً مؤلمة:

لم يكن عناده إلا تمسّكًا برباط زواجٍ يوشك أن يختنق.

فالتقطت هاتفها بأنامل مرتجفة تنتزع قرارًا من قلبها ومن ثم ضغطت على اسم كوثر وصوتها يخرج مبحوحًا لكنه حاسم:

«كوثر… أريد أن أعيد رفع دعوى طلاق؟»

بعد انقضاء ساعةٍ كاملة بدت كأنها دهورٌ تتثاءب ظهرت سيرين عند المدخل وحقيبتاها إلى جانبها كرفات أحلامٍ تقف على أعتاب الرحيل.

كانت العتمة في ردهة البيت كستارةٍ تسدل على فصلٍ انتهى والهواء يعبق برائحة وداعٍ لا يقال… انفتح الباب فجأةً فخرج ظافر يتبعه حارسٌ شخصي يخطو بثبات كظلٍّ أُعدّ لكل طارئ فعلى ما يبدو أنه كان في نية ظافر أن يجرّها معه عنوة لكن المفاجأة انعكست في عينيه حين رآها واقفةً تنتظره عند العتبة كمن سبق قدره بخطوة.

اقترب منها بخطواتٍ محسوبة… بدلته السوداء تلمع تحت أضواء المدخل الباردة وصوته ينضح بالصلابة:

«هل فكّرتِ في الأمر جيّدًا؟»

أجابته بهدوءٍ يشبه حدّ السكين:

«نعم.»

كان وجهها صفحة جليدٍ لا تُقرأ… فأشار إلى الحارس بلا كلمة ذلك الذي التقـ,ـط حقائبـ,ـها كمن ينفّذ حكمًا وساروا جميعًا نحو الخارج ومن ثم ركبوا السيارة التي انزلقت في صمتٍ نحو المطار بينما عينٌ خفية ترقبهم من بعيد كذئبٍ يتربّص في الظلال.

عند الرابعة عصرًا لامست عجلات الطائرة أرض المدينة فهبطت سيرين مرتديةً سترةً مبطّنة بالريش والثلج يتراقص من السماء كحكاياتٍ بيضاء لا تنتهي… ظل البرد يلسع وجنتيها فيدفعها إلى شدّ سترتها حول جسدها كأنها تحتمي من عالمٍ يزداد قسوة.

التقط ظافر تلك الحركة بعينه؛ راودته رغبةٌ لحظية أن يضـ,ـمها إليه ويمنحها دفئًا لا اسم له لكن قبل أن يمدّ يده اخترق الصمت نداءٌ طويل وصدى صوتٍ أنثويّ يجرّ الحروف كوترٍ مرتجـ,ـف:

«سااااااارة!»

التفتت سيرين إلى مصدر الصوت فرأت كوثر تلوّح من بعيد ابتسامتها تشقّ الثلج كخيط ضوء… كانت تلـ,ـك أول مواجهةٍ حقيقية بين كوثر وظافر فلطالما رأته في نشرات الأخبار وعلى صفحات الجرائد لكن رؤيته عن قرب كانت كاكتشاف معبدٍ خفيّ؛ طويل القامة ملامحه محفورة كتمثالٍ رخامي… عيناه باردتان كزهرة محظورة وخلفه الحراس كظلٍّ لا يفارقه.

للحظة أدركت كوثر سرّ افتتان سيرين به قديمًا؛ وكيف أورث نوحًا وزكريا ذلك الجمال الفاتن… إنهما يحملان ملامحه بصدقٍ لا يُنكر.

استدارت سيرين نحو ظافر فالتقت عيناها بنظرةٍ عابرة… مدّ ظافر يده إلى سيرين كجسرٍ هشّ لكنها تجاهلته وصوتها يخرج ثابتًا:

«صديقتي هنا لرؤيتي. سأذهب إليها.»

توقف الزمن في عينيه للحظة وشيء من القلق عبر محيّاه يخشى أن يشعل صرامته نارًا جديدة فأومأ بهدوءٍ مخنوق:

«بالتأكيد… تفضّلي.»

سحب يده ببطء وما إن ابتعدت سيرين حتى أشار للحارسين بمرافقتها ثم اتجه إلى سيارته السوداء الكبيرة صامتًا يمضي نحو شركته كأنما يهرب من صدى ذلك الوداع المعلّق في هواءٍ مكلّل بالثلج.

حين أغلقت كوثر باب السيارة خلفهما ارتجف الهواء للحظةٍ كأن المدينة تحبس أنفاسها ومن ثم نظرت إلى سيرين وفي عينيها بريقُ دهشةٍ لم ينطفئ بعد ثم أطلقت تنهيدةً طويلة كنسمةٍ حائرة:

«بعد أن رأيتُ ظافر الآن… أدركت أخيرًا سرّ ذكاء زاك ووسامته… كأن ملامحهما مرآةٌ لما يحمله ذلك الرجل من صرامةٍ وجاذبيةٍ باردة.»

ساد الصمت برهة لا يُسمع فيها سوى خرير المطر يرقص على زجاج النوافذ حتى بدا أن العالم يشاركهما لحظة الاعتراف.

مدّت كوثر يدها إلى حقيبتها الجلدية السوداء فأصدرت مشبكها المعدني طقطقةً كجرس إنذار وأخرجت مجموعة أوراقٍ بعناية… أوراقًا تشعّ ببياضٍ مقلق وناولتها إلى سيرين.

كانت الأوراق تفوح برائحة حبرٍ حاد تحمل في طياتها وعدًا بقطع آخر خيط يربطها بالماضي.

ومن ثم قالت بصوتٍ منخفض لكنه ثابت كمن يلقي حجرًا في بحيرةٍ راكدة:

«هل أنتِ متأكدة من أنكِ تريدين مقاضاة ظافر؟»

أطرقت سيرين والنافذة تعكس وجهها كمرآةٍ مائية لكن العاصفة في عينيها تعكس صراعًا لم يخمد بعد.

مدّت كوثر الأوراق أكثر تقول بنبرةٍ عملية قاطعة:

«هذه لائحة الاتهام التي أعددتُها لكِ… كل سطرٍ فيها خطوةٌ نحو حريتكِ إن كنتِ مستعدةً للمضيّ حتى النهاية.»


تعليقات