رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثامن والستون
كان المساء يتثاءب خلف النوافذ حين أسدلت سيرين كلمتها الأخيرة كحجرٍ سقط في بحيرة راكدة إذ أخبرت كوثر بقرار الطـ,ـلاق فجـ,ـاء ردّ الأخيرة سريعًا كوميض برق لا يعرف التردّد طريقًا إليه إذ جلست على طرف الأريكة وبدأت تقلب أوراقها بخفةٍ حاسمة كمن ينسج خريطة خلاص.
ومن ثم قالت سيرين بنبرةٍ باردة تخفي تحتها ارتجافًا مكتومًا:
«أجل… لم يعد من الحكمة أن نستمر معًا.»
أطبقت أصابعها على حافة الملف أمامها وعيناها تتأملان الوثائق كأنها ممرّ إلى حياةٍ أخرى ومن ثم أضافت:
«أخبريني إن احتجتِ شيئًا مني… أريد إنهاء هذا الأمر في أسرع وقت… هل أنتِ واثقة؟»
توقّفت كوثر لحظةً ونظرتها تنفذ إلى أعماق صديقتها كمن يفتش عن شجاعةٍ دفينة ثم همست بثباتٍ رزين:
«سيرين… إذا عرضتِ سجلاتكِ الطبية السابقة، سترتفع نسبة نجاحنا كثيرًا.»
ارتجفت الذكريات في صدر سيرين كأوراقٍ جافة فبعد زواجها لم يطرق الحمل بابها رغم العلاجات التي أنهكت جسدها وروحها… سنونٌ من الانفصال الصامت واكتئابٌ عميق جعل لياليها بلا لون ومع ذلك لم يكن الطلاق معقّدًا لكنه كان جرحًا يلزم بتره.
أومأت سيرين ببطء كمن يوقّع على قدرٍ محتوم:
«حسنًا… سأجهّز السجلات الطبية وأسلّمها لكِ.»
ابتسمت كوثر ابتسامةً خافتة كضوءٍ يطل من عتمة:
«ممتاز… وإذا حصلتِ على أي دليلٍ يثبت علاقة ظافر بدينا أو أي إشارة لإساءته إليكِ… فهذا يكفينا.»
تألقت عينا سيرين بوميض فهمٍ حاسم وقالت:
«في هذه الحالة… هل نتقدم باللائحة اليوم؟»
أومأت كوثر بلا تردّد:
«بالتأكيد.»
وفي الجهة الأخرى من المدينة كان ظافر يعود إلى عرينه لا يدري أن عاصفةً أخرى تتشكل في غيابه فانكبّ على معاقبة المساهمين الذين تآمروا سرًا ضده يظن أنه يمسك بزمام كل شيء ولم يكن يعلم أنّ سيرين التي ظنها ما زالت أسيرة صمته قد فوّضت كوثر التي انطلقت إلى المحكمة بخطى لا تعرف الرجوع تحمل في يدها لائحة الاتهام… كخنجرٍ يلمع في العتمة.
عاد ظافر إلى القصر بعد ليلةٍ من العمل المرهـ,ـق والبرد يعضّ أطراف المدينة كذئبٍ جائع.
كان القصر غارقًا في سـ,ـكونٍ ثقيل لكن حرارة المدفأة تلمع على الجدران كوميضٍ خافت… هناك على الأريكة الكبيرة كانت سيرين قد سبقته التفّت ببطانيةٍ صوفية كعصفورةٍ تحتمي من عاصفةٍ لا تهدأ.
خلع معطفه بعجلة ورفع درجة الحرارة في الغرفة حتى تراقص الهواء بحرارةٍ دافئة… التفت إليها وصوته يمسح الصمت كلمسةٍ حانية:
«هل تناولتِ شيئًا؟»
رفعت رأسها ببطء وعينيها غارقتين في ضباب الإرهاق:
«نعم.»
اقترب منها وحين رآها منطوية على نفسها كزهرةٍ تخشى الانفتاح ارتسمت على شفتيه ابتسامة لا إرادية نصفها سخرية ونصفها شفقة على حاله:
«أما أنا فلم آكل بعد… تعالي نتناول شيئًا معًا.»
همست:
«لا… لا أريد الخروج.»
كانت ترتجف من برودةٍ لا يبددها سوى دفءٍ مفقود… فالبرد الذي يلسع عظامها الآن لم تعرفه حتى في سنواتها خارج البلاد.
جلس إلى جوارها ومن ثم مدّ يده يحيطها بذراعه وبدأ دفء جسده يتسلل إليها ببطء:
«هل تشعرين بالدفء الآن؟»
كانت الدهشة تعقد لسانها فلم تقدر على الإجابة لذا أعاد سؤاله لكن هذه المرة بنبرةٍ قلقة:
«هل نأخذكِ إلى المستشفى؟»
هزّت رأسها بعنف وجاء صوتها حاسم:
«لا.»
كانت تعلم أن نزلة البرد هذه تحتاج وقتًا ورعاية لا فحوصات جديدة لكنها أزاحت ذراعه برفق وانكمشت إلى الطرف الآخر من الأريكة… حينها شعر بفراغٍ مفاجئ كأن الدفء الذي كان يسري بأوردته انسحب فجأةً.
أطرق قليلًا ثم قال وصوته يختزن شيئًا من ندمٍ ثقيل:
«كنتُ قاسية الليلة الماضية، سيرين…»
توقف كمن يبتلع اعترافًا، ثم تابع:
«إذا كان كارم لا يريد هذين الطفلين… فسأعيدهما إليكِ هنا.»
كانت الكلمات كسهمٍ من نورٍ مباغت فبعد اختبار الحمض النووي الذي أنكر أبوته لزكريا ظل ظافر يفكر طويلاً فإن بقيت سيرين بجانبه لن يمانع أن يضم نوحًا وزكريا إلى حياته.
رفعت سيرين عينيها بدهشة تقرأ ملامحه بحذر فهي لا تصدّق استعداده لرعاية أطفالٍ ليسوا من دمه.
قرأ ظافر صمتها قلقًا فظنها تخاف على الصغيرين لذا أضاف بصدق:
«سأوفّر لهما أفضل حياة بل سأرسلهما إلى أرقى المدارس… لكن عليكِ أن تعديني بألا تتصلي بكارم بعد الآن.»
ترددت أنفاسها ولم تجرؤ على تصديق وعوده إذ عرفت تقلباته، وكيف يكون حين يتجاهلها وكيف يمكن أن ينقلب كعاصفةٍ بلا إنذار.
خفضت سيرين بصرها وقالت بنبرةٍ ثابتة:
«ليس هناك داعٍ لذلك… أستطيع رعاية أطفالي بنفسي.»
كأن كلماتها سحبت الأرض من تحته فشعر بمسافةٍ تتسع بينهما ووجع يضرب صدره فتمتم بمرارةٍ خافتة:
«لا يهم.»
حين دخل ماهر حاملًا العشاء بقي الطعام كما هو كانعكاس لشهيةٍ انطفأت.
وفي تلك الليلة، ضمّ ظافر سيرين إلى صدره في السرير، يحاول أن يملأ صمتهما بدفءٍ مستحيل.
بينما ظلت سيرين تحدق بالنافذة، عيناها تسبحان في غياهب الليل ثم قالت ببرودٍ كخنجرٍ في قلب العتمة:
«ظافر… أنا لا أحبك.»
تصلّب جسده كمن جمدت الكلمات دمه لكنها استرسلت وصوتها يستحضر ماضيًا ضبابيًا:
«أتذكر طفولتي… ما زلت عاجزة عن التمييز بينك وبين جاسر حين كنا صغارًا…. يا لسذاجتي لو كنت أعلم الحقيقة منذ البداية لما علقنا في هذا المستنقع كل هذا الوقت.»