رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والتاسع والستون 269 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والتاسع والستون 

كانت الكلمات الأخيرة تتساقط من شفتي سيرين مثل قطرات مطرٍ على زجاجٍ بارد ثم أخـ,ـذها النعاس على حين غفلة فأطبقت أجفانها ببطء كمن تتنصل من أمر خفي بالهروب إلى عالمٍ لا ظلّ لوجعٍ فيه.

أمّا ظافر فقد بقي مستيقظًا… عالقًا في فخّ صمتٍ كثيف بينما أنفاسها المنتظمة بجواره تزيد من اضطراب صدره وصوتٌ بعيد ينهش ذاكرته:

كلمات جاسر التي ارتطمت في رأسه كحجرٍ في بئرٍ سحيق—

«أنا من تُحب… أنا من أرادت الزواج منه!»

ظلّت الجملة تدور كدوّامة لا مخرج منها حاول أن يغمض عينيه لكن الليل كان أوسع من أن يُطوى وحين استسلم أخيرًا لنصف غفوةٍ مرتبكة طارده حلمٌ ثقيل؛ إذ رأى سيرين وهي تدير ظهرها له مرةً أخرى مغادرة بلا التفاتة تتركه وحيدًا في قصرٍ من جليد.

استفاق فزعًا والظلام في الخارج أشدّ كثافة من صدره ومن ثم التفت إليها فوجدها ساكنة كأن النوم أهدى وجهها طمأنينةً خلابة فلم يقوَ على البقاء لذا غادر الفراش بخطواتٍ صامتة.

التقط ظافر هاتفه بيدٍ مرتجفة واتصل بجاسر لكن الفراغ هو الذي أجاب… لا رنين سوى الصمت.

زفر بحدة، ثم ضغـ,ـط رقمًا آخر.

«أمي… أين جاسر؟» كان صوته باردًا كحافة سكين.

بينما جاء صوت شادية مزيجًا من القلق والنعاس:

«انتكست حالته وهو يتلقى العلاج الآن… ما الأمر يا ظافر؟»

تجمّدت ملامحه وعيناه تعكسان بريقًا رماديًّا

«لا شيء.» قالها وقطع الخطّ بحدّة كمن يغلق بابًا على عاصفة.

ظلت شادية ممسكة بالهاتف تحدّق في الفراغ وقد انسكب في قلبها قلقٌ لاذع كما أنها أرادت أن تسأله عن سيرين لكن الصمت انقضّ على المكالمة قبل أن تنطق فتنهدت بغصة ومن ثم التفتت إلى ماندي التي كانت تراقبها من طرف الغرفة:

«هل عاد زاك إلى الروضة؟»

أجابت ماندي بصوتٍ خفيض:

«أخبرتني مديرة الروضة أنه لم يعد منذ أن أخذه والده قبل أيام.»

عقدت شادية حاجبيها وأخذ الشرر يتطاير في رأسها من شدة التفكير فعاودت سؤالها:

«وهل رتبتِ لقاءً مع كوثر؟»

هزّت ماندي رأسها باستسلام:

«كوثر ترفض رؤيتنا تمامًا.»

أطبقت شادية شفتيها بحنقٍ مكبوت وشعورٌ بالعجز ينهشها فمنذ أن غاب زكريا عن ناظريها فقدت شهيتها كأن حياتها توقفت على رؤيته…. تمتمت وكأنها تخاطب فراغ البيت:

«متى سأحظى بحفيد؟»

في ذهن شادية أخذ يتصارع ألم الأمومة مع حسابات الإرث فجاسر هشّ كظلّ وظافر يزداد عنادًا في رفضه لإنجاب الأطفال والفكرة بأن ثمار تعب ابنها قد تؤول إلى يدٍ غريبة كانت توخز قلبها كشوكةٍ حادة.

زفرت بضيق وهي تخفي وجهها براحتيها ثم رفعت رأسها بعزمٍ داكن:

«اسألي مديرة الروضة من هو والد زاك الحقيقي… أريد أن أقابله.»

ردّت ماندي مستسلمة لصلابة الأمر:

«حسنًا… كما تريدين سيدتي.»

نفّذت ماندي ما أُمِرَت به بلا تردد كخيطٍ تحركه أصابع خفية ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى كشـ,ـفت الأوراق المستورة:

فذلك الأب الذي تحدّثت عنه مديرة الروضة لم يكن سوى **طارق**.

تجمّدت شادية للحظة كأن صاعقةً من ليلٍ شتوي ضربت قلبها بينما انفرجت عيناها بدهشةٍ متقدة ثم انطلق صوتها حادًا كصفّارة إنذار:

«أحضروه… حالًا!»

كان طارق قد فرغ للتو من عمليةٍ جراحية في المستشفى، أنفاسه ما تزال تحمل رائحة المطهرات ووهج غرف العمليات حين اخترق صمت هاتفه اتصالٌ من ماندي… كلماتها كانت مقتضبة لكن وقعها بدا حاسمًا:

السيدة شادية تطلبك في الحال.

تسلل شعورٌ قديم بالانتماء إلى صدره؛ فعائلة نصران لم تكن يومًا غريبة عن دمه وشادية تحديدًا كانت بالنسبة له أكثر من قريبة كامتداد لذاكرةٍ عاشها صغيرًا.

خلع طارق رداء الجراحة كمن ينزع عنه عباءة حياةٍ أخرى وترك خلفه أضواء المستشفى البيضاء متجهًا نحو قصرٍ يعرف ممراته كما يعرف خطوط كفه… الهواء الليلي كان يصفّر حوله لكنه مضى بخطى واثقة محمّلة بأسئلةٍ لا إجابة لها.

وفي طريقه أخرج هاتفها يضغط زر التسجيل وجاء صوته عميقًا متردّدًا كمن يهمس إلى الظلام:

«ظافر… أخبرتني والدتك أنكما عدتما أنت وسيرين… هل هذا صحيح؟ لقد طلبت السيدة شادية رؤيتي… وأتساءل ما الذي تريده الآن؟»

ترك الرسالة تتناثر في أثير الليل ثم أسدل الستار على شاشته ووضع الهاتف إلى جواره ماضياً في الطريق كمن يمشي نحو قدرٍ يعرف أنه لا مهرب منه.

في تلك الأثناء كانت شادية تُشعل القصر بحركةٍ مضطربة ترتّب مائدةً عامرة بما لذّ وطاب كأنها تستدرج القدر بوليمةٍ تنبض بالأمل إذ كانت تُمنّي نفسها أن يأتي **طارق** ومعه الصغير **زكريا** علّها تجد في ملامحه إجابةً تقتنصها عيناها.

وحين دقّ الباب ودخل طارق انطفأت شرارة الترقب في قلبها فجأة للحظةٍ عرفت أن كل ما نسجته من ظنون ليس إلا خيطًا من وهم زكريا ليس ابن طارق.

تقدمت نحوه بعينين تلمعان قلقًا وصوتها يتكسر كزجاجٍ هش:

**شادية:**

«إن لم يكن ابنك… فابنُ مَن يكون إذن؟!»

كانت تلك أول مرة تفقد فيها شادية صرامتها المعهودة كأن الأرض تميد تحت قدميها.

في ذهنها دوّى سؤالٌ آخر أكثر حدّة:

**زكريا** يشبه **ظافر** حدّ التطابق… أيمكن أن يكون ثمرة سرٍّ خفيّ… طفلًا وُلد من علاقةٍ آثمة بين ابنها و**كوثر**؟ ألهذا يتفادى ظافر كشف الحقيقة ويطويها في عتمةٍ مُحكمة؟

راحت تتذكر لقاءها العابر بكوثر أمام روضة الأطفال كانت نظرات تلك الكوثر كجدارٍ يصدّ كل اقتراب وابتسامتها المرتعشة أقرب إلى هروبٍ صامت… أحست شادية بشيء مريب يختبئ خلف ذلك الوجه الموارب.

قطع طارق حبل أفكارها وهو يهز رأسه أسفاً وجاء صوته ممزوجٌ بشيء من الدهشة:

**طارق:**

«من يدري؟ حتى جدي يلحّ أن أتزوجها… لكنني لا أصدق أن القدر يكتب لي ذلك.»

أجابت شادية وهي تحاول أن تستعيد جلالها المفقود تزرع كلماتها بحزمٍ يغلّفه قلق:

«كوثر لديها طفل بالفعل… لا يليق بك أن ترتبط بها.»

كانت شادية تتصنع التماسك لكن جسدها خانها؛ إذ اجتاحها دوارٌ مفاجئ فشبكت يديها على معدتها وجلست تستريح ووجهها يبهت كقمرٍ يغشاه الكسوف وما إن استعادت أنفاسها حتى رفعت بصرها نحو **ماندي** بأمرٍ لا يقبل نقاشًا:

«ابحثي في ماضي كوثر… أريد أن أعرف من والد هذا الطفل حقًّا.»

بقي طارق في القصر وحيدًا يطوف ببصره أرجاء المكان وقد تسلّل الضجر إلى أطرافه… الصمت يثقل الجدران حتى رنّ هاتفه فجأة.

كان **ظافر** على الخط وصوته أتى باردًا كحدّ السكين:

«ماذا أرادت منك أمي؟»

حكى طارق كل ما جرى بفتور كمن يلقي حجارةً في بئرٍ ساكن لكن ظافر لم يبدُ عليه أي اهتمام كأن الأمر لا يعنيه فبالنسبة إليه زكريا ليس ابنه ولا حاجة إلى الخوض في مزيدٍ من التفاصيل.

في تلك اللحظة كان الصباح ينساب بطيئًا إلى جناح ظافر وفطورُه الذي طلبه مسبقًا برد على الطاولة، بينما سيرين ما زالت غارقة في نومٍ عميق… ملامحها تتنفس هدوءًا خادعًا فأدار ظافر هاتفه واستدعى رجاله ليجلبوا الطعام مجددًا ثم انسحب إلى مكتبه.

هناك حين أضاء شاشة حاسوبه لمعت أمامه رسالةٌ غير متوقعة… **سيرين** تركت له أثرًا رقميًا على حسابه المستعار كمن تمدّ خيطًا خفيًا من عالم الأحلام إلى قلب يقظته المضطربة.


تعليقات