رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسبعون 270 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسبعون 

فتح **ظافر** الرسالة التي وردته عبر حـ,ـسابه المستعار فانسدلت أمام عينيه سطورٌ طويلة تنبض بصدقٍ شفيف:

*«شكرًا لمساعدتك… في الحقيقة أنا في أمسّ الحاجة إلى العون هذه الأيام… لا أعلم لماذا سألتني عن زواجي… زواجي لم يكن موفقًا بما يكفي لكن هذا لا يعني أن جميع الزيجات محكومة بالفشل… إن كانت تعصف بزواجك أي مشكلات فأتمنى أن تجد طريقك للحل وأن تحيا مع زوجتك حياةً سعيدة.»*

توقف ظافر عند الكلمات كمن يتلقّى صفعةً من زمنٍ نسيه؛ تماوج داخله شعورٌ معقد كأن الرسالة مرآة تعكس جراحه الدفينة فدفعه ذلك إلى أن يكتب بارتباكٍ يشي بانكساره:

*«لكنني أظن أنها لم تعد تحبني… ماذا أفعل الآن؟»*

في تلك اللحظة ارتجف هاتف **سيرين** برنينٍ مباغت فتناولته بفضولٍ مشوب بدهشة وإذا برسالةٍ جديدة من صاحب الحساب الذي ساعدها يومًا في توثيق عقد أغنيتها ولم يخطر لها أنه قد يحمل هو الآخر ندوبًا زواجية، أو أن يبوح لها بهذا الشكل.

أرسلت تسأل بنبرةٍ مترددة:

«هل وقع بينكما سوء تفاهم؟»

أمعن ظافر النظر في صورتها التي تزيّن الملف خاصتها وبدأ يكتب لكن الكلمات خرجت اعترافًا مراً:

«كنت أعاملها بقسوة… كانت تحبني فيما مضى.»*

وما إن ضغط زر الإرسال حتى اجتاحه نـ,ـدمٌ خاـ,ـطف؛ مسح الرسالة بسرعة كمن يمحو أثر جريمة ففي أعماقه كان يدرك أن الرجل الذي تحبه سيرين ليس هو.

توقف برهة ثم عاد يكتب بقلب ينبض بنبرةٍ أقرب إلى الهذيان:

*«أسأتُ معاملتها قديمًا.. والآن هي مع رجل آخر… بل ولديهما طفل.»*

لم يخطر ببال سيرين أن الشخص الذي تراسله هو ظافر نفسه ولم تدر أنها محور حكايته فردّت بحذرٍ وصدق:

«آسفة… لا أدري كيف أساعدك.»

فانهمرت كلمات أخرى من الجهة المقابلة تحمل تحديًا يائسًا:

«لا يهم. لن أدعها تغادر حتى لو لم تعد تحبني!»*

تأملت سيرين السطور وأرادت أن تبعث بردٍ يخفف وطأة اعترافه لكن الإشارة انقطعت فجأة وكأن الليل نفسه أسدل ستارًا كثيفًا على الحديث رفعت رأسها لتجد وقع خطواتٍ يقترب من باب الغرفة ثم طرقٌ هادئ يسبق صوتًا مألوفًا:

«هل استيقظتِ الآن؟ تعالي… الفطور جاهز.»

أسرعت سيرين تُخفي الهاتف جانبًا والرجفة في أصابعها لم تهدأ فحدّق ظافر بها لحظةً وهو يدرك في أعماقه أنها كانت تتحاور معه قبل لحظات لكنه سأل ببرودٍ متعمّد:

«مع من كنتِ تتحدثين؟»

اعتدلت في جلستها وأجابت بصوتٍ ثابت يُخفي ارتجافها:

«كوثر.»

اكتفى بابتسامةٍ صامتة ولم يكشف سرها… فقد كان السر سرّه هو أيضًا.

هبطت سيرين درجات السلالم ببطءٍ متثاقل، وما زال الغثيان يطاردها كظلٍّ عنيد. كانت رائحة اللحم العالقة في هواء الصباح كافية لتقلب معدتها رأسًا على عقب، فتختلط أنفاسها بارتجافٍ خفي غير أنها كبحت ذلك أمام **ظافر** خشية أن يفضح ارتعاشها المستور لذا انسحبت إلى الحمّام بهدوء أغلقت الباب وأدارت صنبور الماء ليُغطي هديرُه صوت تقيؤها… لحظةً مرت كدهر قبل أن تغسل وجهها وتخفي آثار الإعياء خلف قناعٍ من صمتٍ متماسك.

بعد الإفطار تقدم ظافر يساعدها على ارتداء طبقاتٍ من القمصان الصوفية ثم أسدل فوقها معطفًا ثقيلاً كأنما يحصّنها من برد العالم بأسره… سألته وفي عينيها ارتيابٌ مشوباً بالقلق:

«إلى أين نمضي؟»

لم تكن ترغب بالخروج؛ فالهواء الرطـ,ـب يلـ,ـسع عظـ,ـامها والبرد يتسرب عبر أنفاسها مهما ارتدت.

> **ظافر** بابتسامةٍ مطمئنة: «اصعدي إلى السيارة أولاً… لن تحتملين الانتظار في الخارج.»

> **سيرين** هامسةً وهي تحتضن نفسها:

«البرد هنا يقتلني.»

اقترب منها وأشار نحو السيارة فاستسلمت أخيرًا وجلست إلى جواره ومع انسياب الطريق أمامهما راحت عيناها تتأملان الملامح المألوفة للأحياء التي يقطعانها حتى أدركت الوجهة دون أن ينبس بكلمة: المكان الذي طالما ارتبط بذكرياتٍ قديمة.

بعد نصف ساعة من الصمت الممزوج بصوت المحرك توقفت السيارة أمام **مسكن تهامي**. فارتجف قلبها بدهشةٍ صامتة؛ لم يخطر ببالها أن يعيد ظافر شراء هذا البيت الذي حمل عبق ماضٍ بعيد.

دخلت المبنى فإذا به كما كان: أنيق، مرتب، كأن الزمن لم يجرؤ على انتزاع ملامحه… بل بخار التدفئة يسبقهم فقد أوصى ظافر بتشغيلها منذ وقتٍ مبكر فاستقبلها الداخل بحرارةٍ تذيب قسوة الشتاء.

التفتت إليه وفي صوتها نبرة استفهام يختلط بها حنينٌ مكبوت:

«ما الذي فعلتَه حتى تقبل *دينا* بالأمر؟»

أدرك ظافر حين عادت إلى المدينة رغبتها في استرجاع هذا القصر لكنها تعلم أن دينا كانت متشبثة به بل إنها حين زارت منزل سيرين قديمًا أقسمت وهي بعدُ فتاة يافعة:

> *«سأجعل هذا المكان ملكي يومًا ما…»*

والآن ها هو البيت يعود إلى صاحبه الأول كأن العهد الذي قطعته دينا تلاشى في مهب الريح بينما يظل الماضي يهمس في أرجائه بحكايات لم تُستكمل بعد.


تعليقات