رواية للهوى رأي اخر الفصل السابع والعشرون
أنا رقية كامل، زوجة خالد رشيد.
اعتقدت يومًا أني امتلكت الحب، وعشت كل لحظاته ومراحله، مراهقتي بجنونها معه، أنوثتي التي تبرعمت على يده، جسدي الذي تغير من حملي لنطفة منه في رحمي.
كان الرجل الوحيد في عالمي، الرجل الوحيد في الكون بعيني، تعلمت كل شيء على يده، كان كاظلي، يحاوطني بدفء قربه، ويطربني بكلمات العشق، يجافيني النوم بعيدًا عن ذراعيه، لو ابتعدت أنا عنه يجن ويثور، حتى اكتملت حياتنا بالولد الذي تمناه أن يكون من رحمي أنا.
مرت سنوات من الهدوء والاستقرار، والحب،
وفجأة بدأت الأرض الثابتة تهتز من تحتي، برودة ذراعيه أصابتني بالقشعريرة، وتدريجيًا أصبح بيننا مسافة لم يكن لها وجود يومًا، كنت في حيرة من أمري، والشك بدأ يثاورني، حتى أدركت الحقيقة التي كسرتني، حقيقة كنت أكذب نفسي أنها حدثت، وأن هناك في الظلام امرأة تتسلل لتهدم البيت، بيتي أنا وخالد.
الذي فتح لها الباب وسمح لها ببخ سمها حتى انتشر بروحه وأصبح أثيرها، انهرت وبكيت وحطمت كل محيطي، تناثر الزجاج من حولي وأصبح من الصعب أن أخطو دون أن تنجرح قدمي، ولكن الذي انجرح هو قلبي في مواجهته، يا إلهي، تمنيت الموت ولا أن أشم رائحة امرأة بملابسها.
كان واقفًا بغرفة مكتبة، بوجه شاحب متفاجئ من معرفتي وانكشافه، أتذكر عينيه التي كانت تنظر لي بصدمة، بعد ما كانت تنظر لي فأحلّق عاليًا، وشفتيه تتحرك ولا أسمع صوتًا، بل أتساءل هل قبلها؟ حضنها مثلي؟ كان يخرج من بين ذراعي ليُلقي بنفسه إليها؟
أظهر ندمه وخطأه، اعترف بفعلته، وأنها سحبته إليها بأغوائها، ضحكت بشدة، كان مغيبًا ربما هه!
تجمعت العائلتان بعد أن قررت الانفصال، ولصعوبة الانفصال بعائلتي، وتمسكه وإظهار ندمه ولأجل موسى بضغطهم عليه، عدت، وقد خذلني الجميع، لكن لم أعد كما كنت.
حتى رأيتها، كانت في حفلة أقامها على شرفي مع الأشياء التي كان يفعلها لاسترضائي، جاءت بوقاحة وعينين جريئتين وابتسامة واثقة تقف أمامي وأمامه، ذلك الرجل الذي بجانبي أعطى لها الكثير من الثقة في أن تقف أمامي هكذا وتأتي إلى بيتي دون أن تخاف، أو تخجل، رأيت لثاني مرة ارتباكه وصورته تهتز بعينيه، وعينيه التي توقفت عليها كثيرًا دون أن يدري، ونظرتها له المغرية الواثقة بقدرتها.
كل هذا وأنا أقف بمنتصفهما حتى شعرت أنني ربما الدخيلة بينهما، لكنها لم تأت لتقف صامتة، اقتربت كامليا ونظرت في عيني ناصحة أن زوجي يحتاج الكثير من الدلال، وأن الحب الذي أظنه يكفي لا يملأ عين الرجال، ولا يمنعهم عن النظر للجمال المحرم، وأنها تحسدني على زوجي، خصوصًا عندما رأت دلاله وتقديره للأنثى أمامه.
بصمود لا أعرف من أين حصلت عليه، رفعت رأسي بكبرياء، وحذرتها من القدوم لبيتي يومًا، وأنها ما هي إلا تجربة والجمال المحرم غالبًا يكون متاحًا للجميع، ثم طردتها من بيتي.
التفتت إليه وجدته ينظر إليّ بألم على ما أوصلنا إليه، واعتذار يرجو أن أقبله.
ومرت عدة أشهر وأنا على حالتي، بوحدتي التي لا يحدها سوى موسى أو طبيبي الذي لجأت له ليساعدني على التأقلم مع الألم والخذلان والخيانة.
رفعت دهب رأسها من المذكرة، ارتسمت بعينيها الألم، وانعقدا حاجباها بتأثر.
ماضي والدتها لاينفك ويعود ليطفو على السطح من جديد، ليهدم أي استقرار وأمان تبحث عنه، كان هنا في هذا البيت حرب مستعرة وخيانة بطلتها والدتها، أغمضت عينيها، وضعت يديها على رأسها مستندة على المكتب، وقد اتضحت لها بعض الأشياء التي كانت مبهمة بالنسبة لها، حديث رقية ورفضهم لتواجدها في القصر يوم الحفل، لو كانت تعلم بكل هذا لكانت ابتعدت، كيف قبلت السيدة رقية، كيف يقبلها موسى بعد أفعال والدتها المشينة، هي لم ولن ترتقي يومًا لتصبح مثلهم ولا تليق بعائلته، دهب بكل غرورها وكبريائها شعرت للمرة الأولى بحجمها الضئيل في هذا البيت.
لم تكن تلك المفاجأة فقط بانتظارها، فهناك بركن الدرج ورقة مطوية بحرص، وهاتف بداخلها يلح على أن تهرب، لكن بتردد انتشلتها وفتحتها ببطء، عينيها كانت جامدة وكأنها تمثال حجري، انفرجت شفتيها بانفراج بسيط، وصدرها يعلو ويهبط، وفجأة ألقت الورقة على سطح المكتب وكأنها تحوي تعويذة، ثم عادت بظهرها بالمقعد وبدأت تعبيرات وجهها بالظهور، وتحولت عينيها المذهولتين لأخرى شرسة و هبت راكضة من المكتب، بل من المنزل بأكمله كأن الشياطين تلاحقها.
...................
حمد الله على سلامتك،
قالها ياسين بعد أن دخل الغرفة، اعتدلت الفتاة بحرج، ثم ألقت نظرة على قدميها الملتفتة بالغطاء الطبي، وعاد بعينيه إليها مجددًا، ذات وجه دائري وشعر بلون البني قصير، يصل حوافه إلى أعلى كتفيها، عينيها بلون العسلي بريئة، تشبه ملامحها الصغيرة، ابتسم لها ياسين قائلاً:
_ الدكتور بيقول إن الجرح ما كانش بسيط، ونزفتِ كتير
أو مات برأسها وقالت:
_ شكرًا جدًا ليك، بجد تعبتك
_ أنتي بتعملي إيه هنا؟
_ أنا هنا في منحة، بدرس في الجامعة الألمانية
رفع حاجبه وحرك رأسه وقال بلطف:
_ ما احنا عندنا بنات بترفع الرأس أهي، أمال بيقولوا البنات مش وراهم غير التيك توك ليه؟
ابتسمت وقالت:
_ أكيد مش كل البنات، اللي عنده حلم وهدف لازم يسعى ليه ويحققه
ابتسم لها بإعجاب من تفكيرها الناضج وقال:
_ على العموم حمد الله على سلامتك، مين هايجيلك هنا؟
_ صديقتي في السكن كلمتها من تليفون الممرضة وهاتيجي
_ تمام، أنا هستني بره علشان أوصلكم
اعتدلت قليلاً وقالت بحرج:
_ لا لو سمحت مش عايزة أتعبك أكتر من كده
أجابها:
التفت إليها وهتف بإصرار:
_ أنتي شايفة إن ينفع ترحي في وقت زي ده، كنتي لوحدك واديكي شوفتي النتيجة
تململت قليلاً وأو مات برأسها، لكن قبل أن يخرج تساءلت:
_ هو حضرتك اسمك إيه؟
ابتسم لها ياسين بلطف:
_ من غير حضرتك، اسمي ياسين
_ وأنا ميسون
توقف بسيارته أمام مبنى السكن، كانت صديقتها عربية أيضًا، استندت ميسون على صديقتها بحرص ونزلت من السيارة، بعد أن تبادلا أرقام الهواتف، في لمحة شرقية من رجل رأى فتاتين من نفس جنسيته في بلاد أوروبية بمفردهن، ودعهن ياسين ثم تحرك بسيارته.
مالت صديقتها على أذن ميسون قائلة بمرح:
_ هو في كده، يشبه بطل الروايات
نهرتها ميسون بحنق قائلة:
_ ده وقته، أنا زعلانة أوي على تليفوني وشنطتي اللي اتسرقت
_ قولي الحمد لله إنك فضلتي عايشة أصلاً
ثم أكملت بمرح:
_ لا وإيه، أنقذك بطل الروايات الخارق
حركت ميسون رأسها بلا فائدة من تفكير صديقتها، ثم ابتسمت بعدها، هي محقة بالفعل، فهو يشبه البطل المنقذ في الروايات القديمة، خصوصًا بملامحه الشرقية، وتصرفاته الرجولية معها بالمشفى، نهرت ميسون نفسها، ها هي انجذبت لتفكير صديقتها الأخرق، عن المنقذ.
....................
لم تصدق عينيها وهي ترى أسيل تدخل من البوابة الكبيرة من شرفتها، ركضت فيروز للأسفل حتى وصلت إليها، وبترحاب واشتياق قالت لها:
_ أسيل، أنتي جاية لوحدك ولا عمك معاكي؟
ابتسمت لها أسيل وقالت:
_ لوحدي، ينفع ولا أرجع تاني؟
تمسكت فيروز بيديها قائلة بترحاب شديد:
_ لا ترجعي إيه، طب أنتي كويسة، عمك كويس
_ إيه يا بنتي مالك مخضوضة كده ليه؟
سكنت فيروز قليلاً ثم بخفوت قالت:
_ أنا قلت مش هاتيجي تاني
احتضنتها أسيل ثم قالت بهدوء:
_ إيه، مش هيخليني أزور بنت عمي، ده أنا جاية بأمر من بابا وكمان قاسم كلمني
_ عمك وقاسم؟
هتفت أسيل مؤكدة:
_ أيوة، بابا رغم أنه ما كانش حابب الأمور توصل لكده، لكنه عايز يبقى في تواصل دائمًا بينا
ثم تابعت بقليل من المرح:
_ أما قاسم بيه عمران لاقيته بيكلمني وطلب نقضي اليوم أنا وانتي سوا، وبصراحة أنا ما صدقت لاني محتاجة أغير جو
بحماس تحدثت فيروز وهي تجذبها بخطوات سريعة للداخل:
_ البيت هنا ممل أوي، بس إحنا لازم نقضي اليوم النهارده من غير زهق
_ ما تقلقيش، كفاية الرغي
التفتت إليها فيروز متسائلة:
_ هو أنتي عاملة إيه مع ياسين؟
بهتت فجأة ملامح أسيل وقالت:
_ ياسين سافر
_ سافر!
هتفت بها فيروز بتعجب، بينما ابتسمت أسيل بلا معنى وأردفت:
_ ها أحكيلك
ساد الصمت بينهما، فمدت فيروز يدها بالمنديل لأسيل لتمسح عبراتها التي سقطت رغماً عنها أثناء سردها، كانت تظن إنها ربما تخطت ولو قليلًا من ألم تلك العلاقة، أو تكون اعتادت عليه، لكنها شعرت الآن أنها لم تتخطى ولا اعتادت، وما زال القلب يهتف باسم الغائب، والحنين إليه مع مرور الوقت يزداد ولا ينقص.
واستها فيروز، وكل منهن بها من الآم ما يكفي، فقالت فيروز:
_ اديله فرصة تانية
_ مش عارفة يا فيروز، كنت فاكرة إنه هايتعب شوية علشان علاقتنا ترجع، لكنه سافر من غير مقدمات، لا وأبي يطلب مني كمان أستناه.
_ أسيل، يمكن فعلاً محتاج يبعد، فيه ناس بتتقوّم بالبعد، بتحتاج تعيد حساباتها وتعرف كانت غلط في إيه، خصوصًا إنك بتقولي إنك حسيت بندمه
أومأت برأسها لكنها قالت برقة:
_ حسيت فعلًا، لكن كنت عايزة يعرف إن اللي حصل مش عادي ومش هاتقبله، مش عايزة أتنازل من دلوقتي لحد ما يبقى ده العادي والطبيعي مني، فأي يوم ما أقول لأ، أنا عايزة أكون الوحيدة وده من حقي، يكون الرد إني قبلت ويكون أمر مسلم به، الخيانة صعبة أوي يا فيروز.
شردت فيروز بعيدًا وقالت بخفوت:
_ الخيانة مش راجل وست بس يا أسيل، الخيانة أوقات بتبقى خائنة عهد، خيانة كلمة، أمل رسمته لإنسان يكون لك كل شيء ويخذلك.
انتبهت ليد أسيل التي تربّت على يدها وقالت:
_ إيه، موترت علاقتك بقاسم؟
ضحكت بسخرية وأجابت:
_ قاسم نفسه
نظرت لها أسيل بعدم فهم، فوقفّت فيروز وهتفت:
_ تعالي ننزل المطبخ نعمل أي حاجة حلوة وأحكيلك
ضحكت أسيل وقالت بستغرب:
_ يعني يبقى كل الخدم دول وتنزلي المطبخ؟
_ سبتلكم انتو يا أهل الذوات الاتيكيت وأصوله، لكن أنا بدخل المطبخ عادي
جارتها أسيل، وبرغم استغراب الخدم والطباخ، انصاعوا وخرجوا من المطبخ بأكمله، فدارت فيروز حول نفسها بسعادة في المطبخ الكبير قائلة:
_ إيه رأيك بكرواسون بالشكولاته وكيك؟
صفقت أسيل بيدها بحماس ثم ما لبثت وقالت بأحباط:
_ مش بعرف أعمله
قالت لها فيروز وهي تبحث في الأدراج والدرف:
_ مش مشكلة، أنا بعرف، يلا بينا
وشرعوا في تحضير المخبوزات، كانت فيروز تحكي لها ما مرت به تارة، وأخرى يندمجن في رسم شكل المعجنات، وبرغم أن المطبخ انقلب رأسه على عقب، إلا أن ضحكاتهن لم تتوقف، حتى انتهوا أخيرًا، وبفناجين من الشاي وصحن الكيك والكرواسون، كانت جلستهن بالحديقة، مر الوقت سريعًا بين ضحكات تارة وذكريات حزينة تارة، حتى دخل الليل ورحلت أسيل، ودعتها فيروز على وعد بلقاء آخر، كان اليوم مختلفًا، تحدثت وضحكت وشعرت بدفء أشعة الشمس حتى أنها ظنت في يوم أنها لن ترى النور مرة أخرى.
اقترب موعد قدوم قاسم، لم تراه اليوم بأكمله، راودتها فكرة قبل صعودها، أن تدخل المطبخ وتأخذ قطعتين مما صنعته مع أسيل، وبالفعل دخلت، وضعت الطبق على منضده الرخامية متوسطة الحجم، ثم بالصدفة وجدت نوعًا من الشكولاته الذائبة، فجلست وفي لحظات كانت قد اندمجت وهي تدمج قطعة الكيك بالشكولاته الذائبة في استمتاع نادر الحدوث، ومن خلفها يراقبها ذلك الذي يقف مستندًا بكتفه على إطار الباب، بعدما أخبره الخدم بتواجد السيدتين أغلب اليوم بالمطبخ، رغم استغرابه لكنه لم يمانع في أن يفعلوا ما يسعدهن، وصوت ضحكاتهن كان يصل للخارج.
دخل للمطبخ بفضول شديد لرؤية ما فعلوه اليوم به، ورغم أنه أصبح في أكثر صورة عبثًا وغير مرتب، لكن تلك التي تتوسطه تأكل باستمتاع هي ما توقفت عينيه عليها، كم هي جميلة، أيعقل أن يزداد جمال إمرأته وهي تأكل! أم أنه أصبح مجنون بكل شيء بها.
كان الانسجام واضحًا عليها، والابتسامة كانت على شفتيه، وعينيه تلتهم كل حركة منها، لكنها توقفت وفتحت عينيها، لم تلتفت برأسها، فشعرت بوجوده من رائحته التي غمرت المكان، ومن شدة إحراجها لم تتململ حتى، فأقرب هو، وببطء وقف أمامها، ثم ثنى ركبتيه ليوازي جلستها على المقعد، وبيدها التي كانت تأكل منها الشيكولاته وما زالت بيدها، أخذها قاسم، وبهدوء كانت بفمه، ثم مسح بأصبعه جزءًا منها من جانب شفتيها، ولقعه، وهي جامدة مكانها، ساكنة فقط تتابعه، حتى همس بجانب أذنها:
_ تصدقي إني مش بحب الشيكولاته، لكن لو طعمها كده، يبقى أنا محظوظ إني دوقت أحلى شيكولاته في حياتي
ثم خرج، هكذا، ببساطة، وهي ما زالت ممسكة بالمعقله الفارغة تنظر لمكانه الفارغ.