رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والواحد والسبعون 271 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والواحد والسبعون 


لم يُسعف الصمتُ بينهما سوى هدير المدفأة الخافت فظافر بعينيه الغامضتين بدا كمن يملك مفاتيح كل الأبواب المغلقة… رجلٌ إذا أراد شيئًا استدعاه القدرُ طوعًا.

لم تنبس سيرين بكلمة؛ بل اكتفت بأن تغرق في أريكةٍ تتنفس دفئًا تتأمل زوايا المكان الذي يفيض بذكرياتٍ تشبه أصداءً بعيدة كأن الحنين نهرٌ يتدفق في عروقها.

قال بصوتٍ هادئ يشي بما لا يُقال:

“إن راق لكِ هذا القصر يمكننا أن نجعله بيتًا لنا إلى الأبد.”

شعرت أن كلماته تمسّ وترًا خاطئًا فالمكان ليس لها؛ هو مرآة طفولتها الغريبة لا حاضنٌ لسكينة قلبها لذا همست ونبرة الغربة تقطر من شفتيها:

“لا أرغب أن أعيش هنا.”

ظل ظافر ساكنًا كتمثالٍ يراقب الريح… ومن ثم أضافت وهي تحدق في عينيه:

“أعد القصر إلى دينا… يجب أن نضع النقاط على الحروف.”

كانت تعرف أن صدى كلماتها سيشقّ صمته فقد علمت أن كوثر تقدمت بطلب الطـ,ـلاق قبل يومين وأن ظافر سيـ,ـعرف قريبًا أن خيوط اللعبة تتفلت من يديه.

نهضت سيرين ونسيمٌ بارد ينساب من الباب:

“إن لم يكن هناك أمرٌ آخر أريد زيارة كوثر اليوم.”

لم يعترض بل اكتفى بإيماءةٍ غامضة وأشار لأحد رجاله أن يتبعها بعينيه… كانت تعلم أنه يظنها ستهرب لكنها لم تكن تنوي سوى السير في طريقها حتى النهاية.

في منزل كوثر استقبلتها أوراق الطلاق مبعثرة كأوراق خريفٍ يابسة… قالت سيرين بصوتٍ متماسك:

“هل قُبل طلبي في المحكمة؟”

أجابتها كوثر وهي تضع توقيعاً أخيرًا على ملفٍ سميك:

“نعم تمت الموافقة الآن… سيصله الخبر الليلة.”

أمسكت سيرين بطانية دافئة غطّت بها ساقيها كمن يتهيأ لعاصفة:

“لن أعود الليلة.”

رمقتها كوثر بقلقٍ صامت:

“ألا تخشين أن يفقد صوابه؟”

ابتسمت سيرين ابتسامةً باهتة تحمل مرارة العزم:

“ذلك ما أريده… هل لديكِ جهاز تسجيل صوتي هنا؟”

أومأت كوثر بثقة:

“بالطبع… فمهنة المحاماة لا تنفصل عن الحذر.”

أخرجت دبوسًا صغيرًا علّقته على ياقة قميص سيرين وقالت:

“إذا تجرأ على إيذائك، اضغطي هنا… وسيسجل كل شيء.”

أومأت سيرين برأسها والعزم يشتعل في عينيها:

“حسنًا.”

وفي الجهة الأخرى من المدينة كان ظافر يدور في دوامة فراغٍ لا تنتهي فمنذ أن غادرت سيرين صار كل شيء باهتًا كأن الألوان هجرت لوحته لم يدرك السبب لكنه أيقن أن ترويض قلبها لم يعد ممكنًا فقد تحررت وصار رضاها نجمًا بعيدًا لا يُنال.

دقّ الباب فجأة، كصفعةٍ قطعت سكون الغرفة بينما تردّد صوتٌ خافت من الخارج يطلب الإذن فأجابه ظافر:

“ادخل.”

انفتح الباب ببطء ليطلّ ماهر وملامحه شاحبة كأن ظله نفسه يخشى الاقتراب يحمل ملفًا سميكًا تتراقص أطرافه في يده المرتعشة وقال بصوتٍ متلعثم يشوبه رجاء:

“سيدي ظافر… أرجوك لا تغضب.”

مدّ ظافر يده إلى الأوراق في فتورٍ بارد… عيناه تضيقان كعيون صيّادٍ نافذ الصبر وحالما انزلق الغلاف إلى كفّيه؛ رأى عنوانٌ بارزٌ يلمع كحدّ السكين فأخذ يقلب الصفحات ببطء وكل سطرٍ يصفع قلبه حتى استقرّ بصره على الحقيقة:

**دعوى طلاق** تحمل اسم سيرين.

جمُد وجهه للحظة كأن الزمن توقف عند نبضةٍ خاطفة بينما العتمة في عينيه تكسّرت إلى شررٍ مكتوم… سأل بصوتٍ أجشّ كأن الريح تمر من حنجرته:

“متى وصلت هذه؟”

أجاب ماهر وهو يطأ الحروف بحذرٍ شديد:

“وصلت من المحكمة بعد الظهر يا سيدي.”

لم يزد ظافرب كلمة بل مدّ يده بثباتٍ مريب إلى آلة التقطيع يزجّ بالأوراق في جوفها فتعالى صوت الحديد يمضغ الحبر والورق حتى آخر شهقة وارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ باردة… ابتسامة رجلٍ يضحك على جرحه كي لا ينزف ومن ثم همس لنفسه بحدةٍ خافتة:

“تُقاضيني… من أجل الطلاق؟”

كانت الكلمات تتساقط من فمه بلا صوتٍ تقريبًا وكأنها تخشى الانكسار.

أمسك هاتفها بيد تهتز بارتجافة خفيفة، يضغط على الرقم المألوف وما إن سمع رنينًا قصيرًا حتى جاءه صوتها صافياً قاطعًا كل احتمالات الصمت.

قال ظافر بلا تمهيد يسكب الجملة دفعة واحدة:

“إذن… تريدين الطلاق؟”

جاءه ردّها حادًا صريحًا:

“نعم. عدتُ هذه المرة فقط لأحصل على الطلاق… لا تقلق… لا أريد منك شيئًا بعده.”

أضافت بنبرةٍ تخلو من أي ارتجاف… نبرة امرأة أغلقت كل الأبواب خلفها:

“لقد قبلت المحكمة الطلب لذا لن أعود إلى قصرك بعد الآن.”

ارتدّ صمتٌ ثقيل في الغرفة كأنه جدارٌ من جليد… بقي ظافر ممسكًا بالهاتف يسمع أنفاسها تتلاشى كصدى بعيد بينما يتساقط داخله شيءٌ لا يُرى… شيءٌ لا اسم له سوى الفقد.


تعليقات